3
بعد ثلاثة أيام من سفر إبراهيم جلست زينب في القاعة التي ودعته فيها، وأمسكت بيدها المنديل الذي وجدته بعد خروجه، ثم نظرت إليه، وجاء إلى نفسها أن محبوبها الساعة في أبعاد نائية لا يعرف أحد مقره، فانهملت على خدها تلك الدمعة الحارة التي تسيل هادئة من عيونها من غير أن نحس بها والتي تحكي الآلام المحتلة كل وجودنا.
ومن ثلاثة أيام لا يكاد النوم يعرف إلى عيونها سبيلا. فكلما أرخى الليل سدوله أحيت هي موته وظلمته بدموعها المنسجمة وتنهدات يكاد ينشق معها صدرها، وبقيت في مرقدها تعاني الآلام أنواعا وضروبا. فإذا صادف أن سألها حسن عن سبب ألمها شكت دوخة أو مغصا تنتظر أن ينقضي مع الصباح. والصباح - ومعه ضجة الكون - يعزيها بعض الشيء عن مصابها وينسيها حزنها، وإن كانت تجد أحيانا في ساعات الوحدة ما يكاد يقتلها ألما.
جاء حسن وتناول الطعام كعادته، وصعد إلى الغرفة في حين بقيت هي في القاعة تحدق إلى منديل إبراهيم. فلما استبطأها سأل أمه عنها. ولكن أمه لا تعرف أين هي، فعلته غرابة! أين عساها تكون في هذه الساعة من الليل، وقد صلى الناس العشاء، ورجعوا إلى دورهم؟ وانقلبت الغرابة قلقا في وقت قصير، وبقي مكانه حيران لا يفهم من ذلك الأمر شيئا.
ثم زاده قلقا وحيرة أن صعدت زينب إلى الغرفة، فلما سألها لم تجبه بشيء لأنها لم ترد أن يعرف أين تقضي ساعات ذكراها وألمها. فألح في مسألته وطلب إليها إلا ما أخبرته من أين هي آتية. وكلما زادت إصرارا على سكوتها زاد هو إلحاحا وظهر على صوته شيء من أثر الحنق والغيظ. وأخيرا وقد ملكه الغضب صاح في وجهها: - لازم تقولي إنت كنت فين.. أني ما عرفش كدب النسوان الفارغ ده.. قولي لي كنت فين الليلة دي وإلا كل حي يعرف شغله.
ولكن ماذا عساها تقول له؟ إنها كانت في القاعة كل هذا الزمن الطويل! وإن سأل عما كانت تعمل فماذا تجيب؟ أتخترع من عقلها شيئا تداري به ما كانت فيه من ألم وحزن؟! أي أنها تكذب غير كذب النسوان الذي يقول حسن!. إنها بذلك تريحه من التفكير ومن اتهامها. ولكن ألا يصح أن يتخذ من كلامها دليلا على المراوغة وقول الباطل؟ ولم لا تقول له إنها كانت في القاعة تبكي؟ وإن سألها لم تبكين؟ وهل أساء إليها أحد؟
وأخيرا فضلت الصمت المطلق، وأن تترك له أن يظن بها ما يشاء، فما دامت هي مرتاحة الضمير فلا شيء عليها.
لكن أنى لها راحة الضمير؟!.. إنها ما عتمت أن تمطت في فراشها حتى راجعتها أحلام كل ليلة بشكل أفظع. ولم تستطع إمساك البكاء في قلبها بل علا بالشهيق صوتها. وذلك الألم الذي يخنقها كل ليلة وتعمل لبقائه مكتوما ظهر ووصل إلى سمع زوجها، فأطار من عينه النوم الذي كان قد بدأ يناوشه، وجعله يتسمع إلى تلك التنهدات التي تتمشى في صدر زوجته. وبعد أن كان ذلك الرجل الغضوب القاسي صار قلبه يلين، كأنما تصب عليه زينب من دمعها ما يخمد نار غضبه، أم كأنما يسري إليه وسط الظلمة الحالكة المحيطة به شعاع من رحمة الله. وأمست كل زفرة تبوح بها زينب سكينا تقد بها مهجته فلم يقدر على السكوت عن أن يسألها: مالك يا زينب؟
وما كاد ينطق بهذه الكلمة حتى أسلمت زينب نفسها للبكاء كأنها رضيع فقد أمه. بكاء ينهل من عينيها، ويودع في جوف الليل أحزانها ومخاوفها. ثم علا صوتها بالنحيب يتخلله أحيانا أنين مؤلم يصل إلى القلب ويحرق الفؤاد. فقام حسن من مرقده وأوقد المصباح وجاء إلى جانبها يملس عليها كما تملس الأم على صغيرها، ويسألها عما أصابها، ويتودد لها يحسب أن قد أثرت فيها شدته، فعزت عليها نفسها، أن رأته يغلظ لها القول، وما عرف عنها إلا الرزانة والوقار، ولا سمع من سيرتها إلا الحشمة والقيام بالواجب.
مع ما في الاعتراف بالخطأ من الصعوبة بحيث نلجأ أغلب الأحيان إلى إصلاحه بكل وسيلة من غير أن نقر أن قد وقعنا فيه، فإن من الأشخاص من لهم علينا من الأثر وفي نفوسنا من المنزلة ما يسهل معه أن نبالغ في هذا الإقرار. بل لقد يبلغ حبنا لهم أن نتهم أنفسنا بأمر لم نجنه ما دمنا نعلم أن في ذلك رضاهم. كان هذا الموقف الأخير موقف حسن يوم رجعت زينب من السوق وسألها عما قضت فيه نهارها. وها هو ذا الآن في الموقف الأول يقر لها بخشونته فيما قال، ويعتذر لها عما قدم، ويطلب عفوها، فلا يزيدها بذلك إلا إيلاما، لأنه يزيد مركزها حرجا، ويجعلها تضيف على أسفها لفراق إبراهيم أسفا آخر كبيرا أن لم تستطع أن تهب قلبها لزوج طيب حليم.
Halaman tidak diketahui