ويضطر الولد أن يخرس، ثم ما يلبث أن يكرر جملته تلك كلما امتد حديث إلى محصول أو أرض أو شراء أو بيع.
وكان الأب يحس حسرة أن ابنه يلومه. ولم تكن الحسرة وليدة اللوم، وإنما كان باعثها أن ابنه سباعي على غير خلقه، وأنه لا يعرف معنى ألا ينتهز إنسان ضائقة إنسان أخيه، ولا يعف عند مقدرة، ولا يتعالى عن خلق الذئاب.
وكانت نبوية تهون عليه ما يتداوله من ألم لما جبل عليه ابنه البكر، فكان يقول لنبوية: أخاف عليكم منه بعدي يا نبوية. - لا عشنا بعدك يا وهدان، لا عشنا بعدك. - إنه بلا قلب. - ابنك لا يمكن أن يكون بلا قلب! - أتصدقين أن الأبناء يرثون أخلاق آبائهم فيما يرثون؟ هيهات! ليست الأصلاب ولا الأرحام أمينة دائما. والذي لا يقدر ما صنعته مع سليمان شخص يخشى منه يا نبوية. - اسمع يا وهدان، علينا أن نحمل همهم ونحن أحياء. أما من بعدنا فعلى كل منهم أن يحمل هم نفسه.
مر العام إذن وكان أثقل الأيام مرورا، ثم جاء سليمان إلى وهدان وكان ولداه جالسين معه. - السلام عليكم. - وعليكم السلام. - كل عام وأنت بخير. - وكل عام وأنت بخير يا سليمان. - قم يا عم هات الورقة التي عندك. - أمرك.
وعاد وهدان بالورقة وأعطاها لسليمان. - خذ يا عم، ربنا يزيدك. - وأنت خذ هذه. - ماذا؟ ... - لقد تعلمنا القراءة معا في الكتاب. اقرأ.
وقرأ وهدان فوجد بالورقة عقد شراء باسمه لعشرة أفدنة ملاصقة لأرضه، وانتفض في جلسته. - وهل أنا مراب يا سليمان؟ - اهدأ واسمع. - هدأت. - فلوسك كانت جاهزة معي من السنة الماضية، ولكنني أحببت أن أرد جميلك. قلت أتاجر لك بها فإن كسبت فالمكسب لك، وإن خسرت أردها إليك دون أن تعلم. وقد كسبت وجاءني جارك نجيب الجلطة يريد أن يبيع أرضه؛ لأن ابنه الذي أصبح مهندسا يريد أن يبني بها عمارة في مصر. وانظر إلى الثمن تجده عادلا، لا ظلم فيه. استخرت الله واشتريت الأرض باسمك.
وانتصب سباعي واقفا وأهوى على يد سليمان يريد أن يقبلها. وألمت بوهدان غصة أوشكت أن تضيع عليه فرحته بما صنع صديقه. ما سباعي هذا؟ لا عفة عند مقدرة، ولا كرامة عند فرحة! حسبي الله ونعم الوكيل.
حسبي الله ونعم الوكيل.
الفصل الرابع
في هذه السنوات البلهاء من حياة مصر كان ينبت في بعض المناطق مجرم يثير الذعر حوله، ينتمي هذا المجرم إلى وجيه من وجهاء المنطقة، بعقد شيطاني غير مكتوب، أن يحمي الوجيه المجرم من الحكومة، ويحمي المجرم أملاك الوجيه من المجرمين الآخرين. وشأن كل العقود الشيطانية يتجاوز مفعول العقد حدوده، ويتستر الوجيه على المجرم تسترا لو حاسبه عليه قانون العقوبات لأصدر عليه أحكاما قاسية. وفي مقابل ذلك يصبح المجرم أداة بطش وعدوان للوجيه، يخيف به كل المقيمين حوله، مجرمين كانوا أو غير مجرمين. وما هو إلا يسير زمن حتى تصبح أعمال الوجيه بواسطة مجرمه كلها اعتداء على حقوق الآخرين؛ لأن سمعته وحدها كافية أن تذود عنه أي مجرم يفكر أن يمس حقوقه. ويصبح الريف غابة، السيادة فيها لمن لا ضمير له. وهذا نوع من الغابات فريد؛ فغابة الحيوان غابة تجمع مخلوقات بغير عقول، ومن لا عقل له فلا ضمير له، فمن الطبيعي أن يكون الحكم فيها للأقوى. ومن الطبيعي أيضا أن تكون الوحشية هي الدستور؛ فبغيرها لن تطعم الحيوانات ولن تجد مأكلها. وهذا في ذاته سبب كاف أن تستعمل قوتها لتعيش.
ناپیژندل شوی مخ