وسمع في ذلك السكون حركة الهواء تتزايد في الخارج، ثم سقط المطر تدفعه الريح فيسمع على الزجاج صوته المنتظم يهدأ آونة حتى يكاد يكون همسا، ثم تسوقه ريح عاصفة فترتفع نقراته المتوالية.. والظلام حالك دائما.
جعل يسمع كل تلك الحركات الدائرة في الخارج، قطعت عليه أحلامه لحظة، ثم عاوده هاجس من أيام الزمن القديم والسعادة التي قضاها قبل يأسه يسبح منها في بحر لا شاطئ له، وتلك الساعات التي نعم فيها بجوار زينب أو بخيال صاحبته.. ولو تحقق الخيال أفلا يكون أسعد في لقياه بهاته الثانية منه بلقيا تلك العاملة الجميلة، وتكون خلواتهما كلها سرورا وهناء؟ ألا إنهما ليكونان سعيدين كل السعادة.. ولكن هل لذلك من سبيل؟
بقي هكذا يناجي نفسه أمام سواد الليل العظيم يشتمل في دجنته الكون النائم الهادئ، والمطر متتابع لا ينقطع تتسلى به آذان ذلك الساهر في أحلامه، وحوله في الغرف المجاورة كل مرتاح البال ذاهب في نومه. ثم بعد أن أفرغت السماء جعبتها تبين حامد من الزجاج شعاعا ينساب في الظلمة الدامسة.. ثم تقشع السحاب بطيئا بطيئا، وأسفر عن القمر مريضا ناحلا، ظهرت تحت نوره المحيطات القريبة والسطوح يلمع عليها ماء المطر. وعاود السكون كل شيء فلم يعد يسمع صوتا ولا يميز حركة. وكأن ذلك أحدث وحشة في نفس حامد، فانقلب إلى مرقده، وقضى بقية ليله بين أحلام لا تنتهى.
وأصبح وقد نسى ذلك كله، وراح إلى عمله على عادته ، ورجع منه في موعد رجوعه. وهكذا تقلبت الأيام واحدا بعد واحد، والشتاء يتقلص يوما بعد يوم، وساعات النهار بدأت تأخذ بحقها من الليل والجو المعتدل دائما يبعث إلى النفس النشاط والسرور، فحيث تكون ترى وجوها ضاحكة قانعة وحركة كبيرة دائمة. والوجود يتقدم نحو الربيع، فبدأ يزول عنه القطوب، والأشجار الكبيرة تقوم في بعض شوارع العاصمة الهائلة ارتفع فيها ماء الحياة! وتستعد لكسائها الجميل الجديد، وحامد يعاوده الذكر للأيام القديمة أحيانا، ثم ينسى ذلك كله، ولا يبقى له في نفسه من أثر.
ولما تزوجت زينب وبلغه ذلك دعا لها في نجواه بالتوفيق لما تحب وترضى، وأمل لها سعادة تتعزى بها عن الأيام وطولها، عن تلك الحياة المتشابهة، حياة مصبحها كممساها تسيل خرساء عليها أثر العفاء، وإن هي إلا أطلال أيام الشباب المملوءة بالقوة والجمال والحب والخيال والأحلام اللذيذة والولوع بكل شيء والغرام بما يحيط بنا وما يدور حولنا ننتقل منها إلى هدوء وسكون وما يسمونه رزانة وعقلا، ثم يخالط وجودنا في أعماقه شيء من الحزن الساكن، ونستسلم للقضاء، وننظر بعيون «باهتة» إلى الزمان الذي يمر أمامنا نرتب ساعاته حتى يهون علينا قطعها، ونبقى هكذا دائما حتى يأتي اليوم الذي لا تكون الحياة فيه إلا غرفة انتظار ننتقل منها فوق طائر يحملنا على جناحه إلى غيب الفناء.
تذكر حامد تلك الفتاة ونظراتها، وتمنى لها السعادة والهناء.
وجاء الربيع، وضحك الكون، وطال النهار، وازين الشجر، والشمس قويت بعد ضعف الشتاء، وأصبح يدخل إلى كل شيء سرور ينعشه ويجعله باسما بعد القترة التي كانت علته، والزهور يفوح عطرها، ويرسل في الهواء موجات الطيب، ويبعث إلى الصدور تلك الرائحة الزكية التي لا نقدر أمامها دون أن نذهب في سكرات السعادة فرحين بما يحيط بنا، ويلفنا من الحب بعذب نسيمه كل ما تنبت الأرض أو يتحرك في الجو.. وجعل حامد يخرج إلى الضواحي حيث الطبيعة نظمتها يد الإنسان فأعطتها رواء وبهجة حرمتها تلك الوحشة اللذيدة التي توجد في البكر من الأشياء، فيسير إلى جانب النهر الكبير تنقلب موجاته هادئة ساكنة تتبع مع التيار سابقاتها جئن جميعا من هناك، من الأبعاد القاصية النائية نسمع عنها، ثم ينسبن حتى يضعن في المالح العظيم. وإلى جانبه على الشاطئ تمتد الحدائق وأرضها الخضراء وأشجارها اليانعة.
قابل حامد مرة أحد أصدقائه، وبقيا يسيران يتمتعان بعطر هذه الجزيرة البديعة نظمتها يد الظلم أيام الاستبداد، ثم تمتعنا بها نحن حفدة المظلومين. سارا يتحدثان وسحرهما الحديث عن وقتهما. وبقيا كذلك حتى مالت الشمس نحو المغرب، فألهبت زجاج النوافذ المقابلة، وتغطى النهر بلون وردي جميل. ومن الجهة الثانية تبين الشفق يطوق الأفق، والقرص الذهبي وسط ذلك ينحدر مسرعا إلى مغيبه، ئم أضيئت من بعد ذلك الأنوار ترقص على سطح الماء جذلة بهواء تلك الساعة حين تتمخض الطبيعة عن الليل وتهبط من بوادر الظلام لجة عظيمة تتوه فيها المودات ويسري النسيم إلى الصدور وتنتعش به القلوب والنفوس والأرواح، وتحس بالسرور والطرب يداخلها وترتسم على الثغور ابتسامة الرضا والنعيم.
هنالك رجعا على أعقابهما وهما أشد ما يكونان جذلا وقد وقر في نفس حامد أن في جمال الطبيعة ما يسلي عن كل جمال، وإن أذكى الربيع في نفسه غرضها من الوجود مع محبوب تفنى فيه ويفنى فيها.
2
Halaman tidak diketahui