تقول إنك تكاد تعطي مكانك في الجنة في مقابل سبعين أو ثمانين ريالا، وإنك بذلك لتجعل لمكانك هذا قدرا رخيصا جدا؛ لأني واثق أنك تستطيع مع ما أعدك به من عون أن تحصل على هذا المبلغ، إذا اشتغلت أربعة أشهر أو خمسة. وتقول كذلك إنك مستعد أن تودع قطعة الأرض رهينة عندي إذا دفعت لك ذلك المال؛ حتى إذا عجزت عن سداده تنازلت عن ملكك إياها، ألا إن هذا للغو! فإذا كنت لا تستطيع العيش ومعك الأرض، فكيف تستطيع أن تعيش بدونها فيما بعد؟! لقد كنت دائما رحيما بي، ولست أقصد أن أكون بك اليوم غير رحيم، كلا، فإنك إن قبلت نصحي كان أغلى لك ثمانين مرة من الريالات الثمانين!
أخوك المحب أ. لنكولن
وظل جونستون في اضطرابه وكسله حتى لم يعد يجد أمامه مخرجا إلا أن يبيع ما خلف زوج أمه من أرض، ولكن أبراهام عارض في ذلك معارضة شديدة وكتب إليه كتابا شديد اللهجة يمنعه ويحذره، وحاول أبراهام أن يحول بينه وبين أن يبيع نصيب أمه في هذه الأرض ولكنه لم يفلح، وكان يخشى أبراهام أن تسوء حال زوج أبيه، وإنه ليألم ألا يستطيع أن يدعوها لتقيم معه في بيته، وكذلك كان لا يفتأ يسأل عن حالها ويمدها بما يستطيع من عون، وكتب يعرض على جونستون أن يرسل إليه أحد أبنائه ليربيه عنده.
وانقضى عامان، فبعد أن فرغ ذات ليلة من محاضرة عامة كان يلقيها في مدينة صغيرة، أشار إلى أحد الرجال وانتحى به جانبا وهمس في أذنه قائلا: «إن عندك في السجن فتى حدثا أريد أن أراه على ألا يعلم أحد بذلك.» وكان هذا الحدث هو أحد أبناء جونستون، وكان متهما بسرقة ساعة وبعض أشياء أخرى، وقال أبراهام: «إني سأنقذه مما هو فيه هذه المرة، ولئن عاد بعدها إلى السرقة فلن تكون لي به صلة.»
وذهب أبراهام وكلم ذلك الفتى من خلال قضبان السجن، ثم وقف يتحدث مع أصحاب المتاع المسروق، وما زال بهم حتى أقنعهم بالعدول عن الاتهام بعد أن دفع لهم ثمن مسروقاتهم، وتوصل بهذا إلى إطلاق سراح الفتى، ولقد وصفه من شهد موقفه يومئذ فقال: «لقد كان أبراهام شديد الأسف، وما رأيته قط يبدو على وجهه أكثر من هذا الحزن.»
وحق له أن يحزن وهو بفعلته هذه يقف في وجه العدالة، فينقذ من القصاص مجرما، ثم إنه لقي عنتا شديدا من أصحاب المتاع المسروق، وأحس بين أيديهم بالخجل الشديد، وليس هذا بالأمر الهين على من كان في مثل مركزه ومن كان له مثل خلقه، على أنه يحتمل ذلك من أجل زوج أبيه، من أجل تلك المرأة الطيبة الرحيمة التي أحسنت معاملته وهو حدث، وإن قلبا مثل قلبه الكبير لا يمكن أن ينسى صنيعا، وكيف ينسى وهو يسعى بالمعروف أبدا لكل من يطلب المعروف؟! فكيف به حين يرد الجميل لمن بدأه بإحسانه؟!
نظرات وخواطر
كان أبراهام قد بلغ أشده واستوى، وأخذت نظرته إلى الحياة والناس تزداد عمقا في أول العقد الخامس من عمره، ولكنه ما برح يحس كأن شيئا يقلقه، شيئا خفيا لا يجهله ولا يدريه يشغل باله وينقبض له صدره، فهل أخذت السياسة توسوس له من جديد فهو يتأهل لها ويتحفز؟
ويلاحظ أصحابه أن أمارات الحزن التي ارتسمت على وجهه منذ حداثته تزداد وضوحا كلما تقدم به العمر، وقد ازداد ما يخطط ذلك الوجه من تجاعيد هي من أثر الهم لا من أثر السنين، وهو على الرغم من عذوبة روحه في أحاديثه وطلاقة بشره في قصصه، تنطوي نفسه على كثير من الهم لا يتبين مبعثه، وهو إذا خلا إلى نفسه فكر وأمعن في التفكير، وتربد وجهه وانعقدت عليه كآبة مخيفة ينزعج لها خاطر من يراه، وكثيرا ما وافاه صديقه هرندن وهو على هذه الحال، وكثيرا ما سمعه يغمغم بمثل أنين المحزون.
سمعه أحد رفقائه في السفر أثناء تجواله إلى المحاكم، وقد نهض ذات صباح مبكرا، يحدث نفسه، واستمر يفعل ذلك بضع دقائق وهو يلبس ملابسه، حتى لقد ظن صاحبه به الظنون، وحسب أنه قد مسه الخبل بغتة، ثم رآه صاحبه يضع كفيه على وجهه وقد أطرق مليا حتى نبهه جرس الطعام في فناء الفندق، فوثب واقفا وفي وجهه حزن عميق!
ناپیژندل شوی مخ