Vorstellung : أي إن الذات التي تدركه هي التي تجعله موضوعا لها؛ ومن هنا فهو «تمثلي»؛ أي إنني أنا الذي أمثله لنفسي على نحو ما. ولقد أيدت أبحاث العلوم الطبيعية هذا الرأي؛ إذ قالت بأن الألوان أو الأصوات ذاتية، أي إنها ليست صفات في الأشياء نفسها، بل تضفيها الذات على الأشياء، وأكده الفيلسوف الألماني «كانت»، حين جعل المكان والزمان صورا ذاتية، وكذلك المقولات التي تفهم الذات من خلال العالم الخارجي، وإن يكن شوبنهور قد اختلف مع «كانت» - كما قلنا - في عدد المقولات وأهميتها النسبية.
على أن هناك عنصرا أساسيا في العالم لا يخضع لصفة «المظهرية» هذه، أي لا يتبدى من خلال أشكال تخلعها عليه ذاتنا، وإنما يتبدى في أصالته وعلى نحو مباشر، فإذا كان جسم الإنسان يخضع لشروط الزمان والمكان والعلية، فإننا نشعر أيضا بأن لنا كيانا آخر لا يخضع لهذه الشروط، ولا يتغير بتغير الزمان أو المكان، ويستطيع التغلب على قيود العلية، أو البدء في أفعال جديدة دون الخضوع لهذه القيود، ذلك الكيان هو «الإرادة»؛ فالجسم ذاته يعد - بالنسبة إلى هذه الإرادة - «مظهرا» لها، تدفعه حيث شاءت، وتتحكم فيه بشروطها الخاصة، ويمد شوبنهور نظرته هذه إلى الطبيعة بأسرها، فمن الممكن أن نتصور الكون كله على مثال الإنسان، بحيث يكون المجرى المادي للظواهر الطبيعية مماثلا لجسم الإنسان، بينما يوجد من وراء هذا المجرى المادي كيان آخر للطبيعة تتمثل فيه ماهيتها الحقيقية، ويكون هو «الإرادة» المنبثة في كل أرجاء الكون، والقوة المتحكمة فيه؛ فكل ما نعرفه في الطبيعة من قوى وطاقات تنتج أفعالا وتأثيرات، إنما هي أشكال تتجلى فيها الإرادة الشاملة في العالم. وهكذا يستمد شوبنهور من فكرة «القوة» أو «الطاقة» - التي تلعب دورا هاما في العلوم الفيزيائية - تأييدا لرأيه القائل: إن الماهية الأصلية للكون إرادة تتحكم في ظواهره المادة مثلما تتحكم الإرادة البشرية في ظواهر الجسم الإنساني، ولا يقتصر الأمر على الظواهر الفيزيائية وحدها. بل إن هناك إرادة واحدة من وراء كثرة الظواهر الفسيولوجية والنفسية. وهكذا فبينما تقوم علوم الفيزياء والبيولوجيا وعلم النفس بملاحظة الظواهر الكثيرة موضوعيا، وتحديد قوانينها في المكان والزمان، وتعيين ما هو علة وما هو معلول منها، فإن هناك مبحثا آخر - هو «الميتافيزيقا» - مهمته أن ينفذ من وراء هذه الكثرة الموضوعية إلى الكيان الأصلي الذي يتحكم فيها، وهو «إرادة» العالم.
فإذا كانت ماهية الإنسان وماهية الكون الأصلية هي الإرادة، فلا جدال في أن الصورة التي سترسم لحياة الإنسان ولمجرى الكون ستكون قاتمة إلى حد بعيد؛ ذلك لأن الإرادة ليست مبدأ عاقلا منظما، يستهدف غايات محددة ويسير نحو تحقيقها تبعا لخطة مرسومة، وإنما هي أساسا اندفاع أعمى، وقوة طاغية لا ضابط لها ولا نظام. أما ذلك الذي نطلق عليه اسم العقل أو الروح أو الذكاء، فما هو إلا أداة في يد هذه القوة الغاشمة تتحكم فيها تتحكم فيها كما تشاء، وطالما أنها هي المبدأ الأساسي في الكون، فلا بد أن يكون تاريخ البشرية كله سجلا للأعمال المتخبطة لهذه الإرادة، مثلما أن التاريخ الفردي حافل بالخداع، خلو من المعنى، ليس له من نهاية سوى الموت المحتوم؛ فالعالم في أساسه لا معقول، ومضاد لكل منطق.
وليس من الصعب أن يدرك المرء في هذه الصورة المعتمة التي رسمها شوبنهور للعالم. وفي التشاؤم الذي أصبح طابعا مميزا لفلسفته، صدى للإخفاق الذي لقيه في حياته، ولعجزه عن تحقيق رغباته واضطراه إلى اعتزال عالم الناس. ولكنه في الوقت نفسه يمكن أن يعد مظهرا من مظاهر أمانته العقلية نزاهته الأخلاقية؛ إذ لم يستطع أن يعيش طويلا مع الأكاذيب، أو أن يوفق بين ضميره وبين الخداع الذي واجهه في الحياة، فآثر أن يبتعد عن المجتمع ويعلن عداءه للحياة بدلا من أن ينافقها ويتعايش معها من وراء ضميره. ولقد تمكن خلال هذه النظرة التشاؤمية، المترفعة عن واقع الناس، من أن يتعمق في طبائع البشر وهو ينظر إليها عن بعد، وأن يكتسب دقة نادرة في ملاحظة النفس البشرية ونواحي الضعف فيها، فأثبت في كتاباته أنه عالم نفسي من الطراز الأول، وذلك في مجال الفهم العلمي لطبيعة الإنسان، لا في المجال النظري بطبيعة الحال، ونجم عن ذلك أن اكتسب فلسفته طابعا شخصيا إلى حد بعيد؛ بحيث يشعر قارئه على التو بالصلة الوثيقة بين الفكر والمفكر، على عكس الحال في مذهب خصمه «هيجل»، الذي حرص على أن يكون مذهبه لا شخصيا، وعلى أن ينسب إليه حقيقة موضوعية تعلو على تغيرات الزمان والمكان، وإذا كان مذهب شوبنهور قد افتقر إلى مثل هذه الحقيقة الموضوعية، فلا جدال في أنه قد عوضها بحقيقة أخرى ذاتية نحس فيها بحرارة الشخصية الإنسانية التي خلقت هذه الحقيقة، وبصدقها وإخلاصها الكامل.
ولكن هناك، مع كل هذا الطابع التشاؤمي وكل هذه اللامعقولية التي يتسم بها العالم، طريقا إلى الخلاص. وهذا الطريق له مرحلتان: مرحلة مؤقتة، ومرحلة نهائية كاملة، والمرحلتان معا تتميزان بمحاولة قمع أصل الشر في العالم وهو الإرادة.
أما المرحلة المؤقتة؛ فهي مرحلة الفن؛ ففي الفن يمارس الإنسان نشاطا خاصا، لا يؤثر فيه نزوع الإرادة أو طموحها، ويتحرر من كل الأغراض والأهداف المميزة للإرادة، فأنت حين تمارس نشاطا فنيا، لا تفعل ذلك لأن لإرادتك هدفا محددا تريد بلوغه. بل إن هذا النشاط خالص من كل غرض، وما هو إلا تأمل لأنماط وصور خالصة، وهو يعلو على الصفات الجزئية في الأشياء، ويتأملها في صورتها الكلية الخالصة؛ ففي العمارة نرى فاعلية القوة خالصة. وفي الفنون التشكيلية نتمثل الشكل الإنساني والحيواني في صفاته الحيوية الخالصة. كما أن الشعر يكشف لنا عن طباع الإنسان ومشاعره بوجه عام. أما الموسيقى فهي أعلى الفنون جميعا؛ إذ إنها تكشف عن إرادة العالم ذاتها في عالم الإيقاع والأنغام الذي تفتح آفاقه لنا؛ فهي فن الصورة الخالصة، لا الصورة المكانية أو العينية الجزئية، وهي لا تكشف لنا عن هذه العاطفة أو تلك، وإنما عن العاطفة بما هي كذلك؛ فالعالم - كما يقول «شوبنهور» - موسيقى متجسدة، مثلما أنه إرادة متجسدة.
وأما المرحلة النهائية للخلاص من قبضة الإرادة؛ فهي مرحلة الأخلاق، ويتم الخلاص الكامل - في مجال الأخلاق - بإدراك الإنسان أن الموجودات كلها تكون وجودا واحدا؛ أي بالقضاء على فكرة الكثرة أو الفردية؛ ذلك لأن شعور كل شخص بفرديته هو مبعث الأنانية، وبالتالي مصدر الشرور جميعا؛ إذ يتصادم الأفراد بعضهم مع البعض، فتنجم الرذائل الأخلاقية كلها - من كراهية وحسد ورغبة في القضاء على الخصم - عن هذا التصادم. غير أن هذه الكثرة ليست إلا خداعا. وحين ينكشف للإنسان هذا الخداع ويرفع عنه وهم الكثرة، يصل إلى الخلاص الحقيقي، إذ يدرك الوحدة الكامنة من وراء الكثرة الظاهرة، ويسود العطف أو الشفقة، وهو الشعور الذي يربط بين الأفراد بعد أن كانت الأنانية تفرق بينهم. وأفضل عقيدة دينية تمثلت فيها فكرة الوحدة هذه هي عقيدة الزهد عند الهنود؛ ففيها إماتة تامة للإرادة، التي هي أساس الشر كله. وفيها الخلاص الكامل من إرادة الحياة، وذلك في حالة «النرفانا»؛ أي محو الفردية تماما في حالة من الوحدة الكاملة مع الوجود في مجموعة.
تلك باختصار شديد هي الأقسام الأربعة الرئيسية التي ينقسم إليها كتاب شوبنهور «العالم إرادة وتمثلا»؛ ففي القسم الأول يتناول العالم من حيث هو تمثل أي ظاهرة في نظر الذات. وفي القسم الثاني يتحدث عن العالم بوصفه إرادة، ويناقش موضوع الإرادة من حيث هي مبدأ كلي، أو «شيء في ذاته»، من وراء كل مظهر. ولقد كان «شوبنهور» في هذين القسمين فيلسوفا محترفا إلى حد ما، من هنا يمكن القول - بوجه عام: إن تأثيره الأكبر في الفكر والأدب العالميين لن ينتج عنهما، وإنما نتج عن القسمين الثالث والرابع، اللذين عالج فيهما العالم من حيث هو إرادة وتمثل أيضا. ولكن من زاوية جديدة، هي زاوية الذاتية، فهنا كان «شوبنهور» ينطق لغة جديدة تتغلغل جذورها في أعماق النفس البشرية، وتفيض بالتقدير الكامل لموقف الإنسان في العالم، وهنا، لأول مرة، نجد كتابا ضخما يعرض مذهبا فلسفيا كاملا، يحدثنا فصولا طويلة عميقة عن العمارة والتصوير والشعر والموسيقى، ويجعل لهذه الفنون دورا أساسيا في فلسفته. وهكذا نجد آراءه في الإرادة من حيث هي مبدأ للعالم تعود إلى الظهور في فلسفة نيتشه وبرجسون ووليام جيمس. ولكن بصورة مختلفة في كل حالة. أما في ميدان الأدب والفن فقد كان تأثيره أعمق؛ إذ إن عددا كبيرا من الأدباء - على رأسهم هاردي وتوماس مان - قد اعترفوا صراحة بفضل فلسفة شوبنهور عليهم. كما أن شوبنهور كان هو الفيلسوف الأول والأهم الذي تأثر فاجنر بأفكاره. وكان اكتشاف فلسفته بمثابة فاتحة عهد جديد في تفكير فاجنر النظري الذي تكون منه أساس بنائه الفني. ويمكن القول بوجه عام: إن ازدياد قوة الاتجاه الشخصي في الفلسفة والفكر عامة، خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، هو ظاهرة ترجع، بطريق مباشر أو غير مباشر، إلى تأثير شوبنهور. (4) نصوص من كتاب «العالم إرادة وتمثلا» لشوبنهور (4-1) العالم تمثلا
العالم تمثلي؛ تلك حقيقة تصح على كل كائن حي عارف، وإن يكن الإنسان وحده هو الذي يستطيع أن يكون لديه وعي فكري مجرد بها، ولو فعل ذلك حقا، لأشرق عليه نور الفلسفة، وعندئذ يصبح من الواضح المؤكد له أنه لا يعرف شمسا ولا أرضا، وإنما عينا ترى شمسا ويدا تلمس أرضا، وأن العالم المحيط به ليس هناك إلا بوصفه تمثلا؛ أي بوصفه منسوبا إلى شيء آخر، وهو ذلك الذي يتمثل وهو أنا، ولو كان ثمت حقيقة يمكن التعبير عنها أوليا فهذه هي؛ إذ إن هذه الحقيقة تعبير عن صورة كل تجربة ممكنة يتسنى تصورها، وهي صورة أعم من كل الصور الأخرى، أي من الزمان والمكان والعلية؛ إذ إن هذه كلها تفترضها مقدما، وعلى حين أن كلا من هذه الصور، التي ذكرنا أنها أحوال خاصة لمبدأ السبب الكافي، لا يصح إلا على فئة معينة من التمثلات، فإن التقسيم إلى موضوع وذات هو الصورة المشتركة بين هذه الفئات جميعا، وهذه الصورة وحدها هي التي تتيح كل تمثل، وتجعله ممكنا، وإذن فليس ثمت حقيقة أكثر يقينا، من هذه الحقيقة؛ وأعني بها أن كل شيء يوجد للمعرفة؛ أي كل هذا العالم، لا يكون موضوعا إلا بالنسبة إلى ذات ولا إدراكا إلا بالنسبة إلى مدرك؛ أي بالاختصار، لا بد أن يكون تمثلا، فكل شيء ينتمي أو يمكن أن ينتمي إلى العالم يرتبط حتما بهذا الشرط: شرط التوقف على الذات، ولا يوجد إلا من أجل الذات؛ فالعالم تمثل. (الكتاب الأول، القسم الأول) (4-2) العالم إرادة
يشرح شوبنهور طريقة الوصول إلى فكرة الإرادة من وراء العالم الظاهري فيقول:
ناپیژندل شوی مخ