الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
ناپیژندل شوی مخ
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
ناپیژندل شوی مخ
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
ناپیژندل شوی مخ
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
ناپیژندل شوی مخ
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
أحلام في الظهيرة
أحلام في الظهيرة
تأليف
ثروت أباظة
الفصل الأول
حين كان الزمان مثل الموسيقى الحالمة الهادئة، وكان الناس فيه أنغاما ساجية حالمة، ذلك الزمان الذي لم نره نحن وإنما هو بالنسبة إلينا روايات عن الآباء تلقفوها عن الأجداد فأصبحنا ولا نعرف عنه إلا مباهجه ومتعته، الجلسة الهادئة المليئة بالسعادة والضحك والهناء؛ فالأجيال جميعا تحب أن تنظر إلى أمس الغارب، وتكره الحاضر وما تشهده فيه من صراع، وتخشى المستقبل الذي تطل عليها بواكيره مكشرة الأنياب رهيبة السمات.
ذلك الزمان البعيد عنا هو أحب الأزمان إلينا لأننا لم نشهده، ولا نستطيع أن نعرف منه إلا ما حلا للأجداد أن يرووه لأبنائهم الذين هم آباؤنا، ونقله إلينا الآباء سعداء بما ينقلون مقارنين دائما بين الخير الذي كان يشيع في جوانبه، والشر الذي يفشو في الزمان الذي يعيشون فيه. وهكذا أصبح شأننا نحن أيضا. لا يختلف جيلنا الحاضر عن أجيالنا السابقة، فأصبحنا ساخطين تحن نفوسنا إلى هذه الملاوة من الزمن التي كنا فيها بلا مسئولية وبلا صراع، وكان آباؤنا يحملون عنا العبء جميعا ونحن نتصور - كما يتصور أبناؤنا اليوم - أن عليهم أن يحملوا العبء، وعلينا نحن أن نسعد وعليهم هم أن يحبونا، وعلينا نحن أن نحترمهم فقط ثم لا نصنع شيئا من بعد.
في ذلك الزمان البعيد بدأت أسرة وهدان تتكون، وكان رأس الأسرة طفلا بريئا في الملعب يلهو مع أترابه من الأطفال، لا فارق ثمة بين طفل وطفلة، ولا بين قادر بسط الله الرزق لأبيه، وبين معسر قدر الله سبحانه - لحكمة لا يعلمها إلا هو - الرزق على ذويه. في ذلك الزمان كان وهدان يحب نبوية ذلك الحب الطفل الطيب الذي لا يعني عند أي منهما إلا خفقة في القلب، وفرحة عند اللقاء، وشوقا عند التباعد.
ناپیژندل شوی مخ
وحين شب كلاهما عن الطفولة إلى الصبا القريب من الفتوة احتجبت نبوية ولم تصبح الحياة كلها لعبا عند وهدان، بل كان يحلو له أن يتشبه بالرجال، ويقف في الجرن، ويرقب النورج أو يركبه، أو يقف في الغيط يجمع القطن أو يرقب من يجمعونه. وما كان أبوه غنيا، ولم يكن أيضا معسرا، وإنما هي أربعة أفدنة تنأى بأبيه عن الأجراء لتضعه في مصاف الملاك.
ولكن الحقيقة مع ذلك تبقى كما هي أربعة فدادين.
كانت الشمس ساخطة على الأرض، تكويها بشواظ لاهب من النار، وكان النورج يدور وقد أوشك هو الآخر أن ينبجس العرق من خشبه أو من عجلاته الصلبة الحادة، وهي تمر في دائرة مفرغة على عيدان القمح في ملالة وضيق يجرها الثور الكبير وقد أوشك أن يتهاوى من شدة الحر. وكان وهدان يعتلي صهوة الدكة الخشبية التي يجلس إليها من يسوق الثور، وبيده سوط مفتول من لحاء أشجار التيل الذي يزرعونه حول حقول القطن ليرد عنها عادية الأتربة وعدوان الحيوان.
وكان يدري أن الجرن الذي يتلبس فيه ملابس الرجال ذوي الأعمال هو الطريق الطبيعي لمسير نبوية. وكانت هي أيضا تعلم ذلك؛ فكانت تظل في هذا اللهيب من الحر رائحة جائية تتظاهر بأنها تؤدي مطالب المنزل، وعلم الله، وأحسب أن وهدان أيضا كان يعلم، أنها لا تكثر من المرور إلا لتلتقي نظراتها بنظراته، وتطفو إلى شفاه كل منهما تلك الابتسامة الوادعة الحنون، التي يخفق لها القلب ذلك الخفق الدءوب الجديد المرتفع الوجيب المتخافت الصوت؛ حذر أن يطلع عليه من شهود اللقاء أحد.
كانت حياة وهدان منذ البواكير الأولى من سنوات عمره حياة جادة حازمة كلها عمل. وربما كانت سنوات الكتاب التي تتسم بعنف المعلم، وصعوبة العلم بالنسبة لوهدان هي أندى هذه السنوات وأخفها وطأة عليه لو كان من هؤلاء الذين يرون في العمل جهدا وشقاء، ولكنه كان من الذين يحبون أن يعملوا، ولا يقومون العمل إن كان ممتعا أو غير ممتع، وإنما هو عمل ولا بد أن يؤدى فهو يؤديه كما يتنفس الهواء ويطعم الطعام.
ولم يكن جلوسه على النورج في هذه السن الباكرة لعبا شأن رفاقه من الصبية؛ فما هي إلا أيام قليلة ركب فيها النورج لهوا ومراحا ثم سحب أبوه المكلف بإدارة النورج، ووجهه إلى أعمال أخرى وترك النورج بكل ما يتصل به من أعمال عهدة في ذمة وهدان؛ فهو الذي يجمع أكوام التبن والقمح، ويمد النورج بزاده الجديد من أعواد القمح ذات السنابل، حتى إذا مالت الشمس إلى منزلها من العصر توجه إلى كوم القمح رجلان أو ثلاثة أشداء ليذروا الأكوام، فينفصل القمح عن التبن بنفس الوسيلة التي يتبعها أجدادهم وأجداد أجدادهم، منذ عرف الإنسان القمح كوسيلة لصنع العيش.
ومرت الأيام، وأوشك موسم الحصاد أن ينتهي وبدأت المخاوف تساور الصبيين اللذين التقيا بشبابهما مع أنسام القمح؛ أن يصبح اللقاء بينهما غير ميسور.
وكانت الشمس في السماء حريقا وكان النورج يدور دورات كان وهدان في غير حاجة إليها، ولكنه يديره ليجد عند نفسه أو عند المارة عذرا ينتظر به مرور نبوية، حتى إذا مرت قفز من النورج قفزة سريعة ملهوفا يريد أن يظفر منها بوعد على اللقاء، ولكن مسمارا في النورج يمسك بجلبابه فإذا وهدان تحت النورج وإذا الأسلحة تبتر ذراعه اليسرى أو تكاد. وترى نبوية ما حل بحبها وتصرخ بأعلى صوت لها، فيدوي صراخها فيملأ أنحاء القرية، وتجري إلى وهدان الذي فقد وعيه فتبعده عن النورج، وتعمد إلى خمارها، وتسد به نوافير الدماء المندفعة من الذراع، وتحضن الفتى في لوعة، وتصرخ لا يعنيها أن يراها الناس. ويقبل الملأ من كل حدب، وينقلون وهدان إلى حلاق الصحة، وتلازمه نبوية لا تتركه، ويضطر أبواها اللذان جاءا مع الجموع أن يلازماها مدركين ما ينفطر به قلب الابنة.
وحين تطمئن الجموع على حياة وهدان ينصرف كل إلى شأنه إلا نبوية. ويقول الأب لزوجته وابنته: اذهبا أنتما فإني سأبقى.
ولا يدري أحد أو لعل كل محب يدري من أين استطاعت نبوية أن تأتي بكل هذه الشجاعة التي تجعلها تقول لأبيها في حسم قاطع لا يقبل المناقشة: أنا سأبقى يا أباه.
ناپیژندل شوی مخ
ويخشى الأب أن يجاوز النقاش ما بلغه من حسم فينفضح من حب الفتاة الطاهر ما ينبغي أن يظل في طي الكتمان ويقول في استسلام: ونبقى نحن أيضا.
ومع أنسام الفجر تنقطع آهات وهدان التي ظلت تدوي طوال الليل. وتوقظ نبوية التي لم تنم أباها وأمها من نومهما الجالس، ويتجه ثلاثتهم إلى بيتهم.
الفصل الثاني
أي تحد تلبس وهدان منذ ذلك اليوم؟ كان يعرف نفسه طفلا لاهيا إذا دعاه الرفاق إلى اللهو. وكان يعرف نفسه أيضا يقبل على العمل مع أبيه كلما دعاه أبوه إلى ذلك العمل. ولم يكن يعرف في نفسه أن إقباله على العمل ما كان إلا ليستجلب إلى كيانه وجوانحه ذلك الشعور بأنه بلغ مبالغ الرجال، وأنه يستطيع أن يقوم بعملهم ويسير طريقهم ويختط في الحياة خطتهم، وأنه بذلك يستطيع أن يحدث نبوية وكأنه رجل، وأنه خف القطن مع أبيه، وأنه جمع مع الجامعين، وأنه في موسم الذرة يفرط ثمارها عن كوالحها، وأنه في موسم القمح يدرسه كما رأته. كان يحب أن يصنع هذا الصنيع، ولم يكن يدري أنه يحب ذلك جميعه لينشئ منه حديثا مع نبوية في أمسيات الصيف، وبمشهد من الحقول، ومن أشجار الكافور والعبل، ومع روائح الزروع، ومع أنسام العبق الإلهي تسري في خفايا الليل بكرا دائما كأنها لأول مرة تنطلق إلى أرجاء الحياة.
وحين أصابه هذا الذي أصابه وأصبح بذراع واحدة ظل طوال فترة علاجه يفكر: أيصبح عاجزا؟ أيثير الشفقة كلما وقعت عليه عين؟ أيكون في الحياة إنسانا ناقصا لا أمل من بعد في نبوية؟ ولكن ماذا بعد؟ إن تلك وحدها كارثة الكوارث أجمعين، ولكنها حصلت، وقعت، بترت ذراعه، أيصبح على الحياة عالة؟ أيفقد نبوية ويفقد كرامته في وقت معا؟ لترين مني الأيام ما لم تتوقعه مني حين كنت صحيحا، بل وما لا تتوقعه من صحيح آخر مهما تكن قوته وجبروته.
لأكونن أشد عنفا عليها مما عنفت به علي. فتى كان في أول عهده ينام في سريره ليعالج في ذلك الزمان البعيد كل البعد عن زماننا اليوم، والأيام تتطاول به والمرض جائح باتر والدواء بدائي يحبو ما يزال في ظلمات دوامس من الجهل والتأخر. ماذا يصنع الفتى إذا لم يتوعد الحياة ويهددها؟ وما البأس عليه وهو نائم والحياة كلها يقظة ودأب وعمل وكدح.
ولكن نبوية تعوده كل يوم، فما له إذن يقطع أن الأمل في الزواج بها قد انقطع؟! وما له يجعل فقدانها أمرا لا مفر منه، ولا شك فيه، ولا سبيل إليه! والعجيب العجيب أنه كان يكره زيارتها، وإن كان قلبه يرى في عيني أمه وأبيه علامات تعجب؛ فقد كان الفتيان والفتيات يزوجون في مثل هذه السن في هذه الأيام، فما لهذه الفتاة لا تقني حياءها وما لها تصر على زيارة فتى بترت ذراعه ويصلح لها عريسا؟! أتظن أنه ما دامت ذراعه قد بترت فهو لن يتزوج على أية حال؟ إنها مجرد ذراع أيتها الفتاة! وما تمنع الذراع المبتورة الفتى أن يتزوج، فما مجيئك هذا كل يوم في جرأة لا تكون إلا لزوجة كتب كتابها ودخلت أيضا؟! فما كان يجوز لمن يكتب كتابها ولم يدخل بها زوجها أن تذهب إلى بيته وحدها، بله الخطيبة، بله التي ليست بهذه ولا بتلك.
عجيب شأن نبوية في رأي الأب والأم معا.
أما وهدان فقد استقر به الرأي على واحدة من اثنتين؛ إما أنها تشفق عليه في هذه المحنة الطاحنة. وإما أنها تريد أن تحيي موات أمله حتى ينتهي العلاج ويخرج إلى الحياة مرة أخرى. وكلا السببين لم يستطع أن يجعل قلبه يكف عن الوجيف وجيفا كان يجعله يحزن كلما جاءت لزيارته، وقد كانت زيارتها يومية، عاليا دراكا يكاد يعلن عن نفسه للملأ الحاضرين بل والغيب أيضا.
وشفي وهدان، وخرج للحياة، ورضي عن نفسه وهو يجعل من أحلام المرض وهذائه حقا واقعا وقوع حياة، جادا جدية من لا يهذي ولا يعرف إلى الهذاء سبيلا.
ناپیژندل شوی مخ
هو في الغيط منذ الصباح الباكر وهو لا يعود إلى البيت إلا بعد أن تغيب الشمس وتوغل في المغيب. وتأتي إليه نبوية في الغيط وعلى ملأ من الذين يعملون فيه وتجالسه، في أول يوم ذهب فيه إلى العمل. وحرص أن يجعل الحديث بعيدا عن مواطن القلب، وحرص على ألا يتخاضع لها في الكلام وإنما شكرها؛ لأنها جاءت تهنئه بسلامة الخروج. وشغل نفسه بالذين يعزقون الأرض لا ينصرف عنهم ولا يميل إليها بكلمة، وإن كانت نفسه جميعا باقية بجانبها لا تستطيع عنها منصرفا، ولا تطيق منها فكاكا.
وابتسمت نبوية بتلك الشفافية التي عرفها الريف في قلوب فتيانه وبنياته؛ فمع أنها كانت ترى وجه وهدان وهو منصرف عنها إلى فئوس العاملين إلا أنها كانت واثقة أن نفسه جميعا بقلبها وجوانحها بجانبها. انتظرت مليا ثم قالت في شبه همس وفي صوت أغن: فتك بعافية يا وهدان.
وقال دون أن ينظر إليها: مع السلامة.
وصحبت نفسه وجوانحه وانصرفت، وقال هامسا لما بقي منه: ما تزال تحاول تشجيعي على مصيبتي.
وفي اليوم التالي جاءت نبوية، ولم يطق وهدان صبرا، أمسك يدها وانتفض جسمه انتفاضة لم يعرفها في حياته قط وابتعد بها عن الجميع: مجيئك بالأمس يرى فيه العاملون فتاة تهنئ ابن قريتها بالعودة إلى العمل. أما مجيئك اليوم فغير مقبول. عودي إلى البيت. - وكيف أراك؟ - سأجيئ أنا إليك. - أين ومتى؟ - أيوافق أبوك على مجيئك؟ - لم أسأله. - أتظنين أنه يوافق؟! - إذا اتصل الأمر بي وبك فأنا لا أفكر.
أحس بالكلمة كأنها رصاصة أصابت منه كل المقاتل، ونظر إلى ذراعه المبتورة وأبقى عينيه عليها لتخفيا دمعات تبادرت، فهمس وقال بصوت لا يكاد يسمع ولكن في نبرته أمر وحسم: عودي إلى بيتك.
وفي غير تردد قالت وهي تولي عنه: أمرك هو الأمر الوحيد الذي لا أناقشه، فتك بعافية.
وتزداد الدموع وبلا من عينيه، أما عافية الجسم فقد أنالها. أما عافية الروح فهيهات!
وظل وهدان يذهب إلى الغيط كل يوم، ومرت شهور. وكان أبوه يظن أول الأمر نزوة جريح فقد ذراعه ولا يريد أن يصاحب الفتية فيما يضطربون فيه. حتى إذا تتابعت الشهور وأوشكت أن تكتمل عاما أصبح الأب في غناء عن الذهاب إلى الحقل. وراح يقضي نهاره في جلسته الحبيبة عند عبد الحميد أبو ديدة الخياط الذي لا تمنعه صنعته عن الحديث، ولا عن سماع من يقرأ الجريدة له.
وكانت نبوية في كل يوم تذهب إلى حيث ترى وهدان وتطمئن عليه وتنصرف لا تقترب منه، ولكن لا تمضي أو تكون واثقة أنه رآها.
ناپیژندل شوی مخ
إذن فالأمر ليس إشفاقا، ولا هو بتشجيع.
جاءت من بعيد ورآها فراح يجري إليها بكل قوته وهي قوة عاتية. وما كان في حاجة إلى الجري فقد كان مناها أن يقبل إليها ولو إقبالة وانية هينة. وإنها لمنتظرة وإن استغرق خطوه إليها عاما وأعواما. - ماذا تريدين يا نبوية؟
ودون أن تفكر لحظة: أريد أن أتزوجك.
ومادت به الأرض بما حوت وصاح: أنا بذراع واحدة يا نبوية.
وصاحت هي أيضا به: وهل هذه جديدة علي؟!
وفي تعجب حزين: ألم ينقطع حبك لي حين انقطع ذراعي؟
وأجابته في قوة حاسمة: ومن قال لك إني كنت أحب ذراعك؟
ويطأطئ رأسه: لم أصبح إنسانا كاملا.
ويعلو صوتها وهي تقول: ومن قال لك إن الإنسان ذراع أو ساق؟ إن الإنسان قلب وحنان ورجولة وإصرار. أحببتك بعد أن فقدت ذراعك أضعاف أضعاف ما كنت أحبك من قبل، وأحببتك حين أمرتني ألا أجئ إليك في الغيط أضعاف أضعاف ما أحببتك بعد أن فقدت ذراعك. وهدان، إذا لم تتزوجني فلن أتزوج طول عمري.
وتزوجا.
ناپیژندل شوی مخ
الفصل الثالث
عجيب شأن الأيام والسنين؛ فالأيام تمر بطيئة متثاقلة كأنما يدفعها القدر إلى المضي رغم أنفها، بينما تمضي السنوات مسرعة تلهب الزمان بسياطها، وتندفع كالسيل الجارف فإذا الطفل فتى، وإذا الفتى شاب، وإذا الشاب كهل وإذا الكهل شيخ. وإذا نظروا إلى أمسهم وجدوه قريبا منهم يكادون لو مدوا أيديهم أن يمسكوا به أو هكذا يخيل إليهم على الأقل؛ فهم يعلمون أن أمسهم الذي ولى بعيد عنهم بعدهم عن بدء الخليقة، ولكنه في أذهانهم وفي وجدانهم كأنه ما مضى. وقد يتجسم الخيال في نفوسهم ويوشكون أن يصدقوه فما هي إلا نظرة في مرآة أو قومة متثاقلة يعوقها الكبر حتى يدركوا ما على أكتافهم من سنوات، وتتبين لهم الحقيقة أوضح ما يكون الوضوح. إن السنين قد مرت، ولم يكن مرورها بوهدان وزوجته عبثا؛ فقد أنجبا سباعي وخليل وفاطمة وعابدة.
وكان وهدان طوال هذه السنوات خير فلاح في القرية، وربما كان خير فلاح في المنطقة، فاستطاع أن يشتري أربعين فدانا كاملة؛ فقد كان حريصا أن يشتري في كل عام أرضا بما يفيض من ماله فلا ينكسر عنده مال إلى عام قادم، مرتئيا أن مستقبله ومستقبل أولاده جميعا هو هذه الأرض، ولكن عشرة أفدنة من هذه الأربعين لها قصة أنت بالغها.
ومع كل هذه الأرض التي اشتراها لم يعرف أحد عنه بخلا، ولا هو قصر في الإنفاق على بنيه، ولا هو كان شحيحا مع زوجه؛ فما طلبت منه مطلبا إلا كانت إجابة هذا المطلب هي أول شيء يسارع إليه. لم ينس أنها قبلته بذراع واحدة على غير غنى؛ فما كان أبوه يملك غير أربعة أفدنة استطاع أن يصل بها إلى خمسة قبل موته، وبالجهد الذي بذله وهدان فما كان أبوه ذا همة، وما كان يعنيه أن تزيد أرضه بقدر ما كان يعنيه أن يجلس إلى عبد الحميد أبو ديدة الخياط.
ولم يحاول وهدان وهو يجمع هذه الأرض أن يكون جشعا يهتبل الفرص ويشتري ممن تلم بهم الضوائق أو تعترض حياتهم الكوارث. ولم ينس أهل «الصالحة» قريتهم أن سليمان النواوي الذي يملك ستة أفدنة من أجود أراضي القرية، جمعها من تجارة القطن التي كان بارعا فيها كل البراعة، ضارب يوما في البورصة فإذا هو مدين دينا كبيرا وإن كان لا يستغرق الأرض. وقصد عبد الحميد أبو ديدة إلى وهدان وأوعز إليه أن يشتري أرض سليمان في هذه الفرصة ويفوز بها، وإذا بوهدان ينتفض عن إنسان يعف أن يكون أخوه فريسته: أترضى لي هذا يا عم عبد الحميد؟ - وماذا فيها يا وهدان يا بني؟ هو معذور، ولا بد أن يسدد الدين، وجميع أصدقائه في التجارة مضروبون معه، ولا طريق له إلا بيع الأرض فلماذا لا تشتريها أنت؟ - قسما بأهل بيتي جميعا لو كان سليمان هذا يهوديا لا أعرفه ولا يعرفني ولا نحن أبناء بلدة واحدة ما فعلتها، فكيف وهو ابن قريتنا نشأنا نراه ويرانا وتتزاور زوجته وزوجتي ويلعب أطفالي مع أطفاله؟ صل على النبي يا عم عبد الحميد. - عليه الصلاة والسلام يا وهدان، يا ابني، ولكن أليس هذا الذي تذكره سببا أن ننقذه من أزمته. - أيكون ما تشير به إنقاذا أم إجهازا عليه؟ - على الأقل ستكون أنت رحيما معه في الشراء، وتدفع له ثمن الأرض دون أن تخسف بها سابع أرض، كما يعرض عليه حمدان أبو إسماعيل. - ولا هذا. - إذن فقد أضعت الرجل وأنت تحاول أن تنقذه. - وما كنت لأفعل هذا أيضا. - فماذا أنت فاعل؟ - قم معي وسترى.
وحين استقر بهم المجلس عند سليمان قال سليمان دون ريث من التفكير: الحمد لله أنك جئت يا وهدان. - تحت أمرك يا سليمان. - والله لا يشتري الأرض إلا أنت. لقد خسف حمدان ثمنها إلى العشر وأنا مضطر للبيع، ولكنني رفضت أن أبيعها له من شدة غيظي منه. أما أنت فأبيعك إياها بالثمن الذي عرضه وأكون سعيدا. - صل على النبي يا أبو داود. - عليه الصلاة والسلام، أتريد أن تنزل بها عن ذلك أيضا؟ - صل على النبي «أمال»، خذ هذه الفلوس. - ما هذه؟ ألا نتفق الأول؟ - ولا نتفق ولا يحزنون. خذ، وصل على النبي. - بكم تريد الفدان؟ - لا أريده مطلقا، لا أريده حتى ولو بعته لي بلا ثمن . - فما هذه الفلوس؟ - دينك، اذهب فسدده. - ماذا تقصد يا وهدان؟ - ماذا جرى يا سليمان؟ أكلاب مسعورة نحن حتى نتشمم الضوائق تحيط بناسنا فنجعل منها فرصا لنا؟ لا يا سليمان، لا عشنا إن كنا نفعل ذلك. سدد دينك والتجارة يوم في العالي ويوم في الواطي، وإن خانك السوق مرة فمصيره أن يكرمك في المرة القادمة. - أما سبحان الله! ولكننا لسنا أصدقاء. - معارف، وأولاد بلد واحدة، ووشنا في وش بعضنا البعض العمر كله. وأنا كنت سأشتري بضعة أفدنة هذا العام بهذا المال الفائض عندي، فماذا يجري إذا أجلنا الشراء إلى العام القادم.
وصاح سليمان من الفرحة وكأنه يرى سحرا لا يصنعه أحد من أبناء الأرض: أهذا معقول؟ - غير هذا هو الذي لا يعقل. توكل على الله. سلام عليكم. - انتظر أكتب لك ورقة. - ولا ورقة ولا يحزنون. - لا، هذا ليس من حقك. - إنه مالي وأنا حر فيه. - أطال الله عمرك ولكنه ليس مالك. إنه مال أولادك وأنت أمين عليه. - لا مسئولية علي أمام أولادي. لقد ورثت عن جدهم خمسة أفدنة، ولو كنت بعتها لكان هذا من حقي، ولكني لم أبعها وزدت عليها. - اسمع من غير كثرة كلام. تأخذ الورقة أو تأخذ الفلوس؟ - هات الورقة.
وهكذا لم يكن وهدان في شرائه للأرض مسعورا ولا كان نهازة فرص. وما دمنا قد روينا قصته مع سليمان فمن حق القصة أن نكملها؛ فقد سدد سليمان دينه، وعمل في التجارة، وكسب في العام التالي كسبا يمكنه من سداد دين وهدان، ولكنه لم يفعل وإنما قصد إلى وهدان. - لقد عملت في معروفا ما زالت الجهة تتحاكى به. - يتهيأ لك. - اسمع، أنا كسبت هذا العام، ولكنني مع ذلك لا أستطيع أن أرد إليك دينك. ومن عمل معروفا فعليه أن يتمه، فهل أنت على استعداد أن تتم معروفك؟ - أتمه إن شاء الله. - تترك فلوسك للعام القادم. - أمرك.
وانصرف وهدان ودار العام في غمضة عين وإن كانت أيامه كانت تمر ثقيلة أثقل من الأيام العادية؛ فقد كان سباعي كلما خلا بأبيه يقول له: لو كنت يا أبا اشتريت أرض سليمان لكان محصولها يكفي لشراء نصفها على الأقل هذا العام.
ويصيح الأب في حزم آباء هذا الزمن: اخرس يا ولد.
ناپیژندل شوی مخ
ويضطر الولد أن يخرس، ثم ما يلبث أن يكرر جملته تلك كلما امتد حديث إلى محصول أو أرض أو شراء أو بيع.
وكان الأب يحس حسرة أن ابنه يلومه. ولم تكن الحسرة وليدة اللوم، وإنما كان باعثها أن ابنه سباعي على غير خلقه، وأنه لا يعرف معنى ألا ينتهز إنسان ضائقة إنسان أخيه، ولا يعف عند مقدرة، ولا يتعالى عن خلق الذئاب.
وكانت نبوية تهون عليه ما يتداوله من ألم لما جبل عليه ابنه البكر، فكان يقول لنبوية: أخاف عليكم منه بعدي يا نبوية. - لا عشنا بعدك يا وهدان، لا عشنا بعدك. - إنه بلا قلب. - ابنك لا يمكن أن يكون بلا قلب! - أتصدقين أن الأبناء يرثون أخلاق آبائهم فيما يرثون؟ هيهات! ليست الأصلاب ولا الأرحام أمينة دائما. والذي لا يقدر ما صنعته مع سليمان شخص يخشى منه يا نبوية. - اسمع يا وهدان، علينا أن نحمل همهم ونحن أحياء. أما من بعدنا فعلى كل منهم أن يحمل هم نفسه.
مر العام إذن وكان أثقل الأيام مرورا، ثم جاء سليمان إلى وهدان وكان ولداه جالسين معه. - السلام عليكم. - وعليكم السلام. - كل عام وأنت بخير. - وكل عام وأنت بخير يا سليمان. - قم يا عم هات الورقة التي عندك. - أمرك.
وعاد وهدان بالورقة وأعطاها لسليمان. - خذ يا عم، ربنا يزيدك. - وأنت خذ هذه. - ماذا؟ ... - لقد تعلمنا القراءة معا في الكتاب. اقرأ.
وقرأ وهدان فوجد بالورقة عقد شراء باسمه لعشرة أفدنة ملاصقة لأرضه، وانتفض في جلسته. - وهل أنا مراب يا سليمان؟ - اهدأ واسمع. - هدأت. - فلوسك كانت جاهزة معي من السنة الماضية، ولكنني أحببت أن أرد جميلك. قلت أتاجر لك بها فإن كسبت فالمكسب لك، وإن خسرت أردها إليك دون أن تعلم. وقد كسبت وجاءني جارك نجيب الجلطة يريد أن يبيع أرضه؛ لأن ابنه الذي أصبح مهندسا يريد أن يبني بها عمارة في مصر. وانظر إلى الثمن تجده عادلا، لا ظلم فيه. استخرت الله واشتريت الأرض باسمك.
وانتصب سباعي واقفا وأهوى على يد سليمان يريد أن يقبلها. وألمت بوهدان غصة أوشكت أن تضيع عليه فرحته بما صنع صديقه. ما سباعي هذا؟ لا عفة عند مقدرة، ولا كرامة عند فرحة! حسبي الله ونعم الوكيل.
حسبي الله ونعم الوكيل.
الفصل الرابع
في هذه السنوات البلهاء من حياة مصر كان ينبت في بعض المناطق مجرم يثير الذعر حوله، ينتمي هذا المجرم إلى وجيه من وجهاء المنطقة، بعقد شيطاني غير مكتوب، أن يحمي الوجيه المجرم من الحكومة، ويحمي المجرم أملاك الوجيه من المجرمين الآخرين. وشأن كل العقود الشيطانية يتجاوز مفعول العقد حدوده، ويتستر الوجيه على المجرم تسترا لو حاسبه عليه قانون العقوبات لأصدر عليه أحكاما قاسية. وفي مقابل ذلك يصبح المجرم أداة بطش وعدوان للوجيه، يخيف به كل المقيمين حوله، مجرمين كانوا أو غير مجرمين. وما هو إلا يسير زمن حتى تصبح أعمال الوجيه بواسطة مجرمه كلها اعتداء على حقوق الآخرين؛ لأن سمعته وحدها كافية أن تذود عنه أي مجرم يفكر أن يمس حقوقه. ويصبح الريف غابة، السيادة فيها لمن لا ضمير له. وهذا نوع من الغابات فريد؛ فغابة الحيوان غابة تجمع مخلوقات بغير عقول، ومن لا عقل له فلا ضمير له، فمن الطبيعي أن يكون الحكم فيها للأقوى. ومن الطبيعي أيضا أن تكون الوحشية هي الدستور؛ فبغيرها لن تطعم الحيوانات ولن تجد مأكلها. وهذا في ذاته سبب كاف أن تستعمل قوتها لتعيش.
ناپیژندل شوی مخ
أما غابة الإنسان فهي بعيدة عن ذلك كل البعد، فإذا كان الحيوان قد حرمه الله حق الاختيار فإنه سبحانه قد فرض على الإنسان هذا الحق بما وهبه من نعمة العقل، ومن نعمة الرحمة، ومن نعمة المشاعر الرقيقة. وكان طبيعيا ما دام العدل المطلق قد وهب للإنسان كل هذه الحقوق أن يفرض عليه واجب الأمانة، التي عرضها على السموات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها، وأشفقن منها، وحملها الإنسان. وهو سبحانه حين حمله هذه الأمانة الثقيلة فرضها عليه حين اختار هو أن يقبلها؛ فحين خلق الله آدم طلب إليه ألا يمس شجرة من الجنة، وما شجرة في جنة عرضها السموات والأرض؟ فحين عصى آدم ربه اختار إذن أن يحمل الأمانة. إن الإنسان كان ظلوما وهكذا ظل.
قليل من وجهاء الريف من كان يضع تحت حمايته مجرما أو عددا من المجرمين؛ ففي كل منطقة قد نجد واحدا من هؤلاء الوجهاء غير الوجهاء في الدنيا أو في الآخرة. وغالبا ما تكون المناطق نقية منهم كل النقاء تسمع عنهم في الجهات المجاورة، ولكنها لا تعرفهم ولا تشتهي أن تعرفهم، بل إن الجميع يدعون الله أن يبعدهم عنهم ويعمي عيونهم عن بلادهم وأملاكهم وأرواحهم؛ فهم يعرفون عنهم كل شيء معرفة يقين، ويعرفون أنهم متوحشون يستأجرهم سادتهم لقتل من يجرؤ أن يناقشهم في أمر، أو يتوانى في تنفيذ إشارة إصبع تصدر عن ذلك الوجيه غير الوجيه.
وكانت بلدة الصالحة متطهرة من هذا الوباء، وكانت كل صلتهم به ما يسمعونه عن أبو سريع الفرحان، ذلك المجرم الدموي الذي يأوي بعصابته إلى ظل عز الدين بك الخولي، عضو مجلس النواب عن الدائرة التي تتبعها الصالحة. وكانت الصالحة ترد عن نفسها العدوان بأن تعطي أصواتها لعز الدين متظاهرة بالطواعية حتى لا يكون هناك أي مبرر أن يقترب منها أبو سريع. والبلدة لم تكن متحمسة لمرشح آخر؛ فهي لا تجد بأسا أن تنتخب حامي المجرمين هذا، مرتئية أن فيما تفعله كياسة لا تضيرها.
وفي يوم كان وهدان جالسا إلى أسرته جميعا؛ أما الأم فقد كانت تصلي، وكان وهدان يقرأ القرآن، وكانت فاطمة تقرأ في كتاب اشتراه لها أخوها خليل، وعابدة تنظر إلى الجميع وترى في وجوههم القلق الشديد، الذي يحاول كل منهم أن يخفيه بشتى وسائل، حتى لا يثير بقلقه قلق الآخرين. ولم يكن عجيبا أن يتولاهم هذا القلق؛ فخليل هو أملهم أن يصبح لهم شأن في حياة العلم، بعد أن ترك سباعي المدرسة وهو طفل في العاشرة، فلم يتعلم منها إلا قراءة وكتابة توشك أن تكون عاجزة. أما خليل فقد مضى في التعليم مضيا موفقا، وكان متقدما في دراسته دائما. وهم اليوم ينتظرون نتيجة التوجيهية التي حملت اسمها هذا؛ لأنها تعطي لحائزها الحق أن يتوجه في التعليم الجامعي إلى الكلية التي يختارها؛ فهي نهاية التعليم العام، أو هي بلغة وزارة المعارف نهاية التعليم الثانوي.
كان الأب والأم والابنتان جميعا في هذا القلق، الذي تشعر به عابدة وتراه على وجوههم. وكان سباعي كشأنه بعيدا عن قلق الأسرة وعن اجتماعها هذا، بل هو حتى لم يكن يدري أن نتيجة شهادة التوجيهية ستظهر في هذا اليوم؛ فهو دائما في شأن يظن أنه يغنيه، وهو دائما بعيد عن أسرته ومشاعرها بما يشغل به نفسه من شواغل، منها الأرض والمحصول، ومنها غير ذلك.
كان في يومه هذا يلبي دعوة على الغداء دعاه إليها شعبان الخولي بن عز الدين الخولي الذي تعرف به منذ قريب في مقهى بالمركز. وأراد شعبان أن يظهر ابن وهدان على القصر الذي ابتناه أبوه بقريتهم العدوة، وأراد أيضا أن تصل بينه وبين ابن الرجل الذي يعتبر أغنى من في الصالحة آصرة صداقة؛ فقد كان شعبان أيضا ممن نكصوا عن التعليم شأن سباعي. وكما يلتقي الفلاح بالفلاح فيتناجيان ويتعارفان ويجدان شيئا دائما يقولانه يلتقي الغريبان فيتناجيان، ويتعارفان، ويجدان شيئا يقولانه فيصبحان صديقين، ولكن لا بد لنا أن نكون منصفين؛ فإن يكن شعبان وسباعي قد فشلا في المضي قدما على درج التعليم، فقد كان كل منهما فلاحا من الطبقة الأولى يعرف ما تحتاجه الأرض، ويقدمه لها في كرم ومهارة وحذق، واثقين أن الأرض خير شيء يرد ما يأخذ أضعافا مضاعفة. وقد كان وهدان يجد في قدرة سباعي الفائقة على رعاية شئون الأرض ما يعزيه عما جبل عليه من خلق لا يرضيه، ولكنه شأن الناس أجمعين كان يتلمس لطف الله فيما يصاب به. وقد وجد لطفه سبحانه في براعة سباعي الزراعية، وراح يقول لنفسه: ربما أراد سبحانه أن يجعل منه حارسا على الأرض يرعاها من بعدي لإخوته عني. وإن كانت غصة تلوي عزاءه بعض الشيء، أتراه سيحرسها أم سينهشها؟ الله وحده يتولى عباده بما يرضاه.
كان سباعي إذن يلبي دعوة شعبان، وقبل أن يأتي الغداء جلس الضيفان في غرفة الاستقبال الواسعة الأرجاء، وقال سباعي: ما سمعنا عن سعادة البك والدك ولا عن سعادتك إلا كل كرم. - أرأيت بخلا؟ - نعم رأيت. - ولكن الأكل لم يظهر بعد. - قطعة جبن تنبئ عن الكرم في كثير من الأحيان. - فماذا تقصد؟ - أنتغدى وحدنا؟! - آه! أنا أردت ألا يشاركنا أحد الحديث. - وهل يحلو الحديث إلا باللمة. - ومن تريد؟ - أين أبو سريع؟ - والله هو هنا اليوم. - فلماذا لم تدعه معنا؟ - أدعوه. إن بيته قريب. - لا بد أن يكون بيته قريبا!
وضحك شعبان، وقال سباعي: ادعه يا شعبان بك، وادع رجاله، واللقمة الهنية تكفي مية.
وجاء أبو سريع، وعرف أن الذي دعاه هو سباعي، وحمد هذا له؛ فما كان يتناول طعامه على مائدة عز الدين بك إلا عندما يكون هناك أمر جليل يريد أن يكلفه به. أما شعبان فما كان يهتم بدعوته مكتفيا بأن يعطيه من حين لآخر بعض المال. •••
حين عاد سباعي إلى البيت وجد الكثيرين أمام بابه، ووجد الدوار مبتسما فرحا. وعجب! إنه هو فرحان نعم أن تغدى مع شعبان وأبو سريع ورجال أبو سريع، ولكن ما هذا الفرح في بيتهم؟ وعرف أن أخاه حصل على التوجيهية. والعجيب أو ربما ليس عجيبا أن يشعر بالفرح؛ فخليل بهذا قد أصبح من أهل الكتب وليس لهؤلاء صبر على الفلاحة. لقد تأكد في لحظة علمه أن أخاه ذاهب إلى الجامعة وإلى كلية الطب، أن أرض أبيه أصبحت له وحده من بعده.
ناپیژندل شوی مخ
وعجب الأب من فرحة سباعي وربما خامر ذهنه ما اختلط بنفس سباعي؛ فقد علمته الحياة أن يصل من النفوس إلى أبعد أعماقها، ولكنه بمشاعر الأب الذي يمتزج حب الأبناء مع الدماء فيها نفى أن يبلغ الجشع بابنه البكر هذا المدى، وأبى إلا أن يسعد في يومه هذا سعادة لا يقف بها عارض من أي مكان، سواء كان هذا العارض من داخل النفوس أو من خارجها.
الفصل الخامس
حين عرف وهدان من سباعي أنه دعا شعبان وأبو سريع ومجرميه إلى الغداء بالبيت غضب كل الغضب. - هذا بيت عاش طاهرا وأحب أن يظل طاهرا.
وكان سباعي في دهشة من أمر أبيه؛ فقد كان يظن أنه سيفرح غاية الفرح أن ابن عز الدين بك قبل الغداء عنده. - يا أبا، إنه ابن عز الدين بك.
وازداد ذهول سباعي وأبوه يقول له: طظ! وما عز الدين بك بتاعك هذا؟ - يا أبا، عز الدين بك كبير الناحية. - بالإجرام والقتل والاعتداء على حرمات الله والناس. - رجل عترة. - عند من لا يخافون الله أمثالك. إنما في الحقيقة هو ليس رجلا أصلا. - ليس رجلا؟! - الرجل هو الذي يشق الحياة إلى الآخرة بطاعة الله لا بعصيانه، وبإحياء البشر لا بقتلهم، ومن قتل إنسانا واحدا فهو عند الله كمن قتل الناس جميعا. - انظر يا أبي إلى الثروة التي كونها. - بسيطة. - مائتا فدان من لا شيء بسيطة. - وألف وألفان بسيطة، ما دامت وسيلته إلقاء الذعر في قلوب الناس، والاستيلاء على حقوقهم بالباطل. - على كل حال يا أبا أنا لم أدعه. - دعوت ابنه ودعوت المجرمين الذي يعملون لحسابه. - أريد أن يكون لنا قيمة في البلدة وفي الناحية. - فشرت أنت وضيوفك جميعا. إن قيمتنا في قلوب الناس أعظم منهم ألف مرة. - يا أبا، إنه نائب الدائرة. - بالرعب والقهر وليس بالاختيار، ولو ملك الناس أمر أنفسهم دون خوف لاختاروا أي شخص يمثلهم فيكون تمثيله لهم شرفا وقيمة، يختارون متعلما أو يختارون شريفا لا لصا ولا قاتلا. - فما احترام الناس هذا؟ - ألا تعرفه وتعرف من أين يصدر من نفوسهم؟ - إنهم يهابونه. - إنهم يخافونه، وإنهم لا يحترمونه. إنما الاحترام هو ذلك الذي تنطوي عليه نفوسهم بحريتها المطلقة وليس بما يخشونه منه إذا هم حجبوا عنه احترامهم. إن أخاك خليل محترم بعلمه في بلدتنا أكثر من عز الدين هذا، الذي تتشرف بمعرفة ابنه وبدعوته إلى الغداء عندك. - خليل أخي. لا يا أبا، شرع الله عند غيرك. - بل هذا هو شرع الله والناس. أما شرعك أنت فشرع الشيطان المسعور من بني آدم. - والآن ماذا ترى؟ - وهل تركت لي رأيا؟ لقد دعوت فعلا، ولا أحب أن أجعل منك طفلا أمام الناس. - مصيبة سوداء لو عرف عز الدين بك رأيك فيه. - أويشرفك هذا؟ نعم فعلا مصيبة سوداء، ومعرفته مصيبة سوداء أيضا؛ ولهذا كنت أرجو أن أقضي الأيام الباقية لي لا أعرفه ولا يعرفني. - الحق علي يا أبا. - حين أموت أخاف أن يكون عز الدين وأمثاله هم مثلك الأعلى.
وأوشك سباعي أن يهتف: يا ليت. ولكنه كتمها وسأل أباه: أتحضر معنا الغداء يا أبا؟ - وأنا ما شأني؟ - إنه بيتك. - بل بيتك ما دمت دعوت فيه فأنت تعرف أنه بيتك. وإن لك هذا الحق لا أنازعك فيه، وإنما أغضبني اختيارك لمدعويك، ولكن الأمر لله. •••
حين استقر المقام بشعبان ورجال أبيه في الدوار أصبح الدوار فجأة خلية نحل، وراح كل من يعمل في البيت يعد العدة للغداء. وتسامع أهل القرية جميعا بهذه الدعوة فتولاهم نحو سباعي ذلك الشعور العجيب الذي يجمع بين الخوف والرهبة والاحترام المرتعد. ولم يحاولوا أن يضعوا الحدود الفاصلة بين هذا النوع من الاحترام وبين ما يكنونه لوهدان من احترام فيه حب وفيه تقارب ومودة. لقد تعودوا أن يكتموا ما يعتمل في نفوسهم نحو عز الدين ومجرميه، وأصبحت هذه العادة منهم طبيعة لا تناقش ولا يحلل مداها إنسان، ولا يحاول أحد أن يتتبع جذورها. هم فقط أحسوا أن سباعي أصبح شخصا مهما؛ لأنه دعا ابن عز الدين، وأبو سريع، ورجال أبو سريع وقبلوا الدعوة.
تناولوا الغداء وضمتهم حجرة الاستقبال في الدوار مرة أخرى. وقد كان الدوار شأن أمثاله في بيوت الأعيان بعيدا عن الدار موصولا بها في وقت معا؛ فهو جلسة الرجال، وليس له بحرم البيت وحريمه صلة، إلا أن يأتيهم منه المطعم والمشرب، ثم لا اتصال.
قال شعبان وقد انتفش على الكنبة مزهوا بمكانة أبيه: مبسوط يا سباعي؟ - رضا، والحمد لله. - الحمد لله على كل حال، ولكن لماذا الرضا؟ - يا سلام! أتكون مشرفا عندي أنت وهؤلاء الرجال السباع ولا يكون الحال رضا؟
وضحك الجميع.
ناپیژندل شوی مخ
وقال أبو سريع معلقا على السباع: يا سباعي!
وعلا الضحك مرة أخرى؛ أما رجال أبو سريع فلأنهم لا بد لهم أن يضحكوا ما دام أبو سريع يضحك. وأما شعبان وسباعي فليفهما أبو سريع أنهما فطنا إلى قفشته وتلاعبه بالسباع وسباعي وسرعة خاطره أيضا، ولكن شعبان يقول مواصلا حديثه: يا حبيبي أنا أسألك: هل أنت مبسوط في حياتك؟ - وهي أيضا رضا، والحمد لله. - لماذا؟ - وماذا أريد أحسن من هذا؛ آكل شارب نايم أشوف أرض أبي، وأنتج منها أحسن محصول. ماذا أريد أحسن من هذا؟ - وهل هذه عيشة؟ - وما العيشة؟ - تعال معي إلى مصر وأنا أعرفك العيشة على حقيقتها. - يا سلام! - رحت مصر؟ - طبعا. - أين ذهبت؟ - زرت المشايخ، وزرت أقاربنا هناك وأصدقاءنا، ودخلت السينما، ورحت إلى المسارح، وشفت كل حاجة في مصر. - دخلت كباريه؟ - كبا... وماذا؟ - كباريه. - آه، لا، سمعت عنه فقط. - سمعت عن ماذا؟ - يقولون عن الأوبرج وشيء آخر اسمه الأريزونا. - يقولون. - سمعت. - ولم تر؟! - الكذب خيبة، لا لم أر. - فأنت لم تر مصر. - أهذه هي مصر؟ - عندي أنا. أنا يا بني حين أذهب إلى مصر لا شأن لي لا بأقارب ولا بغيره. كم صاحب أعرفهم، أصل إلى بيتنا هناك وأدور عليهم بالتليفون، وعينك ما تشوف إلا النور. - وأين هذا النور؟ - في الأوبرج. - أتذهب إلى الأوبرج؟ - ولا أحب غيره. جربت كل كباريهات مصر، لم يملأ عيني إلا الأوبرج. الملك يذهب إلى هناك. - شفته؟ - مرة. - واحدة؟ - كفاية. - ما شكله؟ - سمين وضخم، إنما الحق له هيبة. - ملك، ملك يا عم ملك، المأمور عندنا يهز المديرية، شف ملك ماذا يفعل. - ليس هذا هو المهم. - الملك ليس مهما؟! - هناك ليس مهما بالمرة. المهم أشياء أخرى. - مثل ماذا؟ - اسمع يا عم. أنا رجل أحب العمل، ولا أحب الكلام. - ولكننا الآن لا نملك إلا الكلام. - فشر، ونملك العمل أيضا. - كيف؟ - أنا مسافر الخميس القادم، تجيء معي؟ - أجيء. - صحيح؟! - وهل ألاقي فرصة أحسن من هذه؟ - اتفقنا. - اتفقنا. •••
حوت غرفة الاستقبال في المساء قوما آخرين؛ فقد تصدرها وهدان كشأنه كل ليلة، والتأم حوله أصدقاء جلسته يكادون لا يتغيرون في ليلة عن الأخرى؛ فأغلبهم تعود هذه الجلسة والحديث بينهم متصل منذ سنوات، وفي أيام أم كلثوم يعدون العدة لسماعها في راديو وهدان. وقد كان الاستماع إلى الراديو لمدة طويلة يحتاج أن يذهب أحدهم بحماره إلى المركز في اليوم السابق ليملأ البطارية الضخمة؛ فهي بطارية سيارة، ويعود بها في اليوم التالي. ولم تكن أم كلثوم تغني في هذه الليلة وإنما هو الحديث، حديث في كل شيء. وأحيانا كان يلم بالجلسة أصدقاء غير منتظمين، إما أن يكونوا أصحاب مصلحة يريدون قضاءها مع وهدان أو مع أحد جلسائه، أو يكون قدومهم لمجرد السمر والحديث. وفي هذه الليلة جاء إلى الجلسة عبد الحميد أبو ديدة الذي توقف عن العمل كخياط للقرية تاركا الصنعة لابنه بعد أن أوهنه الكبر. وأصبح لا يخرج من البيت إلا في القليل النادر، وكانت تنعقد في بيته هو أيضا جلسة مثل جلسة وهدان هذه، فلم يكن غريبا أن يكون إلمامه بدوار وهدان نادرا، وقد أوسعه وهدان ترحيبا. وقد حرص سباعي أن يحضر الجلسة ليرى نفسه موضع الإكبار والتقدير بعد دعوة الغداء التي عرفت القرية جميعا بشأنها. وما هذا بعجيب؛ فإن أي دعوة في القرية هي حديث القرية جميعا، ولكن مجيء شعبان ورجاله أمر يعرف سباعي أنه هز القرية كلها من الأعماق. وتهيأ سباعي لسماع كلمات التقدير على دعوته تلك. وقد رأى فعلا نظرات الاحترام ماثلة في أعين معظم أهل الندوة. وحين بدأ الحديث بدأ بطبيعة الحال عن مجيء شعبان وأبو سريع، فإذا وهدان يقول في هدوء وفي حسم: إذا تكلمتم في شأن هذه الدعوة فاسمحوا لي أن أنصرف.
وانقمع الحديث عنها تماما، وأحس سباعي لذعة أسف أنه لم يتمتع بما كان يهفو إلى التمتع به. والتوى الكلام إلى غير هذا مما تعودوا أن يأخذوا فيه. وما هي إلا بعض الساعة حتى استأذن عبد الحميد أبو ديدة، وقال وهدان: لماذا يا عم عبد الحميد؟ لم نشبع منك يا رجل. - عمك كبر يا وهدان. أنا حتى في داري أترك ضيوفي كل ليلة يكملون حديثهم، وأقوم أنا ويعذرونني يا ابني. كبرنا يا وهدان. - أنت الخير والبركة. أوصل عمك عبد الحميد إلى بيته يا سباعي.
ويقول عبد الحميد في صوت من يرغب في هذا التكريم الذي تعود عليه، والذي جاء في هذه المرة آملا أن يحدث: وما لزوم التعب؟ - تعبك راحة، يا عم عبد الحميد.
ويصيح سباعي راجيا أن يسمع من عبد الحميد ما فوته أبوه عليه من تكريم: تحت أمرك، يا عم عبد الحميد.
وما يكاد الطريق يخلو بالاثنين حتى يقول عبد الحميد: لقد جئت اليوم خصيصا من أجل خلوتنا هذه. - خيرا، يا عم عبد الحميد. - أنت دعوت اليوم شعبان. - حصل. - اخطب أخته. - ماذا؟! - ما سمعت. - وهل هذا معقول يا عم عبد الحميد؟ بنت البك تقبلني أنا؟! - وأنت ما عيبك؟! - على الأقل يقولون لم يتعلم. - وهل تعلم أبوها أو أخوها أو تعلمت هي؟ إنما هما كلمتان عرفت بهما كيف تفك الخط. - أنا والحمد لله مستور في القرية، ولكن بالنسبة لعز الدين بك أنا فقير. - ولا فقير ولا حاجة. - كيف؟ وأين ما أملك مما يملكون، وإيجاراته من الأوقاف وحدها تدر عليه دخلا قدر دخلنا مائة مرة أو قل مائتين؟ - اسمع ما أقول لك، اخطب أخته. - إن رفضوني فستكون سبة. - لن يرفضوك. - وأنت كيف عرفت؟ - هذا شأني. - فقط قل من أين عرفت. - من سني الكبيرة، من الزمن، من الناس الذين عرفتهم. اسمع كلامي يا ولد، أنا في مكان جدك، ومن سنه أيضا. - إذا تمت هذه الزيجة يا عم عبد الحميد لا أدري كيف أكافئك. - أنت يا ولد تكافئني؟ أنت يا ولد ابن وهدان، وأبو وهدان عاش عمره كله على باب دكاني، أتظن أنني جئت إليك لكي تكافئني، وماذا أصنع بمكافأتك؟ هل سآخذها معي إلى الآخرة؟ إن أردت أن تكافئني حقا فإني أوصيك بابني حسن؛ فهو قليل الحيلة، وأنا لم أترك إلا ثلاثة أفدنة دفعت فيها عيني وانكفائي على ماكينة الخياطة عشرات السنين. - ربنا يطيل عمرك يا عم عبد الحميد، وحسن في عيني الاثنين. - يكفيني هذا. ارجع أنت. سلام عليكم.
الفصل السادس
لا يكون الحلم إلا من تجارب الإنسان ومن سابق خبرته؛ فالأحلام على هذائها وبعدها عن العقل تخاطب الناس على قدر خبراتهم. هي قد تخلط هذه الخبرة، وتقلب موازينها، وتجعل أعاليها أسافلها، وأسافلها أعاليها. إنما تظل بالنسبة للإنسان الذي تعرض له في حدود ما عرف من واقع الحياة؛ ولذلك يستطيع المرء غالبا أن يعبر عنها، ويروي ما عرض له في أحلامه إذا كان منتظما، أو يعزوه إلى خرف النوم، أو فقد انتظامه وتتابعه.
أما هذا الذي يراه سباعي فلم يخطر له على حلم أبدا، وما تصور أن تضم جنبات الحياة شيئا مثل هذا الذي يشاهده من راقصات الأوبرج. عرايا صدورهن أو عرايا جسومهن جميعا إلا موقعا أو موقعين الغطاء فيهما أخبث من العري. وما إن أفاق هونا من ذهوله حتى التفت إلى شعبان: أهؤلاء نسوان؟
ناپیژندل شوی مخ
وانفجر شعبان في قهقهة عالية ليست غريبة ممن يحويهم هذا المكان، وقال: طبعا نسوان.
وظل سباعي في بهره وهو يقول: مثل نسوان البلد عندنا؟
واستمرت القهقهة يختطف من شهيقها الإجابة. - ماذا ترى أنت؟
ويقول سباعي في جدية حاسمة لا أثر فيها لمزاح: النسوان عندنا خفراء.
ويقول شعبان بعد أن هدأت ضحكاته: لعلك لم ترهن إلا في مواطن الجد.
ويقول سباعي في جديته لا يزال: رأيتهن في كل المواطن، خفراء، خفراء في أكثر المواطن خلاعة. - لعلك لم تحسن الاختيار. - وهل هي واحدة؟ إنهن كثيرات عرفتهن، وكلهن خفراء. - فما رأيك أنك لم تر شيئا بعد. - ما أرى يكفي. يا رجل، أنا أتعجب من نفسي كيف لم يغم علي. - لا، اجمد، الليل ما زال طويلا أمامنا. - وماذا سنعمل فيه أكثر من هذا؟ - هذا شأني. - أنا تحت أمرك، عبدك وبين يديك. - أولا تشرب هذا الكأس. - وما له أشربه، هه باسم الله الشافي العافي.
وهم أن يقلب الكأس جميعه في فمه مرة واحدة، ولكن شعبان أسرع فأمسك بيده. - لا، انتظر، ليس هكذا. - فكيف إذن؟ - رشفة رشفة، أتريد أن تنقلب منا في الأوبرج. - أمرك. - حين ينتهي الكأس أو الكأسان، وليس أكثر سترى ما لم تره حتى الآن.
وانتهى سباعي من شرب الكأسين في بطء الجاهل الذي لا خبرة له. وبدأت المناظر التي يراها تصل إلى أعماق كيانه. وتصاعدت الحميا إلى مكامن الشعور فيه فإذا هو يعيش حياة غير الحياة، حتى ليحسب أنه لم يولد إلا في هذه اللحظة. وحين أدرك شعبان ما صار إليه حال صديقه سأله: وما رأيك إذا قلت لك إنك ستقضي الليلة مع واحدة من أولئك الراقصات.
وفي وقار متعتع سأله: وماذا أصنع معها؟
وحينئذ انفجر شعبان مرة أخرى في قهقهة عالية، وراح يقف ثم يقعد والقهقهة على حالها، حتى إذا استطاع أن يلتقط أنفاسه قال لسباعي: كان يوم هنا يوم عرفتك.
ناپیژندل شوی مخ
أما أصحاب شعبان فكانا اثنين، وقد اتخذ كلاهما موقف الشاهد، سعيدين غاية السعادة بهذا المخلوق الجديد على المكان والجديد على هذه الحياة جميعا، ولكنه عندما سأل شعبان سؤاله الأخير هذا كانا أشد صخبا من شعبان. وسأله أحدهما وكان شعبان يدعوه كريم: ألم تقل إنك عرفت نسوانا كثيرات في البلد؟!
وفي نفس النغمة الوقور المتعتعة قال سباعي: يا سي كريم أفندي، اسم الله على مقامك، النسوان اللواتي عرفتهن شيء والنسوة هنا شيء آخر بالمرة، لم يرد صنفه علي مطلقا، ولم يخطر لي على بال أن في العالم نسوانا بهذا الشكل، بالتأكيد هؤلاء صنف آخر من الناس لا أعرفه أنا ولا أبي.
وتتم الليلة كما ينبغي أن تتم مثل هذه الليالي، ويحس سباعي أنه بهذه الليلة أصبح من طبقة أخرى غير طبقة أهله، ولكن العجيب أن سباعي مع كل هذه المتعة التي شعر بها والتي أوغلت في العميق من كيانه كان يدرك أن مثل هذه الليالي إنما هي لهو يتمتع بها من يحبها ليلة كل شهر أو ليلتين، ولكنها لا يمكن أن تكون حياة بأكملها كما كان يعتبرها شعبان. كان الأمر بين الاثنين مختلفا كل الاختلاف؛ فقد كان شعبان لا يريد من الحياة إلا هذه الحياة، وكان عمله في الأرض عمل مرغم لا راغب، مدركا أن أباه سينضب عليه موارد المال إذا هو لم يقم بواجبه كفلاح يعينه على زراعة الأرض الواسعة بما يستأجر من الأوقاف. أما سباعي فقد كان يرى في الزراعة حياته ويرى في مثل هذه الليلة لهوه.
كان من الطبيعي أن تتوطد العلاقة بين شعبان وسباعي، وتكاثرت الزيارات بينهما. وفي يوم حزم سباعي أمره بعد أن فكر وأطال التفكير وتدبر الأمر مع نفسه، فأحكم التدبير وقصد إلى شعبان في بيت أبيه. - أنا أحببتك حبا لا تدري قدره. - هذه مقدمة لشيء تريد أن تقوله. - أي نعم. - قل. - أريد أن أكون قريبك وصاحبك. - فهمت. - وما رأيك؟ - لا بد أن أتأكد من صحة فهمي أولا. - أنت تفهمها وهي طائرة. - يكون أحسن لو قعدت. - أخطب إليك الست أختك قدرية. - هل شفتها؟ - شفتك أنت. - على كل حال أسأل أبي. - طبعا. - ولكن لا بد أن تشوفها. - ومن غير شوف. - لا بد. - أمرك، كيف؟ - هذا أمر ميسور، والحقيقة أنا أفضل أن تشوفها قبل أن أكلم أبي. - كيف؟ - حتى يتكلم أبوك بعد ذلك، وتجري الأمور في طريقها الطبيعي. - ولكن معنى كلامك أنك لا ترفضني. - أنا لا أملك الرفض أو القبول. - أعرف ذلك، ولكن معنى أن تسمح لي برؤية الست أختك أن الأمر ليس بعيد الاحتمال.
وتنبه شعبان إلى الموقف، وسارع يقول: أنا لا أستطيع أن أقول شيئا مطلقا، وأنا أسمح لك برؤية أختي لأني أعتبرك أخا، وأحب إذا فاتحت أبي في هذا الموضوع أن أكون واثقا أنك جاد فيه؛ لأن التقدم منك ثم الرجوع مسألة قد تسيل فيها دماء. - أنا أعرف تماما وظيفة أبو سريع عندكم، ولا أحب أن أكون أنا أو يكون أبي من بعض مهام وظيفته. - إذن تراها. - يا ليت، متى؟ - الآن. - كيف؟ - اسمع، اخرج من الباب الأمامي قدام الخدم ولف وعد لي من باب الشرفة. - أمرك.
وخرج سباعي وعاد، وفتح شعبان حجرة مجاورة وأدخله فيها. - سأنادي قدرية وأنت تستطيع أن تراها من هنا، وسأجعلها تقعد بحيث لا تراك، فحين تراها وتسمعها روح إلى بيتك من هذا الباب الذي يخرج من الشرفة إلى الحديقة إلى الخارج.
ووجم سباعي قليلا، وقال: وكيف سأقول لك إني وافقت؟ - قلها بكرة، لا أريد أن أعرف رأيك اليوم على كل حال. - أمرك.
ودخل سباعي الحجرة، وأبقى شعبان بابها نصف مفتوح حتى إذا رأته قدرية حسبت أنه نصف مقفل، وأنه ترك هكذا عن إهمال لا عن عمد.
ونادى شعبان من بهو البيت الأسفل: قدرية، قدرية. - نعم يا شعبان فيه حاجة؟
وأطلت عليه من أعلى فقال: ماذا تصنعين؟ - لا شيء، أسمع الفونوغراف. - أنا زهقان، لماذا لا تحضرين الكوتشينة وتجيئين نتسلى؟ - حاضر، جاية.
ناپیژندل شوی مخ
وجاءت ورآها سباعي وفهم كل شيء. •••
هي النقيض الكامل للنسوة اللواتي خبلن عقله بجمالهن في الكباريه، هي الطرف الآخر من جمال الخليقة. إذا كان سبحانه قد خلق النسوة الجميلات ليرى عباده بديع صنعه، فهو سبحانه جلت قدرته قد خلقها ليعرف عباده شديد سخطه. إذا كان هناك من لا يصدق أنه سبحانه قادر على خلق الجنة والجحيم فليضع قدرية إلى جانب أي جميلة من جميلات أي مكان، سواء كان هذا المكان هو الأوبرج أو حتى قرية الصالحة. وحينئذ ستتمثل له في الفتاة الطبيعية الجنة كل الجنة، وفي قدرية الجحيم غاية الجحيم. سبحانه إنه على كل شيء قدير!
لهذا قال له عبد الحميد أبو ديدة اخطبها، ولهذا لم يرفض شعبان فكرة زواجه بها رفضا قاطعا من أول وهلة، وإن كان قد دهش من رد الفعل الذي استقبل به شعبان طلبه، وإن كان قد ذهل لأن شعبان جعل الأمر قابلا للإتمام، وإن كان قد ازداد ذهوله حين وجده يسارع إلى إتاحة الفرصة له أن يرى أخته، فإن الدهشة والذهول الآن لا مكان لهما؛ فهو بالنسبة إلى الحالة التي رآها فرصة لا تعوض لعز الدين بك؛ فلا شك أن أباها وأمها وأخاها لم يكونوا يأملون أن تتزوج أكثر من عامل زراعة في أملاكهم ويكون العامل مظلوما.
كيف استطاع فمها أن يكون بهذه السعة؟ وكيف استطاع أنفها أن ينفرش لينال من وجنتيها - إذا كان لها وجنتان - كل هذه المساحة؟ وكيف استطاع هذا الوجه المسحوب كعلامة تعجب أن يسع كل هذا الفم وكل هذا الأنف؟ وهي تغطي شعرها بمنديل، ولكنه شعر متمرد صاخب يرفض المنديل ويقذف به إلى أعلى ليجعل منه طرطورا. وكل هذا يهون إذا تركز البصر من الناظر على ذقنها، إنه مقذوف إلى أعلى يوشك أن يغلق الفم. وربما كان هذا هو السبب في نحافتها المفرطة؛ فلا شك أن فمها يجد مشقة عاتية في أن يلقف اللقمات!
لقد وعى سباعي قبح الفتاة وعيا كاملا، ولكن العجيب في أمره أنه ازداد إصرارا على الزواج بها؛ فقد أدرك لحظة رآها أن الزواج بينهما متكافئ؛ بل إن أسرتها هي الكاسبة فيه؛ لأنهم لا يعرفون ما يفكر فيه هو، الزواج متكافئ لا شك، هي قبيحة كل القبح وهو فقير بعض الفقر؛ فهو مقبل إذن على الزواج في عزم وإصرار ازدادا ولم ينقصا. وهو في إقباله هذا غير مرغم ولا مضطر؛ فإنه يستطيع إذا لم يكن يريد للزواج أن يتم أن يذهب من غده إلى شعبان ويحدثه في حديث آخر غير هذا، وسيفهم شعبان وسيعذره، فهو مصمم، وهو مصمم أيضا أن يكلم شعبان أباه حتى يكون وهدان مضطرا لإتمام الزواج. وقد كان سباعي مقدرا لهذا الأمر منذ دبر أمره قبل أن يفاتح شعبان في شأن الخطبة؛ فهو يعلم حرص أبيه وهدان على أن تعيش أسرته بعيدة عن كل المشاكل، فإذا هو امتنع عن إتمام الخطبة فالويل الآخذ والانتقام الوبيل.
وقد كان سباعي واثقا أنه حين يطلب من أبيه أن يخطب له ابنة عز الدين سيرفض رفضا قاطعا، كما كان واثقا أنه سيقبل أن يخطبها له على رغم أنفه إذا أخبره أن شعبان فاتح أباه فعلا في الأمر وأنه قبل. قدر سباعي هذا جميعا، وأقدم على هذا الحديث مع شعبان.
وفي الصباح الباكر كان سباعي واقفا بجانب شعبان في الغيط: متى ترد علي؟
ونظر إليه شعبان مليا ثم قال: تعال الليلة في البيت. •••
انتظر سباعي حتى صحا أبوه من القيلولة وتوضأ وصلى صلاة العصر، واستقرت به الجلسة على الأريكة وبجانبه نبوية، وكان وهدان منشرح الصدر فهو يقول تلك الجملة التي كثيرا ما يرددها: لقد كان قطع ذراعي بركة، تزوجت بي نبوية بعد أن تأكدت من قطعه، إنها تحبني لشخصي، وأعفاني الله من غسيل ذراعين في كل وضوء مكتفيا بذراع واحدة.
وضحكت نبوية وهي تقول: أما زلت تذكر زواجنا؟ قد آن الأوان أن نفكر في زواج أبنائنا.
ناپیژندل شوی مخ
وقال وهدان: ما أحب هذا إلي!
واندفع سباعي الذي كان يتربص بالحديث: صحيح يا أبا؟ - صحيح جدا. - إذن فأنا أريد أن تخطب لي. - من؟! - قدرية بنت عز الدين بك الخولي.
وهب الأب واقفا: من؟!
ودقت نبوية صدرها وهي تقول: من؟!
وقال سباعي: ماذا يا أبا؟ ماذا يا أمه؟
وألجمت الصدمة لسان وهدان، وذهلت الأم بعض الحين، ثم قالت: ولكن يا ابني، هل ... هل يقبلون؟
وابتسم سباعي وهو يقول: لقد قبلوا فعلا.
وصاح الأب مرة أخرى وهو ما يزال واقفا: ماذا؟!
وقالت الأم: قبلوا، إذن ...
ومات الكلام على شفتيها وارتمى وهدان جالسا على الأريكة، معتمدا برأسه على ذراعه الواحدة، مفكرا في كل ما فكر فيه ابنه من قبل، وتمت الخطبة وتم الزواج.
ناپیژندل شوی مخ
الفصل السابع
أقام سباعي وزوجته في بيت وهدان، ولكن وهدان لم يكن يطيق أن يكون البيت مزارا لعز الدين وابنه شعبان. وما كان يتصور أن أسرة كهذه تندمج مع أسرته. وما كان يدور بخياله أن شعبان يمكن أن يدخل إلى بيته في أي وقت من أوقات اليوم، وهجست نفسه أن شعبان ربما فكر في الزواج من فاطمة أو عابدة، وإذا مر هذا التفكير بذهن شعبان فهيهات لوهدان أن يرفض؛ لأنه لم يكن يريد أن يموت مقتولا؛ فهؤلاء نفر من الناس لا يقف بهم نسب أو قرابة أن يرتكبوا أي جرم.
سارع وهدان فابتنى بيتا لابنه سباعي ولم يشعر أن كارثة زواج ابنه من ابنة هذا المجرم قد خفت حدتها إلا يوم انتقل هو وزوجته الكئيبة إلى البيت الجديد، ومهما يكن البيت قد كلفه فكل مال هين إذا قارنه بمصيبة زيارة واحدة من عز الدين، أو إطلالة من شعبان على أخته التي تسكن في نفس البيت الذي يعيش فيه مع نبوية وابنتيه.
وكان التعليم قد انتشر في القرية انتشارا أتاح لفاطمة أن تجد شابا متخرجا في كلية التجارة هو حسونة الزيني، خطبها بعد أن تم تعيينه بالصعيد مراجعا لحسابات السكة الحديد بها. ولم يمر كثير من وقت حتى خطبت عابدة أيضا إلى ياسين ضيف خريج كلية دار العلوم، والذي عين مدرسا بالقاهرة. وقد كان ياسين قبل أن يلتحق بكلية دار العلوم شيخا معمما نال ثانوية الأزهر، ثم التحق بكلية دار العلوم. وكان الأب والأم سعيدين غاية السعادة بهاتين الزيجتين، وكان كلاهما يحمد الله أن عوضهما عن زيجة سباعي.
والواقع أن قدرية لم تكن في أخلاقها على هذا القبح الذي طبعه الله على وجهها، وإن كان بلوغ هذا القبح عسير المنال على أية حال، إلا أن الفتاة كانت رضية الخلق تعامل حماها وحماتها بكل إجلال واحترام. وكان وهدان بحاسة العدل فيه وبمشاعر الأبوة يعلم أن قدرية لا ذنب لها فيما ركب عليه أبوها، وأنها تزوجت برغبة منفردة من زوجها، وبشعور بالسعادة من أبيها وأخيها أن وجدت إنسانا أي إنسان يقبل أن يتزوجها.
وهكذا كانت معاملة وهدان ونبوية لقدرية تتسم بالأبوة الكاملة وبالحنان الشفوق لا يفرقان بينها وبين ابنتيهما، وكانت هي تقوم مع أختي زوجها بشئون البيت في يسر ونعومة. ولم يحدث في يوم أن اشتجر خلاف مهما يكن هينا بينها وبين أحد من أهل البيت جميعا، حتى الخادمات اللواتي استقبلنها في وجوم وأسى لقبحها، وليس لأي سبب آخر، هن أيضا سرعان ما أصبحت عندهن واحدة من أهل البيت، لا تختلف معاملتهن لها عن معاملتهن للست فاطمة والست عابدة. والخادمات في الريف يألفن بنات الأسر التي يعملن بها حتى لتصبح الصلة بينهن صلة أقرب إلى الأخوة منها إلى صلة سيد بمسود، فلم يكن غريبا إذن أن تفرح قدرية بخطبة فاطمة ثم عابدة كفرح البيت جميعا من سادة وخدم.
وقد يتساءل الشباب: ما هذا الزواج الذي تم بغير حب سبقه ولا لقاء ولا اتفاق بين العروسين؟ ولو عرفوا الريف في هذه الأزمان لعلموا أن الزيجات التي كانت تتم على حب في الأسرة المتوسطة تكاد تنعدم؛ ففتيات هاته الأسر لم يكن يخرجن من بيوتهن منذ اليوم الذي ينقطعن فيه عن التعليم، بل إن الكثيرات منهن كن يتلقين تعليمهن في البيت إذا كان الأب يريد لبناته أن يتعلمن؛ فالدائرة التي تتسع لسجنهن ضيقة غاية الضيق، ولكن تفاصيل حياة كل فتاة ومدى جمالها أمر مشاع بين أبناء القرية جميعا. والخاطب حين يتقدم إلى الخطبة يكون عالما بكل أسرار الفتاة التي يتقدم لها ولكن من غيرها وليس منها.
فأحاديث القرية عن القرية، وأمهات هؤلاء الشبان يروين لهم كل شيء عن كل فتاة أو سيدة أو حتى طفلة في القرية، فينشأ الفتى وأبناء القرية جميعا في كامل وعيه، لا يغيب عن شاب من هؤلاء الشباب خبر عن أي فتاة من فتيات قريته.
والأمر مختلف كل الاختلاف إذا كان الزواج من ابن فلاح يعمل في الحقل وابنة فلاح آخر يعمل. فالفتيات في هذه الفئة يخرجن كل يوم ليذهبن بالطعام إلى آبائهن أو أخواتهن في الحقول وهن يملأن الجرار، وهن يشترين حاجات البيت في أيام الأسواق، فإذا كان الحب قد اندلع بين وهدان ونبوية حين كان الزمن ما زال في غيبوبة الجهل فهو مندلع أيضا والزمن قادم على نور العلم؛ لأن الفتيات من مثيلات نبوية حين تزوجت ما زلن كشأنها في الأيام الخالية من طفولتها وصباها وباكر شبابها.
ربما لو كان هناك شاب من أقرباء وهدان أو نبوية يتردد على البيت بصلة القرابة وشب حب بين هذا الشاب وبين واحدة من الفتاتين كان الأمر قد تغير. وقد كانت الفتاتان جميلتين وكانت كل منهما تمثل نوعا من الجمال الذي لا يختلف فيه اثنان، وإن كان هناك مجال لاختلاف فإنه سيكون تقدير مدى هذا الجمال. كانت إحداهما خمرية اللون ذات تقاطيع منسجمة لها أنوثة جذابة وشعر مناسب فيه رخاء وسيولة ولين. وكانت الأخرى عابدة شديدة البياض في خديها حمرة واهنة، وفي عينيها سواد داكن يتوسط بياضا ناصعا، وفي شعرها عربدة حبيبة. كلتاهما ممشوقة القوام، وكانت عابدة أطول من فاطمة قليلا، ولكن لا يشتكى من فاطمة قصر ولا يعاب على عابدة طول.
ناپیژندل شوی مخ
فالفتاتان كانتا جديرتين أن تحبا، ولكن لم يكن هناك حبيب؛ فالذين يرونهما من الرجال لا ترتقي آمالهم إلى حبهن. وكلتاهما كانت تعلم أنها ستجد الزوج اللائق بها فقد كانت كل منهما تعلم أنها جميلة، وأن أباها ممن يألف الناس ويألفون، وأن أمها قريبة إلى مشاعر الأمهات في القرية لم تمد يدها لإحداهن بغير المعروف والمكرمة. كلتاهما كانتا تجدان المتعة في كتاب من الكتب الكثيرة التي كان يشتريها لهما خليل، وفي الراديو ما وجدت البطارية وفي الأسطوانات. وقد تزوجتا كلتاهما وهما في مطالع الشباب فلم تضق منهن نفس، ولم تشعر واحدة منهما في حياتها برهبة المستقبل، ولم يهدد إحداهما شبح من عنس.
وما هي إلا سنوات قلائل حتى امتلأ البيت بأبناء فاطمة وعابدة يأتون جميعا إلى بيت وهدان في الإجازات والأعياد، وكان الجدان يشعران بمجيئهما أن الحياة التي عاشاها كانت مثمرة خصيبة، ولم يشعر واحد منهما بالأسف أن سباعي لم ينجب وقد استطالت سنوات زواجه. وكان سباعي في هذه السنوات تواقا إلى ابن وليس ابنة ليضمن وارثا لماله الذي سيئول إليه من أبيه، والذي ينوي أن ينميه بكل الخطط التي كان يعدها طوال حياته وما سترثه أيضا قدرية من أبيها وهو نصيب إن يكن نصف نصيب شعبان إلا أنه يظل مع ذلك موفورا. ولم يكن قبح زوجته بالنسبة إليه يشكل أي أسف لزواجه منها؛ فقد سرعان ما تعوده حتى لم يعد يرى فيها ما رآه في أول يوم دهمه فيه رؤياه، وهو أيضا كثيرا ما يروح عن نفسه مع شعبان. ولم يكن شعبان يجد أي غضاضة أن يصحب زوج أخته في لياليه الصاخبة، بل لعله كان يعتقد أنه إذا لم يصحب شعبان، فإن شعبان سيجد وسيلة أخرى يخفف بها وطأة أخته عليه، وهي وطأة لا يطيق احتمالها إلا ذو قوة وأيد.
وكان العرب قد بدءوا يرودون ملاهي شعبان وسباعي. وكانوا حريصين أن يجدوا لأنفسهم أصدقاء في القاهرة. وكان شعبان يتمتع حيث يسعى بأنه ابن أحد النواب، وبأنه ثري. وأحس أمير عربي أن مثل هذا لن يطمع في ماله، وأنه يستطيع أن يتخذ منه صديقا، فاتخذه صديقا، وأصبح الأمير نمر من أقرب أصدقاء شعبان. أما سباعي فكانت الصلة بينه وبين الأمير صلة تعارف لا تصل إلى الصداقة. وكثيرا ما دعا شعبان الأمير إلى شقته بالقاهرة، وكم سعد أبوه عز الدين حين دعا الأمير إلى بيتهم في القرية؛ فأي مجد يناله وهو يصيح في خدمه: القهوة لسمو الأمير يا ولد، الشاي لسمو الأمير يا ولد؟! إنه لم يحلم بزيارة وزير فكيف بأمير؟! كان فخورا عز الدين بابنه وبصداقته هذه الأمير فخرا لم يعرفه حياته كلها.
ودعا الأمير شعبان أن يزوره في بلده فلبى الدعوة وحده طبعا؛ فالدعوة لم توجه إلا إليه. وحين سافر شعبان لم يكن يفكر إلا في رؤية هذه البلاد، وحين استقر به المقام هناك، ووجد الثراء الفاحش الذي يعيش فيه الأمير انتهز فرصة خلا فيها به وسأله في شبه مداعبة: أتقبلون في أسرتكم غير الأمراء.
وقال الأمير: يا أخي وما البأس؟ كلنا أبناء آدم، وكلنا مسلمون. - أحقا ما تقول يا سمو الأمير؟ - نعم هو الحق. - ألك أخوات لم يتزوجن بعد؟ - تسع أخوات تزوجت منهن اثنتان. - فإذا طلبت منك أن تزوجني إحدى السبع الباقيات. - أيهن؟ - وهل أعرف؟ إنها أول مرة أعرف أن لك أخوات؟ - وكيف تريد أن تتزوج إذن؟ - بالإنابة. - الإنابة تكون في زوجة محددة. - إنني أوكلك عني في الاختيار، أما العقد فلا داعي فيه للإنابة؛ فأنا حاضر بين يديك. - أتريد أن تتزوج في هذه الزيارة؟ - وأعود إلى أبي بالعروس. - وهل هذا معقول؟ - وفيم نحتاج إلى الزمن؟ أنا بيتي موجود في البلدة، وفي ساعات أختار للأميرة أحسن شقة في القاهرة، والأميرة قطعا لا تحتاج إلى جهاز، ففيم الانتظار؟ - أسألها. - هل اخترت لي؟ - قد اخترت.
وتزوج شعبان من الأميرة العربية، وعاد بها إلى أبيه، وأقيم الفرح في القرية ثلاث ليال سويا. ولم تكن الأميرة على كل حال في قبح قدرية، وهو حين طلبها إنما سعى إلى لقبها وثرائها، وما سعى إلى جمالها أو أنوثتها. قدر أنه لا بد أن يتزوج وقدر أن مثله لا يعرف للحب معنى إلا هذا الذي يمارسه في لياليه في القاهرة، وعندما تنطفئ الأنوار تتساوى جميع النساء. •••
اشتد المرض بوهدان؛ فقد داهمه الكبر فجأة وتوالت عليه علائمه، وأحس أنه يعيش الأيام الأخيرة من حياته. وكانت نتيجة البكالوريوس على وشك الظهور، فكان كل دعائه حين كان يصلي وهو نائم من شدة الوهن أن ربي لا تضمني إليك حتى أعرف نتيجة خليل، أريد أن أقول له يا دكتور مرة واحدة قبل موتي. ومن العجيب أن قدرية كانت حاملا في هذه الفترة، وكانت قاب قوسين أو أدنى من الولادة. ولم يدع وهدان ربه أن يرى سباعي قبل أن يموت، وإن كانت نبوية تدعو له دائما بطول العمر ثم تهمس وكأنها تناجي الله في علياء سمائه: وإن كان لا بد يا الله فأفرحه بنجاح الدكتور خليل، وبحفيد من ابنه البكر.
وفي يوم أصبح خليل الدكتور خليل، وقبله أبوه وعيناه تنهمران دموعا، وراح ينظر إلى السماء وهو يقول: الآن إذا شئت يا رب، الآن ولك ألف شكر وألف حمد. وأبت السماء إلا أن يأتيه الخبر الآخر في نفس اليوم أن ابنه سباعي قد رزق بولد، وكان سباعي هو من سعى إليه بالنبأ، وقبل يده وسأله: لن يختار له الاسم إلا أنت يا آبا، أطال الله عمرك.
وقال وهدان وهو يلتقط أنفاسه: ليكن اسمه صلاح، وليكن صلاحا بإذن الله.
وفي المساء فاضت روح وهدان وهومت في سموات القرية كلمات الآية الكريمة:
ناپیژندل شوی مخ