وكما تمزقت الدولة الإسلامية إلى دول صغيرة كذلك مزقتها الثورات الداخلية لما شاع في الدولة من ظلم وفساد ، وكثرة تعيين الأمراء والحكام وعزلهم، من ذلك مثلا ثورة الزنج في العراق؛ ذلك أن جماعة من شطار العبيد الهاربين من سادتهم الذين أصلهم من أفريقيا الشرقية كانوا يعملون متعهدين لبعض البصريين في كسح السباخ قرب البصرة، فظهر رجل فارسي يدعى علي بن محمد، وكان يزعم أنه ينتسب إلى علي بن أبي طالب وفاطمة من طريق زيد بن علي، ودعا العبيد إلى خروجهم على سادتهم لتحسين حالهم وضمان حريتهم وكسب الثروة لهم، وجاهر بعقيدة الخوارج التي ترفض كل تمييز جنسي، وألف جيشا عظيما لم يستطع أن يقف أمامه سكان البصرة، وأسسوا بلدة تسمى المختارة، واستعمل اللبن في بنائها، فسير المعتمد أخاه الموفق بن المتوكل لقتال الزنج، وقد أوقعوا بسكان البصرة وقت صلاة الجمعة، ونهبوا المدينة، وأخيرا لم يوفق الموفق في ردعهم، فاضطر لمصالحتهم، ثم كانت ثورة الصفارية والطاهرية في إيران، وكان الثوار من الخوارج، وقد أسسوا مقاطعة فيما بين إيران وأفغانستان، واستعملوا اللصوصية والنهب في ذلك الإقليم، وكان في خدمة هذا الزعيم رجل اشتغل في حداثته بعمل الصفر، يدعى يعقوب الصفار، وكان هذا من الشجاعة بحيث أوقع الرعب في نفوس الناس، واستمر هو وصحبه حتى فتحوا مقاطعة سجستان وهراة، ثم هزمهم الموفق بعد حروب طويلة، وقضى على تلك الجماعات الخارجة التي أفسدت أغنى جزء من أراضي الخلافة.
كذلك كان من أكبر الثورات ثورة القرامطة في عهد الخليفة المعتضد، فسببوا هزة جديدة للعالم الإسلامي، وكان زعيم هذه الحركة يدعى حمدان قرمط، ويظهر أن هذه الكلمة آرامية معناها المعلم السري، أنشأ مركزا لأتباعه قرب واسط، وسماه دار الهجرة تقليدا لما فعله رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وكان من دعوته الشركة في الأموال، فكان المريدون يقيمون ولائم يسمونها ولائم المحبة، يشتركون فيها متبعين في ذلك على الأرجح فرقة الصابئة الغنوسطية التي كانت تسكن تلك الديار، ثم خلفه داعية أعظم هو ذكرويه الدنداني، وقد نجح في تحريك الأعراب المقيمين في حدود سوريا، وتسمى بأمير المؤمنين، وأفسدت القرامطة جميع المدن السورية ، ولم يسلم من جيشهم إلا دمشق. وقام بعده أخوه أحمد بالخلافة ولكنه أسر وقتل في بغداد، وما هي إلا فترة قصيرة حتى وفق القرامطة إلى مد سلطانهم في بلاد العرب، وأنشئوا في منطقة البحرين مدينة جديدة عاصمة لهم سميت المؤمنية بدلا من «هجر» العاصمة القديمة، وحكموا هذه البلاد بدعوى أنهم مفوضون من قبل الإمام المستتر، وأخيرا استولوا على مكة، ونزعوا الحجر الأسود من الكعبة، وحملوه إلى المؤمنية بالأحساء، وظلوا فيها حوالي ثلاثين سنة. وهكذا كانت الثورات المخربة في كل قطر في العراق وفارس والشام ومصر وشمالي أفريقيا.
وجاء بعد ذلك الحشاشون، فكانوا ضغثا على إبالة، وجاءوا بعد أن ارتكب البويهيون كثيرا من المفاسد، وقاتل بعضهم بعضا قتالا عنيفا، وهذه الفرقة كانت من أكبر الأعداء الداخليين للبلاد الإسلامية، نشروا فيها الذعر سنوات طويلة، واتخذوا التشيع ستارا لمناهضة الحكومات المختلفة. وكان من أكبر دعاتهم الحسن بن الصباح، ويذكرون أنه كان في شبابه صديقا لنظام الملك وعمر الخيام، ورحل إلى مصر وتثقف ثقافة شيعية على يد الفاطميين، وعرف أتباع الحسن بالنزارية؛ لأنهم انحازوا إلى نزار بن الخليفة المستنصر الفاطمي، واتخذوا ملجأ لهم قلعة ألموت الجبلية على مسافة خمسين فرسخا شمالي قزوين، ونظم جماعته على الطريقة السرية التي عرفت بها الفاطمية، وقسمهم إلى درجات أعلاها المقربون، وعرفوا بالتعصب الشديد، ونشر في الأتباع أن في قتل رجل من أعداء الإيمان الحق وهو الإيمان الفاطمي؛ الخير كل الخير، فلهم إذا ماتوا رضوان الله وجنات النعيم، وسمي هؤلاء القتلة بالفدائيين، وكانوا يتعاطون الحشيش، ولذلك سموا بالحشاشين، ومدوا نفوذهم إلى فارس وسوريا، ولم تستطع الدولة السلجوقية أن تقضي عليهم، وقضوا هم على نظام الملك الوزير المشهور، وأوجدوا الرعب في نفوس الخلفاء والأمراء.
واستطاعوا أن يقوضوا أركان الدول الإسلامية المتداعية، وبسببهم وسبب المظالم والحروب القائمة بين الأسرة الواحدة انقضى حكم السلجوقيين في سرعة بالغة، وفقدوا سلطانهم فقدا تاما.
وكان من نتاج الدولة السلجوقية ظهور عالمين كبيرين، كان لهما أثران متناقضان، ولكنهما يتفقان في النتيجة، وهما: الغزالي وعمر الخيام. فأما الغزالي؛ فقد كان نهبا مقسما بين الدين والعقل، وأخيرا جذبته الصوفية إليها، وقضى إحدى عشرة سنة في عزلة كان معظمها في الشام، ألف في أثنائها كتاب إحياء علوم الدين، وقد ألف القلوب على الصوفية بعد أن كانوا مضطهدين، وكان لسنا بليغا قوي التأثير؛ فحبب التصوف إلى الناس مما شجعهم على التصوف وابتداع فرق متصوفة كثيرة، كما كان من آثاره الإيقاع كثيرا على نغمة الترهيب تقليدا للحسن البصري، وتخويف الناس من الموت وما بعد الموت، وتعظيم سلطان القضاء والقدر، وتفضيل الكشف على التجارب العقلية؛ فإن قلنا إن الإسلام الحاضر هو إسلام أبي الحسن الأشعري والغزالي لم نكن بعيدين عن الحقيقة.
وأما عمر الخيام؛ فقد نسب إليه من الأشعار ما حبب للناس الإباحية والعكوف على الخمر والنساء والأزهار، ويشك كثيرا في نسبة هذه الرباعيات إلى عمر لوجود بعضها في شعر شعراء آخرين، وعدم مناسبتها لما اكتشف من مؤلفاته في الفقه وما وراء الطبيعة وغيرهما.
وزاد الحال سوءا سوء الحالة الاقتصادية؛ فكانت هذه الحالة من أسوأ الحالات، يملك الحاكم أو الملك الأراضي ويعطي من شاء الإقطاعات ليزرعها في حياته مع حفظ رقبتها مملوكة للإمام كسنة عمر بن الخطاب، ثم أفرطوا في زيادة الضرائب وكثرة المصادرات والنهب والسلب حتى لم يستطع أحد أن يكون آمنا على نفسه وماله، وكل ما تحصل ينفقه الملك أو الأمير على شهواته من خمر ونساء وما إليها، حتى لا نستغرب من أول العهد الأموي إلى العباسي إلى الفاطميين إلى الأتراك معدل الوفيات في الملوك؛ فهو نازل جدا يقل عن مستوى العمر العادي لإفراطهم في شهواتهم.
والحياة الاقتصادية هي عماد الحياة الاجتماعية؛ فإن حسنت حسنت وإن ساءت ساءت، ولذلك كانت الحياة الاجتماعية سيئة بسوء الحياة الاقتصادية، وكان العلماء إنما يجدون رزقهم في الاتصال بالملوك والتملق إليهم، ومن لم يصل إلى بابهم كانت عيشته على وقف صغير وإلا عاش عيشة فقيرة، فليس ببعيد أن نقول إن مصائب المسلمين أكثرها من سوء تصرف الحكام من تملق العلماء، ولذلك كان الملوك غالبا يحتضنون العلماء، ويرتكزون عليهم، ويسخرونهم في مصلحتهم من تهدئة للرعية، وأن الله قسم الأرزاق فالغني غني بالقدر، والفقير فقير بالقدر، والسلطان ظل الله في أرضه، وظلم الملوك من ظلم الرعية، وهكذا من التعاليم التي تخدم الملوك وتسيء إلى الرعية وتفسدها بالتذلل والتملق والنفاق.
Halaman tidak diketahui