وقدما قدما فوق الفلنكات الخشبية مضى يتحرك ويتوقف، ويجول بعينيه خلال الزلط الكثير، عشرات الزلطات ومئاتها وآلافها، ثم ينحني ويتفحص جذور التين وأوراقه الجافة ثم يعود للسير، ولكنه كان يدقق ويتفحص الأداء الواجب ليس إلا؛ فقد كان يعتمد على انفعال ما سينتابه حين يصبح عند البقعة التي قام فيها بمغامرته؛ إذ رغم أن تينها لا يختلف عن غيره في طول الجسر ، وزلطها لا يختلف عن الزلط؛ إلا أنه متأكد أنه لو رأى ألواح التين وأوراقه وشجرته التي أخذ منها في الحال سيعرفها. وهكذا مضى يزحف قدما قدما ينظر أداء للواجب، ويتأمل الأوراق والبقع، منتظرا أن تحدث له الاختلاجة التي يترقبها. وحين لا تحدث يتقدم خطوة أخرى فرحان فقط؛ لأنه أخيرا يعود للبحث عنها، سعيدا بتضييق الخناق عليها، يود لو لم يحدث صوتا حتى لا تحس به وتفر.
وترك السيمافور خلفه وعدى الكوبري، وبدأت أعصابه تتوتر، وكأنها تستعد للاختلاجة الكبرى، وأصبح يدقق إلى الدرجة التي لا يرفع عينيه عن الزلط إلا حين يبدأ الزلط يسبح أمام عينيه ويدور، ولا يترك شجرة التين إلا حين يحس بأشواك أوراقها تكاد تلمس عينيه. وفجأة اختلج جسده، وتوالت دقات قلبه وعرق، وأحس بروحه تنسحب إلى أسفل، وعاد يدير عينيه في البقعة، ويزداد جسده اختلاجا ودقا وعرقا. بالضبط ... هي البقعة! بقايا الكيزان التي انتزعها، والورقة التي قسمها نصفين بلا سبب معين. كان مفروضا أن يبدأ بفحص الزلط والرمل والتراب وينحني ويدقق، ولكنه لم يفعل شيئا من هذا فقد وجدها، هكذا دون أن يبحث عنها. لفت نظره بريقها الفضي الوقور ينبعث من فوق حجر أبيض، وكأنما وضعت هناك بفعل فاعل أو ظل يحرسها ملاك، تماما كما هي بالعضة الصغيرة في حافتها، بملمسها، بالرجفة التي تعتريه حين يتحسس خشونتها الناعمة.
ظل زمنا طويلا واقفا في مكانه لا يفكر ولا يرى ولا يسمع، ولا يعرف ماذا يجب عليه أن يفعل، وكان أول ما تحرك فيه يده، وتحركت لتزيد قبضته عليها، وخاف عليها من عنف القبضة فخففها، ثم سار ووجد نفسه يتوقف بلا سبب، وما كان يتوقف برهة حتى أحس بفرحة حلوة طاغية، وأدرك أنه وجدها، حقيقة وجدها. وراح يقذفها بحرص لتعود تختلط بالزلط وينقض عليها. وتستميت قبضته ليعود يفتحها، ويقذفها ويفرح حين يجدها. ولكنه لم يلبث أن عدل عن إضاعتها، فقد خاف أن تساهيه كأبيه تذهب ويفتش ولا يجدها. خاف إلى درجة كاد يعتصر نفسه ويبكي، فهو خلاص لم يعد يريد أن يساهيه شيء، ويذهب ويأخذ روحه معه، إلى درجة أصبح حلمه كله أن يستمر في هذه اللحظة إلى الأبد؛ فهو لم يعد يريد شيئا، لا أبا ولا مدرسة ولا جدة، ولا حتى يوما آخر يستيقظ من أجله وينام في آخره ... لم يعد يريد إلا أن يظل يحس أنها عادت إليه، وأنه عاد إليها وأنها ستبقى معه، وسيبقى معها دون أن يقطع هذا البقاء حادث أو ضياع.
وأنى له أن يدرك وهو على هذه الحال أن الثالثة كانت قد فاتت من زمن والرابعة حلت، وقطارها جاء وقام من محطة البندر، وتعدى السيمافور، وأنه في تلك اللحظة بالذات خلفه يصفر له صفيرا متقطعا مستغيثا يأمره به أن يبتعد.
الستارة
كلما رأيت ستارة مسدلة فوق شباك، أو «بيشة» تغطي وجها، أو مشربية تحجب شرفة تذكرت بهيج. وكلما تذكرته وجدت نفسي أضحك بصوت عال، لا لشيء في شخصيته أو سلوكه يستحق الضحك، ولكن لأنه كان زوجا من النوع المحترم، النوع الذي تجده لا بد خريج جامعة أو صاحب منصب. ولديه مجموعة هائلة من «الكرافتات»، والذي لا بد تجد مشكلته الكبرى أنه يخاف خوف الموت أن يأتي عليه يوم يصبح فيه آخر من يعلم.
وتسأل بهيج عن سبب لهذا الرعب المقيم فلا تجد ... الحقيقة تجد أسبابا أوجه، كانت كفيلة بمنع هذا الخوف عنه. فهو مثلا قد تزوج عن حب، وزوجته جميلة وديعة، وتحبه إلى أقصى حد، حد يكلفها أحيانا أن تبكي إذا سافر، وتبكي إذا عاد، وتبكي إذا استشعرت انصرافه عنها، وتبكي إذا أقبل عليها. وليس معنى هذا أنها مصدر نكد؛ فالبكاء لدى النساء ليس دائما علامة حزن، هو سلاح لا أكثر ... السلاح الذي لا يخيب. أكثر من هذا، سنسن (وهو اسم التدليل لسناء)، تملك قدرة عجيبة على إرضائه، فتعرف متى تضحكه، ومتى تضحك عليه، وبنفس الرشاقة التي تختار بها ألوان فساتينها تختار أيضا أنواع خصامها وأوقاتها. ولديها نبوغ خاص في تحديد أوقات الصلح، ودبلوماسيتها هائلة في إملاء شروطها، وقدرتها ساحرة في إحالة جلسة الصلح إلى لجنة تعويضات، مهمة الزوج فيها أن يبالغ في التقدير، ومهمتها هي أن تناشده الرأفة بميزانيتهم والاقتصاد، وكفاية خمسة جنيه للشنطة ... هو أنا مجنونة أشتريها بستة ... بالاختصار هي زوجة حنون مطيعة مخلصة، وإن كان هذا لا يمنعها أن تتحول أحيانا إلى نمرة مفترسة إذا امتدح زائرة مثلا، أو تطلب الطلاق في الحال إن تأخر ساعة، فهي أحيان ليس إلا يسود بعدها الصفاء.
ترى لماذا إذن هذا الخوف المقيم من يوم تخونه فيه؟ لماذا الخوف من الإعصار والبحر هادئ أزرق وجميل؟ الحقيقة لا نستطيع أن نحدد سببا واضحا، فهو يثق فيها أي نعم، وفي حبها له أي نعم، ولكن شيئا ما كان لا يجعله على تمام الثقة في قدرتها على حماية نفسها من ذئاب المجتمع وكلابه. شيء ما كان يفرض عليه أن يقوم هو بهذه الحماية، نفس الشيء الذي يفرض عليه مثلا أن يحمل عنها حقيبة الملابس، أو يجلسها في مقعد الأوتوبيس ليقف هو. شيء ربما السبب فيه أنها هي نفسها تطلبه، وتنتظره وتعامله على أنه رجلها وحارسها وراعيها، وتشعره باستمرار أن لولاه ما كان باستطاعتها أن تحيا معززة مصونة الشرف والكرامة ... هو شبه الاتفاق الذي يرى أن المجتمع كله من حوله قد تواضع عليه، وأخذه مأخذ الحقائق الثابتة ... اتفاق أن المرأة بمفردها غير قادرة على حماية نفسها بنفسها، وأنها ارتضت أن تكون المهمة للرجل، بل حتى ولو لم ترتض لما اطمأن الرجل على قدرتها على حماية نفسها، ولبقي يؤدي دور الحارس اليقظ الأمين.
وبهيج رجل مجرب لم يتزوج إلا بعد أن عرك الحياة برجالها ونسائها، وخرج من تجاربه وقد فقد الثقة في هؤلاء وأولئك، ثقته أن هناك قيما قد تحول بين أي رجل وأي امرأة، وألا وسيلة للحيلولة بينهما إلا بالقوة، القوة بأشكالها المختلفة. تعلم وقرأ وسافر وجال وآمن بالمساواة، وديمقراطية الأجناس والأنواع، واستقلال المرأة وحقها في العمل واختيار المهنة والزواج. حدث له هذا كله دون أن يؤثر في قليل أو كثير على القواعد التي درج عليها والتجارب التي ترسبت فيه، وأصبحت جزءا من كيانه، وجعلته بعد الزواج لا يملك إلا أن يصنع كما يصنع الأزواج، وإلا أن يصبح خوفه الأكبر يوما يأتي عليه ويكون فيه آخر من يعلم ... ولهذا ظل في كل لحظة من حياته الزوجية يعمل لهذا اليوم ألف حساب، وهو مؤمن ألا سبيل لمنعه إلا بمجهود خارق يقول به ليدفع عن زوجته المهالك والمزالق، ولعلمه أنها قد تأتي على أهون سبب؛ فقد كان يستعمل كل ذكائه وحداقته وخبرته لشم الخطر ليتلافى أهون الأسباب. إذا أراد دخول السينما اختار مقعدين، يجاور أحدهما الممر لتجلس فيه سنسن، وليجلس هو بجوارها حائلا بينها وبين الرجال. وإذا سافر أرهق ميزانيته، وظل يطوف القطار حتى يعثر على ديوان خال تماما، أو على الأقل ركابه من العجائز أو النساء، وفي أي ازدحام تجده خلفها مباشرة، يكاد لولا الحياء يطوقها بجسده كله ويدفع الناس عنها وكأنها من زجاج. وإذا انتقل من مسكن إلى آخر، ظل أياما يدرس موقع المسكن الجديد ويتأكد من متانة معلوماته عن الجيران، أو على الأقل هذا هو ما فعله حين انتقل إلى منزله الجديد بإحدى العمارات الحديثة الكائنة في أول مصر الجديدة من ناحية روكسي. •••
ولقد ظلت الحياة تمضي به وبسنسن إلى اليوم الذي عزلت فيه الشقة التي تقابلهم من العمارة المواجهة، والتي كانت تقطنها أرملة جافة نحيلة وأولادها الستة. يومها وطوال الأيام التي ظلت فيها الشقة خالية، كانت أمنيته الخفية أن يبتسم الزمن له أخيرا، وتقطن الشقة شابة حسناء، أرملة كانت أو غير أرملة. أمنية لم يكن يرى فيها بهيج ما يتنافى أبدا مع الإخلاص الزوجي؛ إذ هو في الحقيقة مثل الأزواج لا يترك شاردة ولا واردة ولا مارة في الشارع إلا ويسلط أنظاره عليها تعاينها، وتهم بها أحيانا. وإن كانت الظروف مواتية، فلا مانع لديه إطلاقا، إذ لا يعقل، ولا يمكن لشيء تافه عابر صغير كهذا أن يؤثر على حبه لزوجته أو تعلقه بها.
ناپیژندل شوی مخ