وكانت الحامية تخرج من المدينة وتهاجم الثوار فتنشب بينهما معارك شديدة خسر فيها الفريقان، وكان الثوار مسلحين ببنادق ماوزر عيار أربع وسبعين وكانت الذخائر متوفرة عندهم حتى استطاعوا أن يطلقوا على الأسوار وغيرها نارا حامية أكثر من ثلاثة أشهر, ومما يستغرب أن البنادق والذخائر العرب أرخص منها في أوروبا، ولم يستعمل الثوار المدافع العديدة التي كانوا غنموها من الأتراك؛ لأن معظم من بصنعاء تصيبهم قنابلها من إخوانهم وأتباعهم، ولما عصفت ريح الثورة خرج بعض الجنود اليمنيين من صنعاء وانضموا إلى الثوار، فشدد ولاة الأمور على من بقي من هؤلاء الجنود في المدينة واعتقلوهم مع سائر الذين اشتبهوا فيهم من الأهالي إلى أن انتهي الحصار، ولم يشددوا إلا في هذا الأمر وتجاوزوا عن سيئة الذين سعوا في نسف الثكنات لخوفهم من قيام العرب إذا سقطت صنعاء وحرصهم على حياة الجنود الكثيرين الذين أسرهم العرب، وزحف عزت باشا بجيشه من الحديدة على داخلية البلاد من غير أن يلاقي المقاومة التي كان يتوقعها، على أنه قاتل كثيرا في طريقه ولكن الثوار لم يدافعوا عن معقل من معاقلهم العديدة بين صنعاء والحديدة مدافعة تستحق الذكر، وقد دلت النتائج أن تقاعدهم عن مقاومة الجيش كانت حكمة من الإمام وليس جبنا منه ومن رجاله، ولما بلغ جيش عزت باشا صنعاء رأى أنه لا يستطيع أن يطخو إلى ما ورائها وزد على ذلك أنه لقي في طريقه مشاق وصعابا وأنفق مالا كثيرا في الانتقال من مكان إلى مكان، وشاع بعد رفع الحصار أن الجيش كان ناويا التقدم إلى شهارة، ولكن عرب السواحل استأنفوا القتال الذي انتهى بواقعة جيزان المشؤومة. فاضطر ولاة الأمور أن يسرعوا بمفاوضة مشايخ عرب الجبال ليشتروا خضوعهم وولاءهم بالمال، فإن التغلب على البلاد الجبلية في اليمن محفوف بأخطار ومصاعب جمة لأن البلاد وعرة المسلك تتخللها الجبال والهضاب من جميع الأنحاء فتجعل المواصلات أمرا صعبا جدا إن لم نقل محالة ويسكنها قوم أشداء عرفوا بالبسالة والإقدام لأنهم شبوا على الحرب وشن الغارات, وهم متحدو الكلمة تراهم قلبا واحدا ويدا واحدة في الذود عن كل ما يوجب إذلالهم وإخضاعهم، فعقدت الحكومة العثمانية صلحا مع الإمام يحيى بعد ما رشت زعماء الثورة بالأموال الطائلة وواعدتهم بالإصلاح، فنال الإمام بذلك أكثر مما كان يطمع فيه وثبت في مركزه حاكما على قبائل الزيدية، ولم يتغير الحال فيما سوى ذلك عما كانت عليه قبل بدء القتال، فالأتراك يملكون صنعاء وقد استرجعوا معظم المراكز التي كانوا يحتلونها في الماضي والإمام يملك شهارة وسائر المعاقل التي كانت له، وقد أطلق الإمام أخيرا سراح خمسمائة أسير من الجنود، ولم يعد المدافع التي غنمها في هذه الثورة أو في ثوراته السابقة. انتهى.
نعم كان عزت باشا بعد دخوله صنعاء قرر المعاشات السياسية للأعيان والمشايخ والرؤساء من كل البلدان اليمنية، وممن سارع إليه طمعا في المعاش السيد عبد الله بن الإمام المتوكل المحسن بن أحمد والشيخ ناصر مبخوت الأحمر الحاشدي والحاج مسعود البارق الحاشدي وغيرهم كثيرون، ومع استمالة عزت باشا الكثير من أعيان ومشايخ اليمن باسم المعاش السياسي، رجح الإمام تبقية الوالد العلامة عبد الله بن إبراهيم والوالد محمد بن يوسف والشريف عبد الله ابن محمد الضمين والصنو محمد بن علي الشامي والصنو يحيى بن محمد بن الهادي ببلاد خولان العالية شرقا من صنعاء؛ فكان ذلك مما أهم الأتراك. وفي المجلد الثالث من كتاب خطط الشام للأستاذ محمد كرد علي السوري رئيس المجمع العلمي في دمشق الشام ما نصه:
مخ ۲۳۹