سيظل هناك دائما (من وراء البحث في العلل) باق لا يرد، ومحتوى للظواهر لا يمكن إرجاعه إلى صورته، ولا يمكن تفسيره من خلال شيء آخر وفقا لمبدأ السبب الكافي؛ إذ إن في كل ما في الطبيعة شيئا لا يمكن وضع أساس له، ولا تقديم تفسير له، ولا البحث عن سبب آخر له، ذلك هو الطريقة الخاصة لفعل الشيء؛ أي بعبارة أخرى: طريقة وجوده ذاتها وجوهره أو ماهيته الحقيقة، فما يكون في الإنسان شخصيته غير القابلة للتفسير ، وما يفترض مقدما في كل تفسير لأفعاله من خلال الدوافع، إنما هو بالنسبة إلى كل جسم غير عضوي طبيعته الأساسية، وطريقته في الفعل، على حين أنه هو ذاته، من جهة أخرى، لا يتحدد بأي شيء خارجه، وبالتالي لا يمكن تفسيره. (الكتاب الثاني، القسم 24)
إن الميكانيكا والطبيعة والكيمياء، تلقننا القواعد والقوانين التي تسلك وفقا لها قوى الصلابة والجاذبية والجمود والسيولة والتماسك والمرونة والحرارة والضوء والتجاذب الانتقائي والمغناطيسية والكهرباء وما إلى ذلك؛ أي بعبارة أخرى: القانون والقاعدة التي تلاحظ على هذه القوى فيما يتعلق بدخولها المكان والزمان في كل حالة. ولكن مهما فعلنا فستظل القوى ذاتها كيفيات غامضة؛ إذ إن الشيء في ذاته هو الذي يكشف بظهوره عن هذه الظواهر ... (الكتاب الثاني، القسم 24)
ثم يحدد شوبنهور بعد ذلك ماهية ذلك «الشيء في ذاته»، أو القوة التي تكمن من وراء قوانين العلم وظواهره هذه، بأنها هي الإرادة، ويصف الإرادة بأنها:
هي القوة التي تنبت النبات، وتوجه المغناطيس إلى القطب الشمالي، بل هي القوة التي توجد في الجاذبية ذاتها، والتي يظهر أثرها في كل مادة بوضوح، فتجذب الأحجار إلى الأرض والأرض إلى الشمس، كل هذه، لا تختلف إلا في ظاهرها. أما طبيعتها الباطنة فواحدة، فهي الماهية الباطنة والقلب بالنسبة إلى كل شيء جزئي إلى الكل أيضا، وهي تظهر في كل قوة عمياء للطبيعة، وكذلك في سلوك الإنسان الإرادي، والفرق الهائل بين الاثنتين لا يتعلق إلا بدرجة ظهورها لا بطبيعتها الباطنة. (الكتاب الثاني، القسم 21)
ويشرح شوبنهور كيف أن تسمية هذا الشيء في ذاته أو هذه القوة الباطنة باسم الإرادة، إنما هي من قبيل تسمية الظاهرة العامة باسم واحد من أهم أمثلتها، وهو الإرادة البشرية، فيقول:
لهذا سأطلق على الجنس اسم أهم أنواعه، وهو النوع الذي تكون لدينا أوثق معرفة به، ويؤدي إلى معرفة غير مباشرة بكل شيء آخر. أما من لم يستطع فهم اللفظ بالمعنى الواسع المطلوب، فسيظل دائما على خطأ؛ إذ لن يفهم من كلمة «الإرادة» إلا ذلك النوع الذي اقتصر اللفظ حتى الآن على الدلالة عليه؛ أي الإرادة التي توجهها المعرفة بدقة حسب دوافع، بل حسب دوافع مجردة، وتسير بإرشاد ملكة العقل. هذا - كما قلنا - هو أوضح مظاهر الإرادة وأكثرها تميزا، ولكن علينا الآن أن نفصل في أذهاننا الطبيعة الباطنة لهذه الظاهرة، والمعروفة لنا مباشرة، وننقلها إلى كل الظواهر الأضعف والأقل تميزا للماهية ذاتها، وبهذا نحقق الامتداد المطلوب لتصور الإرادة، ولقد كان تصور الإرادة حتى الآن يدرج تحت تصور القوة. أما أنا فأفعل العكس، وأرى أن كل قوة في الطبيعة ينبغي أن تتصور على أنها إرادة. ومن الواجب ألا نرى في هذا مجرد اختلاف في الألفاظ، أو مسألة لا أهمية لها؛ إذ إن لهذا الأمر - على عكس ذلك - أهمية قصوى، فمن وراء الصور القوة - كما هي الحال في كل تصور آخر - تكمن معرفة العالم الموضوعي من خلال الإدراك الحسي؛ أي بعبارة أخرى: الظاهرة، والتمثل الذي يستمد منه التصور، فهذا اللفظ مستخلص بالتجريد من المجال الذي يسوده العلة والمعلول، أما تصور الإرادة فهو الوحيد - من بين سائر التصورات الممكنة - الذي لا يرجع أصله إلى الظاهرة، ولا إلى مجرد تمثل الإدراك، بل يأتي من الباطن، ويستمد من أقرب وعي مباشر لكل شخص، وإذن فنحن إذا أرجعنا تصور القوة إلى تصور الإرادة، إنما نكون قد أرجعنا شيئا مجهولا تماما إلى شيء معروف لنا حق المعرفة، بل إلى الشيء الوحيد الذي نعرفه معرفة مباشرة كاملة. (الكتاب الثاني، القسم 22) (4-3) ماهية الفن
عند تحديد شوبنهور لماهية الفن، يتساءل أولا:
أي نوع من المعرفة ذلك الذي يتعلق بما هو مستمر في وجوده خارج جميع العلاقات ومستقلا عنها، وبما هو وحده الأساسي في العالم، والمحتوى الحقيقي لظواهره وما لا يسري عليه التغير، وبالتالي ما يعرف بحقيقة لا يؤثر فيها الزمان؛ أي الاختصار، ذلك الذي يتعلق «بالمثل» التي هي الموضوعية المباشرة المطابقة للشيء في ذاته وللإرادة، إنه الفن، نتاج العبقرية. وفي الفن تتكرر المثل الأزلية المدركة عن طريق التأمل الخالص؛ أي ذلك العنصر الأساسي الباقي في كل ظواهر العالم، وهو يكون نحتا أو تصويرا أو شعرا أو موسيقى تبعا للمادة التي تتكرر فيها هذه المثل، ومصدره الوحيد هو معرفة المثل، وهدفه الوحيد هو نقل هذه المعرفة إلى الآخرين. وإنا لنجد أن العلم - الذي يساير على الدوام تيارا قلقا غير مستقل هو تيار الأشكال الرباعية للأسباب أو الأسس والنتائج - يكشف طريقا جديدا بعد كل غاية يبلغها، ولا يمكنه أن يهتدي أبدا إلى هدف نهائي أو يصل إلى الرضاء التام، تماما كما لا يمكننا بالجري أن نصل إلى النقطة التي تتلامس فيها السحب مع الأفق. أما الفن فهو على الدوام بالغ هدفه؛ ذلك لأنه يلتقط موضوع تأمله من مجرى التيار الذي يسير فيه العالم، ويستبقيه أمامه منعزلا؛ وبذلك يصبح هذا الشيء الخاص، الذي كان داخل ذلك التيار جزءا متناهيا في الصغر، ممثلا للكل في نظر الفن، ومعادلا للكثرة اللامتناهية في المكان والزمان. وهكذا يتوقف الفن أمام هذا الشيء الخاص، ويوقف عجلة الزمان، وتختفي العلاقات بالنسبة إليه، ولا يعود له من موضوع إلا ما هو أساسي؛ أي «المثال»؛ وبذلك يمكننا تعريف الفن على وجه الدقة بأنه طريقة النظر إلى الأمور على نحو مستقل عن مبدأ السبب الكافي، وذلك مقابل طريقة النظر إليها على نحو يراعى فيه هذا المبدأ بدقة، وهي طريقة العلم والتجربة. (الكتاب الثالث، القسم 36)
فإذا تساءل القارئ عن معنى طريقة النظر إلى الأمور على نحو مستقل عن مبدأ السبب الكافي هذه فإن شوبنهور يوضحها بأنها طريقة:
لا نعود (فيها) ننظر في الأشياء إلى الأين والمتى و«لم» و«إلى أين»، وإنما ننظر إلى «ما هي عليه» فقط، ولا ندع التفكير المجرد وتصورات العقل تستحوذ على ذهننا، بل نكرس كل قوة العقل للإدراك، نستغرق فيه تماما، وندع وعينا بأسره يمتلئ بالتأمل الهادئ للشيء الطبيعي الماثل بالفعل أمامه، سواء أكان ذلك الشيء منظرا طبيعيا أم شجرة أم صخرة أم جلمودا أم بناء أم أي شيء آخر، فهنا «نفقد» أنفسنا تماما في هذا الموضوع. إذا شئنا أن نستخدم هذا التعبير المثقل بالمعاني؛ أي إننا بعبارة أخرى : ننسى فرديتنا وإرادتنا، ولا نظل نوجد إلا بوصفنا ذاتا خالصة، ومرآة صافية للشيء؛ بحيث يبدو كأن الشيء يوجد وحده دون أن يدركه أحد، فلا يعود في وسعنا التمييز بين المدرك والمدرك، وإنما يصبح الاثنان واحدا، ما دام الوعي بأكمله يمتلئ ويشغل بصورة إدراكية واحدة، فإذا أصبح الموضوع مستقلا إلى هذا الحد عن كل علاقة له بشيء خارج عنه، وإذا أصبحت الذات مستقلة إلى هذا الحد عن كل علاقة لها بالإرادة، فإن ما يعرف عندئذ لا يعود هو الشيء الفردي بما هو كذلك، وإنما هو «المثال» - الصورة الأزلية - والموضوعية المباشرة للإرادة في هذه المرحلة، وبالمثل فإن الشخص الذي يكون لديه إدراك كهذا، لا يعود في الوقت ذاته فردا؛ إذ إن الفرد قد فقد ذاته في الإدراك، وإنما يصبح «ذاتا عارفة» خالصة بلا إرادة وبلا ألم وبلا زمان. (الكتاب الثالث، القسم 34)
ناپیژندل شوی مخ