وهنا أودعك والدي وأودع أمي وإخوتي وأهلي. وكل ما أطلب إليهم ألا يصيبهم جزع من أجلي، فإن الحياة أقصر من أن نقضيها في آلام وأحزان. ولكم جميعا الاعتراف بسابغ فضلكم على. والسلام.
حامد •••
لم يكد السيد محمود يتم قراءة هذا الخطاب حتى عراه الذهول، وحدق إلى ما حوله مبهوتا لا يفهم شيئا. وشمس العصر الضعيفة في هذه الأيام يتلألأ نورها على حافات النوافذ وتنساب بعض أشعتها على أرض الغرفة، وكلما هبطت من علوها زادت أشعتها امتدادا، واندلع بعضها إلى المكتبة كأنها تشير للأب اليائس إلى غريمه، وتخبره عن سبب أسى ولده. إنه قد صرف همه إلى قراءة أشعار العشاق فأخذت بنفسه رقتها، ورشقت قلبه عذوبتها، فأصابت منه الفؤاد، وأدمت الجوارح، واحتلت النفس وتمكنت من كل وجوده. ثم تأثر قصصهم وأخبارهم، ومن يموت منهم إلى جوار محبوبته، ومن يموت من أجلها، فتجلى أمامه سخف الحياة الباهتة القليلة القيمة التي يقضيها الكثيرون وهمهم منها كفاية بطنهم وسد مطامعهم المادية، وتجلى له جمال تلك الحياة العاشقة تقضى بين الخيالات والأحلام وإلى جوار المحبوب الذي يملك بيده سعادتنا. ولكن الأب منصرف بهمومه عن الشمس وعن المكتبة، يطرق ساعة، ويرمي بنظره إلى السماء أخرى، ينتظر أن يفتح الله عليه بأمر أو يرد إليه ولده. وبقي في مقامه حتى ولى النهار، واحتل الليل أرجاء السماوات والأرض، وجاء أولاده الذين تأخروا في المدرسة يتفرجون على لعب الكرة، ونادوا بالعشاء فجلس السيد محمود من بينهم مشتت النفس حائر الفكر لا يطعم شيئا ولا ينبس ببنت شفة.
وبعد أيام كان فيها حائرا لا يدرى ماذا يعمل وصل إليه من حامد الكتاب الآتي:
والدي المحترم
إني أحس الساعة بمقدار ما سببته لك من الألم. ولكن بالله إلا ما خففت عن نفسك وأزلت همك، وتركت جانبا التفكير في أمري. إنني أعيش اليوم عيشا رغدا، وأعمل فأجني من جبيني ما يقيم حياتي، ولا أفتر ساعة عن شكركم على ما قدمتم لي. وإني كبير الأمل أن يجيء اليوم الذي ألقي بنفسي فيه بين أحضانك وأحضان أمي. وهل الفرق بين الأمس واليوم إلا أنكم كنتم من قبل تعرفون مستقري وأنتم اليوم لا تعرفونه.
ألوم نفسي حين أعتقد أنكم محزونون من أجلي، ولكني لا أزال على قيد الحياة، ناعم العيش.. وإلى ملتقى قريب أو بعيد أهديكم جميعا تحياتي.
حامد
ولكن أنى لأب أن يتعزى بكلمة كهذه من ولده، بل لقد زادته أسى على أساه وشجنا على شجنه. ولو علم أن ابنه ترك الحياة لاعتراه اليأس، واليأس إحدى الراحتين، ولكنه يعلم أن حامدا بين الأحياء هائم لا صديق له يكد لمعيشته. ولا شيء أشد على نفس والده من هذا.
حامد اليوم بين الأحياء يريد من يحب فلا يجد، وقد ضرب دونه ودون كل فتاة حجاب. وأبوه في الدار كمد من أجله يتلقى قسوة القضاء، وهو ما بين الجزع والصبر تتناوبه هموم الخطوب من كل جانب. والجمعية الظالمة حولهما في شغل عن الأب وابنه لا تحس بما في نفسيهما، ولا يهمها أمات الأول هياما أم قضى الثاني نحبه ألما. وفي الخدور من هي أشد وجدا من حامد، ولكنها لا تجد إقدامه، ولا تستطيع - وقد ربيت في النعيم، أن تذر دار أبيها لتبحث هي الأخرى عمن تحب، فيطفئان بحبهما لوعة قاتلة، ويحييان عاطفة شريفة، ويمدان أمامهما من آمال السعادة مايهون عليهما حياتهما وما فيها من مصائب ومتاعب.
Halaman tidak diketahui