وعلق بصر السيد بالخواجا وهو يمضي في سبيله حتى توارى وراء باب الوكالة، صفقة رابحة. وبحسبه أنه تخلص من مخزون الشاي الذي اشتراه الخواجا جملة، فربح الكثير وأمن شر المخاوف، خصوصا وأن صحته لم تعد تطيق أهوال السوق السوداء. بيد أنه قال لنفسه ساخطا متبرما: «ثروة طائلة ولكنها ملعونة، لقد حلت اللعنة بكل شيء في دنياي.» والحق أنه لم يبق من السيد القديم إلا شبح هزيل، وكانت أعصابه أشد ما يضنيه، وكأنها تعهدت بالقضاء عليه، فسامته تفكيرا متواصلا في الموت حتى صار الموت شغله الشاغل. ولم يكن الرجل في الأصل بالضعيف الإيمان، ولا كان بالرعديد الجبان، ولكن تهافت أعصابه أنساه آداب الإيمان وألوى بشجاعته. وما انفك يفكر في ساعة الاحتضار - وقد ذاق بعض مرارتها في إبان مرضه - ويستذكر ذكرياته عنها عمن حضرهم الموت من أقاربه، ذاك الرقاد المستسلم الأليم، وصعود الصدر وهبوطه، وهذه الحشرجة المتقطعة، وإظلام المقلتين، وبين هذا وذاك تنتزع الحياة من الأعماق والأطراف، وتودع الروح الجسد. أفيقع كل هذا في يسر؟! إن الإنسان ليجن إذا انتزع ظفره، فكيف يكون إذا انتزعت روحه وحياته؟! ولا يدري إلا المحتضر نفسه حقيقة هذا الألم، فما تستطيع أن تلمس غير آثار الاحتضار الظاهرة، أما صداها في الروح ورجعها في الجسد، فسر الميت الذي ينطوي عليه صدره، ويقبر معه في جدثه، وآخر ذكرياته عن آلام الدنيا في أفظع حالاتها وأبشعها، ولو أنه أتيح لميت أن ينطق عن عذاب احتضاره لما نعم إنسان بساعة صفو واحدة في الحياة، ولمات الناس ذعرا قبل أن تدركهم النهاية. وطالما تمنى أن يسلكه الله في زمرة المحظوظين، ممن يموتون بالسكتة القلبية. ما أسعدهم بين الأحياء والأموات على السواء، إنهم ليموتون وهم يتكلمون أو يأكلون، أو حين يقومون أو يقعدون، كأنهم يمكرون بالاحتضار فيتحينون منه غفلة ثم ينسلون خفية إلى باب الأبدية! .. ولكنه في شبه يأس من هذه الميتة السعيدة، وقد ضرب له أبوه - وجده من قبل - مثل الميتة التي يشعر قلبه المتهافت الفزع بأنها ستجري عليه؛ احتضار طويل يغشى نصف يوم ونزع شديد تشيب له الولدان. من كان يصدق أن السيد سليم علوان - الرجل القوي السعيد - سيمسي فريسة لهذه الأفكار والمخاوف؟ .. هكذا كان، ولم يكن الاحتضار بفزعه الوحيد؛ فقد انجذبت أفكاره المحمومة نحو ضجعة الموت نفسها، فأطال فيها التفكير والتفلسف على طريقته! وصور له خياله وثقافته المتوارثة عن الأجيال، أن بعض شعوره سيلازمه بعد الموت، أليس يقولون: إن عيني الميت تريان من يحدقون به من الأهل؟ .. فحتم أن يرى الموت جهرة، وأن يشعر بالنهاية الأبدية وهي تشمله، وأن تتصل حواسه بظلمة القبر ووحشته وغربته وهياكله وعظامه وأكفانه، بل بضيقه واختناقه، وما يحتمل أن يتردد في النفس من أشواق وحنين وحب للدنيا وأهلها! .. تمثل ذلك كله بصدر منقبض، وقلب متشنج، وأطراف باردة، وجبين يتفصد عرقا، ولم ينس ما وراء ذلك من بعث ونشور وحساب وعذاب، أواه .. ما أبعد الشقة بين الموت والجنة!
لذلك تعلق بأهداب الحياة بقوة الخوف واليأس، على رغم أنها حياة عاطلة من أسباب النعيم، فلم تترك له دورا يلعبه في مسرحها إلا المراجعة وعقد الصفقات، ودأب عقب نقاهته على استشارة طبيبه، فأكد له الطبيب شفاءه من الذبحة وآثارها، ولكنه نصحه بالحذر والاعتدال. وشكا إليه عدة مرات ما يعاني من سهاد وهواجس، فأشار عليه باستشارة أخصائي في الأعصاب، ومن ثم مضى يتردد بين الأخصائيين في الأعصاب والقلب والصدر والرأس، وتفتح له باب المرض عن عالم لا يقل عن عالمنا اتساع رقعة وازدحاما بالسكان من الجراثيم والأعراض الخفية. ومن عجب أنه لم يكن يؤمن لا بالطب ولا بالأطباء، ولكنه آمن بهما في اضطرابه، ولعل إيمانه هذا كان من بين أعراض المرض الذي ألم بأعصابه!
في هذا الجحيم من الهواجس كادت تنحصر حياته، وفي أوقات عمله، وأويقات السلام التي تصفو فيها نفسه وتنقى من نمش الهواجس، كان كأنه يتفرغ لإفساد علاقاته بالمحيطين به من البشر، فهو إما في حرب مع نفسه، وإما في حرب مع الناس. وأدرك عمال الوكالة من بادئ الأمر أن سيدهم قد استحال شخصا شاذا ملعونا، فترك الوكيل وظيفته بعد خدمة طويلة استمرت ربع قرن من حياته، وبقي من بقي من العمال على مضض وتوجس واستكراه. وقال عنه أهل الزقاق: إنه بين العقل والجنون، وقالت حسنية الفرانة بشماتة لم تحاول إخفاءها: «إنها صينية الفريك، والعياذ بالله.» ويوما قال له عم كامل عن قصد حسن ونية سليمة: هلا أمرتني يا سي السيد أن أصنع لك صينية بسبوسة مخصوصة ترد عليك ثوب العافية بإذن الله! ولكن السيد غضب غضبا شديدا وانفجر صائحا فيه: إليك عني أيها الغراب، أجننت يا أعمى القلب والبصيرة؟! .. إن أمثالك فقط من البهائم تبقى لهم أمعدتهم سليمة حتى الق...
ولم يعد بعدها عم كامل إلى التعرض له بخير أو بشر.
أما زوجه فباتت رمية سهلة لغضبه وسخطه، ولم يفتأ يلقي على حسدها المزعوم له تبعة ما حصل له في جسمه وعقله، وكان ينتهرها قائلا: لشد ما نقمت على صحتي وعافيتي، حتى تحطمت بين يديك، فهنيئا لك الراحة يا أفعى!
واشتد به سوء الظن، حتى ارتاب يوما أن يكون نما إليها عزمه على الزواج من حميدة؛ لأن أمثال هذه الأمور تتصدى لها أعين كثيرة فتراها في خفية من صاحبها، وتتطوع ألسنة كثيرة لإذاعتها وإيصالها لصاحب الشأن، ولم يستبعد عند ذاك أن تكون المرأة قد انتقمت منه بأن عملت له «عملا» هو الذي أودى بصحته وعقله! .. ولم يكن في حالة تسمح له بأن يزن ما يعرض له من فكر بميزان العقل، ولا أن يسبرها بمسبار الحكمة، فسرعان ما انقلبت الريبة يقينا. فتميز غيظا، وامتلأ حنقا، وتوثب للانتقام .. اشتط في معاملتها، ودأب على سبها ونهرها؛ ولكنها قابلت قسوته بالامتثال والصبر والأدب، فلم يجده شططه، ولبث يتحرق إلى إثارتها، وإخراجها من التعوذ بالصمت والصبر إلى الأخذ بأسباب التشكي والتذمر وذرف الدموع، فقال لها مرة بجفاء وازدراء: لقد مللت عشرتك، ولا أخفي عنك أني شارع في الزواج، وسوف أجرب حظي مرة أخرى .. وصدقته المرأة، فتصدع بنيان رزانتها المتماسك، وفزعت إلى أبنائها، فباحت لهم بما تلقاه على يديه من سوء القول والفعل، وهالهم الأمر، ودهمهم الخطب، فأيقنوا أن أباهم ينزلق إلى مهوى وخيم العواقب، وزاروه واقترحوا عليه - إبقاء على صحته - أن يصفي تجارته ويفرغ للراحة والعناية بنفسه. وفطن الرجل إلى ما يساورهم من خوف غير جديد عليه؛ فغضب غضبة هائجة، وعنفهم بفظاظة لا عهد لهم بها، وخاطبهم بحدة قائلا: حياتي ملك لي أصرفها كيفما أشاء، وسأبقى عاملا ما راق لي العمل فاعفوني من نصحكم المغرض.
وضحك متهكما، ثم استدرك وهو يقلب في وجوههم عينيه الذابلتين: ألم تحدثكم أمكم عما اعتزمت من الزواج مرة أخرى؟ .. هو الحق! لقد شرعت أمكم في قتلي، فسآوي إلى كنف امرأة جديدة على شيء من الرحمة، وإذا تضاعف عددكم بهذا الزواج فثروتي كفيلة بإشباع أطماعكم جميعا.
وأنذرهم بأنه سيقبض يده عنهم، وأن على كل منهم أن يعتمد في حياته على موارده الخاصة .. قال بسخط وغضب: إني كما ترون لا أكاد أذوق غير مر الدواء، فلا يصح أن يتمتع الآخرون بمالي.
قال كبيرهم: كيف تخاطبنا بهذه اللهجة المرة ونحن أبناؤك البررة؟
فقال السيد ساخرا : بل أبناء أمكم.
Halaman tidak diketahui