الأجسام الطافية
كل إناء ينضح بما فيه - كما قال القدماء - فإذا امتلأ الإناء عسلا نضح العسل، أو امتلأ حنضلا نضح الحنظل. وإناء المجتمع هو في ذلك كأي إناء، قد تضطرب في أحشائه خلال فترة معينة أفكار ومبادئ يتميز بها من سواه، بل يختلف بها عن نفسه قبل تلك الفترة وبعدها، فإذا بتلك الأفكار والمبادئ قد انعكست في أفراد الناس الذين يكتب لهم الظهور البارز إبان تلك الفترة. فقل لي - في أي عصر شئت - من أي الأنواع البشرية كانت الأجسام الطافية على السطح، أقل لك الكثير عن طبيعة الأفكار والمبادئ التي سرت في الناس خلال ذلك العصر.
وذلك أمر طبيعي لا غرابة فيه، وإلا فأين هي الغرابة في أمة ثارت نفوسها سخطا وغضبا، فرفعت على أكتافها قادة أبنائها الثائرين؟ أو في أمة امتلأت صدورها بروح المغامرة، أو بروح الدعوة إلى دين بعينه أو بروح النهوض والإصلاح بعد كبوة أصابتها؟ أقول: أين هي الغرابة في أمة سادتها فكرة معينة في فترة بذاتها فرفعت على أعناقها أولئك الأفراد من أبنائها، الذين تجسدت فيهم، أكثر من غيرهم، تلك الفكرة السائدة؟ هل كان يمكن لعصر الخلفاء الراشدين أن يؤمه أحد غير الخلفاء الراشدين؟ هل كان يمكن لعصر المأمون ألا يرتفع فيه صوت العلماء؟ هل كان يمكن لعصر النهضة الأوروبية في طموحه، ألا يظهر فيه كولمبس ليخترق ظلمات البحر، وجاليليو ليكشف عن شيء من سر السماء؟ كلا، فقد كان حتما لإناء المجتمع، في أي عصر من عصوره، أن ينضح بما اختلج في حناياه، متمثلا في رجال حملوا الرسالة وجسدوها.
وعلى ضوء هذا الذي قلناه، تستطيع أن تتصور نوع الرجال البارزين، إذا ما عرفت مناخ العصر المعين الذي برزوا فيه. فإذا قلت لك - مثلا - إن المناخ الفكري في مصر خلال الفترة الممتدة ما بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر، كاد ألا يكون فيه جديد يضاف، ومع ذلك فقد كان فيه أفذاذ بارزون، عرفت من فورك أن بروزهم بين أقرانهم لا بد - إذن - أن يكون مقصورا على اجترارهم لعلم قديم، يشرحونه، ويضعون له الهوامش. ثم إذا قلت لك عن مصر أيضا إنها وقعت في براثن المستعمر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ففقدت ما كان يمكن أن يكون لها من حرية. ثم قلت لك في الوقت نفسه إنها قد شهدت من أبناها من نبغ وارتفع صوته، عرفت من فورك أن هؤلاء لا بد أن يكونوا ممن جاهدوا في سبيل استرداد الحرية المفقودة، أو الحرية التي يراد اكتسابها جريا على سنن الحياة في العصر الجديد، وذلك هو ما قد كان بالفعل؛ فكل الأسماء التي لمعت منذ ذلك الحين، وإلى بضع عشرات من السنين بعد ذلك، إنما لمعت بسبب جهاد أصحابها في سبيل الحرية في هذا المجال أو ذاك؛ في مجال السياسة - وفي مجال الأدب - وفي مجال التعليم والبحث العلمي - وهكذا.
ولنحصر الحديث الآن على مصر منذ أواخر الخمسينيات، إلى آخر الستينيات، موجهين أبصارنا نحو من سطعت أنجمهم في سمائنا - بصفة عامة - لنسير باستدلالنا هذه المرة، لا من المناخ السائد إلى من أفرزه ذلك المناخ من البارزين، بل لنسير باستدلالنا في الاتجاه العكسي، أي أن نبدأ من الأجسام الطافية، لننتهي إلى نوع الماء الذي طفوا على سطحه، فإذا وجدت أن بعض من طفا على موج السياسة وهم أتباع أرادوا أن تكون لهم سطوة، وأن بعض من طفا على بحر التعليم من مدارسه الأولية صعدا إلى جامعاته، هم من كانوا في حياتهم الخاصة يسخرون من العلم والعلماء، وأن بعض من طفا على بحر الثقافة، هم من قالوا إن الثقافة لا تكون إلا للجماهير العريضة، وأن بعض من تولوا رئاسة القضاء هم من أضمروا في أنفسهم «مذبحة» للقضاء ... إذا وجدنا كل هذا فيمن طفا بجسده وبروحه معا فوق الموج، استطعنا أن نستدل شيئا عن طبيعة المناخ الفكري الذي ساد خلال الأعوام التي ذكرتها.
ولكن لماذا نجهد أنفسنا في بحث كهذا؟ الجواب هو أننا نفعل ذلك استجابة لسؤال مطروح بيننا الآن بقوة، وهو: كيف نعود بالمصري إلى جادة الطريق بعد أن انحرف؟ فهذا سؤال لا يجاب عنه إلا إذا عرفنا أين انحرف المصري وكيف انحرف؟ فليس فينا واحد لم يلحظ تبدلا في القيم المصرية الأصيلة، مال بها خلال تلك الفترة نحو الأسوأ، فجئنا اليوم لنسأل أنفسنا: لماذا كان الانحراف؟ وكيف؟
كنت ترسل البصر فيما حولك - إبان السنوات التي ذكرتها، فما أسرع ما يرتد إليك البصر مليئا بصور من الحياة الجارية، لا يتعذر على أحد أن يستخلص منها «القيم» «العليا» التي سادت تلك الفترة؟ والتي كانت خلاصتها هي الوصول إلى القمم دون أن تتعرض الأقدام لأشواك الطريق. وكان لهذا الصعود الطائر «تقنيات» مهر فيها من مهر، وخاب من خاب. ولقد قلتها يوما لوزير مسئول في معرض حديث كان قد تفضل فاستدعاني ليديره معي في شئون تخص حياتنا الثقافية؛ إذ قلت له ما معناه: إن لي اهتماما خاصا يتعقب شبابنا الذين يتخرجون من الجامعة، والذين لحظت فيهم أثناء تدريسي لهم، قدرت وميولا تشدهم إلى المشاركة الفعالة في حياتنا الثقافية. وإنه ليحزنني أن أقرر بأن تغيرا ملحوظا طرأ ويطرأ على هؤلاء؛ فبعد أن كان أمثالهم يعولون على دخول الديار من أبوابها، وما تلك الأبواب إلا العمل ثم العمل ثم العمل، أصبحوا قانعين بمجرد أن لهم ميولا غامضة نحو الحياة الثقافية. وأما بعد ذلك فالوسيلة أمامهم هي أن يبحثوا عن أشخاص من ذوي النفوذ، ليأخذوا بأيديهم طيرانا إلى أعلى، فإذا هو في كرسي الرئاسة يوجه العاملين فلا هو ذو خبرة ودراية، ولا العاملون خلوا من إحباط مهين.
إننا إذ نتحدث عن «القيم» كيف تبدلت خلال تلك الأعوام، فلا حاجة بنا إلى تناول موضوع «القيم» من زواياه الفلسفية الميتافيزيقية، وإلا وجدنا أنفسنا قد غرقنا في بحر متلاطم الموج من مذاهب متعارضة وليس مقال كهذا الذي بين يديك هو مجال الغوص إلى تلك الأعماق. ويكفينا هنا أن نتناول الموضوع من ناحيته العملية المرئية لكل ذي بصر، فإذا رأيت شخصا يسعى في حياته الفعلية نحو تحقيق هدف محدد معين، فاعلم عندئذ أن ذلك الهدف هو عنده «قيمة» مهما يكن بعدها عما كان «ينبغي» أن يكون.
وأظنه لم يكن عسيرا على أحد، خلال الستينيات، أن يلحظ في سلوك «الواصلين» كيف اتقنوا فن اللعب على حبلين في آن واحد؛ فينادون في الناس بشعارات يؤيدها الرأي العام، ويعملون في الخفاء بأضدادها، فإذا كانوا في العلانية، كانت «الاشتراكية» و«المساواة» وغيرهما مما يجري مجراهما، هي اللغة المسموعة، وإذا كان الخفاء، كانت لهم الطيبات من مناصب ومكاسب وامتيازات؛ ففي حالة كهذه، لو سئلنا ماذا كانت «القيم» إبان تلك الفترة، وجب أن يكون جوابنا هو أنها الأهداف العملية التي كان القادرون يسعون إلى تحقيقها، لا المعاني الرقيقة التي يذيعونها لفظا باللسان والفم.
في تلك الفترة التي تبدلت فيها القيم، رأينا أستاذا بالجامعة ينزع الغلاف عن كتاب أعجبه، ويضع مكانه غلافا آخر طبع عليه اسمه هو مؤلفا. وفي تلك الفترة تصاعدت حوادث الرشوة والاختلاس، حتى لقد أحصاها المركز القومي للبحوث الاجتماعية في بعض أبحاثه، فإذا هي تزداد بنسبة مخيفة. وماذا تعني الرشوة والاختلاس في حقيقة الأمر؟ إنهما يعنيان ما أشرنا إليه، وهو الوصول السريع إلى أهداف، ما كان ليصل إليها إلا بالجهد الشاق أعواما تمضي بعد أعوام.
ناپیژندل شوی مخ