فسكت القس بولس عن الجواب هنيهة، ثم قال: سمعت أن اسمها غصن البان إنما هو اسم مستعار. - هذا صحيح.
وأطرق الحاج قليلا، ثم نظر إلى جليسه نظرة ساحر يدعي علم الغيب، نظرة خبيثة مزعجة وقال: أشعل سيكارة، وأطرق ثانية. - ممنون.
فرفع إذ ذاك الحاج رأسه فجأة كأنه لقي ما أضاعه، أو كأنه يسائل جليسه: وهل أنت الرجل؟ ثم قال:صحيح، صحيح، اسمها الحقيقي مريم، مريم، وقصتها عجيبة غريبة، سبحانه تعالى يمنح آلاءه من يشاء ويحرمها من يشاء، يرفع الوضيع ويخفض الرفيع، فإن نشوء غصن البان لمن أعجب الأمور، ولا أخشى أن أطلعكم على شيء من أمرها، ولا أكتم سيادتكم - أتأمرون بأركيلة؟ - ممنون لا أدخن. - لا أكتم سيادتكم أن تنديدكم بها ينفعها وينفعنا أكثر من مديح الشعراء وإطراء الصحافيين، ووددت والله لو أن مشايخنا مشايخ الأزهر يقتفون أثركم، ما لنا وهذا؟! مريم يا سيدي ولدت في قرية صغيرة قرب الناصرة، وتربت في دير من أديرة الأيتام فيها، وخدمت سنتين في بيت أحد الوجهاء هناك، و...
وأمال الحاج بعمامته إلى الأمام وتثبت في جلسته على الديوان وهو يحدق النظر بالقسيس، ثم قال: وحدث لها من الحوادث ما لا يليق ذكرها، حوادث محزنة، محزنة جدا، وجاءت القاهرة من باريس، وهي الآن - لا تؤاخذني - ربة الرقص في البلاد، هذه قصتها بإيجاز، سبحانه تعالى وهاب الذكاء، رب النعم والآلاء، يمنحها من يشاء ويحرمها من يشاء، الذكاء نعمة، والجمال نعمة، وغصن البان ...
فقاطعه القس بولس قائلا: وهل لك أن تدلني إلى بيتها؟ - على الرأس والعين.
وصفق كفا على كف فجاء الخادم، فقال يخاطبه: دل سيادة المحترم. - لا، لا، لا أكلفه إلى ذلك، وليس غرضي ... تكرم بعنوانها فقط. - كما تريد، وأدى إليه ورقة كتب فيها عنوان غصن البان.
فأخذها القس بولس ونهض شاكرا مودعا، فشيعه الحاج محيي الدين إلى الباب، وشيعه بنظره وبفكره إلى ما وراء الأبواب وهو يعد سبحته ويهز رأسه متأملا حائرا.
الفصل التاسع عشر
جلست غصن البان إلى المائدة تتناول الفطور وبيدها بضعة تحارير جاءتها صباح ذاك اليوم في البريد، ففتحت الأول فإذا هو من سر همت باشا يسألها مرافقته إلى المتحف المصري، وفتحت الثاني فإذا هو من أحد الشبان المتيمين فمزقته باسمة، والثالث من فراش في الموسكي يلح عليها في تسديد حسابه فمزقته واجمة، والرابع من أحد تجار العاديات يتوعدها بالشكوى إن لم تدفع ما عليها فمزقته حانقة، والخامس مزقته، والسادس كذلك، والأخير وقد أدركت فحواه من العنوان لم تتنازل أن تفضه، وضربت المائدة وهي تقول: لينتظروا مثلما أنتظر، وكيف لي بدفع ما علي والكازينو لا تدفع ما لي؟ يا مرجانة! يا مرجانة! - نعم يا ستي. - ألم تسمعي الجرس، من ذا المبكر يا ترى؟
فراحت الخادمة تفتح الباب وعادت تقول: الصائغ ستي يطلب مقابلتك. - ليجيء بعد الغد، بعد الظهر لا صباحا.
Halaman tidak diketahui