فمشى قدامها إلى وسط القاعة والناس نساء ورجالا يحدجونها بالأنظار معجبين مستغربين، فقالت سيدة وقد رفعت المنظار الصغير إلى عينيها: أميرة هندية في زي باريسية، روح العصر! روح التمدن! فأجابها الرجل: وقد تكون مسلمة خرقت حجابها، جميلة فتانة.
وقف رئيس الخدم عند طاولة صغيرة يعد للسيدة الكرسي، فجلست مريم والتيه جالس بين عينيها والإباء يكلل جمالها، فقدم إليها قائمة الأطعمة ثم قائمة الخمر، فألقت هذه جانبا وجعلت تقلب نظرها في تلك، وهي تفكر بالمرة الأولى التي رأت مثل هذه القائمة فهالها تعدد الألوان فيها وظنت أن على المرء أن يأكل منها كلها.
ثم جاء الخادم ينتظر أمرها، فأصدرته وهي سامدة الرأس والقائمة بيدها دون أن تنظر إليه: أن دبنه، أه دزوليف، أه بوي، سان جرمن، فيله دي سل، بوله إن كسرل، سالاد أنديف، ركفور، د مي تاس، أه أين دمي بوتاي دي مم سك.
وترجمة ذلك في لغتنا الشريفة، ولكن الترجمة تذهب بلذة هذه الأطعمة الغربية الأسماء، وحسب القارئ أن يعرف أنها تبتدئ بفنجان من الخمر وتنتهي بزجاجة من الشمبانيا ليدرك بعض ما جال في نفس مريم تلك الليلة.
ولما عادت إلى غرفتها بعد العشاء عمدت إلى التلفون فطلبت علبة من السكاير المصرية وجرنال المساء، فجاءها الخادم بالعلبة على صينية من الفضة فتناولتها ووضعت مكانها قطعة من النقود فأحنى الخادم رأسه شاكرا.
أشعلت مريم السيكارة تلو الأخرى وهي تتصفح الجريدة وتفكر في طريقة تحل بها لغز القضاء فيها، فأخذت السطر الأول من أول عمود في الصفحة الأولى من الجريدة والسطر الأخير من آخر عمود في صفحتها الأخيرة، فكتبتهما على ورقة وجمعت كلماتها فإذا هي ثماني عشرة كلمة، ثم جمعت حروفها فإذا هي خمسة وستون حرفا، فضربت العدد الأول بالثاني، ثم قسمت الحاصل على تسعة؛ أي تاريخ ذاك اليوم، ثم على ثمانية عشر؛ أي عمرها فكان خارج القسمة عددا مفردا، ثم أسقطت منه أربعة، وهي عدد الحروف في اسمها فظلت النتيجة عددا مفردا.
فنهضت إذ ذاك ونزعت ثيابها ونامت مطمئنة البال، وذهبت في صباح اليوم الثاني إلى بيت الشركة؛ شركة البواخر، لتعيد تذكرتها، فقبلت التذكرة في الشركة وأعيد إلى مريم بعد إسقاط عشرة بالمائة من الثمن رعي الأصول ما تبقى من المال، فضمته إلى ما معها وعادت إلى النزل تحسب حسابها. - هذه القيمة لا تقوم بنفقاتي في هذا النزل أسبوعا كاملا، علي إذن أن أنقل منه.
وأخذت الجريدة تطالع في عمود الإعلانات منها، فكتبت على ورقة أسماء بعض النزل الخصوصية «بنسيون» وراحت تستكشف خبرها، فتوقفت إلى غرفة في واحد منها تدفع فيه لقاء الأكل والنوم في الأسبوع ما لا يقوم بنفقات يوم في النزل الكبير. - حسنا فعلت، غرفتي في بيت مبارك بالناصرة لم تكن أكبر من هذه والحمد لله أن لهذه شباكا وإن كان صغيرا، ربي! لا أظنه فتح منذ شيد البيت، وهذا المتراكم على زجاجه، لا غبار يعرف ولا دخان ولا صقيع، وقد يكون مزيجا متجمدا منها كلها، لا بأس، وكيف يفتحه، (طق طق طق طق!) وجعلت تدق إطار الشباك بكعب حذاءها.
فسمعت سيدة البيت الطقطقة فجاءت مسرعة. - ما بالك مدموازل. - أحاول فتح الشباك. - لا لزوم لذلك مدموازل لا لزوم لذلك. - بل لازم جدا هل أعيش بلا هواء؟ - الهواء يقتلك مدموازل، نحن في فرنسا لا نفتح الشبابيك قطعيا. - ولماذا الشبابيك إذن؟ - للزينة مدموازل وللنور في بعض الأحايين. - وهل تظنين النور يدخل من هذا الزجاج الأسود؟ أهذا حجابي، لا لا، (طق طق طق!) - قد تكسرين الزجاج مدموازل، فتدفعي ثمنه. - أدفع ثمنه وحبة مسك. - ماذا تقولين، آبا موس؟ - قلت في لغتي مدام: إنني أدفع ثمن الزجاج إذا كسرته، (طق طق طق طق!) والحمد لله فتاح الأبواب والشبابيك، آه، ما أجمل هذا المشهد! - وما أكثر المداخن أمامي، إذا بردت أنظر إليها والدخان يتصاعد منها فتدفئني، الهواء يقتل! الشباك إنما هو للزينة! هذا أعجب ما سمعت في هذه البلاد - بلاد الزينة - سبحان الله، والحمد لله فلا بأس بهذه الغرفة وقد فتحت شباكها، والخمسة أدوار تحتي بل المائة درجة إلى كوخي أصعدها راقصة أتمرن عليها.
وجلست مريم على سريرها تعد مالها ثم قالت: خمسة وثلاثون ذهبا تعيشني هنا أربعة أشهر في الأقل، وإن لم أظفر بمنيتي أثناء ذلك فأقفل هذا الشباك وأستلقي على هذا السرير، وأموت! الله كريم!
Halaman tidak diketahui