وقالت الثالثة: يحق للمجدلية أن تشرب دمك. - سأصلب عظامها! سأقور عينيها! نجاسة فلسطين! ساكرنن دي بالاستين! سأدق عنقها، سأفقأ عينيها! وهجمت تلك الفتاة تستل دبوس قبعتها، فوقفت جولي تصدها وتحمي مريم. - دعيني أقور عينيها، فقد أبت اللعينة أن أقبلها. - ردي دبوسك إلى قبعتك، ليس الوقت وقت براز. - يا للعار! يا للعار! إن هي إلا غريبة وإنكن غليظات قاسيات، لا تحردي يا مريم ولا تغضبي، دعيها تقبل عينيك فهي تحبك، وتعجب بجمالك، تعالي، قبليها، سا سا! لتحيا «فلسطين»! فهتفت البنات بصوت واحد: لتحيا «فلسطين»!
ثم خاطبتها جولي مناعمة ملاطفة فقالت: دعيني أساعدك، أين سرابيلك الحريرية؟ مرسي.
وأرتها سرابيل محكمة يلبسها اللاعبون على الحبال، والراقصات. - أليس لديك واحد مثل هذا، أعيرك اليوم مما عندي، وبعد التمرين أذهب وإياك إلى حانوت تشترين سرابيل؛ لأنها للراقصة يا صديقتي ألزم من المجلة للفقيه، والعربة للطبيب، والخادمة للكاهن، السرابيل ألزم للراقصة من خبزها، بل هي خبزها، هي سرها، وهي سلاحها، وإذا ارتدت قميصها بدونها تهلك في السجن جوعا، السرابيل شغاف الفن، شغاف الحب، شغاف العفاف، فإذا اختال الفن عاريا دونها تحترق ال «تياتر» وتحترق باريس وينتهي العالم. - أحسنت يا جولي أحسنت، لست والله في مركزك هنا ينبغي أن تكوني في مجلس النواب. - أحسنت، عهدناها لبيبة، فإذا هي خطيبة. - بل عهدناها زمارة، فإذا هي ثرثارة. - البسي يا مريم وما لنا وهذرهن.
فلبست مريم ذاك اللباس المحكم، وانتعلت نعلا رومانيا، وارتدت قميصا من الحرير مهلهلا، ثم وضعت جولي على رأسها إكليلا من الزهر المصطنع، فنزعته مريم وضربت به عرض الحائط. - ما بالك؟ أتأبين الإكليل؟ - إكليل الهذر والهذيان، إكليل الكذب إكليل السخافة! حرقت الأزاهر الاصطناعية في بلادي أفتلحقني إلى باريس؟ - ولكن لا بد منه يا عزيزتي، إذا لبسنا الثياب اليونانية ولم نلبس الإكليل تديننا ال «أكاديمي» وتجازينا على فعلتنا ال «كوميدي» ويشنقنا مدير ال «أبرا»، وإذا نجونا من الشنق، يضحك منا البوليس، وهذا شر العقوبة، البسي الإكليل، البسيه فها الجرس يقرع، والمدير ينتظر.
بدت مريم في سرابيلها اليونانية، كأنها ابنة آثينا أو عروس من روايات الشاعر بيرون، فسر المدير بها وبإتقانها دورها، ولكن الفتاة الناصرية لم تسر لا بالمدير ولا بالدور ولا بالراقصات رفيقاتها، لم ترض أن تكون هذه بداءة أمرها في الرقص، لم ترض أن تكون من التماثيل المعروضة على الناس صفا، لم ترض أن تكون صفرا إلى الشمال أو كمالة عدد الإقبال، ولم ترض فوق ذلك أن تأخذ رفيقاتها من قلبها ونفسها هدفا لسخرهن وهذرهن، على أنها حبا بالفن قبلت العذاب ، وقدمت نفسها ضحية على مذبحه شهرا كاملا، فاضطر المدير بعدئذ أن يغير الرواية؛ لأنها لم تصادف إقبالا فصرف بعض البنات وكانت مريم منهن، أنقدها أجرتها بعد أن حسم منها عشرة بالمائة للوكالة؛ أي لتلك السيدة صاحبة الوجه الشاحب القطوب التي عادت مريم إليها تسألها السعي مرة أخرى في سبيلها، فدون الكاتب اسمها في سجله ثانية، ثم أنقدته الرسم وراحت تنتظر.
ولى الأسبوع يتلوه الأسبوع ثم الشهر ثم أخوه، ومريم تنتظر صابرة واجلة وهي تنظر إلى كيسها من حين إلى حين كما ينظر المحكوم عليه بالإعدام إلى الساعة في يومه الأخير، دنى الأجل، نفد المال، فجاءت مريم تلح على السيدة فقالت هذه في نفسها متبرمة متأففة: ألا تكفينا بنات فرنسا بل بنات أوربا، يظنن أن مسارح باريس جنة عدن فيتهافتن عليها كالذباب على الحلوى، ثم قالت تخاطب مريم: إن الطالبات عملا في ال «تياترات» ألوف مثلك والمبتدئة تضحك في عبها إذا فازت بشبر على المسرح تقف فيه عارضة وجهها وساقيها؛ لأن ذلك خير لها من أن تعرض نفسها وجسمها في الشوارع.
وتيقني مدموازل أنني باذلة جهدي في سبيلك، ولكني لا أعدك خيرا في المستقبل القريب، معظم ال «تياترات» اليوم مقفولة والأشغال واقفة وسأبذل مع ذلك جهدي، لم لم تطلبي عملا في أحد بيوت «المودة» عند إحدى الخياطات، قدك دقيق جميل وأية خياطة من الخياطات الشهيرات تستخدمك تمثالا «مدل» عندها.
فلما سمعت مريم ذا الكلام وبالأخص الإشارة إلى التمثال نهضت على الفور، فودعت تلك السيدة التي تتكلم دون أن تحرك شفتيها، وعادت إلى غرفتها وقد ساورها من الهم ما لا يحيا إلى جانبه أمل ولا تثبت أمامه عزيمة، أقفلت الباب؛ باب تلك الغرفة الحقيرة فإذا هي فيها وحيدة مخذولة يائسة، نظرت من الشباك إلى مداخن باريس أمامها فأحست أنها واحدة منها، مدخنة بين ألوف المداخن، ليس في صدرها غير نار تتأجج فيتصاعد منها دخان الفشل والغم، ثم جلست على سريرها تسند رأسها بيدها وجعلت تفكر في مصيرها، ثم نهضت على الفور فأخذت سلسلة الذهب التي أهداها إياها نجيب مراد، فنزعت منها الأيقونة الحندقوقية المرصعة بالماس، ووضعت مكانها الذخيرة التي أهداها إياها القس جبرائيل وطفقت تقبلها وتبكي. - آه ما أكرمك خلقا يا قس جبرائيل! وما أعزك نفسا! وما أشرفك قلبا!
وفي اليوم الثاني ذهبت بالأيقونة إلى أحد الصاغة فباعتها بثلاثين ذهبا، ثم صوبت خطواتها إلى شركة البواخر الإفرنسية وهي تقول: كسرتني اليوم يا باريس فلا بد من أن أكسرك غدا.
الفصل الثالث عشر
Halaman tidak diketahui