وتم الأمر كما رتبه شعبان، وأصبح شعبان لا يملك قيراطا واحدا من الأرض. •••
كان سباعي قد انضم إلى التنظيمات السياسية الجديدة، ولهذا لم يكن عجيبا أن ترشحه الحكومة في دائرة عز الدين الخولي. وبدأت الانتخابات، وطلب صلاح أن يأتي إلى البلدة ليكون مع أبيه أثناء مروره بالدائرة. وأحب سباعي أن يشهد صلاح أباه والناس تهتف باسمه والخطب تلقى في مديحه. وجاء صلاح ورأى عجبا، رأى أباه يمر بالدائرة ولكن محوطا دائما بالسلاح يشهره أبو سريع ورجاله، ورأى في نقاء صباه أن الناس تهتف ولكن العيون والوجوه لا تهتف. وسمع الخطب تلقى ولكن الخطباء يتكلمون مذعورين؛ فالأوجه منهم باسرة وعلى الجبين منهم حسرة، وفي أصواتهم رنين المقهورين من الرجال فعل المغلوب على أمره، لا اختيار له.
قليلا ما بقي. وعجب أبوه ألا يفرح صلاح بما يرى، واستبعد أن يكون قد وصل ببصيرته إلى خفايا النفوس. وما كان يتصور أن الروح الشفيفة ترى من الأشياء ما تخطئه العيون. وحزر أن يكون أحد قد هجس في أذن صلاح بجبروت أبيه، ولكنه استبعد هذا الحزر أيضا؛ فمن ذاك الذي يجرؤ على أن يقدم على هذه الهمسة. إذن فلماذا يطلب صلاح أن يعود إلى القاهرة؟ - ورائي مذاكرة. - ألا تريد أن تنتظر حتى تعرف النتيجة؟ - المرشح الآخر واضح الضعف، وأنا واثق من نجاحك.
وسافر صلاح عائدا إلى القاهرة وفي نفسه الكثير مما لو أراد أن يعبر عنه لما استطاع. إنها مجرد مشاعر. إن حاول أن يسأل سته أو عمه أو عمته فإنهم جميعا سيطلبون إليه ألا يفكر في هذا الذي يغشي ظنونه. وكيف لأم أو لأخ أو لأخت أن يشوهوا ابنهم أو أخاهم أمام ابنه؟
طوق نفسه على ما بها وصمت، ولكن نفسه أبت عليه هذا الصمت، قال لعمر: يا أخي، سبحان الله! هناك شيء في البلدة لا أعرف كيف أقوله ... - ماذا؟ - الناس تخاف من أبي. - وماذا في هذا؟ - الكلام معك لا يجدي.
وانتظر فرصة في فسحة الظهيرة وذهب إلى زوج عمته؛ فقد أصبح هو وعمر تلميذين في المدرسة نفسها التي يعمل ياسين مدرسا بها. وكان صلاح يحس نحو ياسين بنوة صادقة يمازجها إعجاب شديد؛ فقد استطاع ياسين أن يرسي في نفسه حب الله والطمأنينة إليه بما علمه من الدين، وما حببه في القراءة وفي كل المعاني التي أصبح صلاح يجد فيها سموا وقربا من السماء، كما استطاع أن يجعله يحب أن يذاكر لا للنجاح ولكن للعلم. وإن كان صلاح في سنه هذه الباكرة المتشوقة في مطالع الشباب الأولى إلى الغد لا يستطيع أن يقدر فضل ياسين عليه بالعقل والمنطق، إلا أنه كان يشعر بهذا الفضل بنقاء هذه السن التي تتمازج فيها الطفولة مع الشباب. - عم ياسين، أريدك في كلمة.
وكان ياسين في حجرة المدرسين فقال: تعال، وقل. - لا، إذا سمحت، نتمشى في الفناء.
ورأى ياسين على وجه الصبي الذي رباه خلجات لم يشهدها عليه قبل اليوم فقام إليه، وقال صلاح في لجلجة: لا أعرف كيف أبدأ، ولكن أنا لم أكمل الانتخابات مع أبي. - أعرف ذلك، وحسنا فعلت حتى لا يفوتك شيء من الدراسة. - هذا ما قلته له، ولكن ليس هذا ما جعلني أترك المعركة الانتخابية.
وصمت ياسين قليلا، ثم قال: الحق أنا دهشت لهذا الذي فعلته؛ فالشباب في سنك يحبون هذه المعارك ويسعون إليها، فما الذي جعلك تترك هذه المتعة؟ - كانوا يهتفون لأبي، ويلقون له الخطب، ويدقون الطبل والمزمار. - ألم يسرك أن تجد أباك محبوبا؟ - هذا هو ما أرجعني. - ألا تحب أن تراه محبوبا؟ - بل لا أتمنى شيئا في حياتي قدر أن يكون أبي محبوبا. - ألم يكن ما رأيته علامات الحب؟ - بل هو علامات حب. - إذن؟ - علامات غير صادقة، رأيت في العيون خوفا، ورأيت في القلوب رعبا. لم يكن الحب هو الذي رأيته.
وأطبق الصمت بين المتحدثين تماما. أما ياسين فلا يدري ماذا يقول. أيقول إنه انقطع عن الذهاب إلى البلدة حتى لا يسمع ما يصنعه نسيبه بالناس؟ أيروي لهذا الفتى الغض كيف جمع أرضه وهو لم يرث عن أبيه إلا عشرها تقريبا؟ وما ذنب صلاح فيما صنع أبوه؟ ولكن هو يعرف منزلته عند صلاح ولا يحب أن تهتز هذه المنزلة. من أجل مستقبل صلاح نفسه لا ينبغي أن تهتز هذه المنزلة. وإذا كذب عليه اليوم فهو في غد سيعرف الحقيقة، فكيف ستكون نظرته إليه؟ ربما يدرك ويقدر، ولكن إذا أحس أن أستاذه وزوج عمته الذي كان منه دائما بمكان الوالد يكذبه فمن يصدق إذن؟ وأين ينشد الصدق إذا لم ينشده عند الإنسان الذي يعتبره بغريزته الصافية أباه الروحي؟ ولماذا لم يوجه هذا السؤال إلى عمته؟ بل لماذا تحرى أن يأخذ في هذا الحديث معه في المدرسة، وهو قادر دائما أن يحادثه في البيت الذي يعتبره بيتا ثانيا له؟ أو لماذا لم يسأل جدته أو عمه؟ لقد خشي أن يحرج أحدا منهما، والوحيد الذي ألقى إليه بثقته هو أنا.
ناپیژندل شوی مخ