إن كاسياس لفرط حقده وشدة حسده لا يطيق أن يرى «مثل هذا الرجل الواهن القوى قد سبق هذا العالم العظيم إلى ذرا العلاء والسؤدد وأحرز قصب السبق وحده.»
هذا، وإن غريزة حقده وحسده بادية على وجهه، منقوشة على صفحاته، قد قرأها قيصر في غضون أسرته؛ فذلك حيث يقول الزعيم الأوحد: «إن كاسياس هذا شره العين، منهوم النظرات، إنه لمطراق كثير الهواجس، وإن مثله حرى أن يكون خطرا مخوف الجانب.» «ليته أكان أكثر سمنا، أبغني من الرجال كل شحيم مبدان، لين الجمجمة، نوام الليل ...» «لست أخشى كاسياس، ولكني أقول: لو كان لقيصر أن يخاف مخلوقا لما رأى في الناس من هو أولى بالمجانبة من كاسياس، ذلك الأعجف المعروق.» «مثل هذا الرجل لا ينعم البتة براحة بال ما دام يبصر في الدنيا من هو أسمى منه درجة.»
حذقه بالسياسة
كان كاسياس محرزا لكل الصفات التي من مجموعها تتألف المهارة السياسية، أولم يقل عنه قيصر «المشهد الثاني - الفصل الأول»: «إنه كثير الإطلاع دقيق النظر، يستشف بنافذ بصيرته أكناه
5
الأمور ومراميها، ثم هو لا يحب الألعاب مثلك يا أنطانيوس ولا يسمع الموسيقى.»
كان كاسياس داهية أريبا، عظيم الحذق والبراعة، فكان بين زمرة المتآمرين جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب، بعيد الغور، واسع الحيلة، لطيف التدبير، خفي الكيد، قوي الحجة، شديد العارضة لسنا مفوها منطيقا، شديد الإفحام للمعارض، لعوبا بألباب من يخاطب ويحادث، ويعرف كيف ينفث في قلوبهم من الأفكار والأوهام والعقائد ما يشاء ويطبع ميولهم وأهواءهم بالطابع الذي يشاء، وكيف يصب رغباتهم وطلباتهم في القالب الذي يهوي.
وكان فوق ذلك ماضي الهمة صارم العزيمة، سريعا إلى انتهاز الفرص، وكان شديد الحذر والحيطة، ولكنه لم يكن شديد التمسك بناموس الفضيلة، فإذا سنحت له فرصة فائدة أو غنيمة، لم يبال بالمبادئ الشريفة، ولم يتردد في الإخلال بواجبات الفضيلة وفي عق حقوقها وانتهاك حرمتها، وكان لعظم خبرته ومعرفته بطبائع البشر قد أدرك أن الناس كلهم - إلا النادر الشاذ - بعيدون من الكمال، يمكن إغواؤهم، واستهواؤهم، واشتراء ذممهم وضمائرهم بالمال وغيره من وسائل الترغيب والاستمالة.
وهو في جميع مجادلته مع بروتاس كان محقا من الوجهة السياسية، وإن لم يكن كذلك من الوجهة الأخلاقية.
كان كاسياس المؤسس والمدبر والمنظم والمحرك للمؤامرة، كان جرثومة الفتنة ولقاحها وثقابها ومسعرها، وقد كان مضمونا نجاحه لولا رضوخه لآراء بروتاس فيما يتعلق بأهم الشئون والمسائل، أما رضوخه هذا فيرجع إلى:
Halaman tidak diketahui