وقد كان الفقر موضوعا للأدباء، قبل خمسين سنة، فإن كتاب «البائسين» الذي ألفه «فيكتور هوجو» هو في الحقيقة كتاب الفقراء؛ لأن البؤس هو الفقر. والقصص التي ألفها «تولستوي» و«دستويفسكي» و«جوركي» تنحو أحيانا كثيرة نحو هذه الغاية. ولكن القصد لم يكن واضحا عند «هوجو» أو «دستويفسكي» أو «تولستوي»؛ لأن الفن يتغلب هنا على القصد الاجتماعي، ولأن اشتراكيتهم كانت طوبوية قائمة على الأماني، ينشدون طوبى المستقبل. وهي ليست معللة بالعلم في ضوء المخترعات الآلية المنتجة لملايين السلع. وقد لا نستطيع أن نقول مثل هذا القول عن «جوركي»؛ لأن غايته واضحة واشتراكيته علمية. ولكن لا يسع القارئ مع ذلك إلا أن يحس أن رجل الفن هنا أبرز من رجل الاجتماع.
أما الأدباء المجددون في إنجلترا فإن غايتهم تتضح وقصدهم يسفر. وقد يكون ذلك لأنهم دون «جوركي» في الفن، أو لأن الرغبة في الدعاية المذهبية تتفوق على الحاسة الفنية. ولذلك كثيرا ما نجد «ولز» أو «شو» ينسيان القصة أو الدرامة ويأخذان في شرح حالة اجتماعية بلهجة التدريس لا بلهجة القصص أو الحوار.
ولا يقتصر هذا الالتفاف على هذين الأديبين البارزين، فإن هناك عددا كبيرا من الأدباء الإنجليز قد جعلوا الفقر حجر الزاوية عندهم في القصة أو الدراما. وقد تجاوزت هذه النزعة كتاب إنجلترا إلى الكتاب الأمريكيين، فهناك نجد مثلا «إبتون سنكلير» الذي خص نفسه لمعالجة الدعاية الاشتراكية في أسلوب سافر جعل جميع الناشرين يقاطعونه، حتى صار يضطر إلى أن يطبع مؤلفاته بنفسه فهو مؤلف وطابع وناشر.
برنارد شو
قلما يتاح لأديب أن ينال من الذكر بين العامة والخاصة مثل ما ناله «برنارد شو»، فإن قراء الصحف الذين لم يعتادوا قراءة كتاب في الأدب يعرفون اسمه ويحبونه، بينما هم يجهلون «كبلنج» أو «روسكين» أو «ولز». وليس هذا بين الجمهور الإنجليزي فقط بل بين سائر الجماهير القارئة في العالم المتمدن. وبعض هذا يرجع إلى أنه عاش إلى الآن (1948) أكثر من تسعين سنة على هذا الكوكب. وهو في رحلته الطويلة عبر القرنين التاسع عشر والعشرين قد اختبر كثيرا وأصبحت الأجيال تورثه أبناءها كأنه كنز وطني.
وذلك لأن «برنارد شو» يمزج فلسفته بالفكاهة، فالأولى للخاصة والثانية للعامة. وهو في فكاهته يسمو على التهريج، فإذا أراد أن يضحك لم يدهن وجهه بالدقيق ويهرج لك تهريج البله والمجانين، بل هو يتأنق في إعمال الفكرة، وينظر إلى ما وراء الظواهر فيزيل عن الوقار هيبته، وينضو عن العرف ثوبه، ويقف بك حيال الحقائق العارية. ولكن لما كان مثل هذا الموقف يؤلم؛ لأنه يحرمنا من أوهامنا المحبوبة؛ فإنه لذلك يخفف من هذا الألم بالفكاهة. وفكاهاته هي تشنجات الحكمة التي قد يضحك منها العامي. ولكن الرجل المثقف يقف عندها متأملا مفكرا، وأحيانا متألما. ويمتاز «برنارد شو» بذهن قلق نشيط، يشع ضياء على كل ما يمسه كأنه جسم مفصفر يتألق. وهو ينعت نفسه بأنه «ثائر»، وهو كذلك في المعنى السامي للثورات؛ ذلك لأن لكلمة «الثورة» في الأذهان معنى الحركة التشنجية والمفاجأة المنظرية. ولكن «برنارد شو» يقول إن هذه المظاهر برهان الفشل في الثورة؛ لأن الثورات يجب أن تتسلل إلى المجتمع وتتخلله حتى يتغير في سلم وهدوء، فإذا لم تنجح في التسلل والتخلل فإنها تنفجر.
ويختلف «برنارد شو» من المنحطين اختلاف النقيض للنقيض. إذ بينما هم يؤمنون باللذة ويدعون إلى الاستمتاع، يدعو هو إلى النسك والزهد. ولا يعرف من اللذات غير اللذات الذهنية، فهو يتهالك على الصورة الفنية وينغمس في درسها، أو يتهالك على الموسيقى ويرضى بتكبد المشاق لاستماع أحد الموسيقيين أو رؤية أحد الراقصين. ولكنه يصد صدودا مستغربا عن اللذة الجنسية. وقد عشق الممثلة الجميلة «إلين تري» فكان يراها وهي تمثل على المسرح ثم يتجنبها فلا يلتقيان ولا يتواعدان، ولكنهما يقنعان بالمكاتبة.
وقد علل أحد النقاد هذا الزهد الجنسي بتعاليل مختلفة، منها زهده في طعام اللحم وشراب الخمر. ولكن أصح من هذا التعليل أن يقال إن زهده للنساء واللحم والخمر يعود إلى منبع واحد في نفسه هو هذا المزاج الطهري الذي تجد له أمثلة عدة في إنجلترا، وهو ثمرة الدعاية الطهرية التي فشت في تلك البلاد منذ أيام «كرومويل» وجحدت حتى اللذات الفنية.
وقد سبق أن قلنا إن «كبلنج» يجعل من الفن أداة للخدمة الإمبراطورية والاستعمار. و«برنارد شو» يشبهه من حيث استعمال الفن أداة، ولكنه يخدم بهذه الأداة «الإصلاح الاجتماعي». وهو قبل كل شيء يدعو إلى الاشتراكية العلمية. ولا يبالي إنفاق وقته وماله في تحقيق هذه الاشتراكية. وعواطفه شعبية، ينحاز إلى الضعيف والمظلوم والفقير. وقد تبرع بمبلغ ثلاثين ألف جنيه لبناء منازل للعمال.
ومن يتأمل مؤلفاته وحياته يجده عاش، وما زال يعيش، في ضوء «داروين» و«ماركس». وليس هذا غريبا، فإن حياته الذهنية تقع بين 1880 و1948. وفي النصف الأول من هذه المدة كان التطور مثار المناقشة وموضوع المجلات والكتب. أما النصف الثاني فموضوعه الكفاح الذي لم ينته بعد بين الاشتراكية التعاونية وبين الانفرادية التزاحمية.
ناپیژندل شوی مخ