كانت زينب في دار زوجها تقطع من عمر الزمان، تتجاذبها العوامل، وتلعب بنفسها الوجدانات، ويتنازعها الإحساس والواجب. وهي تلتمس بتلك النفس البسيطة العاملة هدى في طريق الحياة الجديدة تتخبط فيه على غير علم. والتمست غير سبيلها الأول فلم تجده أحسن من سابقه ولا ألين ملمسا.
انتقلت من دار أبيها إلى دار زوجها، ووجدت نفسها وسط هاته العائلة التي تخالف الأولى في طبقتها ووجودها ومعيشتها كل المخالفة، وألقيت عليها الأحمال التي كانت تحملها أم حسن، وأصبحت بين عشية وضحاها ربة بيت طويل عريض هي القائمة بالأمر فيه تدبر وترى من شأنه، وأختا زوجها تساعدانها كما كانتا تساعدان أمهما من قبل، وإن أصبحتا تريان في زينب من تعتمدان عليها في كثير ومن تستطيعان إلى جانبها أن تتذوقا من الراحة ما لم يكن يسمح لهما به من قبل.
وأحست بالوحشة لأول يوم حين وجدت نفسها غريبة بين متعارفين، عندهم من العقائد العائلية القديمة والأوهام، ويحفظون من الحوادث والحكايات، ويذكرون جميعا أياما يعدونها ذات أثر أو مبدأ تاريخ، ما يزيد في وجوه الشبه يينهم، ويربطهم معا برباط العائلية. لذلك كان خادمهم أقرب إليهم من العروس الجديدة. فإذا جلسوا يتحادثون اضطرت هي أن تلزم الصمت، وإن تكلمت فبأوجب الواجب، وإن رجعت إلى وحدتها راجعها من آلامها ما يزيد حزنها.
وإذا خلا بها حسن وجعل يخاطبها فيما يخاطب به الشاب الفتاة أو الزوج زوجه وجدت كلامهما ذابلا باهتا. وجدته كلاما مصنوعا يجيء به موقفهما، ولا توحي به القلوب أو تدفع إليه الإحساسات الهائجة التي تريد أن تظهر ولا يمكن حبسها. ولكنها مضطرة أن تجيب على القول بمثله، وترد على كل ما تسأل عنه بما حفظته من الناس.
غير أنها شعرت أن موقفا كهذا لا ينتج إلا الشقاء والبؤس، وأن الواجب أن تنسى الماضي الذي قضته قبل زواجها، وتتعزى عنه بكل ما يحيط بها. يجب أن تحب زوجها وتدعوه بذلك ليحبها ويعيشا في سعادة لا تقل عن سعادتها أيام كانت ترى إبراهيم وتجد فيه رسول الهناء، وإلا فهي باقية بين أيدي الضيق غير بالغة في حياتها سوى الأسى والألم. ومهما بقي في صدرها لإبراهيم من الحب فقد قدرت أن خير ما ينفعها أن تتناساه حتى يجيء يوم يصبح حبهما صداقة لا يأخذها عليهما أحد. •••
وانخرطت في أعمال العائلة الكبيرة وأخذت القسم الأكبر منها على عاتقها. فهي تقوم حين تبدأ السماء يقظتها فتجهز بعض أمرها، ثم تخرج مع أوليات النور والنسيم البليل وبتلك الخطى الهادئة المرتبة تقطع طريقها إلى «الموردة» فتملأ جرتها وترجع لمرة ثانية وثالثة. ويكون ذلك شأنها ما دام الصيف يسعدها بغدرانه المترعة بالماء وسحره البديع وشمسه المنعشة تحبو من مرقدها تطرد الظلام والفجر، فإذا ما انعكست آية الوجود وحكم الشتاء وبرده القارس وليله الطويل وغاض الماء انقلب ترتيبها إلى آخر قد يكون أكثر من الأول راحة وسعادة.
وانقضت شهور من أوائل أيام زواجها نجحت مدتها في تناسي حبها. فلما آن للربيع أن يتنفس عن الصيف، وطال النهار، رجع الفلاح يقضي نهاره بين زروعه عاملا، ويذهب له بالغداء بعض أهله - أمه أو أخته أو زوجه إن لم يكن قد جاء معه به في الصباح - وتجيء معه القيلولة التي يرتاحون فيها تحت ظل وارف الشجر الكبير. وجعلت زينب على عاتقها أن تذهب كل نهار بغداء حسن، وتجلس معه قليلا بعد أن يتناوله، ثم ترجع هي إلى الدار وهو إلى عمله. غير أن النشوة التي داخلت كل الوجود ورفعت من نفس الكائنات والأشخاص ابتدأت تهيج من نفسها السواكن، وتثير لواعج أشواقها. فلما تقدم الربيع وجاء شهر الحب والهيام والجنون: الشهر الذي تلبس فيه كل الموجودات جدد ثيابها الزاهية، وتلمع الشمس على الورق الأخضر، وتبعث من شعاعها إلى القلوب والنفوس والأفئدة ما يخرجها من الجمود والاستكانة التي كانت تغمرها أيام الشتاء، وتقدم الطبيعة ما فيها وما عليها أمام الناظر مما يصبح معه محتاجا إلى الحبيب حاجته إلى الحياة؛ في ذلك الفصل العاشق - لما جاء شهر مايو وزينب تقطع طريقها بين الخضرة والزهو، ونبت القطن كله الحياة النضرة يفتح أوراقه الجديدة ويضم إليه الهواء والنور والشمس والليل والنجوم - لم تستطع هي الأخرى أن تبقي على ذلك العهد القديم، وأن يكون قلبها أصم دون أصوات تناديه طالما أعرض عنها فجاءت له من الربيع بشفيع يرققه ويفتحه لقبولها.
ولكنها جاهدت وجاهدت بكل قواها ضد كل ما يهجس بنفسها، وأرادت أن تقنع من بين الموجودات بحسن. بذلك الذي أعطاه الله إياها وأعطاها إياه، وأقامت حربا عوانا على ما يمكن أن يثنيها عما تريد، وأملت فيها نصرا وفوزا.
وحسن في كل تلك المدة أملك لنفسه زماما يعيش معها كما يعيش كل الأزواج مع زوجاتهم، ويحس لها في نفسه بالميل، وإن لم يخل من الأثرة وحب السلطان عليها مما جاءه بالوراثة عن آبائه وأجداده، وبما أعطاه القانون والشرع من القيام عليها. وإن لم تكن النعومة النسائية وتلك الفطرة الرقيقة التي جبل عليها الجنس الناعم وما يسيل في خلقهن من اللطف مهما تكن تربيتهن لها عليه ما لها على الرجال جميعا من سلطان يستعبدهم أمامها.. وأكثر من هذا فإن حياة الزوجية المتشابهة الفاقدة كل شهية، الناقصة من جميع نواحيها. جعلته جامدا في كل ما بينهما. وتعاقب الأيام يزيد حياتهما تشابها، ويبعث إلى نفسه هدوءا واستكانة، ويدخله إلى دائرة كل أمثاله من بني طائفته، يبيتون مسرورين ما داموا يجدون في زوجاتهم الخادم المطيع لهم، والعامل الدائب في عائلاتهم، ويلقونها - كما يقولون - تحت أرجلهم قائمة بشأن الدار والغيط معا.
وأمه قد وجدت في زينب محقق آمالها التي طالما طوت ونشرت أمام خليل، ومن رفعت عن عاتقها أحمال أعمال ما كان أكثرها مضايقة لها في سنها المتقدمة. وزاد سرورها أن رأت في زوج ابنها ما تريد من طيبة وطاعة، وانتقلت بأمانيها خطوة إلى الأمام، فصارت تقدر لحفدتها وتنتظرهم، وتحلم بذلك اليوم حين تحمل ابن حسن على كتفها وتغني له حتى ينام، كم تجد من السرور أن ترجع مع طفلها إلى الطفولة التي هجرت من زمان، وكم لتلك الكلمة التي تقولها بملء قلبها - هوه - وتمدها وتكررها لتذهب بالصغير البريء إلى عالم الراحة والسكون، كم لها عندها من القيمة وكم تأملها وتتمناها!
Halaman tidak diketahui