ولكنه وعد سارة أن يعمل بوصيتها مهما كلف ذلك، وعدا مقدسا، وهو متيقن أن شعلة الحياة بل شعلة الشباب لم تزل تلتهب في فؤاده، كيف لا وهو لم يزل في الخامسة والثلاثين من عمره؟ ولما شاهد مريم وديعته راعه لأول وهلة جمالها.
فتاة فتانة قد يصفها الشاعر بابنة حورية، وقد يخيل إلى السذج أنها ابنة جنية، وكذلك كانت تدعى في الدير، ولا غرو فقد تجسد فيها شيء من حسن الحوريات ومن صفات مليكات الجن اللواتي كانت سارة تقص قصصهن، سمراء، نجلاء، شماء، حسنة القد، دقيقة الجوانب، في وجهها ما يبهت الناظر إليه فيقف حائرا بين الإعجاب والارتياب، وفي ناظريها شيء آبد لا تقيده صبوة ولا يدنيه اشتياق، إذا ابتسمت أزعجت، وإذا تكلمت أدهشت، وإذا سكتت استهوت، ألا فإن في فمها معنى غامضا لا يدرك سره إلا النساء ومن خبر النساء من الرجال، وفي طرفيه حركة كآبة مستحبة تستحيل إذا ابتسمت حركة استهتار منكرة، شفتها القرمزية الشبيهة بثمرة ناضجة تفشي إذا تحركت أسرار جفنها الدقيقة الشبيه بالألف الفارسية، وهي مع ذلك كريمة الأخلاق، وفوق ذلك ذكية الفؤاد، طامحة النفس، واجفة جامحة معا، ولم يكن يشين حسنها غير تحدب في طرفي جبينها، ولكن الزمان وإن والى العنيد يمحي كلمة العناد من جبينه.
وكانت مريم إذا جاش جأشها تنتفخ أوداجها وتختلج شعرات أنفها. لا شك أن «سيماؤهم في وجوههم»، ولا شك أن ظواهر المرء خداعة في أكثر الأحايين، ولكنها في مريم لم تكن غير صادقة، بل كانت بليغة في صدقها فصيحة في تبيانها، فتحول دون التمويه والمصانعة مهما بالغت النفس المتثقفة بالاجتهاد، ولكن نفس هذه الفتاة لم تزل ساذجة صافية ناصعة، ترسل نورها إلى عينها السوداء الكبيرة دون أن ينعكس في عقلها ودون أن يمر بلبها، ثابتة الجأش، جريئة الكلمة، نفورة مستهترة، لا تهاب أحدا، ولا تستحي أن تجهر بما يكنه فؤادها، تنعت من تحب ومن تكره لا بنعوت التفضيل فقط بل بنعوت تضحك وتغيظ، ولقد طالما قاست العذاب من محوضة طباعها وحرية قلبها ولسانها.
رآها القس جبرائيل ساعة توفيت سارة، ولم يكن يعرفها وما أدرك شيئا من معاني نفسها، ثم عاد بها إلى الدير أصيل ذاك النهار، وكانت شمس الربيع قد مالت إلى الغروب، فأحنت على الأرض بأشعتها الهادئة الناعمة؛ فماجت الألوان في الحقول الخضراء، وعلا الاصفرار جبين جبل طابور، وبدت الناصرة ببيوتها البيضاء وسطوح أديرتها الحمراء كجزيرة كونت من اللؤلؤ والمرجان.
وقف القس جبرائيل في ظل زيتونة قرب الدير، ونظر إلى مريم وقد توهجت من البكاء عيناها، فألقى يده على كتفها يلاطفها ويسكن جأشها، ثم سألها قائلا: هل أنت مبسوطة في الدير؟
فأجابته على الفور: لا. - لماذا؟ فسكتت مريم عن الجواب. - أخبريني يا بنتي ولا تخافي، إني عامل ما يرضيك إن شاء الله ويسرك، أيتعبك الشغل في الدير؟ - لا، أدخلوني المدرسة منذ ثلاثة سنوات، ولا أخدم اليوم إلا في غرفة الأكل. - لماذا إذن لا تحبين الدير، أتظلمك الرئيسة؟ - لا، لا، الرئيسة تحبني كثيرا. - أتضربك المعلمة؟ - ضربتني مرة فأخذت القضيب من يدها وكسرته، فركعتني على الحصى أربع ساعات. - لذلك تكرهين الدير؟ - وحبستني في القبو يومين بلا أكل ولا شرب؛ لأني قلت: إنها مثل الجنية تفتش عن مارد لتربطه بمسبحتها، كنت أعتني بغرفتها وبثيابها، فأعرفها. دخلت عليها مرة فرأيت المارد عندها، المارد القس يوسف خادم الدير، يا ربي، يا ربي، القس الذي يأكل جسد الرب كل يوم ولا يشبع رأيته ...
فأظلم جفن القس جبرائيل وقاطعها قائلا: أنت تكرهين المعلمة إذن ولا تكرهين الدير. - بلى، أكره المعلمة والدير. - ولماذا تكرهين الدير؟ أخبريني ولا تخافي، فلا أبوح بذلك.
فرفعت مريم رأسها قائلة: وإذا بحت لا يهم، أنا دائما أقول للراهبات: «إن الدير مثل الحبس.» وقد ضقت فيه صدرا، أحب أن أتفرج في المدينة، أحب أن أتنزه في البرية، هذه أول مرة خرجت من الدير، ولولاك لما آذنت الرئيسة بذلك، هذه أول مرة مشيت في أسواق المدينة، يا عمري! ما أحلاها وما أحلى دكاكينها وما أحلى روائحها، وما أجمل الزهر في الحقول والورد في مصاطب البيوت، هنيئا لأصحابها - قالت هذا وهي تصعد الزفرات. - وهل تكونين مسرورة في الدير إذا أذن لك بتنزيهة كل أسبوع؟ - لا، لا، لا أحب الدير أبدا، أكره روائح الغرف فيه، وأكره روائح الزيت والبخور، وأكره سكوت الراهبات؛ أدخلتني الرئيسة مرة إلى غرفتها فأجلستني إلى جنبها وأخذت تقبلني وتضمني إلى صدرها وهي ساكتة فخفت منها وصرخت، فهمست في أذني كلمات لم أفهمها، وطفقت إذ ذاك تبكي وهي تحجب وجهها بيديها. - وهل أخبرت أحدا غيري؟ - أي شيء؟ - أن الرئيسة تحبك. - أخبرت سارة فقط، ولكن الرئيسة تحب زلفا كما تحبني وزلفا أخبرتنا كلنا. - الرئيسة تحب كل البنات يا بنتي؛ هي أمكن والأم تحب أولادها، فلا يشق عليك إذا أحبت غيرك مثلك. - سامحني اغفر لي! وأخذت يده تقبلها وهي تقول: خلصني من الدير، خلصني من الدير، آه ما أحلى روائح الربيع في البرية، وقد قالت الرئيسة إنها تلبسني ثوب المبتدئات، فقلت لها: الكفن أحسن. الله يرحمك يا سارة، وعدتني منذ أسبوع أن تخلصني من الدير! وشرقت مريم بريقها وهي تمسح بكمها الدموع المتساقطة على خديها.
فأخذ القس جبرائيل يدها، وقد أعجب بنحافتها وأنيق سبكها ولدن أناملها، فقال وهو يرمقها بعين العطف ويكظم غيظه: سأخرجك إن شاء الله من الدير، ليطمئن بالك.
فقبلت مريم يده شاكرة، ودخلت الدير وهي تضطرب مما تجاذب نفسها من الهواجس والعواطف المتضاربة، فكرت بسارة فاغتمت وذرفت الدموع، فكرت بحالها وبقرب خلاصها من الدير فخفق قلبها جذلا وخفت نفسها سرورا، وفكرت بالراهب فمثلته أمامها بنظراته وبصوته وبعطفه وحنانه، فأحست من نفسها بارتياح يمازجه شعور لم تدرك سره ومعناه، لم يخاطبها أحد حتى ذاك اليوم بمثل صوته الناعم غير سارة، ولم ينظر إليها أحد بمثل عينه الرءوفة غير سارة، وأما نظرات الراهب وكلماته فلمست في قلبها وترا جديدا، فتموجت رناته في عروقها فاهتزت لها كل جوارحها، أحست أن في صدرها عصفورا مقيدا، فمد الراهب إليه يده وفك جناحيه، فراحت تلك الساعة تحلم الأحلام، وتمثل لنفسها نعيما ربيعه لا يزول وجماله لا يحول.
Halaman tidak diketahui