وذكر وهو يدلف من باب الدكان متثاقلا كيف جاء يكاد يطير من جلده فرحا، وكيف يذهب محطما مهيضا! فعض على شفته، وتسمرت قدماه وقد بلغ منه الأسى منتهاه، وتحول نحو صاحبه فرآه ينظر إليه بعينين مغرورقتين بالدمع، ففقد جنانه وهرع نحوه بلا وعي، وارتمى على صدره في قنوط، ونشج منتحبا باكيا كالأطفال. •••
ألم يداخله شك في حقيقة اختفائها؟ .. ألم يساوره ما يساور المحبين من ارتياب وسوء ظن في مثل حالته؟ الحق أن طيف شك قد لاح بخاطره ولكنه لم يلق إليه بالا فتبدد. كان بطبعه شديد الثقة، يجود بالظن الحسن بغير حساب. كان طيب القلب جدا، ومن هذه القلة من الناس الذين ينزعون بفطرتهم إلى إقامة المعاذير لغيرهم، واختيار أخف التأويلات لأفظع الفعال. ولم يغير الحب من طبعه هذا، بل لعله رسخه وقواه، فلم تظفر منه وسوسة الغيرة وهمهمة الشك بأذن مرهفة. وقد أحب حميدة حبا شديدا باركته فطرته الطيبة بثقة وطمأنينة. وآمن - إلى هذا كله - بأن فتاته أكمل فتاة في الدنيا التي لم ير منها شيئا يذكر، فلم يداخله شك فيها، أو أن طيف الشك الذي لاح له لم يجد في قلبه مرتعا يعيث فيه. وقد ذهب لمقابلة أمها ذلك اليوم، ولكنها لم ترو له غلة، وأعادت عليه ما قصه عم كامل بصوت مختنق بالعبرات. وزعمت له أن الفتاة كانت لا تفتأ تتذكره وتترقب عودته بصبر فارغ؛ فضاعفت بكذبها أحزانه، وغادرها كما جاءها كسير الفؤاد، مبلبل الفكر، معذب النفس. وغادر الزقاق تسوقه قدماه الثقيلتان، وقد زعفر الأصيل هامة النهار، تلك الساعة التي اعتاد - في الأيام الخوالي - أن يرى فيها مطلعها المحبوب إذا خرجت لنزهتها اليومية. وقطع الطريق ذاهلا عما حوله، فتمثلت لعينيه بجسمها الملفوف في الملاءة السوداء وعينيها النجلاوين المحبوبتين، وهفت على قلبه ذكرى الوداع الأخير على البسطة، فتنهد من الأعماق، ونفخ محزونا قانطا. ترى أين هي الآن؟ .. ماذا تصنع؟ وماذا صنع الله بها؟ .. أتعيش على ظهر الأرض أم ترقد في قبر من قبور الصدقة؟ .. رباه .. كيف تحجر قلبه طوال ذلك العهد فلا استشف ريبة ولا شام نذيرا؟! .. كيف استنام إلى طمأنينة الأحلام ولذة المنى فأكب على العمل غافلا عما يخبئه له الغد؟! وأيقظه الزحام من ذهوله فتنبه إلى الطريق .. هذا الموسكي طريقها المختار بأناسه ودكاكينه، كل شيء فيه باق على حاله، إلا هي، اختفت كأن لم تملأ الدنيا بهاء بالأمس. وألمت به رغبة في البكاء، ولكنه لم يستسلم لها هذه المرة. لقد أراحه البكاء على صدر عم كامل، وأرخى توتر أعصابه، وتركه لحزن عميق هادئ، فيجدر به الآن أن يتساءل عما هو فاعل، أيدور على الأقسام وقصر العيني؟ .. ولكن ما جدوى ذلك؟ أيدوخ في شوارع القاهرة مناديا باسمها؟ أيطرق أبواب البيوت بابا بابا؟ الله ما أعجزه وما أعجز حيله! إذن هل يعود إلى التل الكبير متناسيا ما وراء ظهره؟ ولكن لماذا يعود؟ لماذا يصر على تحميل نفسه آلام الغربة؟ لماذا يكد ويكدح ويجمع النقود؟ الحياة بغير حميدة عبء ثقيل لا طائل تحته .. غاضت في قلبه مشاعرها جميعا إلا فتورا يزهق الأنفاس وخمودا يقتل الإحساس، وهوى إلى هذه الحالة المضنية التي تبدو فيها الحياة فراغا كئيبا يحدق به سد هائل من القنوط. كان يعيش على الفطرة لا يدري شيئا عما وراءها، مخلصا لقوانين الحياة الأولية، فوجد في الحب جوهر حياته وخلودها، فلما أن فقده فقد الأسباب التي تصله بالحياة، وتردى مزعزعا كذرة هائمة في الفضاء. ولولا أن الحياة - التي تجرع غصص الآلام - تتفنن في إغراء بنيها بالتعلق بها حتى في أحلك أوقاتها، لختم عمره وقضى. ولكنه مضى في سبيله حائرا قد ضل هدفه، بل شعر في تلك اللحظة أنه ضله إلى الأبد. بيد أنه ما زال معلقا بخيط يدق على وعيه، ولمح في عرض الطريق بنات المشغل العائدات، فما يدري إلا وهو يتجه نحوهن ويعترض سبيلهن، فوقفن داهشات وقد تذكرنه في غير مشقة، وقال لهن بلا أدنى تردد: مساء الخير يا بنات، لا تؤاخذنني، ألا تذكرن صاحبتكن حميدة؟
فقالت إحداهن: نذكرها جميعا! .. ونذكر كيف اختفت فجأة، فلم نرها منذ ذلك اليوم!
فسأل بصوت ينطق بالأسى: ألا تدرين شيئا عن اختفائها؟
فقالت أخرى وقد لاحت في عينيها نظرة ماكرة: لا ندري شيئا على وجه اليقين؛ إلا ما قلته لأمها حين جاءتني يوم اختفائها تسأل عنها، من أننا رأيناها مرات بصحبة أفندي يسيران معا في الموسكي.
وحملق في وجه محدثته بذهول وقد ارتعش جانب فيه، وسألها: أرأيتها بصحبة أفندي؟!
ونال منظره من الفتيات فاختفت من أعينهن نظرات خبيثة ساخرة، وتكلفن الرزانة، وقالت محدثته برقة: نعم يا سيدي. - وأخبرت أمها بذلك؟ - نعم.
وشكرهن بكلمة، وسار في طريقه. ولم يداخله شك في أنهن سيجعلن منه حديثهن بقية الطريق ، ولعلهن يضحكن كثيرا من الفتى المغفل الذي هاجر إلى التل الكبير ليجمع ثروة لمحبوبته، فآثرت عليه آخر وفرت معه. يا له من مغفل حقا! ولعل أهل حيه جميعا قد لغطوا بغفلته. وقد رحمه عم كامل فأخفى عنه الحقيقة، كما أخفتها أم حميدة، وهل كان بوسعهما أن يفعلا غير ما فعلا؟ وخاطب نفسه ولما يفق من ذهوله قائلا: «هذا ما حدثني به قلبي لأول وهلة.» ولم يكن صادقا في قوله؛ لأن الشك لم يلم به إلا إلمامة خفيفة، ولكنه لم يعد يذكر في محنته غير هذه الإلمامة الخفيفة من الشك، بيد أنه تاه في اللحظة التالية وتساءل وهو يبسط أصابعه ويقبضها في حركات تشنجية: «رباه كيف أعقل هذا؟! أهربت حميدة حقا مع رجل؟! من يصدق هذا؟!» لم تمت إذن، ولم يعرض لها حادث، ولقد أخطئوا خطأ كبيرا في البحث عنها في الأقسام وقصر العيني، وغاب عنهم أنها تنام سعيدة رخية البال بين ذراعي الرجل الذي خطفها. ولكنها وعدته ومنته! .. أفكانت تخادعه؟ .. أم توهمت خطأ أنها تميل إليه؟ .. كيف عرفت ذلك الأفندي؟ ومتى أحبته؟ وأي جرأة شيطانية أغرتها بالفرار معه؟! .. كان ممتقع اللون، بارد الأطراف، تلوح في عينيه نظرة ساهمة قاتمة، وتبرق فيها من آن لآن لمحة خاطفة تقدح شررا. خطر له خاطر فصعد رأسه إلى الدور على جانبي الطريق، ينظر إلى نوافذها ويتساءل: في أي دار ترقد لصق رجلها الآن؟ انقشع غبار الحيرة، وحل محله غضب ناري ومقت نهم، وتقبض قلبه وتلوى تحت ضغط يدي الغيرة القاسيتين، غير أن شعوره بالخيبة - الناشئة من ذهاب الأمل وتمرغ المعبود في التراب - كان أفظع من الغيرة نفسها. إن الغرور والكبرياء وقود للغيرة يؤرثان لهيبها. ولم يكن حظه منهما ملحوظا، ولكنه كان شديد الأمل كبير الأحلام، فذوى أمله وتبدد حلمه، وانفجرت نفسه غضبا. وأفاده الغضب من حيث لا يدري، فاستنقذه من ذاك الحزن الصامت الثقيل، وعلله بالانتقام يوما ولو على سبيل البصق والازدراء. والواقع أن فكرة الانتقام استحوذت على مشاعره في تلك الساعة الجهنمية من الغضب والقهر، فتمنى أن يتمكن من طعن قلبها الغادر بمدية حادة. الآن يستطيع أن يدرك سر مواظبتها على الخروج في العصاري، فقد كانت تنطلق عارضة نفسها على ذئاب الطرق! ولكنها جنت بغير شك، جنت بهذا الأفندي، وإلا لما آثرت العهر معه على الزواج به! وعض على شفته ألما لهذا الخاطر. وانتقل راجعا قد ضاق ذرعا بالمشي والوحدة. وتحسست يده علبة العقد في جيبه، فانطلقت من فمه ضحكة جافة ساخرة كأنها صرخة غضب في رداء ضحكة. ليته يستطيع أن يشنقها بسلسلة هذا العقد الذهبية! وذكر كيف وقف في دكان الصايغ يقلب عينيه بين الحلي وقلبه يكاد يقفز من صدره جذلا وسرورا، وهفت الذكرى على قلبه كالنسيم الواني، إلا أنها التقت بوهج قلب مضطرم، فانقلب النسيم حرورا.
29
ما إن وقع السيد سليم علوان على العقد المبسوط على المكتب حتى شد الخواجا الجالس قبالته على يده وقال له: مبارك عليك يا سليم بك. هذه ثروة طائلة.
Halaman tidak diketahui