ولكن الموكب لن يبدأ حتى يستقبل الملك وفود القبائل والمدائن الذين أتوا إليه من أودية اليمن البعيدة؛ ليؤدوا له تحيتهم قبل أن يخرج من صنعاء إلى الحرب التي عقد النية عليها. سيذهب أبرهة كما قال إلى مكة بعد يوم واحد، وسيهدم كعبتها حتى يزيل من الأرض رجس الوثنية، ويجعل العرب جميعا يحجون إلى كنيسته البديعة، وودت لو كان أبرهة عربيا. كان رجلا رحيما طيب القلب، لا يدع فرصة إلا انتهزها ليبدي لها جانبا من رحمته، ولو كان عربيا لما أحست شيئا يشوب إعجابها به ورضاءها عنه. فما تلك الكعبة التي لا تزيد على ركام من الحجارة تحيط بها تماثيل شوهاء لآلهة زائفة؟ أين تلك الكعبة من القليس التي بناها أمهر صناع القسطنطينية ومهندسوها لكي يمجد فيها اسم المسيح؟ ولكن متى يبدأ الموكب والشمس ما تزال تدب بطيئة في السماء؟
ونزلت إلى البستان لتجول فيه جولة حتى تحين ساعة الموكب، وتمنت لو لقيها سيف هناك، كانت خطاها مترددة كأنها كانت تخشى أن يراها أحد في مثل هذه الساعة من الصباح خارجة من مخدعها، وقد يحسب أنها ذاهبة إلى هناك لعلها تراه. وذهبت إلى المجلس الساكن تحت ظلال أشجار الجوز، وكانت المقاعد المرمرية تباري أشعة الشمس الوردية التي كانت تطل من بين الأغصان والجذوع. هناك كانت آخر مرة لقيها سيف وحدثها. وعاد صوته يرن في أذنيها وهو يصف لها مهره الأبيض الذي أهداه إليه أبوه، وكيف كان يسبق الوحش في غير مشقة. ألم يكن عجيبا أن يكون سيف من ولد أبرهة؟ كان يشبه ريحانة، الملكة العربية في نظرة عينيه وفي دقة حاجبيه وفي صورة شفتيه. كانت تتأمل هاتين الشفتين المملوءتين بالحياة كأنهما هما اللتان تتحدثان، وكان في صوته غنة تشبه ... ماذا تشبه؟ ولم تجد كذلك وصفا يصدق على نبرات صوته عندما كان يتحدث إليها. ولكنه كان على كل حال لا يحمل شيئا من شبه أبرهة، فأين هو وأين مسروق أخوه الذي ولدته ريحانة؟ كأن الملكة الحسناء أودعت في ولدها الأول كل حياتها وكل فنون طبيعتها الصافية. كان مسروق يشبه أباه في لونه وفي قصر قامته، وهو مستدير الملامح والأعضاء، له نظرة تشبه نظرة البقرة، فأين هو من سيف الذي يطلع مثل غصن السرو في دقة عوده وطول قامته؟ وأين هو من سماحة وجهه ومن نظرته التي تذكرها بلمعة النجم في الليلة الصافية؟ وأما بكسوم بن أبرهة الأكبر فما أشبهه بأبيه في وجهه وهامته، وإن كان في ضخامة قامته يتطوح كالنخلة الباسقة. وكان شعاع عينيه العابستين أشبه بلمعان السيف الصقيل، فيهما بريق يبعث البرد إلى فقرات الظهر، وأما صوته فكان مثل رنين النحاس، جافا كأنه كتلة من مادة. لا شك أن أمه الحبشية كانت تستطيع أن تروض الفهود التي تحوم في الغابات في طلب فريستها. ثم بسباسة ابنة أبرهة، أتكون ابنة ريحانة حقا؟ كانت لا تحمل منها شبها إلا أن يكون شعرها الطويل الفاحم. ووقع في نفس خيلاء ما يشبه أن يكون غيرة، وتنفست نفسا عميقا فيه شيء من الحسرة. وخطر لها عند ذلك سؤال كان يخطر لها بين حين وحين، فيضيق به صدرها ويشرد منها النوم حتى تقوم إلى جانب تمثال العذراء، فتجثو عنده تصلي وتدعو حتى تنقشع عنها وساوسها. من هي؟ وما علاقتها بكل هؤلاء الذين تعيش بينهم في غمدان؟ بل ماذا أتى بها إلى ذلك القصر؟ وهي لا تعرف صلتها بأحد ممن فيه؟ وماذا عسى تقول بسباسة عنها إذا خلت إلى نفسها؟ أما تقول في سرها: «من هذه الفتاة العربية التي تعيش معنا؟»
وما عسى ريحانة الوديعة تقول عنها فيما بينها وبين ضميرها؟ بل ماذا يقول سيف عنها؟ وأرادت أن تصرف عن ذهنها ذلك السؤال الذي أوشك أن يملأ قلبها قلقا ويفسد عليها بهجة منظر الصباح، وكبحت نفسها في شيء من العنف كأنها تؤنبها على الاسترسال مع هذا الوسواس الذي يخطر لها آنا بعد آخر، فما الذي يعنيها من كل تلك الأسئلة وهي ترى مكانها في غمدان عزيزا كريما؟ لقد نشأت فيه منذ طفولتها لا تعرف شيئا من هذه الصلة ولا تسأل عن شيء، بل إنها كانت تعرف دائما أن هذا القصر هو موطنها الذي لم تعرف غيره. لم يسألها أحد ممن فيه عن نفسها، ولم تسأل هي أحدا عن شيء من نفسها. لم تعرف شيئا سوى أنها عربية مثل ريحانة، فهكذا قالت الملكة النبيلة لها كأنها تفخر بها، وماذا ينفعها أن تعرف أمرا لا يزيدها شيئا ولا ينقصها؟ ماذا يجديها لو عرفت اسما قيل لها إنه اسم أبيها، واسما آخر قيل له إنه اسم أمها؟ بل ماذا يجديها لو عرفت كل نسبتها وأنها تتصل بملوك حمير القدامى؟ بل ما لها تذهب إلى كل هذا وقد تكون معرفة ذلك النسب باعثة لها على البؤس والشعور بالمذلة؟ ماذا يكون لو عرفت أن أباها كان أحد المساكين من الأعراب العراة الذين يظهرون لها في طريق المواكب أحيانا؟ بل ماذا لو عرفت أنها لم تكن سوى طفلة بائسة وجدوها ذات يوم ملقاة عند باب القصر، فتحركت شفقة الملكة عليها فضمتها إلى جناحها؟ وكانت في أثناء سبحها في الخيال تنظر إلى الأغصان تتأملها كيف تتداخل وكيف تتعانق، وإلى أشكال أوراقها وصور ثمارها. كان بعضها منسرحا لينا غضا، وبعضها معقدا جافا، وبعضها يمتد بظله الوارف، وبعضها يسمو بجذعه الفارع. حتى الأشجار لا يشبه بعضها بعضا، وحتى الغصون لا تتساوى في هيئتها وإن كانت فروع شجرة واحدة، فهل تزيد الشجرة أو تنقص شيئا إذا هي لم تعرف من غرسها؟ أين كانت ثمرتها الأولى التي خلقت بذرتها؟ ألم يكن لها أصل ونسب كسائر الخلق؟ لا شك أنها انحدرت من بذرة شجرة أو من فرع غصن كما انحدرت بسباسة وكما انحدرت ريحانة نفسها، فلم تفسد الصباح بالاسترسال في هذا الوسواس العقيم الذي لا يستطيع أن يعقب شيئا سوى الاضطراب؟ ولمع لها شخص يقبل من بعيد يلوح شبحه خفيا من خلال جذوع الشجر، فانتفضت وصرفت وجهها عنه حتى لا يحسب أنها كانت تترقب حضوره، إنه هو! ومرت لحظات طويلة، ثم اقترب الشخص حتى ظهر لها من خلال جذوع الشجر، ولكنه لم يكن سوى أحد خدم البستان يبكر إلى عمله ليجمع ما تساقط من الأوراق الصفراء في ساعات الليل، ويقطع الأعواد الجافة الناشزة من الفروع المتدلية. وسبحت في حديث مع نفسها مرة أخرى: «إنه عربي من هؤلاء التعساء الذين يعملون في قصر غمدان منذ الصباح الباكر إلى المساء، في جمع الأقذار أو مسح الأوضار وخدمة الدواب، فإذا ما فرطوا في شيء أو استراحوا لحظة أهوى الحراس الأحباش على ظهورهم بالسياط. وإذا كانت سياط الأحباش تلهب ظهورهم بين حين وآخر فإن هناك سياطا أخرى تلهب أرواحهم في كل لحظة، لا تدع لهم سلاما في ليل ولا نهار، ولا تعفيهم من العذاب حتى في خلواتهم؛ سياط الجوع والخوف. هي سياط لا نراها بأعيننا، ولكن الأشقياء يحسونها إحساسا أقوى من الرؤية وأشد من اللمس، ويتضاعف عليهم العذاب أن يحسوا به في أنفسهم ويروه فيمن يحيون، ينظرون إلى أبنائهم وبناتهم وهم أطفال أو صبية يتضورون من الجوع ويسيرون عراة وينامون على صفعات حانقة، يوقعونها هم أنفسهم عندما تضيق صدورهم من اليأس.»
وانتفضت خيلاء تريد أن تبعد عن ذهنها تلك الأفكار المزعجة، وقلبت بصرها لعلها تقع على سيف كأنها تلتمس النجاة، إنها عندما تحدثه تحس أن الحياة أقل تعاسة، وأن الأمل أقرب مما يخيل إليها في وحدتها، ولكن السؤال عاد إليها في لجاجة وعنت: «من كان أبي؟ ومن كانت أمي؟ أم ولدت هكذا بغير أبوين كما تنبت حشائش البر؟» وتذكرت يوم كان سيف معها تحت هذه الشجرة نفسها، فرأى أحد الحراس الأحباش يلهب بسوطه ذي الأطراف الرصاصية ظهر رجل مثل هذا المسكين، عندما كان يترنح بين الأشجار ليلتقط الأوراق الذاوية، وأسرع سيف إلى الحبشي فنزع منه السوط وأهوى به عليه. ولم يكن عجيبا أن يغضب سيف لمثل هذه القسوة، ولكن غضبته ملأت قلبها إعجابا وشكرا ... وحبا أيضا، إن كان هناك ما يمكن أن يزيد قلبها حبا له. ماذا يكون لو كانت هي ابنة لأحد هؤلاء الأشقياء؟ أتكون هكذا ذليلة هزيلة كالكلاب الضالة؟ أهما الجوع والخوف اللذان يولدان الذل في نفوسهم؟ أم هي نفوسهم الذليلة التي تجعلهم يسقطون في مهاوي الجوع والخوف؟ أما يستطيعون أن يهبوا للدفاع عن أنفسهم إذا ألهبت ظهورهم السياط؟ أيخشون الموت؟ وأي موت أشد مما هم فيه من البلاء؟
ورفعت يدها إلى عينها عندما أحست عليها غشاوة من الدمع، فمسحتها وقامت تسير في ظل الممشى لعل الحركة تذهب عنها هذه الهواجس المفزعة.
ولما اقتربت من العربي النحيل مدت إليه يدها بقطعة من الذهب، وعجبت عندما فزع كأنه يهرب منها، فدعته في رفق حتى أنس وعاد إليها مترددا، وأخذ الدينار ينظر إليه نظرة غريبة، ثم أسرع عنها بغير أن ينطق بحرف. المسكين! إنه يشبه كلبا طالما تعود أن يضرب بالعصا، فلا يأمن اليد التي تمتد إليه بقطعة من الطعام.
وسارت بين أحواض الزهر اليانعة وفي نفسها شيء من التوزع، وكان الندى ما يزال يخضل الأوراق ويزيد ألوان الزهر نضرة وبهاء، ولكن أسمال العربي البائس كانت ترف دونها. «إنها إهانة للإنسانية أن تهب الطبيعة هذه المباهج إلى جنب المقاذر التي يهوي الإنسان إليها!» هكذا كانت خيلاء تحدث نفسها في حنق. وكانت السحب البيضاء تتسابق في السماء مقبلة من الجنوب، وترددت أصوات الطير وهي تتواثب وتتداعى فوق الغصون، واستمرت خيلاء في تفكيرها: «هذه الطيور لا تعرف سادة وليس فيها أغنياء وفقراء، وقد تتطاحن فيما بينها، وقد يقتل الصقر عصفورا، ولكنها لا تتخذ عبيدا.» وعادت إلى القصر مسرعة إلى مخدعها وقلبها يخفق؛ خوف أن تقع عليها عين أحد، أو أن يراها سيف عائدة من البستان في تلك الساعة. أكانت هناك تنتظره؟ وكان شعورها بالخيبة يزداد مع كل خطوة حتى صار أشبه بالحزن. ولما صارت وحدها استندت بذراعها على جانب النافذة وتقاطرت دموعها. وكانت الشمس قد علت في السماء وأخذت الحركة تدب في فناء القصر، ولكنها لم تلمح صورة سيف هناك.
الفصل الثاني
قال الراوي:
قضى سيف ليلته ساهدا وهو مستلق على أريكته في المخدع والنوم لا يواتيه مع أفكاره المضطربة التي كان يسبح فيها. كان يحس كأن عقله رحى تدور فارغة، يعلو ضجيجها ويأخذه منها الدوار حتى يكاد يذهل. ومع ذلك كان يتنبه أحيانا فيسأل نفسه فيم يفكر؟ فلا يجد في فكره شيئا. ولم تكن تلك الليلة أول عهده بتلك الرحى الفارغة؛ فقد كان منذ شهور يتحدث إلى نفسه مثل تلك الأحاديث المضطربة الجوفاء، لا تفارقه ضجتها إذا سار وإذا جلس وإذا أكل وإذا خرج إلى نزهة. كان لا يعبأ بشيء مما يرى ولا بشيء مما يسمع، كأن العالم كله قد انطوى في داخله في تلافيف ضبابة. ولكنه إذا وجد نفسه في صحبة إنسان هربت تلك الأحاديث فلم تنطلق من لسانه؛ لأنها لم تكن أحاديث ناطقة مؤنسة، بل هي أقرب إلى أخيلة متصادمة تشبه الرياح في زوبعة. حتى خيلاء، حتى خيلاء كان لا يجد معها حديثا إذا لقيها، حتى إذا ما خلا إلى نفسه بعد ذلك تدفقت أقواله إلى خيالها. وهم مرارا أن يشكو ما به إلى أمه ريحانة، ولكنه لم يجرؤ على ذلك لأن تلك الأحاديث كانت في تلافيفها الغامضة تتصل بها. وماذا يقول لها؟ أيسألها عن خواطره المبهمة الشوهاء التي تكاد تتهمها؟ أم يسألها عن معنى تلك الأحلام التي كانت تعتاده بين ليلة وأخرى وهي تكشف عن ضعفه أو سخفه؟ وهم مرارا كذلك أن يشكو إلى صديقه الشيخ الطيب أبي عاصم، ولكنه لم يجرؤ، فما كان أحراه إذا سمع شكواه أن يظن به الخبل أو يحسب به مسا من الجن. ومع ذلك فإنه لا يكاد يرى ذلك الشيخ بعد أن كانت دروسه أشهى ساعات حياته، يقضيها في صحبة خيلاء، فيستمعان إلى ما عنده من علم وحكمة، ويهيمان معا في عالمهما. فمنذ اعتراه ذلك التغير الذي اعتراه منذ أشهر، انقطع عن ساعات الدرس لكي يشقى وحده مع هواجسه. ومع ذلك فقد غادر أبو عاصم القصر كله وذهب إلى داره البعيدة في حقل صنعاء، وصار لا يلم بالقصر إلا في فترات متباعدة. وبدت له الحياة خالية موحشة، كأنها لعنة منبوذ خلى الناس جميعا بينه وبين نفسه، حتى هؤلاء الرفاق الذين كان يخرج معهم إلى الصيد أو النزهة في الأودية اليانعة ضاق صدره بهم وبأحاديثهم وكبريائهم. كانوا من أبناء القواد الأحباش، ولا يترددون أن يتحدثوا تحت سمعه في سخرية عن سادة اليمن من القدامى، كأنهم لا يعبئون بأن أمه عربية؛ ريحانة ابنة ذي جدن. وكانت كبرياؤهم تبعث الحنق إلى صدره كلما أهانوا العرب المساكين الذين يجاهدون في الحقول أو في مراعي السفوح المعشبة، فكان يباعدهم ويتملص من صحبتهم بمعاذير مختلقة أحيانا، ويؤثر تلك العزلة التي يصاحب فيها وساوسه. وأراد مرارا أن يجادل نفسه ليحملها على أن تنظر كما ينظر هؤلاء الرفاق، وتلهو كما يلهون، وتعبث كما يعبثون، ولكنه كان لا يلبث أن يمتلئ منهم حنقا، بل كان أحيانا يثور بهم ويعنف عليهم. كان دائما يحس أنه موزع غير متماسك، كأنه خلق من طينتين، لا يدري أينبغي له أن يكون حبشيا مثل أبيه أبرهة؟ أم عربيا مثل أمه ريحانة؟ ولكنه كان لا يغضب لشيء حبشي، ولو كان له الاختيار لما اختار سوى جده ذي جدن.
Halaman tidak diketahui