ثم انقسم المسلمون إلى فرق مختلفة تبلغ نحو السبعين؛ فرقة تتشيع لعلي وفرقة تتشيع للعباسيين وهكذا، وانقسمت كل فرقة إلى فرق مختلفة فرعية، سميت باسم خاص كالكيسانية والسبئية في التشيع، والنظامية والجاحظية في الاعتزال، وصبغوا أنفسهم بالصبغة الدينية بعد أن كانوا أحزابا سياسية تتنازع على الحكم.
وقد كان أمر المسلمين واحدا في صدر الإسلام، وفي الحديث: «إن أهل الكتاب افترقوا في دينهم على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة تفترق على ثلاث وسبعين ملة، كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة» والمراد بعدد سبعين كثرة الخلاف كما في الآية:
إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ، فالإسلام دين التوحيد، وما أمر المسلمون إلا ليعبدوا إلها واحدا، ويكونوا أمة واحدة لا يفرقهم نسب ولا لغة ولا وطن، وقد نهوا عن التفرق كما نهوا عن الكفر، ولكن ظهر الإسلام في الأميين فلم تكد الأمم والشعوب تتبين تعاليمه حتى دخلوا فيه أفواجا، ثم جاء قوم مثقفون في أديانهم ودخلوا في الإسلام، وطبقوا بعض ما عرفوا منه على ما كانوا يعرفون من أديانهم، وفلسفوا الدعوة؛ فكان هذا كله من أسباب تفرق أهله شيعا ومذاهب ودولا، كل حزب بما لديهم فرحون، حتى عدوا على التوحيد نفسه بالتوجه إلى غير الله ودعوة سواه.
وبجانب التفرق في العقائد تفرق في المذاهب، ولا يعرف الجمهور من هذه المذاهب إلا أربعة.
وأما التفرق باختلاف اللغة والجنس والوطن، فله في العصر الحاضر دعاة من المتفرنجين هم أشد آفة من دعاة التفرق للمذاهب؛ فمنهم من يفتخر بالفراعنة ومن يفتخر بالفينيقيين، وقد كان هذا الخلاف يقبل ويحتمل لو صحبته الحرية والتسامح، ولكن مني قوم بالعصبية، تعصبوا لفرقتهم ضد غيرهم، وأباحوا لأنفسهم ما لم يبيحوا لغيرهم؛ فكان الخلاف سببا للنزاع والفرقة.
وكان على يد المتوكل التنكيل بالفئة الحرة التفكير المسماة بالمعتزلة، ونصرة أهل الحديث وعلى رأسهم أحمد بن حنبل.
وكان طبيعيا بعد ذلك أن يسود العالم الإسلامي الجمود؛ فلا يستمعون لمصلحة ولا يلبون دعوة إصلاح، ومبدؤهم القديم على قدمه، من أمثلة ذلك أن السلطان سليم الثالث العثماني قد تولى منصب السلطنة، وقد اضطرب أمر الدولة العثمانية، وأشرفت على السقوط لتغلغل الفساد في جسم الفرقة الإنكشارية، وانحلال قوى الدولة بانحلال قوى الجندية العثمانية، وانحطاط نظامها إذا قيس بنظام الجند الأوروبي الذي ظهر يومئذ بمظهر جديد مبني على الأصول العلمية والاختبارات الفنية، فخشي السلطان إن هو لم يأخذ بأصول الجندية الجديدة ولم يرتب جيشه ترتيب الدول الأوروبية له؛ أن تكتسح هذه الدول مملكته العظيمة؛ إذ ظهرت له بوادر الخطر يومئذ باحتلال نابليون لمصر، وتحفز الروس للوثوب على القسطنطينية، ونزوع أهل المورة للثورة، فعزم عزما أكيدا على تنظيم الجندية العثمانية، وقبول الإصلاحات الأوروبية في البحرية والعسكرية، وإلغاء الجندية الإنكشارية، ورأى أن تعريض حياته الشخصية للخطر مع جنود الإنكشارية خير من تعريض المملكة لهجوم الدول الأوروبية، ومصير الدولة العثمانية للزوال، فقاومه علماء الدين مقاومة شديدة، وفي مقدمتهم عطا الله أفندي شيخ الإسلام في عصره، وحرضوا عليه العامة، وأثاروا عليه الضغائن بحجة أنه يريد التشبه بالإفرنج، وما زالوا يكافحونه مع الإنكشارية ويكافحهم؛ حتى تغلبوا عليه، وخلعوه ثم قتلوه. وجرت بعد ذلك أمور يطول شرحها على عهد خلفه السلطان مصطفى، والذي يليه السلطان محمود. وقد تشجع السلطان محمود؛ فأهرق سيولا من الدماء في القضاء على نظام الإنكشارية وأهلها شر قضاء، وكذلك ما أشيع من أن الخديوي إسماعيل في مصر جمع طائفة العلماء ونصحهم بأن يختاروا من المذاهب الفقهية الأربعة ما يناسب الحالة الحاضرة فأبوا إلا أن يكون الفقه فقه أبي حنيفة تقليدا للسلطنة العثمانية، فأعرض عنهم، وأنشأ المحاكم الأهلية، والمحاكم المختلطة، وقصر عملهم على مسائل الأحوال الشخصية، وسميت محاكمهم بالمحاكم الشرعية وهكذا.
ثم مني المسلمون بعد ذلك بالأتراك وحكمهم وسلطانهم، جلبهم المعتصم سنة 218، واستقدم سنة 220 قوما من بخارى سمرقند وفرغانة وأشروسنة، وغيرها من البلاد التي نسميها تركستان وما وراء النهر؛ لما عرف عنهم من الشجاعة في القتال، فأظهروا الشغب في بغداد فبنى لهم «سر من رأى» ومكن لهم في الأرض، وكما كانوا قوة للدولة في أول أمرهم كانوا آخر الأمر مصيبة كبرى على المسلمين، وبعد أن كان السلطان أول الأمر للعرب وحدهم كما هو الشأن في عهد الأمويين. كان النزاع بين العرب والفرس في عهد العباسيين الأولين، ثم كان بين الفرس والعرب والأتراك من عهد المعتصم، وهم عنصر شجاع في الحرب يصل الإسلام إلى ظاهرهم وقلما يصل إلى قلوبهم، يعتزون بجنسيتهم ولا يقيمون وزنا لجنسية غيرهم؛ فلم تمض اثنتا عشرة سنة حتى كان السلطان كله بيد إيتاخ التركي، فكان في يده الجيش كله من مغاربة وأتراك وموال وبربر وعرب، ثم لعبوا بالخلفاء كلعبهم بالكرة، ثم كان من أمرهم أن قتلوا المتوكل أول الأمر، ثم أمروا المنتصر أن يخلع أخويه المعتز والمؤيد، وأمروا المستعين أن يخلع نفسه، واشتعلت الفتن، واختاروا من الخلفاء من كان ضعيف الإرادة قليل الحيلة حتى ينعموا بالسلطان بجانبه، ومع ذلك قتلوا بعضهم، وسملوا أعين بعضهم، وانتهكوا الحرمات، وصادروا الأموال، وكان الوالي منهم يسرف على نفسه ما يسرف ثم يبني مسجدا أو سبيلا أو ضريحا أو نحو ذلك؛ ظنا منه أن هذا يغفر له كل ما تقدم.
ومني المسلمون منهم بالعسف والقسوة والجور والاستبداد، ولم يكن لهم شأن يذكر في الناحية الفكرية إلا ما ندر؛ فإذا عنوا بشيء من الدين فظاهره لا باطنه، وقشوره لا لبه، فإن رأيت تدهورا في العقيدة، وإيمانا بالخرافات والأوهام، وكثرة في السلب والنهب، إلى جانب كثرة في الأضرحة والخانقاهات والسبل وما إلى ذلك فاعلم أنه صنيع الأتراك.
وكانت الضربة القاسية للإسلام والمسلمين على يد المغول، قال الخميسي في تاريخه:
Halaman tidak diketahui