صحيح أن هذه الظواهر وأمثالها، كانت شائعة ومألوفة في معظم أقطار العالم الثالث؛ إذ لوحظ فيها أنها عندما تخلصت من المستعمر، وظفرت باستقلالها، وتولى نفر من أبنائها مناصب القيادة ومراكز النفوذ، أحس هؤلاء كأنما تدفقت عليهم الخبرات في غفلة من الزمن، وأنها حالة عابرة سرعان ما تزول، فتملكتهم رغبة الإسراع في جميع الحصاد الغزير قبل أن تفلت الفرصة، فكان ما كان من ازدواجية - سبقت الإشارة إليها - فوجه من الوجهين يخدمون به الجماهير ولو بحلاوة الكلمات، والوجه الآخر ، لا يصدقون فيه أنفسهم، وينصرفون إلى توطيد الغنائم. أقول إن ذلك صحيح بالنسبة إلى معظم العالم الثالث، لكن كان الأمل ألا تتعرض له مصر، ووراءها ما وراءها من تاريخ.
خلاصة هذا كله، هي أن نموذجا جديدا «للنجاح» في الحياة قد ارتسم أمام الأبصار، وهو ما يصح أن نسميه بالنجاح الطائر؛ لأنه يتعين على صاحبه أن يعلو بجناحيه فوق رءوس السائرين على أقدامه، لكي يتسنى لهم الوصول إلى الغايات قبل أن يصل إليها المشاة الحفاة، لكن مثل هذه الوثبة الطائرة تتضمن - حتما - غض الأنظار عن ربط الأهداف بوسائلها الطبيعية وبالتالي عدم الشعور عند المواطن الظافر، بما يعانيه المواطن المهزوم؛ إذ من أين يجيء للظافر شعوره بعناء المهزوم، وهو لم يذق طعم الكدح ولا مرارة خيبة الرجاء؟ وفي انعدام شعور المواطن بالمواطن الآخر كان يكمن الداء.
فكل الأمراض التي انحرف بها المصري عن شخصيته المألوفة، والتي نريد معالجتها لنعيد له بناءه، مردها إلى هذه العلة الوحيدة، التي هي ضعف شعور الفرد بالآخرين؛ فإذا وصفنا المصري إبان تلك الفترة باللامبالاة، فقد كان عدم مبالاته منصبا على الآخرين، لا يشعر بوجودهم وكأنه على هذه الأرض يعيش فردا في خلاء! وإذا وصفناه بالتسيب، فالإشارة هنا إنما تعني انفلات الفرد من الروابط الملزمة له نحو الآخرين. ومرة أخرى أقول إن ضعف شعور الفرد بغيره، هو ظاهرة تعم العالم كله في مرحلته الحاضرة، ولا تقتصر على العالم الثالث، بله أن تكون مقصورة على مصر، حتى لقد تعرض لها بعض رجال الفكر البارزين ليبينوا أن تصورنا للفرد الواحد، كان لا بد له أن يختلف عن تصور السابقين وذلك لاختلاف ظروف عصرنا عن ظروف عصورهم، وهو اختلاف أدى أن يعمل ألوف العمال معا تحت سقف واحد، وأن يقوم العلماء ببحوثهم العلمية فريقا فريقا، لا فردا فردا، فنتج عن ذلك كله استحالة أن تكتمل فردية الفرد إلا إذا أضفنا إلى شخصه مجموعة الروابط التي تصله بسواه. وأعود فأقول إن انحراف الأفراد عن هذا المسار العام لم يكن مقصورا علينا، ولكن كان الأمل في مصر أن تنجو من العلة، لما تستند إليه من عراقة الأصول ورسوخها.
أقولها مرة أخرى: إن بيت الداء فيما طرأ على المصري، ففقد المبالاة، وتسيب، واستهتر، هو نقص شعوره بالمصري الآخر، فداس على رقاب الناس ليجعل منها «سلالم» يصعد عليها، دون وازع من ضميره، ثم تفرع من أصل الداء ما تفرع من علل؛ منها ومن أهمها: أن فقد الشاب المصري الطموح، أقوى وسيلة لمعرفة قدرته، ولمعرفة دنياه على حقيقتها؛ وذلك لأن الشخص الآخر - كما أظهرت البحوث العلمية - هو الذي يستطيع الفرد، من خلال تعامله معه، أن يقيس قدرات نفسه، وأن يزداد علما بالعوامل الاجتماعية المؤثرة في حياة الإنسان سلبا وإيجابا؛ فإذا حدث أن نشأت ظروف شجعت الناس على تجاهل بعضهم بعضا، نتج ذلك أن يفقد هؤلاء الناس أهم مقياس يعرفون به أنفسهم وبالتالي يعرفون العالم المحيط بهم معرفة أقرب إلى الصواب. ومن هنا ندرك لماذا اشتد الغرور بشباب الستينيات الذين أعانتهم بلادة ضمائرهم على الظهور بلا سند من قدرة ذاتية، حتى لقد أوهمهم غرورهم إذ ذاك، أنهم أعلم الناس، وأمهر الناس، وأشطر الناس، وأعظم الناس فكرا وفنا وأدبا وكل شيء. وسخروا ما شاءت لهم جهالتهم أن يسخروا من السابقين عليهم في بلدهم، ومن المعاصرين لهم ممن لم تكن لهم قدراتهم على الطيران بأجنحة من دخان.
حقا، لئن كان البارزون من الرجال والنساء في أي عصر، هم المؤشر الدال على جوهر الحياة في ذلك العصر، من حيث يقظة الضمير الاجتماعي أو نعاسه، ومن حيث جدية الاهتمامات أو هزلها، ومن حيث الإيمان بالعمل أو الكفر به، ومن حيث نزاهة الرأي أو ميله مع الهوى، فإن فترة الستينيات عندنا، كانت من أوضح الأمثلة التي تساق، لدلالة الأجسام الطافية على طبيعة عصرها.
الرؤية الواحدة
جلسنا عشرة أشخاص حول منضدة مستديرة، كان في وسطها تمثال صغير لفارس يركب جوادا، ثم طلب لنا أن نرسم ذلك التمثال كل من زاوية رؤيته. والحمد لله فقد كنا جميعا ممن لهم بعض القدرة على الرسم، فلما تم لنا ما أردناه، أخذنا نقارن الرسوم بعضها ببعض لنرى كم أحدثت فيها زوايا الرؤية المختلفة من خلاف؛ فبالطبع وجدنا التباين بينها قريبا حينا إلى الدرجة التي يصعب عليك معها أن ترى اختلافا في الجانب المرئي بين صورة والصورة التي تجاورها، بعيدا حينا آخر إلى الحد الذي يجعل صورة منها تبدي من الفرس صدره ووجهه، وصورة أخرى مقابلة لها تبديه من ظهره وقفاه.
رسوم عشرة اختلفت بعضها عن بعض، باختلاف الزوايا التي نظر منها الرسامون العشرة، لكن هنالك - برغم هذا التباين - قدرا مشتركا بينهم جميعا، لا اختلاف عليه؛ فكلهم يقر وجود الفارس فوق جواده. ولم يكونوا ليجمعوا على هذا القدر المشترك لو جلس بعضهم مديرا ظهره إلى المنضدة وما فوقها. وشيء كهذا هو ما نريده لأنفسنا في حياتنا الثقافية؛ فليكن لكل فرد منا وجهة نظره؛ أي ليكن لكل منا الرؤية الخاصة التي ينظر منها إلى الأشياء والأحياء والمواقف، لكن لا بد من قدر موضوعي مشترك بيننا جميعا، هو الذي يحدد لنا آخر الأمر ثقافة المصري ماذا تكون.
ولكي نمضي في التصور الذي بدأنا به توضيحا، لما نريد إثباته، سنغير من عناصره قليلا، ونضع بين الأشخاص العشرة - بدل الفارس وجواده - مسألة يراد فيها الرأي أو عدة الآراء. ولتكن مسألتنا - مثلا - هي هذه: ما هي أقوم السبل التي نحمل بها المواطنين على ضبط النسل ضبطا نقاوم به هذا التفجر السكاني المخيف؛ فها هنا لا اعتراض على اختلاف الرأي: عن أي طريق يكون الإقناع؟ أنسلكه في مناهج التعليم ذاتها، بالإضافة إلى وسائل الإعلام العامة، أم نقصره على الثانية دون الأولى؟ أنلجأ إلى التشجيع المالي عن طريق الضرائب - مثلا - فنرفعها عن الأسر الصغيرة ونضاعفها على الأسر الكبيرة؟ ... تفريعات كهذه يجوز أن يختلف عليها الرأي. أما جوهر المشكلة فموضوع اتفاق عام، لكن ما هكذا جاء الأمر الواقع في هذا الصدد؛ إذ رأينا نفرا من أئمة القول، ولهم من التأثير ما لهم، يذيعون في الناس أن يسدوا آذانهم دون الدعوة كلها، وليكثر النسل ما يكثر؛ فلا عليهم في ذلك من بأس، بل إن البأس هو في أن يحولوا دون تلك الكثرة ... فرجال كهؤلاء هم بمثابة من أدار ظهره إلى المنضدة وما عليها، في الصورة التي رسمناها في أول هذا الحديث.
ومثل هذا الخلاف في اتجاه الأفكار قد تلاحظه في مواقف كثيرة من حياتنا الفكرية، مما يمتنع معه أن نلتقي عند رؤية واحدة، يتسع فيها المجال لاختلاف الآراء، شريطة أن نظل على وحدة متجانسة بالنسبة إلى الأسس والمبادئ. وعندي أنه إذا أردنا لأنفسنا سياسة ثقافية تسير على هديها، كان إيجاد الرؤية الواحدة هو محور تلك السياسة ومدارها، ولكن كيف السبيل؟
ناپیژندل شوی مخ