تقديم
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
تقديم
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الوعاء المرمري
الوعاء المرمري
تأليف
محمد فريد أبو حديد
قصة جهاد بطل وأمه، من حياة سيف بن ذي يزن بطل اليمن.
تقديم
أكتب هذه القصة تذكارا لقطعة عزيزة من حياتي، وأهديها إلى هزة الشباب الكبرى في عام 1919.
كانت ليلة من ليالي فبراير سنة 1919 قبل أن تتفجر الثورة الكبرى، التي كانت كامنة في النفوس تنتظر الشرارة التي تشعل لهيبها، وكان القمر التام يغمر المنزه المنعزل الذي جلسنا فيه في حدائق القبة، وكانت إذ ذاك في عالمها الشعري الوديع قبل أن ينزل بها العمران إلى زحمة الحياة العابسة، وهبت النسمات الدفيئة علينا في ظلال الأشجار المبعثرة في المنزه كأنها تبشرنا بقرب مقدم ليالي الربيع. وكان الناس يجلسون حولنا أزواجا أزواجا يتلفتون في حذر من العيون الفاحصة، وهم يتناجون في همسات خافتة تحت أنوار مصابيح تتهامس كذلك بأشعتها الضئيلة. كان ذلك قبل أن يطلع على فتيان مصر وفتياتها برق المدنية الحديثة، وقبل أن تزول عنهم الغلالة الرقيقة التي كانوا يتسترون بها إذا أرادوا أن يختلسوا ساعة لقاء.
ومرت بنا الساعات سريعة ونحن في حديثنا لا نلتفت إلى شيء مما حولنا، وكان صوتنا يعلو أحيانا في حماستنا، فنتلفت خشية أن نعكر الصفاء على الأزواج القريبة من مجلسنا، فما لهؤلاء السعداء الذين كانوا يتبادلون أماني الحياة المزدهرة، ويتعاطون خفقات القلوب الخالية التي هزها الربيع المقبل ، ما لهؤلاء وما نحن فيه من أحاديث ملتهبة حانقة تنبعث من الثورة الثائرة في أعماق قلوبنا. كنا جمعا من الشباب لا يعدو أكبرنا سن الخامسة والعشرين، ولكنا كنا قد قفزنا عبر الشباب، فلم نكد نلم بشيء من عبثاته السعيدة، ولم ندرك عند ذلك مبلغ إسرافنا في ساعاته، وما أسرع طيرانها! كنا لا نحسن من شبابنا إلا تلك الدفعات العنيفة التي لا تحمل شيئا من روائح الشباب العطرة. وكانت الحرب العالمية الأولى قد هدأت في ميادينها فجأة كما تهدأ العاصفة العاتية فجأة، ولكن الحطام الذي تخلف عنها كان ما يزال ماثلا في كل الأركان، يثير رعبها ومخاوفها وقلقها، كأنها ما تزال تتوثب لغضبة أخرى؛ فلم يكن في نفوسنا شيء غير سؤال واحد نردده في أحاديثنا: «ماذا يكون من أمرنا في مصر بعد أن هدأت العاصفة؟» كنا لا ندري ما يكون حالنا غدا وهذه الركام المخيفة تغطي وجه الأرض من حطام الحرب، أقد انتهت الحرب الكبرى التي ثارت من أجل الحرية كما قيل، كي نصبح نحن فنجد أنه قد حيل بيننا وبين الحرية التي ما زلنا ننشدها؟ كانت الأحداث والأحوال كلها تنم عن نية مستورة في شد القيود والأغلال في أيدينا وأعناقنا، فهل كانت الحياة تستحق أن نحياها إذا كان المقدور لنا أن نصبح للأجنبي عبيدا؟ وبدت لنا الحياة المقبلة طويلة هزيلة شاحبة شوهاء، حتى إن الموت نفسه كان في أعيننا أهون من تأملها. وكان ولسن رئيس الولايات المتحدة قد أعلن شروطه الأربعة عشر؛ فتنفسنا ارتياحا وحسبناه نبيا، وحسبنا أن تلك الشروط تصبح الأساس المتين لعالم جديد نستطيع أن نحيا فيه مع أمانينا، وكنا نحفظ ألفاظها حرفا حرفا، ونردد عباراتها بقلوب واجفة مترددة بين الأمل والخوف. وسألنا أنفسنا مرة بعد مرة: أحقا يقوم عالم جديد على مثل هذه المعاني العليا؟ كان كل حرف منها يفتح أمامنا بابا من الأمل، كأنه قد أنزل على الرئيس وحيا من السماء يقصدنا. ولكن الواقع الذي شهدناه بعد ذلك ولمحنا اتجاهه كان في كل يوم يكذب آمالنا ويزيد مخاوفنا وضوحا، فما السبيل إلى الخلاص من المخاطر البشعة التي تهدد حياتنا ونحن من أمة تحس وجودها؟ كنا نحس وجودنا في الحاضر كما نحس وجودنا القديم، ولكنا كنا لا نرى المخاوف تزداد في كل يوم إلا تجسما.
فتساءلنا: ماذا نستطيع أن نصنع إذا أردنا الجهاد وهذه الجيوش المنتصرة تملأ رحاب القاهرة والإسكندرية وسائر العواصم تباهي بقوتها وتزهي بنصرها؟ كانت تروح وتغدو في كل مكان بسلاحها الضخم وكتائبها الكثيفة تعلن للملأ أنها هناك، فما نلقى منها إذا اصطدمنا يوما بها؟ أهو الموت؟ إذن فلتكن هبة هوجاء لا نبالي فيها ما يكون؛ إذ لم يبق أمامنا إلا الاختيار بين العبودية وبين الموت. وتأملنا ذلك الاصطدام الرهيب الذي كان لا بد لنا منه، وثبت في روعنا أن الموت قد أصبح أمنية نحلم بها ونتطلع إليها ونبتسم إذا بلغناها. وهل أحب من الموت إذا كانت الحياة لا تدخر لنا إلا أن نعيش فيها عبيدا نطعم ونكسى ونكد تحت أقدام سادتنا؟ إذن فهو الحنق، وهو الغضب، وهو الثورة التي لا تفكر في عاقبة. وإن بطن الأرض خير من ظهرها إذا كان ظل الحرية لا يرف عليها.
هذا ما كان يضطرب في نفوسنا، وهذا ما جعلنا في سن الخامسة والعشرين نقفز عبر الشباب ولا نتنسم شيئا من نسائمه.
وكانت ليلة الربيع الأول الساحرة وشعاع القمر الذي ينفذ من خلال الغصون الممتدة في أرجاء المنزه والسكون الشامل ومنظر الأزواج السعيدة المتهامسة، كان كل ذلك يزيد نفوسنا ثورة وعنفا، فهل كانت الحياة الذليلة التي نستقبلها جديرة بأن تبتسم لها الطبيعة مثل هذه الابتسامة أو تخفق فيها القلوب مثل هذه الخفقات العاطفة؟ بل هي حياة لا يليق بها إلا أن تتجهم لها السماء وتمطر الأرض حمما، وأن تتحجر لها القلوب، فلا تمتلئ إلا بالحقد والبغض والقسوة. وتنبهنا بعد حين إلى ما حولنا، يدفعنا شيء يشبه الغيرة أن نرى السعداء على خطوات منا لا يبالون شيئا مما يضطرم في قلوبنا، ولكنا لم نجد حولنا إلا مقاعد خالية، وقد أطفأ الخدم أكثر المصابيح التي تتدلى من الأغصان، وجاء صاحب المنزه يحوم حولنا كأنه يذكرنا بأن هذه الجلسة قد امتدت بنا إلى أكثر من حقها، وكان وجهه ينم عن شعور غامض، ولكنه واضح ناطق، شعور الذي يرى صقرا يحوم فوق سرب من الحمائم الوديعة.
ونظر بعضنا إلى بعض في صمت، ثم هم واحد منا قائما، فقمنا وراءه على تفاهم صامت، ونحن نحس شيئا من الخيبة. إن المجلس لم يمتد بنا حتى نبلغ ما نشاء من أحاديثنا، ولم يبلغ بعد ما يشفي غليل صدورنا. وسرنا في الطريق الساكنة المتعرجة التي كانت عند ذلك تصل بين منزه الحدائق وبين العمران في (غمرة). ومضينا في حديثنا ونحن نسير على مهل في ظلال أشجار اللبخ، وأغصانها تتعانق من جانبي الطريق فوقنا كأنها نفق يخترق الفضاء المضيء.
وبلغنا ميدان الحسينية قبل منتصف الليل، وكان النسيم ما يزال يهب وديعا والبدر الباهر يتوسط السماء الصافية، والأنوار الساطعة تنبعث من الحوانيت والمنتديات الشعبية التي تحف بالميدان، ولاحت لنا حلقة حافلة في منتدى كان قائما عند مدخل الطريق الضيق المؤدي إلى المدينة. وكان في وسط الحلقة شاعر ينشد على ربابته ويقص على الجمع الخاشع قصته. وكان في رنين إنشاده من بعيد ما يوائم نبضات قلوبنا المضطربة، فقال واحد منا: «ما ترون في مشاركة هؤلاء؟» فما هو إلا أن قال ذلك حتى اتجهنا إلى المنتدى في موافقة صامتة.
وكان الشاعر شيخا لا أذكر أن عيني وقعت على مثل صورته، كان أشبه بخيال أو بصورة في إحدى اللوحات الفنية التي يخلد بها مبدعوها. كان نحيفا معروق الوجه، له لحية خفيفة وخطها الشيب، ولكن عينيه الكليلتين كانتا تبصان بنور لامع يخالطه سيال وديع يشعر بشجن دفين. وكان يلبس عمامة بيضاء ذات عذبة تضطرب على كتفه إذا تحمس في إنشاده. ومضى في إنشاده بصوت متهدج تنم نبراته عن حركة نفسه وحرارة وجدانه. وكانت ربابته تصاحب إنشاده بلحن عميق يملأ جو المنتدى بأصدائه، وهو يعلو حينا ويخفت حينا، ويرق في مواضع ويعنف في أخرى مسرعا أو مبطئا، مبتهجا أو حزينا، والجمع من حوله ينصت في لهفة. كان ينشد كأنه يحدث نفسه بحلم يراه خلال سنة من النوم، أو يناجي أطيافا تظهر له من عالم مستور يهتف له بأسرار الإنسانية التي ما زالت منذ القدم تملأ قلوب البشر أملا، وتجعل لحياتهم مقصدا. ولمحت عليه عند أول مقدمنا شيئا من التردد يكاد يكون ضيقا وكراهة، فمن هؤلاء الأغراب الذين يأتون إلى مجلسه في مثل تلك الساعة من الليل يقتحمون الجمع الخاشع الذي حوله في شيء من الزهو، كأنهم يتنازلون بالذهاب إلى هناك للاستماع إليه؟ وهل تقع قصته في نفوسهم موقعها في نفوس الجمع الساذج الذي اعتاد الاستماع إليه؟ أجاءوا للمتعة أم جاءوا للسخرية؟ ولكن الجمع تحرك في دهشة وفسح لنا مجلسه عندما رآنا نقبل عليه. ولاحت على الوجوه بسمات عاطفة كأنها اغتبطت أن ترانا نقبل على المتعة التي تتمتع بها. كانت تلك الوجوه تشعرنا نحن كذلك بشيء جديد يشبه أن يكون وحيا. أليس هؤلاء قومنا الذين نستند إليهم إذا عصفت العاصفة يوما؟ فتبسمنا في بساطة وجهرنا بالتحية، وكان الرد عاليا بنبرات مؤنسة. أليس هؤلاء هم إخواننا الذين يطلع عليهم الغد كما يطلع علينا؟ أهي العبودية معا أم هي الحرية معا؟ ولم يخل قلبي من الألم عندما نظرت إلى وجوههم الباسمة، ألسنا مقصرين نحن الذين يدعون أنفسهم بالمثقفين في أن نتقرب إلى هؤلاء وأن نتعرف إلى هؤلاء؟ كانوا ينظرون إلينا نظرة المضيف إلى الضيف. لم نكن منهم وإن أدخل مقدمنا الأنس إلى قلوبهم. ولعل ذهابنا إلى منتداهم قد زاد فيهم الرضى عن أنفسهم وعن المتعة التي يختصون بها وحدهم، فنحن (الأفندية) نذهب للجلوس بين الجمع الحاشد الذي يزحم الطريق، ونسعى لمشاركتهم في شرب القهوة والخشاف وتدخين النارجيل المكركرة.
وبعد أن هدأت حركة اللقاء الأولى مضى الشاعر في إنشاده مرة أخرى وقد لانت نظرته وذهب أكثر تردده، وإن كان بين حين وحين يرفع بصره إلينا في نظرة سريعة؛ ليلمح ما كان يبدو على وجوهنا من الرضى أو السخرية .
منذ تلك الليلة صرنا من قصاد ذلك المنتدى البلدي، نذهب إليه معا إذا اجتمعنا، أو وحدانا إذا لم ندبر اجتماعا، حتى أصبح لنا بعد قليل ملتقى مختارا. ولم نلبث أن صرنا أصدقاء الجميع، وعرفنا الأفراد شخصا شخصا، وعرفنا من هناك بأسمائنا. وكانوا يحتفظون لنا بمجالسنا، فإن غبنا ليلة أو ليالي أو تأخر حضورنا سألونا أين كنا؟ وكان لهذه الصداقة الجديدة أثرها العظيم عندما شبت الثورة الكبرى في مارس من ذلك العام، كنا نجتمع هناك كل ليلة في المنتدى ندبر مع أصحابنا خطط الجهاد في سبيل الحرية. وكان لهذه الصداقة أثرها في تهدئة الخواطر عندما كادت الفتنة تقع بين أهل الحي وبين النزلاء من طوائف اليهود والأرمن. ألا ما أجلها من ذكرى! إن هذا الشعب جدير بأن يكون أكرم مما هو، وأقوى مما هو، وأسعد مما هو.
وهذه القصة التي أكتبها اليوم بعد مضي أكثر من ثلاثين عاما على تلك الأيام البعيدة ما هي سوى تحية، أؤديها لذكرى اللحظات المجيدة التي كنا نجاهد فيها بأنفسنا ونسخو فيها بأرواحنا، لا نسأل أحدا عليها أجرا ولا شكرا. وهي بعد ذلك تحية لهؤلاء الأصدقاء الذين كنا نجلس إليهم في ليالي النشوة الثائرة ثم فرقت الأيام بيننا. ثم هي تحية للشاعر الذي ما زالت صورته ماثلة في الذكرى، وإن كان اليوم يثوي في مضجعه الأبدي، لا يذكر أحد أن أناشيده القوية الوثابة كانت تحرك قلوب طلاب الحرية نحو عزمات الغد الطالع من ضمير الغيب. وهذه القصة هي بعض الأصداء الباقية في القلب من تلك الأناشيد البارعة التي كانت القلوب تتجاوب لها، عندما كانت تضطرب وتأمل وتخلص وتصادق في غير تحفظ، عندما كان الأفق البعيد يبدو جميلا صريحا، تفيض عليه أنوار ساحرة، عندما كانت الأيدي تسخو بقليلها والقلب يجود بكثيره، عندما كانت الصور والمعاني أثمن وأكثر قوة من الحقائق والمادة.
وبدأ الشاعر ليلة من الليالي ينشد قصة سيف بن ذي يزن عندما طلبنا ذلك إليه، لنملأ نفوسنا بصورة من ذكرى المجاهد العربي القديم، فأودع الشيخ النحيل إنشاده كل حرارة قلبه المشتعل، وكان يترجم في أنغامه وألفاظه ما في قلوبنا من نبضات حية. كان يعرض الصور علينا ويسوق الحوادث في بيانه كأنها قطع من الحياة التي تضطرب فينا، وكان يتحدث على ألسنة الأشخاص كأنها نفوس جاءت معنا لتشاركنا، وكان يلقي علينا أسجاعه في أمواج من النغم تتلاحق وتتداخل مطربة مشجية، فيها تقاذف الحياة بالأحياء، وفيها طعوم الآلام المرة والآمال العذبة، وفيها نشوة الحب وجراح المعارك. وقال في أول إنشاده: «هل الحياة إلا صور متجددة تتجسد في جيل بعد جيل في شخوص شتى، وإن كانت حقيقتها واحدة؟»
وكان في إنشاده يشخص ببصره فوق رءوس الجمع، كأنه لا يرى أمامه شيئا سوى الصور التي يراها وحده سابحة في عالم غير منظور. وكنا نستمع إليه في صمت ونكاد نعلق أنفاسنا في صدورنا. ولو استطعت أن أعيد كلماته ولفتاته، وأن أثبت قصته كما قالها حرفا حرفا وإشارة إشارة، لما استطعت أن أبين أصداء إيقاعه ولا حركات الأفئدة التي كانت تصغي إليه. وأنى للألفاظ أن تحمل فوق طاقتها أو أن تبعث من المشاعر ما لا تستطيعه بطبيعتها؟ وهل الألفاظ سوى أداة صنعتها الإنسانية من مادتها وأبدعتها من فطرتها؟ ما كان لألفاظنا المحدودة أن تسمو إلى غير أفقها ولا أن تصور ما يدق عن بيانها. ليست هذه الألفاظ سوى أستار نسجها الإنسان بيديه لكي يسدلها على مكنون ضميره؛ لترمز إلى ما وراءها إذا عجز اللسان عن الإفضاء بمعناه. وما كان لها أن تصور رؤى شاعر يسبح وحده في عالمه إلا كما تدل الرموز الغامضة على الأقداس الخفية. فحسبي إذن أن أردد هنا ما وعته ذاكرتي من تلك الأناشيد التي كانت دماؤنا تتدفق مع أصدائها، وأن أقنع بما يتهيأ لي من لفظي وبياني مع الاعتراف بالقصور، وشتان بين الصادح والحاكي، وبين الأصيل والدخيل.
وكان أول نشيده يشبه أن يكون اعتذارا، وإن كان يخفي في ثناياه أقوى معاني الاعتداد بكبرياء نفس طليقة. قال: «أيها السادة الكرام، إليكم قصة صاغها الزمان من أحداثه وأنشدتها الليالي في نغمها الصامت، قد طالما صاحب الزمان الأحياء كما يصاحبنا اليوم، وطالما عابث الناس كما يعابثنا في الأصباح والأماسي.
وهو يدور بالبشر في حركته الأبدية، لا يفرق بين قديم وحديث، ولا يميز بين قوم وقوم. له حكمته الصارمة، لا يحابي ولا يعادي فيها، ولا يعرف الأشخاص ولا الأمم ولا العقائد ولا ألوان الشعوب. وهو لا يعبأ بما كانت الحياة تكسوهم به من مظاهر تعارف الناس عليها فيما بينهم، من ملوك وسوقة، وعظماء وصغار، وعلية وسفلة، بل يناديهم جميعا بأسمائهم مجردة ويعرفهم بحقائقهم مكشوفة. يصف الجميع بأوصافهم الصادقة، ولكنه لا يتهم ولا يمدح، هو هادئ هدوء الأبدية، عادل عدل الأزلية، صارم نافذ، ولكنه لا يعرف رحمة ولا قسوة. وهو يضم الذين عاشرهم بالأمس إلى أولئك الذي مضى بهم من قرون، يودعهم جميعا في رحبة واحدة؛ لأنهم أخذوا فرصتهم في الحياة ومضوا عنها، ولا سبيل لأحد منهم إلى معاودة الكرة فيما كان.
هو يعاشر هذه البشرية ويشهد حركتها ويعرف دخائلها وكوامن أسرارها، ويرى كل جيل وهو يستقبل الحياة، ثم يراه وهو يودعها، ولا يمل أن يستعيد المنظر المعاد مرة بعد أخرى. كل فرد يستقبل حياته جديدة ويحس حرارتها، ويذوق منها سعادتها أو شقاوتها. يحمله الشباب حينا في فلكه المذهب، وينساق به حينا مع تياره الدافق، ويحسب أنه يجرب ما لم يجرب أحد من قبله، ويدرك ما لا يدركه أحد غيره، يذوق الحب فيحسب أن أحلامه الساحرة لم تخطر قط على قلب، وأن الأودية الغامضة ذات الألوان الزرقاء الرفيقة لم تكشف أستارها لأحد قبل أن تتكشف تحت عينيه المسحورتين. وهو يقارف حالات الحياة من سلام واضطراب، وسعد وشقاء، وخوف وأمن، فيظن أنه أول من ذاق حلو الحياة ومرها. ولكن الزمان يرمقه باسما وينادي بصوت خفي قائلا: «هكذا كانوا دائما.»
وما نحن أيها السادة في حياتنا سوى بعض مشاهد هذا الزمان القديم الجديد، نحس ما أحس من كانوا قبلنا، ونجرب على الأرض في مغامرتنا مثل ما جربوا، فلسنا سوى قصص معادة فيما نشهد من مباهج الحياة أو مآسيها. فإذا سمعتم أيها السادة قصتي فطربتم أو جزعتم، ووثبت هممكم أو خشعت، فإنما هي هزات قلوب بشرية ترى صورتها في مرآة، فاستمعوا أيها السادة إلى أنشودتي، فهي قصة كل منكم؛ لأنها لمحة من المغامرة الإنسانية الكبرى، مغامرتها القديمة الجديدة في حياتها على الأرض منذ خلق الله الإنسان. والبشر يتلاقون ويتفرقون، وقد ينقطع ما بينهم أبد الدهر، فلا يذكر أحدهم الآخر إلا أن تسنح ذكرى عابرة عقيم في لحظة من اللحظات، ثم تمضي كما يومض البرق ويخلف وراءه الظلام، وقد تتعقد الأمور وتتلاقى خطوط سير البشر، فتصبح للناس قصة يتناقلها بعضهم من بعض ويستوحون منها الحكمة.
وهذه القصص التي تخلفها الأجيال وراءها هي أثمن ما فيها؛ لأنها تراث الإنسانية الأكبر، فيها صور خالدة من حالات النفس التي أبدع الله نشأتها. وهذه الصور قد تختلف في ملامحها وفي ألوانها، وقد تتعدد بيئاتها وتتباين أزياؤها وطرائق تفكيرها، قد تكون في الجبل، أو السهل، وفي الغابة أو الصحراء أو في المدينة المزدحمة، وقد تتجلى في معابد الأوثان أو مساجد الوحدانية، ولكنها في جوهرها واحدة خالدة.
استمعوا أيها السادة إلى قصتي وإلى أنغام ربابتي، لا، بل إنني وأنا أنشد لكم أستمع إليها معكم. ولقد سرت في أنحاء المدينة كل حياتي، وعرفت أركانها، وغشيت نواديها، وسمعت منشديها، فأنا أعلم أين تقع قصتي، وأيان يبلغ إنشادي. أعرف أن الآخرين قد يكونون أعلى صوتا، وقد تكون حلقاتهم أكثر من حلقتي عددا، ولكني لست أبالي ما يقولون عن أنفسهم ولا ما يقول الناس عنهم، فإني أعرف أنهم محجوبون عن عالمي الذي أستمد منه صوري وأستوحيه ألحاني. ولست أكذبكم في قولي أنني أكثركم طربا وأشدكم نشوة في هذه الساعات التي أنشد لكم فيها، ففيها أحس وجودي وأتمتع بحريتي وأبلغ حقيقة إنسانيتي. وكلما أخذتني النشوة وجدت أنني أسمو إلى آفاق علا، يحيط بي فيها السلام وترف من حولي السعادة. وعند ذاك يتضاءل في قلبي كل ما يحسبه الناس في الحياة عظيما، ويضعف عندي كل ما كنت أظنه قويا من إغرائها ومن فتنتها، فلا المجد يستهويني ولا الغنى يغريني، ولا شيء من مادة الأرض تثقل وجودي. فأنا هناك في عالم ليس فيه إلا صور شفافة تسبح سبح الأرواح في دعة واطمئنان ورضى وسعادة، وقد تجردت من أستارها وجهرت بحقيقتها. فأنا أعرفها وهي تعرفني، وآنس إليها وتأنس إلي، لا تخفى عني خافية من ضمائرها ولا أسر عنها سرا من ضميري. نتعبد جميعا في محرابنا العلوي بعيدين عن الغرور والرياء، فما دمت هناك مع تلك الأرواح أجدني ساميا فوق صغائر الأماني وتوافه الشجون، التي تلعب بألباب البشر وتسخر من عقولهم كما يسخر السراب من عقل السارب الظمآن إذ يهيم على وجهه في الصحراء.
هنالك أستطيع أن ألمح معنى الجمال الصادق والحب الصافي، وأن أخلو إلى الحقيقة خاشعا عابدا مخلصا، لا ترهبني عنها خشية ولا تطمعني عندها مثوبة؛ لأنها هي الأفق الأجدر بأن يكون غاية الغايات. قد أجد الجمال في الزهرة الضئيلة بين رمال الصحراء، كما أجده في الراعية الفقيرة في أسمالها البالية، كما أجده في العذراء الطاهرة التي تمد يدها إلى جريح تواسيه. وإذا كانت جنة عدن هي جزاء الصالحين على ما قدموا من الصالحات، فإن أعلى طبقاتها تنتظر الذين كانوا يقدمون الحسنة ولا يطمعون في الثواب. فالحسنة في ذاتها جمال، وفي جمالها وحده جزاؤها. الحب جميل، والرحمة جميلة، والإيثار والصدق والجود كلها جميلة، تذوق النفوس الصادقة جمالها وتتملى بلذتها، ولا تبغي من ورائها ثوابا.
هناك أيها السادة في هذا العالم المستور أجد جزائي وثوابي، لا أبالي شيئا مما يتطاحن عليه الناس من الأدعياء. فأنا حر سعيد ما دمت أنشد وأستمع إلى نغم ربابتي، فإذا أمسكت صحوت من أحلامي وهربت مني صوري وعدت إلى عالم الأحياء، أعيش منهم قريبا وإن كنت بينهم غريبا. سأنشد لكم وأنشد ليلة بعد ليلة، ولكم أن ترضوا إذا أرضاكم ما يصدر عني، ولكم أن تنكروا كما شئتم إن بدا لكم من ذلك ما لا يروقكم. لكم أن تصفقوا استحسانا، أو تظهروا استهجانكم بغير مداراة! فهذا حق لكم. أما أنا فما أقصد إلا أن أظهر ما عندي مما يهتز له فؤادي، وما أودعته ثمرة حياتي، وأسلت فيه عصارة روحي، فإذا وقع عندكم موقعه عندي زادت بذلك سعادتي، وإلا فلست أسألكم شيئا إلا أن تشعروا في قلوبكم الرحمة، فالرحمة أعظم ما يعطي إنسان وأثمن ما ينال إنسان.»
الفصل الأول
قال الراوي:
أطلت خيلاء من نافذة مخدعها في أول الصباح، وكانت الشمس ترسل أول أشعتها تتدسس بها بين جذوع الأشجار، وخلال أوراق الغصون، وعلى رءوس الربى الخضر المحيطة بقصر غمدان. وكانت رءوس جبلي نقم وعيبان ما تزال متسترة وراء غلالة رقيقة من الضباب، ترمق الشمس من وراء نقابها الشفاف، كأنها حسناء منعمة تطل من ثنايا أستار قصرها الشامخ لتجتلي طلعة ملك في موكبه. وكان في الجو عطر لطيف لا تشبهه عطور الزهر، يسري في الكون خفيا لا يدركه الحس، ولكنه يملأ النفس بهجة، ويشيع فيها شجوا هادئا.
وكانت الآفاق تبدو في النور الخافت وسنى ساكنة، وإن كانت تنبض بمثل نبضات الأمواج الهادئة في البحيرة الصافية، وتتردد منها أغنية صامتة لا تقع في الأسماع، ولكنها تبلغ أبعد أغوار القلب. أو هكذا أحست خيلاء وهي تفتح نافذتها المرمرية في مخدعها، وتطل على مروج صنعاء الفسيحة الباسمة. وأخذت تملأ صدرها من النسيم الفاتر الذي يحمل رسالة الخريف الوديع من البساتين المزدهرة الممتدة حول القصر. أهو الخريف؟ أهو الخريف الذي تذبل فيه أوراق الأشجار وتصفر وترف متساقطة مع هبات الهواء؟ أم هو الربيع قد عاد أدراجه مترددا متشبثا بحقل صنعاء اليانع، لا يريد أن يتخلى عن بساتينه ومروجه؟ وأجالت خيلاء بصرها في المنظر الممتد تحت عينيها، وكانت الأحاديث الصامتة تتردد في سرها منسابة في رفق كما ينساب ماء الجدول الصافي في ظلال الخمائل. ورأت هنالك تلك الشجرة الضخمة التي تبسط أغصانها على ممشى البستان، وذلك الطريق الملتوي الذي يخرج من بين الشجيرات كأنه يتفلت منها مداعبا. ما كان أبهج الألوان في ذلك الصباح، كأنما هي باقية على ما كانت عليه في أصائل الربيع ، عندما كانت الأزهار تتفتح ضاحكة متبرجة، لا تداري مرحها ولا تتواضع في المباهاة بحسنها. وهنالك الركن الظليل الذي تعرش فوقه أعواد الياسمين، وتلك الربوة التي تتسلق عليها الأعواد المدادة وتلف خيوطها الدقيقة على ما يعترض سبيلها من فروع النبات، حتى تتوكأ إلى القمة وتدلي بعناقيد زهرها الأحمر، كالعروس إذا جليت ليلة الزفاف. لقد مضى حين طويل منذ تلك الأماسي السعيدة التي كانت خيلاء تمرح فيها هناك مع سيف. ولقد شهدت هذه الأركان الظليلة كل مشاهد السعادة التي مرت بها في حياتها. هناك كانت تلعب مع سيف في أيام الصبا، وهما يسابقان ظلهما ويتفننان في صياغة العقود من الأزهار، ويتسلقان الربوة ليطلعا من فوقها على أعشاش العصافير في أعالي الشجر، ويرقبا يوما بعد يوم هل خرجت أفراخها من بيضها؟ وهل كسا الزغب أجسادها الحمراء المرتعشة؟ وهل استطاعت أن تهز أجنحتها وتطير جافلة وراء أبويها إلى أعالي الغصون، ثم تقف هناك تنظر إليهما وهي لاهثة كأنها تعابثهما. وسألت خيلاء نفسها: أما زال سيف في صنعاء ولم تره منذ أسبوع؟ أيكون في غمدان وهي تترقب كل يوم أن تلمحه في بعض مماشي البستان أو في جانب من البهو، فلا يلوح لها ولا يسعى إلى لقائها؟ لشد ما تغير سيف في تلك الأسابيع الأخيرة. كانت كلما رأته توقعت أن يقبل عليها باسما في خجل يعتذر إليها من انقطاعه عنها، ويحدثها عما عاقه عن لقائها من صيد أو نزهة، ولكنه كان ينظر إليها مرتبكا مضطربا، ثم يستأذن فيمضي سريعا كأنه يهرب من لقائها. أهو سيف الذي نشأ معها وأنس إليها وكان لا يستطيع أن يذوق طعاما ولا أن يطيب له سمر إلا معها؟ أهو سيف الذي جعلها ترى في الربيع ما لم تره عين، وتسمع من أناشيد الحياة ما لم تسمعه أذن؟ أهو سيف؟
أكان يحيي فيها تلك السعادة لكي يذيقها من بعد مرارة الوحشة وقلق الخوف والشك؟ وما الذي اعتراه فجعله يغيب عن القصر أياما قد تمتد إلى أسابيع، فإذا ما عاد من غيبته الطويلة لم يسرع إلى تلك المسارح التي كانا يمرحان فيها معا، ولم يسع إليها معتذرا يداري ذنبه في ابتسامته الوديعة؟ وما ذلك الذي ينزوي به في مخدعه فلا يكاد يبرحه، حتى إذا لقيها عفوا في ساعة لم يزد على تحية قصيرة يعقبها صمت، ثم يمضي عنها كأنه يجمجم في نفسه حديثا خفيا؟ كانت خيلاء إذا رأته وتلاقت نظراتهما بعثت إليه عتابا لا يمكن أن يخفى عليه. كانت نظراتها تكاد تصيح به حانقة، ومع ذلك فقد كان يغضي مسرعا ثم يغلق نفسه دونها. وسألت نفسها: أيكون في موكب اليوم؟ أيذهب إلى الكنيسة في موكب أبيه الملك؟ أم يتخلف عنه كما تخلف من قبل مرارا؟ وذكرت يوم ذهبت في أول موكب إلى الكنيسة العظمى يوم افتتحها الملك أبرهة مع رسول قيصر، كان يوما لا تنساه، كأنه علم في حياتها.
وكان سيف في ذلك اليوم يركب مهره الأبيض الذي أهداه إليه أبوه ويسير وراء هودجها، تراه كلما نظرت من ثنايا الستور الحريرية، وهو ينظر نحوها باسما. ثم جلس في الكنيسة إلى جنبها، وكان يرتل معها بألفاظ رومية، وكلما أخطأ في لفظ وقف حتى يتبع صوتها، وكاد يضحكها إذ كان يبدل كلمات الترتيل بأخرى من عنده عربية لا تتسق مع الصلاة. أيذهب سيف في موكب اليوم؟
وارتدت خيلاء من النافذة وعلى قلبها سحابة، فذهبت إلى ركن مخدعها نحو تمثال فضي بارع الصناعة ليسوع الطفل في مهده، وأمه العذراء إلى جنبه، تمد كفيها نحوه في عطف، وترنو إليه في حنان وخشوع. وكان ذلك التمثال هدية أهداها إليها الملك الطيب أبرهة إظهارا لإعجابه بتقواها وحماستها لديانة المسيح. وكانت العذراء حاميتها، تلجأ إليها في سعادتها كما تلجأ إليها في قلقها واضطرابها، وكان المسيح سيدها وملاذها، تتجه إليه ليزيد قلبها حبا وسلاما. ونظرت إلى الصورة بقلب متلهف وهي تكاد تسمع منها أصداء المحبة والرحمة التي كانت تنبعث من الأم الطاهرة البتول إذ تناغي وليدها.
وجثت في صمت وضمت كفيها وأمالت رأسها تصلي، وقلبها يسبح شجيا يمتزج فيه القلق والأمل، وكانت صلاتها الصامتة حارة تتجه فيها إلى منبع الحب الفياض؛ ليزيد قلبها حبا. وأحست بعد قليل أن السلام يغمرها، فقامت كأنها ألقت عن صدرها ما فيه من هم وملأته أملا. وذهبت خفيفة إلى خزانة الملابس لتختار الثوب الذي تلبسه لموكب اليوم، فسوف تذهب مرة أخرى إلى الكنيسة العظمى التي جعلها أبرهة آية من آيات الإبداع؛ ليظهر فيها ديانة المسيح على الوثنية البلهاء. وحانت منها نظرة إلى المرآة المعلقة على جدار المخدع، فتعلقت بالصورة التي بدت لعينيها، ولمست بأطراف بنانها جانب شعرها الأسود الغزير، وتبسمت عندما تذكرت سؤال سيف لها عن ذلك الخال الأسود الذي يتوسط خدها. أحقا سميت خيلاء من أجل تلك النقطة السوداء التي كان سيف يحدثها عنها كلما لقيها؟ كان يقول لها إن ذلك الخال الأسود بقية من جلدها القديم أيام كانت من قوم أبرهة. وكانت هي تفاخره بأنها عربية مثل الملكة ريحانة. وصرفت بصرها عن المرأة في شيء من التردد، وقد أحست بما يشبه الخجل من شعور الغرور الذي خامرها.
واختارت ثوبا حريريا أبيض تزينه خيوط من الذهب والفضة، وقطع من الجواهر المؤتلقة في مواضع أزراره. وكان الثوب من صنع القسطنطينية العظمى، وهو من هدايا قيصر إلى صديقه أبرهة اعترافا بفضله في خدمة المسيح. ولطالما حدثها سيف عن أمنيته في زيارة عاصمة قيصر، تلك العاصمة الكبرى التي تبعث مثل هذا الثوب الرائع، وما يكون أروعها من رحلة لو تحققت، فذهبت مع سيف يريان معا من عجائب الأرض ما لا يخطر على قلبها. وحملت الثوب إلى النافذة فرفعته بين يديها ليستقبل من ورائها نور الصباح متلألئا، ولكن الشمس لم تشرق بعد. ألا ما أبطأ الشمس في طلوعها من وراء الأفق! ألا يكون سيف قد خرج إلى البستان ليملأ صدره من نسيم هذا الصباح؟ وعادت تسأل نفسها: أيذهب اليوم إلى الكنيسة ويجلس بجانبها؟ وعادت إليها صورته يوم ذهبا إلى هناك معا وجلس إلى جانبها، وكانت أصوات الترتيل ترن بين الجدران جليلة عميقة كأنها تسبيح الملائكة. أيجلس إلى يسارها كما جلس من قبل ويهمس في أذنها همسات خافتة في أثناء الصلاة؟ كان يحدثها مرحا عما سمع عن القسطنطينية وعن قصر خليفة المسيح فيها، وكان متدفق الهمسات ظريف الفكاهة، حتى إنه لم يصمت في أثناء الصلاة. كان الكهنة يرتلون صلوات لا يفهم منها حرفا، والناس من ورائهم ينشدون جماعة. وكانت هي تحفظ ذلك الترتيل كما تحفظ أغنية عذبة، وهمس سيف عندما تعثر في ترتيله الرومي قائلا: ألا يفهم الله الصلاة إلا بالرومية؟ عفا الله عنه فإنها سوف توصيه إذا رأته ألا يعود إلى مثلها. ولكن أيحضر موكب اليوم؟ أم يتسلل من مخدعه كما تسلل في أيام أخرى، فيغيب أياما يقضيها حيث لا تدري؟
وأتمت زينتها في احتفال وعناية، وتلك الأحاديث تتردد في ضميرها، ثم عادت إلى النافذة تقلب بصرها في الأفق، وكانت الشمس قد زحفت بطيئة في طرف القبة اللازوردية، وأخذت تمسح بأشعتها على خصل الأغصان الخضر. ودبت الحركة في جوانب القصر فاترة، كأنها تتمطى في أول يقظتها.
ولكن الموكب لن يبدأ حتى يستقبل الملك وفود القبائل والمدائن الذين أتوا إليه من أودية اليمن البعيدة؛ ليؤدوا له تحيتهم قبل أن يخرج من صنعاء إلى الحرب التي عقد النية عليها. سيذهب أبرهة كما قال إلى مكة بعد يوم واحد، وسيهدم كعبتها حتى يزيل من الأرض رجس الوثنية، ويجعل العرب جميعا يحجون إلى كنيسته البديعة، وودت لو كان أبرهة عربيا. كان رجلا رحيما طيب القلب، لا يدع فرصة إلا انتهزها ليبدي لها جانبا من رحمته، ولو كان عربيا لما أحست شيئا يشوب إعجابها به ورضاءها عنه. فما تلك الكعبة التي لا تزيد على ركام من الحجارة تحيط بها تماثيل شوهاء لآلهة زائفة؟ أين تلك الكعبة من القليس التي بناها أمهر صناع القسطنطينية ومهندسوها لكي يمجد فيها اسم المسيح؟ ولكن متى يبدأ الموكب والشمس ما تزال تدب بطيئة في السماء؟
ونزلت إلى البستان لتجول فيه جولة حتى تحين ساعة الموكب، وتمنت لو لقيها سيف هناك، كانت خطاها مترددة كأنها كانت تخشى أن يراها أحد في مثل هذه الساعة من الصباح خارجة من مخدعها، وقد يحسب أنها ذاهبة إلى هناك لعلها تراه. وذهبت إلى المجلس الساكن تحت ظلال أشجار الجوز، وكانت المقاعد المرمرية تباري أشعة الشمس الوردية التي كانت تطل من بين الأغصان والجذوع. هناك كانت آخر مرة لقيها سيف وحدثها. وعاد صوته يرن في أذنيها وهو يصف لها مهره الأبيض الذي أهداه إليه أبوه، وكيف كان يسبق الوحش في غير مشقة. ألم يكن عجيبا أن يكون سيف من ولد أبرهة؟ كان يشبه ريحانة، الملكة العربية في نظرة عينيه وفي دقة حاجبيه وفي صورة شفتيه. كانت تتأمل هاتين الشفتين المملوءتين بالحياة كأنهما هما اللتان تتحدثان، وكان في صوته غنة تشبه ... ماذا تشبه؟ ولم تجد كذلك وصفا يصدق على نبرات صوته عندما كان يتحدث إليها. ولكنه كان على كل حال لا يحمل شيئا من شبه أبرهة، فأين هو وأين مسروق أخوه الذي ولدته ريحانة؟ كأن الملكة الحسناء أودعت في ولدها الأول كل حياتها وكل فنون طبيعتها الصافية. كان مسروق يشبه أباه في لونه وفي قصر قامته، وهو مستدير الملامح والأعضاء، له نظرة تشبه نظرة البقرة، فأين هو من سيف الذي يطلع مثل غصن السرو في دقة عوده وطول قامته؟ وأين هو من سماحة وجهه ومن نظرته التي تذكرها بلمعة النجم في الليلة الصافية؟ وأما بكسوم بن أبرهة الأكبر فما أشبهه بأبيه في وجهه وهامته، وإن كان في ضخامة قامته يتطوح كالنخلة الباسقة. وكان شعاع عينيه العابستين أشبه بلمعان السيف الصقيل، فيهما بريق يبعث البرد إلى فقرات الظهر، وأما صوته فكان مثل رنين النحاس، جافا كأنه كتلة من مادة. لا شك أن أمه الحبشية كانت تستطيع أن تروض الفهود التي تحوم في الغابات في طلب فريستها. ثم بسباسة ابنة أبرهة، أتكون ابنة ريحانة حقا؟ كانت لا تحمل منها شبها إلا أن يكون شعرها الطويل الفاحم. ووقع في نفس خيلاء ما يشبه أن يكون غيرة، وتنفست نفسا عميقا فيه شيء من الحسرة. وخطر لها عند ذلك سؤال كان يخطر لها بين حين وحين، فيضيق به صدرها ويشرد منها النوم حتى تقوم إلى جانب تمثال العذراء، فتجثو عنده تصلي وتدعو حتى تنقشع عنها وساوسها. من هي؟ وما علاقتها بكل هؤلاء الذين تعيش بينهم في غمدان؟ بل ماذا أتى بها إلى ذلك القصر؟ وهي لا تعرف صلتها بأحد ممن فيه؟ وماذا عسى تقول بسباسة عنها إذا خلت إلى نفسها؟ أما تقول في سرها: «من هذه الفتاة العربية التي تعيش معنا؟»
وما عسى ريحانة الوديعة تقول عنها فيما بينها وبين ضميرها؟ بل ماذا يقول سيف عنها؟ وأرادت أن تصرف عن ذهنها ذلك السؤال الذي أوشك أن يملأ قلبها قلقا ويفسد عليها بهجة منظر الصباح، وكبحت نفسها في شيء من العنف كأنها تؤنبها على الاسترسال مع هذا الوسواس الذي يخطر لها آنا بعد آخر، فما الذي يعنيها من كل تلك الأسئلة وهي ترى مكانها في غمدان عزيزا كريما؟ لقد نشأت فيه منذ طفولتها لا تعرف شيئا من هذه الصلة ولا تسأل عن شيء، بل إنها كانت تعرف دائما أن هذا القصر هو موطنها الذي لم تعرف غيره. لم يسألها أحد ممن فيه عن نفسها، ولم تسأل هي أحدا عن شيء من نفسها. لم تعرف شيئا سوى أنها عربية مثل ريحانة، فهكذا قالت الملكة النبيلة لها كأنها تفخر بها، وماذا ينفعها أن تعرف أمرا لا يزيدها شيئا ولا ينقصها؟ ماذا يجديها لو عرفت اسما قيل لها إنه اسم أبيها، واسما آخر قيل له إنه اسم أمها؟ بل ماذا يجديها لو عرفت كل نسبتها وأنها تتصل بملوك حمير القدامى؟ بل ما لها تذهب إلى كل هذا وقد تكون معرفة ذلك النسب باعثة لها على البؤس والشعور بالمذلة؟ ماذا يكون لو عرفت أن أباها كان أحد المساكين من الأعراب العراة الذين يظهرون لها في طريق المواكب أحيانا؟ بل ماذا لو عرفت أنها لم تكن سوى طفلة بائسة وجدوها ذات يوم ملقاة عند باب القصر، فتحركت شفقة الملكة عليها فضمتها إلى جناحها؟ وكانت في أثناء سبحها في الخيال تنظر إلى الأغصان تتأملها كيف تتداخل وكيف تتعانق، وإلى أشكال أوراقها وصور ثمارها. كان بعضها منسرحا لينا غضا، وبعضها معقدا جافا، وبعضها يمتد بظله الوارف، وبعضها يسمو بجذعه الفارع. حتى الأشجار لا يشبه بعضها بعضا، وحتى الغصون لا تتساوى في هيئتها وإن كانت فروع شجرة واحدة، فهل تزيد الشجرة أو تنقص شيئا إذا هي لم تعرف من غرسها؟ أين كانت ثمرتها الأولى التي خلقت بذرتها؟ ألم يكن لها أصل ونسب كسائر الخلق؟ لا شك أنها انحدرت من بذرة شجرة أو من فرع غصن كما انحدرت بسباسة وكما انحدرت ريحانة نفسها، فلم تفسد الصباح بالاسترسال في هذا الوسواس العقيم الذي لا يستطيع أن يعقب شيئا سوى الاضطراب؟ ولمع لها شخص يقبل من بعيد يلوح شبحه خفيا من خلال جذوع الشجر، فانتفضت وصرفت وجهها عنه حتى لا يحسب أنها كانت تترقب حضوره، إنه هو! ومرت لحظات طويلة، ثم اقترب الشخص حتى ظهر لها من خلال جذوع الشجر، ولكنه لم يكن سوى أحد خدم البستان يبكر إلى عمله ليجمع ما تساقط من الأوراق الصفراء في ساعات الليل، ويقطع الأعواد الجافة الناشزة من الفروع المتدلية. وسبحت في حديث مع نفسها مرة أخرى: «إنه عربي من هؤلاء التعساء الذين يعملون في قصر غمدان منذ الصباح الباكر إلى المساء، في جمع الأقذار أو مسح الأوضار وخدمة الدواب، فإذا ما فرطوا في شيء أو استراحوا لحظة أهوى الحراس الأحباش على ظهورهم بالسياط. وإذا كانت سياط الأحباش تلهب ظهورهم بين حين وآخر فإن هناك سياطا أخرى تلهب أرواحهم في كل لحظة، لا تدع لهم سلاما في ليل ولا نهار، ولا تعفيهم من العذاب حتى في خلواتهم؛ سياط الجوع والخوف. هي سياط لا نراها بأعيننا، ولكن الأشقياء يحسونها إحساسا أقوى من الرؤية وأشد من اللمس، ويتضاعف عليهم العذاب أن يحسوا به في أنفسهم ويروه فيمن يحيون، ينظرون إلى أبنائهم وبناتهم وهم أطفال أو صبية يتضورون من الجوع ويسيرون عراة وينامون على صفعات حانقة، يوقعونها هم أنفسهم عندما تضيق صدورهم من اليأس.»
وانتفضت خيلاء تريد أن تبعد عن ذهنها تلك الأفكار المزعجة، وقلبت بصرها لعلها تقع على سيف كأنها تلتمس النجاة، إنها عندما تحدثه تحس أن الحياة أقل تعاسة، وأن الأمل أقرب مما يخيل إليها في وحدتها، ولكن السؤال عاد إليها في لجاجة وعنت: «من كان أبي؟ ومن كانت أمي؟ أم ولدت هكذا بغير أبوين كما تنبت حشائش البر؟» وتذكرت يوم كان سيف معها تحت هذه الشجرة نفسها، فرأى أحد الحراس الأحباش يلهب بسوطه ذي الأطراف الرصاصية ظهر رجل مثل هذا المسكين، عندما كان يترنح بين الأشجار ليلتقط الأوراق الذاوية، وأسرع سيف إلى الحبشي فنزع منه السوط وأهوى به عليه. ولم يكن عجيبا أن يغضب سيف لمثل هذه القسوة، ولكن غضبته ملأت قلبها إعجابا وشكرا ... وحبا أيضا، إن كان هناك ما يمكن أن يزيد قلبها حبا له. ماذا يكون لو كانت هي ابنة لأحد هؤلاء الأشقياء؟ أتكون هكذا ذليلة هزيلة كالكلاب الضالة؟ أهما الجوع والخوف اللذان يولدان الذل في نفوسهم؟ أم هي نفوسهم الذليلة التي تجعلهم يسقطون في مهاوي الجوع والخوف؟ أما يستطيعون أن يهبوا للدفاع عن أنفسهم إذا ألهبت ظهورهم السياط؟ أيخشون الموت؟ وأي موت أشد مما هم فيه من البلاء؟
ورفعت يدها إلى عينها عندما أحست عليها غشاوة من الدمع، فمسحتها وقامت تسير في ظل الممشى لعل الحركة تذهب عنها هذه الهواجس المفزعة.
ولما اقتربت من العربي النحيل مدت إليه يدها بقطعة من الذهب، وعجبت عندما فزع كأنه يهرب منها، فدعته في رفق حتى أنس وعاد إليها مترددا، وأخذ الدينار ينظر إليه نظرة غريبة، ثم أسرع عنها بغير أن ينطق بحرف. المسكين! إنه يشبه كلبا طالما تعود أن يضرب بالعصا، فلا يأمن اليد التي تمتد إليه بقطعة من الطعام.
وسارت بين أحواض الزهر اليانعة وفي نفسها شيء من التوزع، وكان الندى ما يزال يخضل الأوراق ويزيد ألوان الزهر نضرة وبهاء، ولكن أسمال العربي البائس كانت ترف دونها. «إنها إهانة للإنسانية أن تهب الطبيعة هذه المباهج إلى جنب المقاذر التي يهوي الإنسان إليها!» هكذا كانت خيلاء تحدث نفسها في حنق. وكانت السحب البيضاء تتسابق في السماء مقبلة من الجنوب، وترددت أصوات الطير وهي تتواثب وتتداعى فوق الغصون، واستمرت خيلاء في تفكيرها: «هذه الطيور لا تعرف سادة وليس فيها أغنياء وفقراء، وقد تتطاحن فيما بينها، وقد يقتل الصقر عصفورا، ولكنها لا تتخذ عبيدا.» وعادت إلى القصر مسرعة إلى مخدعها وقلبها يخفق؛ خوف أن تقع عليها عين أحد، أو أن يراها سيف عائدة من البستان في تلك الساعة. أكانت هناك تنتظره؟ وكان شعورها بالخيبة يزداد مع كل خطوة حتى صار أشبه بالحزن. ولما صارت وحدها استندت بذراعها على جانب النافذة وتقاطرت دموعها. وكانت الشمس قد علت في السماء وأخذت الحركة تدب في فناء القصر، ولكنها لم تلمح صورة سيف هناك.
الفصل الثاني
قال الراوي:
قضى سيف ليلته ساهدا وهو مستلق على أريكته في المخدع والنوم لا يواتيه مع أفكاره المضطربة التي كان يسبح فيها. كان يحس كأن عقله رحى تدور فارغة، يعلو ضجيجها ويأخذه منها الدوار حتى يكاد يذهل. ومع ذلك كان يتنبه أحيانا فيسأل نفسه فيم يفكر؟ فلا يجد في فكره شيئا. ولم تكن تلك الليلة أول عهده بتلك الرحى الفارغة؛ فقد كان منذ شهور يتحدث إلى نفسه مثل تلك الأحاديث المضطربة الجوفاء، لا تفارقه ضجتها إذا سار وإذا جلس وإذا أكل وإذا خرج إلى نزهة. كان لا يعبأ بشيء مما يرى ولا بشيء مما يسمع، كأن العالم كله قد انطوى في داخله في تلافيف ضبابة. ولكنه إذا وجد نفسه في صحبة إنسان هربت تلك الأحاديث فلم تنطلق من لسانه؛ لأنها لم تكن أحاديث ناطقة مؤنسة، بل هي أقرب إلى أخيلة متصادمة تشبه الرياح في زوبعة. حتى خيلاء، حتى خيلاء كان لا يجد معها حديثا إذا لقيها، حتى إذا ما خلا إلى نفسه بعد ذلك تدفقت أقواله إلى خيالها. وهم مرارا أن يشكو ما به إلى أمه ريحانة، ولكنه لم يجرؤ على ذلك لأن تلك الأحاديث كانت في تلافيفها الغامضة تتصل بها. وماذا يقول لها؟ أيسألها عن خواطره المبهمة الشوهاء التي تكاد تتهمها؟ أم يسألها عن معنى تلك الأحلام التي كانت تعتاده بين ليلة وأخرى وهي تكشف عن ضعفه أو سخفه؟ وهم مرارا كذلك أن يشكو إلى صديقه الشيخ الطيب أبي عاصم، ولكنه لم يجرؤ، فما كان أحراه إذا سمع شكواه أن يظن به الخبل أو يحسب به مسا من الجن. ومع ذلك فإنه لا يكاد يرى ذلك الشيخ بعد أن كانت دروسه أشهى ساعات حياته، يقضيها في صحبة خيلاء، فيستمعان إلى ما عنده من علم وحكمة، ويهيمان معا في عالمهما. فمنذ اعتراه ذلك التغير الذي اعتراه منذ أشهر، انقطع عن ساعات الدرس لكي يشقى وحده مع هواجسه. ومع ذلك فقد غادر أبو عاصم القصر كله وذهب إلى داره البعيدة في حقل صنعاء، وصار لا يلم بالقصر إلا في فترات متباعدة. وبدت له الحياة خالية موحشة، كأنها لعنة منبوذ خلى الناس جميعا بينه وبين نفسه، حتى هؤلاء الرفاق الذين كان يخرج معهم إلى الصيد أو النزهة في الأودية اليانعة ضاق صدره بهم وبأحاديثهم وكبريائهم. كانوا من أبناء القواد الأحباش، ولا يترددون أن يتحدثوا تحت سمعه في سخرية عن سادة اليمن من القدامى، كأنهم لا يعبئون بأن أمه عربية؛ ريحانة ابنة ذي جدن. وكانت كبرياؤهم تبعث الحنق إلى صدره كلما أهانوا العرب المساكين الذين يجاهدون في الحقول أو في مراعي السفوح المعشبة، فكان يباعدهم ويتملص من صحبتهم بمعاذير مختلقة أحيانا، ويؤثر تلك العزلة التي يصاحب فيها وساوسه. وأراد مرارا أن يجادل نفسه ليحملها على أن تنظر كما ينظر هؤلاء الرفاق، وتلهو كما يلهون، وتعبث كما يعبثون، ولكنه كان لا يلبث أن يمتلئ منهم حنقا، بل كان أحيانا يثور بهم ويعنف عليهم. كان دائما يحس أنه موزع غير متماسك، كأنه خلق من طينتين، لا يدري أينبغي له أن يكون حبشيا مثل أبيه أبرهة؟ أم عربيا مثل أمه ريحانة؟ ولكنه كان لا يغضب لشيء حبشي، ولو كان له الاختيار لما اختار سوى جده ذي جدن.
وتنبه إلى نفسه بين خواطره تلك، وكان الليل قد مضى نصفه، والقمر يغمر الفضاء ويطل شعاعه من نافذته المرمرية. فقام ينظر إلى البستان، وكان الفضاء الساكن لا يشوبه حديث حانق، والقمر يسبح في السماء وأحواض الزهر تحلم في أشعته، وتثاءب سيف وأحس في جفونه ثقلا، ولكنه استمر في أحاديثه الصامتة، وخيل إليه أن ينزل إلى البستان وفي نفسه أمل غامض أن يرى هناك أحدا يذهب عنه الوحشة، أو أن تكون خيلاء في ظل إحدى الخمائل وحدها، فيذهب إليها معتذرا عن طول احتباسه عنها، ويقول لها بعض ما يقول في خلوته لها، وتمنى لو تجرأ يوما أن يفضي إليها بما في سره؛ فهي بغير شك أحرى أن تستجيب له ولا تظن به السخف أو الخبل.
وتثاءب مرة أخرى وكانت جفونه تفيض نعاسا، فذهب إلى فراشه وأغمض عينيه. وكان نومه ثقيلا مضطربا، يهب منه مستيقظا بين حين وحين، فيجد رأسه غائما وصدره منقبضا، ويحاول أن يجمع الصور التي أزعجت نومه، فلا يجد إلا أثرا غامضا لا معالم فيه، كأنه كان يبحث عن شيء يتفلت منه فلا يدركه، أو يسعى نحو غاية فلا تلبث أن تختفي عنه، ويسأل نفسه عنها فلا يعرف ماذا كان يبغي.
وهب آخر الأمر من فراشه على إثر صيحة في أعقاب منظر لم يستطع النوم بعده، وإن كان منظرا مألوفا عاوده مرة بعد مرة، وكان في كل مرة يشرد النوم عنه، فيعصيه من بعد ولا يعود إليه. رأى كأنه عاد طفلا في سن الخامسة، يلعب في بستان القصر مع رفاق صغار، وكان المنظر واضحا بكل دقائقه، حتى لقد تذكر فيه أشياء لا تسترعي نظره وهو كبير، كانت هناك شجرة ضخمة من شجر الجوز فيها فجوة تتسع لطفل أن يختبئ فيها، فكانوا يتخذونها مخبأ في لعبهم لكي يفاجئ أحدهم الآخر إذا مر قريبا منه ليفزعه، وكان هناك بيت مظلم في آخر البستان، له نوافذ قريبة من الأرض تعترضها قضبان من الحديد. فكانوا يتسلقون قضبانها لكي يطلوا منها إلى الظلام الذي وراءها، ثم يقفزون سراعا ويصرخون ضاحكين. وكانت هنا دقائق أخرى كثيرة غابت عن ذاكرته، فأعادها إليه الحلم واضحة المعالم كأنه يراها في ساعته. وكانت خيلاء إحدى رفاقه تجري وراءه حينا ويجري وراءها حينا آخر، فإذا أدركها أو أدركته ضجت منهما ضحكة عالية.
وكان أخوه الأصغر مسروق يتبعهما مترجرجا في جريه كما يحاول طفل في الثالثة أن يلحق بإخوته، وكانت معهم خادم سوداء تضاحكهم بأفانين من ألعابها، فتارة تقلد لهم أصوات الدواجن، فتصيح كالديكة، أو تقأقئ كالدجاجة، أو تعوي كالكلب، وتموء كالهر، وتارة تقلد لهم أصوات السباع، فتصيح مثل الذئب أو ابن آوى، أو تزأر كالأسد، وهم يتضاحكون في زياط أو يتماسكون في رعب، ثم ينفجرون في ضحكة واحدة ويصفقون مرحين. فإذا ما أرادوا تقليد صيحاتها اختار كل منهم ما يحلو له، فكانت خيلاء تقلد الحمامة أو اليمامة، وسيف يزأر كالأسد أو يعوي كالذئب، ويحاول أن يخيف رفاقه كما تخيفهم الجارية. فإذا ما شاركتهم الخادم في الصياح والضحك ورأتهم بلغوا الغاية من ألاعيبهم، اختارت من فنونها صنفا آخر تطرفهم بجدته ليعود نشاطهم كما كان، فقلبت لهم جفونها وغيرت صوتها كأنها تحولت إلى جنية، فيهرعون هاربين منها وهي تعدو في آثارهم صائحة «امسك»، وهم يحاولون الانفلات منها، وكان سيف الطفل يحس قدميه ثقيلتين عند ذلك، ويخيل إليه أن الجارية قد انقلبت حقا جنية تريد أن تجره إلى بطن الأرض معها. ثم عدلت الجارية إلى حيلة أخرى، فكشرت عن أنيابها قائلة إنها قد انقلبت إلى ساحرة غولة تأكل الأطفال، وتحملق بعينيها الحمراوين وتقول في صوت مخيف: «هممم»، فيصرخون ويبكون، حتى تعيد جفونها ثم تضحك مقهقهة فيضحكون وراءها من بين دموعهم، وأخذت الجارية تعدو بهم، وأمسكت بيده مرة في أثناء ذلك واندفعت بسرعة وهو لا يستطيع أن يجاريها، فتعثر ويده معلقة بيدها، وجرته على الأرض حتى خدشت ركبتيه ثم وقفت ضاحكة، وكاد يبكي ولكنه تماسك على مضض ولم يبك، وقال في نفسه: «ألست رجلا؟» وذهب إلى أخيه مسروق فأخذ بيده وجرى به كما جرت الجارية حتى تعثر مسروق، ووقع وخدشت ركبته وصاح يبكي، فجاءت الجارية تصرخ، وجعلت تمسح الرمال عن ركبة الطفل الدامية وهي تصيح بسيف مؤنبة. ثم تبدل المنظر فجأة كما يحدث في الأحلام، فإذا هو في براح من أرض خالية كالصحراء، وإذا شبح ضخم يهجم عليه عابسا، فوقف في مكانه مسمرا لا يستطيع حراكا، وأحس رجليه ثقيلتين في الرمال، وجعلت عيناه تطرفان في خوف، ثم أخذ الشبح الأسود بكتفيه وهزهما هزا عنيفا، وقال في نفسه: «لن أبكي، فإني رجل»، وأخذ الشبح يبرطم بألفاظ سريعة حانقة بلسان غير مبين. ثم رأى نفسه مرفوعا في الهواء ينظر في عينين واسعتين عابستين لهما جفنان ثقيلان متورمان، وبدا الوجه مثل الفحمة من وراء عينين كالجمرتين، وسمع صوتا أجش يصيح به: «من أنت؟ وابن من أنت؟ أتضرب ابن أبرهة؟ ابن من أنت؟» وأراد سيف الطفل أن يقول: «لم أضربه» ولكن لسانه احتبس وقال في نفسه: «ألست أنا ابن أبرهة؟ من أبي إذن؟» وتحول المنظر فجأة مرة أخرى، فإذا هو في البراح وحده وقلبه يخفق رعبا، ولكنه لم يبك وقال في نفسه: «ألست رجلا؟» ونظر حوله يبحث عن رفاقه وعن الجارية، فرآهم من بعيد يختفون عن عينيه وراء شيء أسود مظلم، فصرخ ينادي ويبكي ولم يستطع أن يمسك نفسه، مع أنه كان يقول في سره: «كيف أبكي وأنا رجل؟» ولم يسمع جوابا لصراخه، وخيل إليه أن الشبح الأسود يطل له من بعيد يسد الأفق، وكأنه يتربص به ليمسك به مرة أخرى، وحاول أن يجري إلى الجانب الآخر هربا منه، ولكن رجليه لم تسعفاه كأنهما مسمرتان في الرمال، وأحس وقع أقدام ثقيلة تتبعه، فدق قلبه دقا عنيفا وصرخ في ذعر، فهب من نومه يلهث والعرق يقطر من جسمه.
كان حلما فظيعا، ولكنه لم يكن جديدا، كان ذلك الحلم يعاوده بين حين وآخر في أعقاب لياليه المسهدة، وقضى ساعة يحاول أن يهدئ نفسه بالسخرية والتماس العلل لاضطرابه، فلعل الطعام هو الذي ثقل على قلبه، أو لعلها الوساوس التي شغل بها ذهنه هي التي خلقت له تلك المناظر المزعجة، أو لعله عارض من برد أو تعب، أو هي زيارة روح خبيثة ألمت به في سبحها بالليل. وانطلقت أفكاره هائجة فذهبت تهيم في البعيد والقريب في سرعة مجهدة، حتى ضاق بحجرته ولم يجد بدا من أن يخرج إلى الفضاء لعله يجد في الحركة وانطلاق الجو ما يذهب بالضيق الذي اعتراه. وخرج يتسلل من الحجرة إلى الممر الذي وراءها ثم إلى البهو، وكانت الشموع ما تزال ترقص فيه عند حوافي حواملها.
ومر بحجرة أمه الملكة ريحانة، إنها بغير شك ما تزال في سريرها لا تدري شيئا عن ضيقه ولا عن وساوسه. ولو علمت بأنه يتسلل من حجرته لقامت إليه ملهوفة وأخذته بين ذراعيها. هكذا قال في نفسه وهو يسير على أطراف أصابعه عند بابها. لم تتلهف عليه هذه الأم هكذا كما لا تتلهف على أحد من إخوته؟ كان أحيانا يكاد ينفر من رحمتها التي تخيل إليه أنها تحسبه ما زال طفلا، ومع هذا فما أشد ما يحسه من الحب نحوها! هي عنده تعدل الحياة أو تكاد تعدلها. ولكن خيلاء هناك كذلك في حجرتها المقابلة لحجرة الملكة ريحانة، وهي بلا شك راقدة في فراشها ولعلها تحلم أحلاما أخرى، إنه لم يرها منذ أيام طويلة، وقد كان يود لو رآها، أما ينفتح بابها فجأة وتطل منه هامسة له: «إلى أين يا سيف؟» هكذا همست له مرة وهو يخرج في الصباح الباكر منذ أسبوع، فذهب إليها وأخذ يدها الممدودة ووقف صامتا، وحاول أن يتكلم فلم يجد إلا أن قال لها: «عمت صباحا يا خيلاء. لم تبكرين هكذا؟» وكانت نظرتها عجيبة عندما قال لها: «سأنزل إلى البستان، فإني أحس صداعا»، ثم سار عنها مسرعا. فماذا يقول لها لو رآها تطل في تلك الساعة من باب مخدعها؟ أيقول لها: «سأنزل إلى البستان، فإني أحس ضيقا؟» ومضى يسير على أطراف أصابعه، وكان البهو صامتا ساكنا فيه رهبة. كم شهد هذا القصر من قصص عجيبة ، ولا عجب أن تلم به بعض الأرواح الخبيثة، وكم حدثه عنها الشيخ أبو عاصم أثناء الدرس الذي كان يلقيه إليه مع خيلاء، كان يحدثهما عن الملوك الذين أقاموا في غمدان، وعن الأحداث التي اضطربت بها هذه الأبهاء الفسيحة. أهكذا كان الناس أبدا لا يعرفون سلاما؟ كانوا دائما يتنازعون ويتصارعون، كأن الحياة لا تحتمل الرضى أبدا. أما كانوا يعرفون حبا؟ وأحس حيرة شديدة عندما تمثلت له صورة أمه وصورة خيلاء جنبا إلى جنب، أيهما كان أقرب إلى قلبه؟ كان في هذه الأيام الأخيرة يحس شيئا يشبه الرغبة في التهرب من أمه. أيتهرب منها وهو يحبها ذلك الحب العميق؟ ولكنها هي كذلك كانت مع شدة لهفتها عليه يعتريها شيء كالاضطراب، وتطرق مرتبكة كأنها تود لو هربت منه. كانت عيناها دائما تبعثان فيه الطمأنينة، وكان كلما ذهب إليها بحث عنهما يلتمس منهما نظرة، ولكنها كانت تدير عنه عينيها، فإذا ملأه الشعور بالخيبة استأذن منصرفا، فكأنها كانت ترتاح لذلك، وتقوم إليه لتضمه إلى صدرها في شفق، ثم تدعه يذهب بغير أن تتلاقى عيناهما. أليست القلوب تتحدث كما قال أبو عاصم يوما في درسه؟ لا شك في أنها تتحدث، فإنه يسمع أمه تتحدث صامتة، كما أنه كان بغير شك يسمع خيلاء تتحدث صامتة.
وبلغ سيف في سيره جناح أبيه، وهجم عليه شعور عجيب يشبه الحسرة أو الندم، أو هو شيء آخر أقرب إلى اتهام النفس. أكان يحب ذلك الأب؟ وإلا فما ذلك الحاجز الذي كان يجده قائما بينهما؟ لا يذكر يوما أنه اندفع إلى ذراعيه كما كان يفعل أخوه مسروق وأخته بسباسة، وكان يقول لنفسه وهو طفل: «كيف أندفع بين ذراعيه كأنني طفل؟» وكان يسخر في سره منهما عندما كانا يتنافسان على حضن أبيه ويتنازعان قبلته، ويسأل نفسه: أهو طفل مثلهما؟
كان دائما يذهب إليه مترددا يمسك نفسه كأن شيئا خفيا يقف دونه. وأحس سيف هواء صباح الخريف يملأ صدره عندما خرج إلى البستان، وكان القمر ما يزال يغمر الفضاء بضوئه الحائل. كان منذ ساعة قصيرة يرى نفسه في الحلم طفلا في هذا البستان، والجارية السمراء تجره من ذراعه، ثم هاتان العينان، كانتا تظهران له من وراء الضوء الخافت كأنهما قطعتان من الجمر. واعتراه خجل من أنه ما يزال يتذكر هذه المخاوف الصغيرة كأنها حقائق. وبلغ مربط الخيل، ورأى مهره الأبيض يرهف أذنيه لمقدمه. أهي حاسة أخرى غير حواس البشر يستطيع المهر أن يدرك بها قدوم صاحبه قبل أن يراه؟ كان الفرس يتنفس في هزة كأنه طفل يتهاتف نحو ظئره ويهز رأسه في فرحة ظاهرة. وخرج به سيف من باب البستان الخلفي الذي يفضي إلى خارج المدينة، وكان الليل ما يزال ساكنا، لا تقطعه إلا تحية حارس الباب إذ قال له: «لم يطلع الفجر بعد يا سيدي»، وكان شيخا عربيا عرفه سيف في القصر منذ كان طفلا. وكان يؤثر أن يخرج من عنده كلما أراد الخروج، وقد طالما رآه الشيخ يذهب مبكرا إلى الصيد، ولكن صوته في تلك المرة كان لا يخلو من دهشة. وأضاف ضاحكا: «لم تتحرك الطيور بعد.» فقال سيف - وقد داخله شيء من الارتياح: «وماذا يزعجها قبل الصباح يا أبا بردة؟» وكان ذلك هو الاسم الذي اعتاد سيف أن يناديه به منذ صباه؛ لأنه كان يضع على كتفيه بردة من وبر الإبل لا تفارقه ليلا ولا نهارا ولا في صيف أو شتاء. وهز الرجل رأسه في عطف وهو ينظر في أثره ويغلق الباب خلفه. وسار المهر خفيفا نشيطا، فوجد سيف في حركته بعض الأنس، وكان النسيم يرف من قبل الشمال فيمسح على وجهه رفيقا. تذكر يوم أهدى أبوه هذا المهر إليه، وكان ذلك عندما أتم بناء الكنيسة، وذهب في موكبه ليصلي بها أول صلاة مع رسول قيصر. وتذكر في تلك اللحظة أمرا غاب عنه في مضطرب أفكاره، فإن أبرهة سيخرج في ذلك اليوم في موكبه إلى الكنيسة العظمى ليؤدي بها الصلاة قبل خروجه إلى حرب قريش. وقد كان سيف يود لو ذهب معه إلى تلك الحرب، بل لقد طلب ذلك إليه كما ينبغي لشاب فارس مثله يريد أن يجول جولة في الحياة كما يجول الرجال. ولكن أبرهة تبسم له قائلا: «لن ترضى أمك يا سيف.» وكانت نظرته غريبة وابتسامته جوفاء. فلم أجابه بأن أمه هي التي لا ترضى؟ أكان يسخر منه؟ وهل كان يقول ذلك لمسروق لو سأله الخروج معه؟ وعجب سيف من نفسه كيف لم يذكر ذلك الموكب إلا في تلك اللحظة بعد أن بعد عن القصر وضرب في الليلة المقمرة. حقا، إن القلوب لا تتحدث فحسب بل تتصرف وتسيطر، لم يكن في قرارة نفسه راضيا عن الخروج في الموكب مع أبيه، وكان يتمنى لو وجد سببا يمنعه منه، ولكن لم يخطر بباله أن يخرج عامدا من القصر لكي يمتنع عن الذهاب مع أبيه قصدا. أيكون قلبه قد أنساه وجعله يخرج هكذا من القصر قبل الصباح كأنها خطة مدبرة؟ واتجه المهر في الطريق الذاهب نحو وادي ضهر، فقد كان سيف كلما ركبه يذهب به إلى هناك. وقال سيف - وهو يمسح عرقه: «إنك خير من كثير من البشر يا سرحان»، كان يعرفه كما يعرف الصديق صديقه، فهو يأنف أن يأكل من مذوده إذا لم يكن نظيفا، ويأبى أن يشرب الماء إذا لم يكن صافيا، ولا يرتاح في مربطه إذا لم يتعهده سائسه بالخدمة، وهو لا يحتاج إلى مهماز ولا تلويح بسوط، وينفر ثائرا إذا أساء أحد إليه. لم يكن ليرضى أن يعامله أحد كما يعامل خدم القصر من العرب الذين كانوا يضربون بالسياط ويوجه إليهم أقذع السباب، ولا يرضى أن يعيش كما يعيش هؤلاء المساكين الذين يضربون خيامهم في شعاب الجبال، يقنعون بأتفه الطعام وأرذل الملبس. ومر في طريقه بخيمة رثة في ظل صخرة، وكان الفجر ينبثق من أفق الشرق كأن الكون يفتح عينيه من سنة نوم. وإلى ناحية الخيمة رأى أشباحا سوداء مقبلة، فتأملها حتى اقترب منها، فإذا هي امرأة عجفاء تحمل حزمة من الحطب، ومن ورائها أربعة أطفال لا يزيد أكبرهم على سن العاشرة، يحمل كل منهم حزمة، ولا يكاد صغارهم يستقلون بحملهم. هؤلاء كذلك يخرجون في الصباح الباكر، كأن الأحلام المفزعة تزعجهم من مراقدهم، وكانوا جميعا في أسمال بالية لا تغطي من أجسامهم النحيلة إلا قطعا. ووقف الأطفال يتطلعون إليه في فضول بوجوههم السمراء التي يعلوها الصدأ. ولكن المرأة لم تلتفت إليه، وصاحت بهم في حنق، فأسرعوا وراءها وهم يتلفتون إليه من وراء. ومدت المرأة يدها إلى كبرى الصبية عندما أدركتها، فخبطتها في عنف وصاحت بها تنطق بألفاظ لم يفهم سيف منها سوى أنها حانقة، وصاحت الصبية تبكي. هؤلاء كذلك قد خرجوا قبل أن يتحرك الطير، ولكنهم لا يغنون ولا يمرحون. كان سيف يرى في كل مكان أمثال هذه المرأة وأطفالها، ولم يسمع منهم جميعا سوى الحنق، ولم يشهد سوى العري والعنف. وعادت إليه ذكرى يوم خرج إلى النزهة مع بعض أصحابه من أبناء القواد الأحباش وأعيان صنعاء، وكانوا يحملون طعاما خفيفا، فنزلوا في شعب أشجر معشب يستظلون عند الظهيرة، وكان على مقربة منهم نجع فيه خيام رثة مثل خيمة تلك المرأة. وجاء إليهم سرب من أطفال يشبهون أطفالها في عظامهم الناتئة وثيابهم المخرقة التي لا لون لها إلا أن يكون التراب لونا. ووقف الأطفال يرقبون الجمع المرح كما تقف الكلاب الجائعة تترقب فضلة من العظام، على مقربة من وليمة تفوح رائحة طعامها. وأخذ أصحاب سيف يعبثون بالأطفال فيلقون إليهم قطعا من فتات الخبز ويتضاحكون كلما رأوهم يتزاحمون عليها. وكانوا في تزاحمهم عليها يعفرونها في الرمال، فمن استطاع منهم أن يفوز بقطعة منها أسرع بها ودسها في فمه، ولا يبالي أن ينفض التراب عنها. وتذكر سيف كيف أحس عند ذلك بما يشبه الحنق، وكانت ضحكات أصحابه ترن في سمعه قاسية مزعجة. إنها فكاهة للمترفين ومعركة حياة للمعذبين. وقام يحمل ما استطاع حمله من الطعام، فمد به يديه إلى الأطفال وأمرهم أن يذهبوا به ليأكلوه بعيدا في هدوء. ولم يدر لم كان في قوله غليظا جافيا، مع أنه كان يرحمهم في قلبه. وضج أصحابه بضحكات عالية عندما رأوا الأطفال يصيحون به صياحا يشبه السخرية وهم يخطفون الطعام ويسرعون به، كأنهم يخشون أن يستعيده من أيديهم، وجعل الفتيان يتبادلون فكاهات قارصة وهو يمسك نفسه من الغضب. ووقع في قلبه في ذلك اليوم أن هؤلاء المساكين الذين ذهب الفقر بإنسانيتهم أقرب إليه من رفقائه أصحاب الكبرياء. وتمثلت له أمه ريحانة العربية تبتسم له شاكرة، وخطر له في تلك اللحظة خاطر جديد، وعجب لنفسه كيف لم يخطر له من قبل أن هؤلاء المساكين قوم أمه الحبيبة ريحانة. وكان سيف قد بلغ في سيره منتصف الطريق، حيث كان جبل ينور الذي ينطوي على كهف يسكنه الجن. وظهرت أشعة الشمس الأولى تضرب في السماء بمثل حراب دامية؛ فأحس رهبة شديدة، وهمز مهره فانطلق يعدو به، وأحس شيئا من الارتياح للحركة السريعة. ولكن هواجسه لم تفارقه، فسأل نفسه: «ماذا كان يفعل لو كانت ريحانة ولدته لأحد أبناء قومها من حمير، أو لرجل من بني خثعم أو الأزد أو السكاسك؟ كيف كان ينظر إليه هؤلاء الشبان الساخرون أبناء قواد الحبشة؟ وذهب بفكره إلى أحاديث الشيخ أبي عاصم؛ إذ كان يقص عليه وعلى خيلاء أخبار جده ذي جدن، وأطرافا من سير ملوكهم وآدابهم وعقائدهم. أكانوا يسيرون عند ذلك عراة هكذا؟ جياعا ينتظرون أن تلقى إليهم فضلات الطعام؟ وهل كان فيهم دائما أمثال أولئك الرفاق من أبناء القادة الذين يتضاحكون سخرية من بؤس المساكين؟»
وصعدت الشمس بموكبها في السماء، وألقت أشعتها على حواشي السحب فصبغتها بالعصفر والقرمز، وعادت إليه صورة أبيه أبرهة الذي سيخرج في موكبه إلى الكنيسة العظمى؛ ليصلي ويدعو المسيح لينصره. أيسأل عنه إذا افتقده ولم يجده؟ أم هو لا يفتقده ولا يحس غيبته كما فعل من قبل مرارا؟ كان أبوه أبرهة إذا اتجه إليه في حضرته يبسم له عاطفا ويكرمه رحيما، ولكنه لم يتجه إليه يوما بعتاب على غيابه عن مشهد من المشاهد، ولم يقل له يوما: «ما كان ينبغي لك أن تغيب اليوم يا ولدي»، لم يذهب إلى الكنيسة في يوم عيد الميلاد السابق؛ لأن خيلاء كانت مريضة ببرد، فآثر أن يبقى إلى جانب سريرها، وفي يوم الفصح لم يذهب لتهنئة أبيه؛ لأن حلمه المزعج زاره في تلك الليلة فأفسدها عليه، ولم ينم إلا قبيل الصباح، ففاتته ساعة التهنئة بالعيد، ولكن أبرهة لم يغضب في إحدى المرتين ولم يتجه إليه بلوم، بل بعث إليه يوم الفصح بهديته مع أمه. وعادت إليه كلمات الشبح الأسود إذ قال له في الحلم: «من أنت؟ وابن من أنت؟ أتضرب ابن أبرهة؟» ألم يكن أبرهة أباه؟ وتمنى لو تجرأ أن يذهب إلى أمه ليلقي عليها السؤال الذي صار ينمو في طي نفسه كما تنمو الشياطين إذا تصورت في صور الحيوان، وكاد الشك الذي أثاره الحلم المتكرر يصير يقينا، وهاجمه السؤال مرة أخرى في لجاجة: «أأنا ابن أبرهة؟ ألا يكون ذلك الحلم من وحي الغيب جاء ليطلعني على حقيقة خفية؟» بل لقد بعدت به الدفعة عن مداها، وسأل في ثورة قائلا: «أأنا ابن ريحانة؟» ولكنه ما كاد يفطن إلى سؤاله حتى ارتد في فزع، كأن هوة عميقة تفغر له فاها في الطريق على حين فجأة، أو كأنه رأى عدوا يتربص له لينتزع منه كنزا ثمينا، وقال في غيظ: «بل هي أمي، ولا يمكن إلا أن تكون أمي. إنني أعرف ذلك كلما نظرت إليها أو سمعت صوتها، وكلما نظرت إلى صورتي في المرآة أو تأملت أعماق نفسي. إنها بلا شك أمي، ولن يداخلني في أمرها شك أبدا.» وبلغ به السير إلى قصر جده ذي جدن على قمة التل المشرف على وادي ضهر، ولم يحس مرور الزمن كأن لم تمض ساعتان، وكانت الشمس تعلو في السماء مقدار رمحين.
وكان القصر العابس مقفرا، ليس فيه إلا صبيح الحارس وبعض الخدم من الأعراب، وحجراته الواسعة الحجرية الباردة، ولكنه كان أرفق به من غمدان؛ لأنه لا يضطره إلى التسلل والتخفي. كان هناك يستطيع أن يخلو إلى نفسه ويمضي مع أحاديثه، بغير أن يتعمد الاعتزال أو يضطر إلى الاعتذار باختلاق الأكاذيب، ولكنه عندما أقبل الليل كاد يختنق من الوحشة؛ فخرج إلى الوادي، وكان القمر يغمره بضوئه الرفيق، ويجعل مناظره أشبه بمناظر الخيال. وكانت تمر به أوقات يفيق فيها إلى حسه فيفزع، ويتمنى لو كان إلى جانبه أحد يحدثه ويسمعه صوته، خيلاء أو أبو عاصم أو ريحانة، فإن هذه الحياة التي يحياها في الخيال توشك أن تقطع صلته بالأشياء والأحياء جميعا، وتجعل كل حركته لا تزيد على سلسلة من الهذيان المحموم. ومع ذلك فقد أمضى أكثر وقته في ذلك الوادي مدة إقامته في قصر جده، يهيم مع خياله فلا يعود إلا قبيل الصباح، عندما تثقل جفونه، ولكنه إذا عاد إليه استأنف في نومه سلسلة الهذيان في الأحلام.
الفصل الثالث
قال الراوي:
كان القصر قد استعاد رونقه بعد أن أصلحه أبرهة من آثار الحرب الطاحنة التي كانت بينه وبين أعدائه، وأصبحت أبهاؤه - كما كانت على عهد ملوك تبع - أعجوبة من أعاجيب الفن البديع.
كان البصر يمتد في إيوانه بين صفين من العمد المرمرية الرشيقة، تحف بهما من الجانبين عقود أنيقة مدت من بينها الطنافس الوثيرة من نسيج فارس والهند وأرمينية، وتتخللها تماثيل بارعة الصنع من نحاس أو مرمر، وآنية من فضة أو حجر شفاف، عليها نقوش افتن في تصويرها صناع القسطنطينية والإسكندرية. وكانت في أركان الإيوان أربعة أسود نحاسية سمراء، إذا دخل الهواء في أجوافها سمع لها صوت يشبه الزئير، كأنها عائدة عند الفجر إلى دحالها بعد أن امتلأت من صيدها في الليل.
ولما تقدم النهار توافدت على الأبواب جموع من الذين جاءوا فوجا بعد فوج، يسرعون من فجاج اليمن ليظهروا الولاء لأبرهة الملك المنصور، قبل أن يخرج في جيشه العظيم إلى حرب قريش.
ووقفت الجموع في حلقات يتهامس بعضها مع بعض، وعيونهم تلوح بين حين وحين إلى ردهة الإيوان تترقب قدوم الملك. وكانوا جميعا في زينة مختارة وملابس زاهية وسلاح محلى بالذهب والفضة، فكأن ألوان الزهر اجتمعت هناك من أحمرها وأصفرها وأزرقها، وما بين ذلك من ظلال شتى. كان فيهم زعماء القبائل من حمير أصحاب الملك القديم، ومن أشراف خثعم سادة فرسان الصحراء، وشيوخ همدان شجعان العرب، وفيهم من مهرة والسكاسك وكندة الذي عادوا إلى بلادهم بعد أن خلعتهم قبائل الشمال عن عروش نجد. وكان بينهم عدد كبير من وجوه المدائن الكبرى وصنعاء ونجران وزبيد وصعدة وعدن وغيرها، قد احتشدوا جميعا بدعوة من الملك ليستوثق من ولائهم قبل خروجه إلى مغامرته الجديدة التي ستمد ملكه على أرض العرب جميعا.
ودخل شيخ بدوي يتوكأ على عصاه ويطأ بنعليه الغليظتين طنافس البهو في بطء، ناظرا إلى الجمع الكثيف في هدوء، كأنه جاء يسوق إبله العطشى إلى مورد الماء. وكانت ملابسه الخشنة ووجهه المجعد تبدو مثل صرخة في وجه الجمع الحافل الأنيق، فكان أينما خطا تتجه إليه الأعين في اهتمام ودهشة. كان في هيئته محاربا قديما من بقية عهد منقرض. وحيا الشيخ أقرب الناس إليه تحية خافتة تضمر لونا من الاعتداد بالنفس. وكان يقف بين خطواته البطيئة يقلب بصره في الوجوه، كأنه يبحث عن وجه يعرفه. وكان يرى ما أمامه كأنه يلوح من وراء ضباب، ويستمع إلى الهمهمة الغامضة التي تتردد في البهو كأنها منبعثة من عالم بعيد. وكانت الأعمدة المرمرية تبرق جديدة، والأروقة المزخرفة تطل هادئة جليلة، والمصابيح تتدلى من عناقيدها النحاسية الفخمة كما كان يراها منذ عهد، عندما كان يدخل على ذي نواس آخر الملوك، ومع ذلك فقد كان البهو يبدو في نظره الكليل أجنبيا. وعادت إليه صورة ذي نواس يوم جمع شيوخ القبائل ليستنجد بهم على الأحباش الذين جاءوا لغزو بلادهم، وكان يبسط لهم يديه راجيا أن يتناسوا أحقادهم وعداواتهم، ويقفوا وراءه صفا واحدا ليحاربوا عدوهم ويدفعوه عن أرضهم. وتذكر ضجة الشيوخ وهم يتبادلون التهم ويتقاذفون بالصيحات الحانقة ثم ينصرفون فرادى؛ لكي يلقاهم الأحباش أشتاتا ويقهروهم واحدا بعد واحد.
ثم عادت إليه صور المعركة الطاحنة التي شهدها، وصورة ذي نواس وهو يولي منهزما عند شاطئ البحر، ويخوض الماء بفرسه حتى يغرق فيه لكيلا يقع أسيرا في يد عدوه المنتصر. أهؤلاء الذين يجتمعون في البهو الكبير من قومه؟ كان لا يعرف فيهم وجها واحدا. أجاء من واديه البعيد ليقف في هذه الصفوف حتى يحضر أبرهة؟ وأحس في صدره قبضة من الحزن ووخزة من الذلة. هذا ما تنبأ به ذو نواس عندما كان يتضرع إلى شيوخ القبائل ويسألهم أن يقفوا من ورائه، كأنه كان ينطق بلسان الغيب. قال لهم عند ذلك واليأس يغالب الحنق في صوته: «سوف تقفون أنتم أو من يبقى منكم بين يدي العدو، تحنون له رءوسكم خشوعا كما يحني العبد رأسه لسيده»، وهذا هو ذو نفر شيخ حمير، وبقية ذلك الجيل المنقرض تحكم عليه الأقدار أن يبقى حتى يحقق نبوءة الملك اليائس. هذا هو يقبل من أرضه البعيدة لكي يحني رأسه إلى أبرهة، وهؤلاء الذين لا يعرف منهم أحدا قد جاءوا جميعا لكي يجتمعوا وراء أبرهة ويحاربوا من أجله، كما لم يجتمعوا وراء ذي نواس وكما لم يحاربوا من أجل أنفسهم. وحجبت بصره الكليل غلالة من دمعة مترددة، فلم ير من أمامه إلا أشباحا مختلطة مضطربة، وسمع منها صوتا يناديه: مرحبا يا أبا الهيثم.
وعجب أن يعرفه أحد في ذلك الجمع، وكان يحسب أن الذين عرفوه قد ذهبوا ولم يبق منهم أحد يشاركه أسفه. ومد بصره فرأى رجلا طوالا يمد إليه يده.
وكان كهلا متين البناء أنيق الملبس، وخط الشيب لحيته، ولكن لمعات عينيه ونضرة وجهه أكسبته مظهر الشباب، وكان في منطقته خنجر له مقبض فضي يلمع بقطع من الجوهر، وكان صوته عميقا في شيء من الغلظ عندما قال للشيخ: أما تعرف نفيل بن حبيب؟
فقال الرجل في صوت خافت: لا تعتب على بصري يا أبا حبيب، فما حسبت أن ألقاك هنا، ما حسبت أن ألقى هنا أحدا يعرفني.
وأخذه نفيل فابتعد به إلى ناحية بين عمودين متقاربين من أعمدة البهو الأنيق، وقال وهو ينظر حوله: طال عهدك بالناس منذ فارقتهم يا أبا الهيثم.
فقال الشيخ: لم تطأ قدماي صنعاء منذ فارقتها.
وسكت حينا ثم أضاف: كنت أظن أبا عاصم هنا.
فقال نفيل: الشيخ صفوان بن قيس ؟
وقلب بصره الحديد في الجمع لحظة ثم قال: لا أظنه هنا.
فقال أبو الهيثم: كأنني أرى الناس من خلال ضبابة، وجوه لا أميز منها أحدا. هكذا نجتمع مرة أخرى يا نفيل.
وكان بعض الوافدين قد جاء فوقف قريبا منهما.
فقال نفيل: تعال يا أبا الهيثم إلى هناك، تعال يا ذا نفر.
وأخذ الشيخ من ذراعه إلى ركن أبعد من الزحمة، وأضاف قائلا: أعرف أنك ما تزال تذكر أيامك الأولى، ولا آمن أن يسمعك أحد هؤلاء.
فقال الشيخ في حزن يتردد فيه الغضب: لم يبق لي ما أخشى عليه يا نفيل؟ أما تعرف أين أبو عاصم؟
فأجاب نفيل: ما هي سوى كلمات سمعتها، يقولون هو غاضب من أبرهة، أو أبرهة غاضب عليه. ولكن من هذا؟
والتفت فجأة إلى باب الإيوان وقال في دفعة: هذا أبو عاصم.
وذهب نحوه مسرعا حتى أتى به إلى الشيخ، فتلقاه فاتحا ذراعيه قائلا: كاد نفيل يؤيسني من لقائك.
ومضت بعد التحية لحظة طويلة قبل أن يقول الشيخ أبو عاصم: وماذا أتى بك إلى هنا يا ذا نفر؟
فقال الشيخ باسما: أتت بي راحلتي.
ونظر في وجهه لحظة أخرى ثم قال: وحق مناة لولا نفيل ما عرفتك يا أبا عاصم، أكنت تحسب أن نتلاقى يوما ها هنا؟ كيف حالك منذ تفارقنا؟
وسمع نفيل صوتا يناديه من بين جماعة أقبلت جديدة، فذهب إليها وترك الشيخين وحدهما.
وقال أبو عاصم في هدوء: الشمس تشرق فلا أكاد أراها، وتغرب فلا أكاد أفتقد نورها. وآكل إذا حضر الطعام، ولا أحس عطشا عندما أرفع الماء إلى فمي، لا أذكر شيئا من أيام حياتي كأنني أعيش في هباء، لا أذكر إلا الماضي البعيد كأنه لم يمض إلا منذ ساعة. - ألا تذكر آخر يوم تلاقينا؟
فقال ذو نفر: أكانت حقا عشرين عاما؟ ما أسرع ما تمضي السنوات يا أبا عاصم ونحن لا نكاد نحس مرورها.
فقال أبو عاصم: ألسنا نحس مرورها حقا؟
فقال ذو نفر: بلى، إنها على الأقل تذكرنا بمرورها إذا رأى أحدنا وجه صاحبه.
فقال الشيخ: نعم، نحس التغير الذي نراه على وجوهنا، ونحسه في ضعف حواسنا وأبداننا. كل شيء يزول، حتى الجبال الراسية، والبشر يذبلون كما تذبل النخيل المعمرة. وجوههم تتجعد كما تتجعد الثمرة الجافة، ويتحول سوادهم إلى بياض وبياضهم إلى سواد. كل ذلك لا يزيد على حقيقة صغيرة، وهي أننا من الفانين.
فقال ذو نفر: أهناك حقيقة أكبر؟
فقال صفوان: نعم يا أبا الهيثم، فإننا نتغير في أعماقنا تغيرا آخر يدق عن إدراكنا، حتى نقف عمدا لكي نتبينه بعقولنا لا بحواسنا. وقد نألفه وهو يدب فينا دبيب الفناء في أعضائنا، فلا نعرفه حتى يبدو لنا فجأة أو نطلع عليه فجأة كما أفعل اليوم.
وتلفت ذو نفر حوله قائلا: لا يبدو القصر كما عهدته، ولا الناس كما عرفتهم، أو هكذا هم في عيني.
فقال صفوان: لا يملك أحدنا إلا أن ينظر بعينيه، ولكن ليس هذا ما أقصد. هناك تغير آخر لا يتصل بما نرى، هناك تغير آخر يشمل العالم كله مستقلا عن أشخاصنا، وهو يجرفنا معه رضينا أو كرهنا. أنحن اليوم نفكر كما كنا نفكر، ونحكم على الأمور كما كنا نحكم؟ هل يزن الناس شئون الحياة بالمعايير التي كنا نزنها بها؟ أما زالت مثلنا باقية كما عرفناها، نقيس بها الفضائل والرذائل ونميز بها الخير من الشر؟
فقال ذو نفر: أنا رجل قضيت حياتي في البادية، ولا أستطيع أن أعرف من الأمور إلا ما يقع في خاطري. عرفتك يا أبا عاصم تطلب العلم وتقرأ الكتاب، ولست أعرف سوى إبلي وخيلي. ولكني مع ذلك أعرف أننا نتغير، نتغير في داخلنا كما نتغير في خارجنا، فإذا عركنا الدهر وامتحنتنا تجاربه تعلمنا منه أن نكون أكثر حكمة.
فقال صفوان: أو أكثر تفاهة. قد تعلمنا التجارب أن نكون أكثر تهورا أو أكثر جبنا، وقد تزيدنا بذلا أو تحملنا على مزيد من الحرص، وقد تجعلنا نقدس الحق، كما قد تجعلنا نخذله ابتغاء الراحة. قد تجعلنا الأيام أكثر حكمة، كما قد تميل بنا إلى الإسفاف والتعسف.
فقال ذو نفر: إنها طبائعنا. الحنظل يزداد مرارة إذا نضج، والشوك يزداد حدة وشدة، ولكن الثمرة الطيبة تحلو.
فقال صفوان: لست أدري كيف أبين لك ما أعنيه بقولي، فإني أحسه في نفسي غامضا لا أستطيع أن أجد له لفظا، أو لعلي أكون أصدق إذا قلت إن هذا الذي أحسه وأحاول أن أصفه لم يثر في نفسي إلا منذ لحظات، عندما وقع نظري على هذا الجمع يا ذا نفر. هؤلاء جميعا جاءوا لتحية أبرهة. مررت من باب القصر إلى هنا بين جموع لم أر مثلها يجتمع لملك من بيت تبع، فوا أسفا على ما سمعت في هذه الخطوات! لقد دفعني الفضول إلى أن أبطئ في سيري لأتسمع ما يقولون، فوا أسفا، لقد طرأ على الناس تبدل شامل جرفهم جميعا، حتى لقد سألت نفسي: ألم أنجرف معهم؟ كل ما سمعت منهم ثقيل على أذني، كريه إلى قلبي، وسرت أتسلل من بينهم مثل غريب في مدينة لا يعرف لسانها. كنت في شبابي أكره أشياء كثيرة في أهل جيلي، ولكني لا أستطيع أن أصف لك ما وقع في نفسي عندما سمعت هذه الأحاديث.
وأحسست في قلبي وحشة شديدة تشبه وحشة الطريد الذي يجد نفسه وحده في فلاة، هو تبدل جرف الجيل كله إلى حيث لا ندري.
فقال ذو نفر: أصداء بعيدة يا صديقي، ما عرفت أنك رضيت عن الناس قط.
فقال صفوان: لست أراجعك في قولك يا أبا الهيثم، عرفت نفسي ولم تخف عني عيوبي. كنت كما تقول لا أرضى عن كثير مما أرى، ولا يرضى كثير من الناس عني. كنت أرى قومي يتطاحنون على الصغائر ويتنافسون على التوافه ولا ينظرون إلا إلى ما تحت أقدامهم، ولكني كنت أعرف الذين لا أرضى عنهم وأعرف ماذا أنكر منهم. كنت أخالفهم أو يخالفونني، ولكنا كنا نختلف ومقاييسنا واحدة نقيس بها الأمور. وأما اليوم فقد رأيت الناس ينظرون إلى الأمور نظرة أخرى، ولهم مقاييس مبتدعة يقيسون بها قيم الأشياء، بل لقد وقع في روعي أنهم أصبحوا يخفون ما في قرارة نفوسهم ويتبعون طريقا رسمت لهم، لا يجرءون أن يتحولوا عنها. إنهم لا ينطقون بما في نفوسهم، بل يتحاورون في أقوال لقنت لهم. أظنني لم أزدك بإيضاحي إلا غموضا وإبهاما.
فتبسم ذو نفر قائلا: ألا نكون نحن الذين وقف الزمان بهم وهو يعدو بهؤلاء جامحا؟
فقال صفوان هادئا: قد يكون ذلك يا أبا الهيثم، إنك ما زلت أنفذ مني بصيرة وأفسح صدرا. أنت تستلهم الحقائق من كون أوسع من عالمي وأكثر صراحة.
وقال - كأنه يحدث نفسه: «وقف الزمان بنا وهو يعدو بهؤلاء.»
فقال ذو نفر مبادرا: عفوا يا أبا الهيثم، فإني لم أقف يوما لأفكر في مثل هذا الذي تقوله لي، وكأنني أحيانا أدرك طرفا مما تصفه لي، حقا إن الناس يستحسنون اليوم غير ما كنا نستحسن، وينكرون غير ما كنا ننكر، هم يرضون ويسخطون، أو يقبلون وينصرفون، ويحرمون أو يبيحون غير ما كانوا يفعلون من قبل. وقد صدقت في قولك إن ذلك التغير يجرفنا جميعا، وإلا فلم جئنا إلى هنا؟
وكان في صوته رنين الحزن. ثم مضى قائلا: سمعت إنك غاضب يا أبا عاصم.
فقال صفوان: لم أغضب على أحد بمقدار غضبي على نفسي. لم أغضب من أبرهة؛ لأنني عرفته هكذا منذ رأيته، يبذل كل شيء ويلين في القول حتى يطمئن، ثم لا يبالي بعد ذلك شيئا، فإذا احتاج إليك مرة أخرى تملق كبرياءك حتى ينال منك ما يريد. أما نحن، أما أنا، فإني أذللت نفسي ورضيت أن أحضر مجالسه، وأن أسمع من حوله يتحدثون عمن أعرفهم وأحمل لهم أطيب الذكرى، ويصفونهم بما أنكر ويقلبون الحقائق، فإذا النبل على لسانهم دناءة، وإذا الكرم لؤم. ثم رضيت آخر الأمر أن أجيء اليوم من داري البعيدة لأنحني لأبرهة مع الذين جاءوا للانحناء.
فقال ذو نفر في مرارة: ونذهب إلى القليس.
فقال أبو عاصم: نعم، سنذهب لنصلي من أجل انتصاره على قريش، كما لم نصل من أجل انتصار ذي نواس. سنذهب إلى القليس.
وأقبل نفيل فقال في مرح: نعم، إلى القليس لنرى بدعة الفن الخالص، قطعة من المرمر والذهب يكاد من يراها يقول ما هو بناء البشر.
فقال ذو نفر: لن أذهب يا أبا عاصم.
فقال نفيل هامسا: لا تعل صوتك هكذا يا أبا الهيثم.
فالتفت الشيخ إلى نفيل في شيء من الغضب وقال: أعرفت المسيح يا نفيل.
فقال نفيل: لست أبالي أين أذهب، فإني أنظر إلى من أصلي معه، وكان في صوته سخرية، ثم مضى قائلا: لست أبالي أن أذهب إلى القليس أو إلى بيت مناة ما دمت في صحبة ملك.
ثم همس ضاحكا: إنها تجارة يا أبا الهيثم، هم يتجرون مع من يشتري منهم، وأنا أتجر مع من يشتري مني. هذا هو أبرهة يقبل والجموع تتحرك.
واهتزت الصفوف المتراصة تتدافع عندما ظهر أبرهة في حلقة حراسة، وكان يسير بجسمه الضخم القصير كأنه يتدحرج، وجلس على العرش في صدر الإيوان، فخشعت الأصوات وشخصت إليه الأبصار.
وهمس نفيل قائلا: لقد تعلم أن يكون ملكا.
وبدأ الناس يتقدمون إليه، ودبت الحركة في البهو وتعالت همهمة الأصوات، فقال ذو نفر ساخرا: إنها تجارة حقا.
فقال نفيل: لست أبالي يا أبا الهيثم سخريتك، فقد طالما تجادلنا في أيام الشباب، وكنت تضيق بي وتشتد في لومي. كنت لا تحب سخريتي ممن يعبدون الصنم الأصم ويمسحون جباههم بأقدامه، ولكنني اليوم لا أسخر من شيء، بل أقول ما تعلمت من الأيام صريحا: كل يعبد إلهه، كل يخلق إلهه.
فقال ذو نفر في حنق: إله تخلقه أنت؟
فقال نفيل باسما: لا تغضب يا صديقي، فلست أقصد أن أثيرك. كل منا يصور لنفسه إلهه كما يشتهي، كل منا يقصد من إلهه شيئا ويتعبد له من أجله، فإذا لم يجد عنده ما أراد خلق له إلها سواه. انظر إلى أعماق نفسك وقل لي صادقا: هل تراني أقول غير الحقيقة؟
فقال ذو نفر في حنق: أتسمع يا أبا عاصم؟
فنظر نفيل إليه باسما وقال: سيروا، فالصفوف تتقدم.
ولم ينتظر جوابا، بل سار حتى دخل بين الناس يرفع رأسه فوقهم متطلعا نحو صدر الإيوان، ولا ينظر من يدفع في سبيله.
ووقف ذو نفر إلى جنب صاحبه في سكون واضعا كفيه فوق عصاه الطويلة، متكئا عليهما بجبهته حينا، ثم رفع رأسه وتنفس طويلا وقال: هلم نسر وراء الجميع يا أبا عاصم.
وتقدما حتى بلغا أطراف الجمع، وبلغت آذانهما أصوات الوفود وهي تلقي تحيتها، وكان صوت أبرهة يجيب عليها بكلمات قصيرة وضحكته العالية ترن بين الجدران، كأنها صيحة أحد السباع في ليلة ساكنة.
وتخلخلت الصفوف فظهر أبرهة والحراس وقوف من حوله، نحاف الأجسام، طوال القامة، حفاة الأقدام، عراة الرءوس، لهم شعور شعثاء تزينها حلي من ريش الطيور الملونة. وكانت نظراتهم تلمع عابسة مثل أسنة الحراب الطويلة التي في أيديهم. وكان القواد يلبسون جلود فهود تتدلى من أكتافهم إلى ركبهم، ونعالا من جلود الوعول، وأساور من الفضة في معاصمهم وسواعدهم. وكان أبرهة في حلة حمراء موشاة بالذهب، وعلى رأسه تاج تزينه الجواهر، وفي وسط جبهته ياقوتة حمراء تأتلق، ووجهه الضخم يتردد بين السماحة إذا تبسم وبين القسوة الصارمة إذا تجهم. فإذا انبسط وجهه وانفرجت أساريره ظهر عليه أثر جرح غائر يعترضه من أعلى عينه اليسرى إلى جانب خده الأيمن، يعلن للأبصار أنه أبرهة المقاتل الذي يقف في وجوه المعارك ويتلقى ضربات السيوف.
وسارت بقية الصفوف بين يديه لا يكاد يستوقف منها أحدا إلا ريثما يرد على تحيته بكلمة، قد تكون ضاحكة وقد تكون عابثة ساخرة، ولكن وجهه في كل أحواله ينطق قائلا: «إنني أجيب على ألفاظ بمثلها.» وكان ذو نفر لا يخفي تململه كلما سمع أقوال الوفود، ويميل على صاحبه هامسا: «لشد ما تغير الناس حقا.» وتقدم شيخ من أهل صنعاء يلقي أمام الملك قصيدة من الشعر، يظهر فيها مودة أهل المدينة وعرفانهم لما شملهم به أبرهة من العدل بعد طول عهد المظالم، ومن الرحمة بعد أن كادت القسوة تقضي عليهم.
فقال ذو نفر في دفعة: أتسمع ما يقول هذا؟
فأخذ الشيخ بذراعه وتقدم إلى الأمام صامتا، وكان الإيوان قد خلا إلا منهما، فأقبلا على أبرهة فصاح قائلا: كنت أفحص الوجوه عنك يا أبا الهيثم. جئت تقدم رجلا وتؤخر أخرى؟
فقال ذو نفر مبادرا: أبيت اللعن أيها الملك.
فضحك أبرهة ضحكته المزغردة وقال: لم تنس بعد تحيتك القديمة يا أبا الهيثم؟
وكانت عيناه تلمعان لمعة غريبة عندما اتجه نحو أبي عاصم قائلا: أحسنت يا أبا عاصم إذ جئت مع الشيخ، فقد بلغني أنك غاضب علينا.
وكان ذلك اللقاء مفاجأة للرجلين، وقال ذو نفر في دفعة: لم أتعلم بعد تحية خيرا منها أيها الملك.
فقال أبرهة ساخرا: أبعث إليك من يعلمك غيرها؟
وأحس أبو عاصم في نفسه حرجا شديدا، ولكن الألفاظ غابت عنه فلم يدر كيف يقول، واعتدل في وقفته يتكئ بكفيه على عصاه مواجها لأبرهة، وقال هادئا: هيهات أيها الملك، فإني كما ترى شيخ كبير.
فقال أبرهة في حدة: لا يستعصي أحد على التعلم أيها الشيخ، بل قل إنك ما زلت تتعلق بأذيال الماضي وتخيل إلى نفسك أوهاما تملأ بها شدقيك إذا خلوت إلى من تسميهم قومك. أتحسب أن أقوالك لا تبلغ سمعي؟ ألست تقول لقومك إنكم كنتم الملوك؟
فقال ذو نفر: ما تعودت أن أنطق إلا لكي يسمع عني. سلني أيها الملك أجبك صريحا؛ فهذا أجدر أن تسمع ما أقول صحيحا. وهل أملك أن أنزع نفسي من ذلك الماضي؟ وهل بقي لي من الغد ما أعلل به نفسي؟
فقال أبرهة في غضب: ما ذلك الماضي الذي ما تزال به مفتونا؟ أتخشى على شبان حمير أن ينسوا أنهم كانوا من قبل ملوكا؟ أنا وحدي الذي أنزع نفسي من الماضي وأنسى عداوتي وحقدي وكراهتي. أنا وحدي الذي أتسامح وأغضي عيني على القذى. أتسمع ما يقول يا صفوان بن قيس؟
فقال الشيخ صفوان: عفوا أيها الملك، فقد عرفنا حلمك وحكمتك، وما جاء ذو نفر إلا مظهرا للولاء.
فقال أبرهة في دفعة سريعة: أتنطق عن الشيخ؟ أما تدعه يتحدث عن نفسه وتقنع بأن تتحدث عن نفسك؟ إنك أنت كذلك لا تستطيع أن تنزع نفسك من ذلك الماضي، وتقول مثله إنك من حمير أصحاب الملك. أليس هذا ما تقوله صباح مساء في دروس الصبية؟
ووقعت الكلمة على الشيخ كأنها وخزة؛ دروس الصبية؟ أما يزيد في نظر أبرهة على هذا؟ وسكت أبرهة لحظة قصيرة ثم استأنف قوله، وكان صوته أهدأ وفيه رنين أسى: كنت أحسب أنني أكسب بالحلم أصدقاء وأمحو أثر العداوة الأولى. كنت أحسب أنني إذا قربت الذين حاربوني اقتربوا مني، وإذا أسوت جراحهم وحقنت دماءهم قضوا سائر حياتهم يعرفون الدين الذي لي في أعناقهم، ولكني وجدت آخر الأمر أنني أنا وحدي الذي نسيت العداوة.
فرفع صفوان رأسه وقال: لست أنسى أيها الملك أنك أسوت جراحي عندما حملت من المعركة، ولست أنكر أنك رحمتني وحقنت دمي حين لم أنتظر منك العفو. كنت أعرف أنني عدو، ولا أحزن لو لقيت مصير العدو المنهزم، ولكن هذا ما كان منك وقد مضى عليه حين طويل، لقيت في أثنائه من برك ما جعلني أحس ثقل ديني. وقد حاولت أن أرد لك بعض ديني بأن أكون معلما للصبية كما قلت، وحسبت أنك تقدر ذلك وتجد فيه دليلا على شكري، فإذا كنت لا تحب إلا أن تتقاضى دينك دما فهلم أيها الملك، فلست به ضنينا.
فقال أبرهة في نغمة اعتذار: لم أقصد كل هذا يا أبا عاصم، ولكني أخشى الفتنة. لم أعبأ بهذه الأقوال التي كانت تبلغني عنك، فإنما هي علالات خيال لا تنال مني شيئا. ولكني اليوم مقبل على قتال.
والتفت إلى ذي نفر قائلا: سأذهب إلى حرب قريش، فماذا أعددت للسير معي؟
فأطرق ذو نفر حينا ثم قال: سأجمع قومي إليها الملك كما ينبغي لي.
فقال أبرهة في دفعة: كلمة داهية! لم أنس بعد كلماتك التي تشبه سجع الكهان يا ذا نفر، ولكنا سنتحدث في هذا إذا عدنا من الصلاة. لا تتخلفا عن مجلسي وكونا قريبين مني لنتم حديثنا.
ورفع يده فانصرف الشيخان وفي قلب كل منهما زوبعة، حتى صارا في الفناء فوقفا حينا في صمت وجها لوجه، ثم قال ذو نفر: ماذا قلت يا أبا عاصم، وماذا قال لي؟
فقال صفوان: فلنشرب الكأس حتى الثمالة، فلنشربها لأننا عصرناها بأيدينا.
فقال ذو نفر: وحق مناة ما حسبت الطريق تنتهي بي هنا، سأجمع قومي كما قلت حقا، وسيعلم أنها كلمة داهية.
فقال صفوان: أما علمتك التجربة؟
فقال ذو نفر: قد تجعلنا التجربة أكثر تهورا. أليس هذا ما قلت؟
وسار يتوكأ على عصاه حتى غاب بين الجموع الزاخرة التي كانت تملأ الفناء، ووقف أبو عاصم وحده مترددا، يحس كأن قدميه لا تقويان على الحركة، وأحس كأن العيون تشخص إليه ساخرة وتتساءل إلى أين يمضي. سيذهب ذو نفر إلى بنيه وحفدته وبني أعمامه وبني إخوته ليقفوا معا، سيقول لأبرهة هؤلاء قومي، وأما هو فأين يتجه؟ إلى داره المحطمة في حقل صنعاء؟ وغمره شعور من العجز والذلة مع العرق البارد الذي دب على أعضائه، وتمنى لو كانت جراحه التي أصابته في المعركة القديمة قد نزفت دمه ولم يعش بعدها يوما.
ليت أبرهة قضى على حياته كما قضى على إخوته وبني عمومته الذين استماتوا في الدفاع إلى جنبه. أهكذا جرفه التيار معه فلم يفطن إلى الغمرة التي قذفه إليها، إلا بعد أن أوغل فيها وصار لا يستطيع انفلاتا؟ أهكذا يقتلع أبرهة ريشه واحدة بعد واحدة، حتى إذا اطمأن أنه يعجز عن الطير يركله بقدمه مطمئنا؟ أما من أمل؟ أما من غاية؟ أما من نهاية؟ وتنبه على صوت نفيل، فنظر إلى وجهه وكأنه لم يره منذ ساعة، كانت عيناه محمرتين تقدحان غضبا، وكان وجهه المحتقن يشع ثورة. وقال الشيخ في فتور: نفيل؟
فقال نفيل في صوت أجش: نعم أنا، فسمني كما شئت. تعال بنا نعتزل عن هؤلاء. أعرفت كيف لقيني أبرهة؟ أسمعت ضحكته وهو يقول لي: «أما تعرف لك سيدا؟» ثم قال لي: «امسح لحيتك أمامي كما كنت تمسحها في نادي قومك، وأعد ما قلت على ملأ منهم.» نعم سوف أمسح لحيتي أمامه وأقول لست أعرف سيدا.
وسار يحدث الشيخ في صوت مختنق يعيد عليه ما قاله أبرهة عندما تقدم إليه ليؤدي تحيته. وكان الشيخ يستمع إليه وتزيد نفسه كآبة، فهذا الرجل يثب على بقايا المعركة ويأخذهم واحدا بعد واحد. ومروا في سيرهم بحلقة صاخبة يمتزج الجد فيها بالفكاهة، وكان فيها جمع مختلط من الحبشة ومن وجوه صنعاء وأشراف القبائل يتحدثون ثلاثا أو رباعا.
فقال نفيل في مرارة: أليس هذا قيس بن خزاعي وهذا حناطة الحميري؟ كانا منذ قليل يلعقان قدميه وها هما ذان يأخذان أجرهما. أما عرفت أنه وعد ابن خزاعي بملك مكة؟
فقال صفوان في ضجر: قصة معادة يا نفيل.
فقال نفيل في حدة: نعم قصة معادة. لست أحب أن أتستر ولا أن ألتمس العذر لنفسي. نعم قصة معادة تذكرني بها يا أبا عاصم، تجارة يبيع فيها كل امرئ ما عنده، كانت لي عنده تجارة وقبضت ثمنها ثم انقطع ما بيننا. أتسمعني؟ ولكن قيس بن خزاعي لن يبلغ ملكا، أقول لك لن يبلغ ملكا، إنما هي أمنية كاذبة يخدعه الرجل بها، ولن يلقى إلا مثل السهم الذي أصاب أخاه من قبله. لن يقبض سوى الثمن الذي قبضه أخوه محمد بن خزاعي.
وكان في حنقه ينفلت من حرصه المعتاد فيعلو صوته بين حين وحين، والشيخ مطرق إلى جنبه كأنه لا يسمع.
ومضت الحلقة الصاخبة في حديثها، فقال حناطة الحميري يخاطب عدوة الحبشي: ما لي أراك واجما يا عدوة؟
فقال الشيخ الحبشي: أرأيت هذين؟
وأشار إلى صفوان ونفيل وهما يتباعدان.
فقال أنيس كبير سواس الفيلة: وما يعنيك منهما يا عدوة؟
فقال الرجل: وجهاهما ينطقان شرا. وهذا الشيخ الذي كان أبرهة يدخله القصر، أما رأيت وجهه؟
فقال أنيس ضاحكا: لقد أصبحت كاهنا.
فقال عدوة: الحمقى لا يعرفون إلا السخرية.
فقال حناطة: صدق عدوة. أما سمعت أنفيهما؟
فأجاب عدوة وسط ضحك الجماعة: دع الحديث في هذا يا حناطة، فإنه عن الرجال.
فقال حناطة: أتغضب أن أقول لك صدقت؟ كان أولى بك أن تكافئني بحديث عن امرأة.
وعادت ضحكة أخرى عالية.
فقال أنيس: وما للكهنة والنساء؟
فقال عدوة: وأنت يا سائس الفيلة؟
فقال قيس بن خزاعي: لا تغضب من هؤلاء يا عدوة. سيعرفون حقك غدا إذا نشب القتال؟
فقال حناطة: أراك تستعجل تاج الحجاز.
وقال أنيس: عدني أن تبني لي عندك قصرا يا ملك قريش.
فقال عدوة: قصرا عاليا في الهواء.
فصاح قيس: كهانة أخرى؟ متى تمطر السماء يا عدوة؟
فقال عدوة: متى سمعت رعدها ورأيت برقها.
وظهر أبرهة عند ذلك من باب الإيوان، فقال حناطة يخاطب ابن خزاعي: أسرع أيها الملك إلى زميلك.
وعلت ضحكة أخرى، فقال ابن خزاعي في ضجر: اسكتوا أيها الحمقى؟
وأقبل أبرهة في حلقة حراسه، وسارت من ورائه حاشيته وأمراء جنده، وكان وجهه يفيض بشرا عندما وقع بصره على الجموع الزاخرة، وكان يسايره شيخ من قواد الحبشة يميل عليه أبرهة بين حين وحين كأنه يسر إليه حديثا، وهو بين حين وآخر يضحك ضحكته المزغردة التي تفيض سخرية. وخشعت ضجة الأصوات وثبت كل جمع في مكانه. ولما اقترب الملك من حلقة عدوة التفت إليه قائلا: كيف أصبحت يا عدوة؟
فقال عدوة: كما كنت دائما يا مولاي، وليا مخلصا.
فقال أبرهة: هذا عهدي بك دائما. وما لهؤلاء الشبان يخفون ابتساماتهم؟ أكانوا يعابثونك؟ قل كلمة وسأوقع بهم العقوبة جميعا.
ونظر إلى حناطة قائلا: وأنت يا حناطة، كم بلغ عدد نسائك؟ ثم رنت ضحكته وسار بغير أن ينظر وراءه. والتفت إلى الشيخ الحبشي الذي كان يسايره وقال له في صوت هامس: أتظن بي البله يا بن مقصود؟ تحسبني كما يقول أصحابك الذين تحلو لهم الثرثرة؟ أتحسب أني لا أعرف هؤلاء فردا فردا وأعلم ما تنطوي عليه نفوسهم؟ قيس بن خزاعي؟ ذلك الشاب المفتون؟ أتحسب حقا أنني أجعله ملك الحجاز؟
فقال الأسود بن مقصود: إني أفضي إليك يا مولاي بما يتردد على الألسنة.
هؤلاء الذين تأمن إليهم من العرب لا يريدون إلا شيئا واحدا.
فقاطعه أبرهة قائلا: قطعة من غنيمة، تجارة لها ثمن، خديعة يدارون بها الخوف، أعرف هذا كله قبل أن ينطق به غيري. أعرف أنهم لا يبالون شيئا سوى أن ينالوا مآربهم، ولو وجدوا فرصة لانقضوا علي يضربون في ظهري. أليس هذا ما تريد أن تقول؟
فقال الأسود: هذا ما أردت حقا.
فقال أبرهة: تقولون إنني نسيت عداوتي وأقفلت عيني، وخدعني هؤلاء العرب عن نفسي. ألا فاعلم أنت وغيرك ممن يظنون بي السخف والبله أنكم أنتم البلهاء. رأيت العرب يبيعون لي مكرا، فاشتريته بمكر مثله، ويبيعون لي عداوة فاشتريتها بقطعة صغيرة من الحلوى، فهم يظنون أنهم يخدعونني فأدعهم يخدعون أنفسهم. اذهب يا بن مقصود فقل لأصحابك الذين يتحدثون عني أنني أسمع أقوالهم وإن كانت همسا.
وكان قد بلغ قريبا من الباب، فالتفت إلى الوراء نحو باب القصر مما يلي جناح الملكة، وكانت جماعة عدوة تسير من ورائه منذ مر بها، فوقع بصره على حناطة الحميري، فقال له: أعددت سلاحك ودروعك؟ ستجد في مكة حسناوات من قريش يا حناطة. ألست بهن مفتونا أيها الخبيث؟ سوف أهدي إليك أبرعهن حسنا.
وكان عدوة واقفا وراء حناطة يسمو بقامته فوق الرءوس، وشعره الجعد يكلل رأسه وقد امتزج سواده بالبياض.
فقال له أبرهة: كبرنا يا عدوة. كأني أرى نفسي على وجهك أيها الصديق. ولكنا سنحارب مرة أخرى.
فأغضى الرجل متأثرا، ولكنه أحس في صدره قولا يريد أن ينطق به ولا يجرؤ.
وعلت أصوات الطبول، وصاحت كتيبة الجنود المصطفة عند الباب بتحية تشبه صيحات الحرب في جبال الحبشة، وأقبل قائدها يكسوم بن أبرهة فانحنى بما يشبه السجود، فتبسم له أبوه بسمة ضئيلة، ثم أسرع فالتفت إلى ورائه مرة أخرى نحو باب القصر، وتهلل وجهة قائلا: ها هي ذي الملكة.
واقتربت ريحانة تسير بين الصفوف المنفرجة، وكانت في حلة زرقاء موشاة بالذهب وعليها حلية مجوهرة، وسارت رافعة الرأس لا تلتفت إلى أحد. وكانت بسباسة إلى يسارها تزينها حلية ثقيلة من الذهب والجوهر، ولكن شعاع الحسن كان يتنفس عن يسارها من قبل خيلاء. وتقدم يكسوم فساق الفيل الذي يحمل هودج الملكة حتى اقترب منها، فأسلم القياد للسائس وهو يخالس النظر إلى أبيه. وكان وجه أبرهة يشرق بابتسامة وهو يأخذ بيد ريحانة ليساعدها على الصعود في السلم المغطى بالقطيفة الحمراء حتى اعتلت الهودج.
وهمس حناطة لأنيس قائلا: ما تزال العجوز حسناء.
فشد أنيس على ذراعه هامسا: اصمت أيها الخبيث. أتقول إنها عجوز؟
وتقدمت بسباسة وخيلاء نحو هودجهما، فقال حناطة: ألا ترى الربيع إن كنت ترى؟ هذه هي الظبية العربية.
فقال أنيس: أيها الثرثار، لا تقل عربية ولا حبشية.
فقال حناطة: صدقت يا سائس الفيلة. لست أبالي من أي قوم تكون الحسناء.
وجاء يكسوم فاقترب من خيلاء يريد أن يساعدها، وقال لها هامسا: عمت صباحا يا خيلاء.
فتمتمت ردا وأسرعت تركب وراء بسباسة قبل أن تمتد إليها يده، وانفلتت من يكسوم نظرة حانقة نحوها.
فغمز حناطة ذراع أنيس هامسا: بل ظبية نافرة برغم أنفك.
فقال أنيس: دعني لفيلتي.
وأسرع ليأخذ مكانه في الموكب.
وتلفتت خيلاء من وراء أستار الهودج تقلب بصرها في الوجوه، ولكنه لم يكن هنا. لم يكن سيف هناك وراءها - كما تمنت - على فرسه الأبيض ينظر نحو هودجها.
وتزاحم أهل صنعاء على جانبي الطريق يحيون الملك الحبشي الذي أنساهم أنه الأجنبي المنتصر. وكان أبرهة يتلفت مبتسما إلى الجموع المحتشدة ويرفع يمينه بالتحية ردا على دعائهم، كما كان قيصر يفعل إذا حيا جموع القسطنطينية. ولما بلغ الموكب رحبة الكنيسة ووقع بصره على مدخلها الرائع وزخرفها البديع، جذب عنان فرسه ووقف حينا يتأمل بابها المرصع بالياقوت والذهب، وقبابها التي تبرق بغشائها الذهبي في ضوء الشمس.
ونظر إلى من حوله من قواده وجعل يحدثهم عن محاسن البناء الذي سيخلد اسمه على آباد الدهر.
ولم يفارقه مرحه عندما استقبله الجاثليق والقسوس ورفعوا أصواتهم بالترتيل وهم يسيرون إلى صحن الكنيسة، فكان يداعب القس الأكبر بلغة رومية ينطق بها في عسر وبطء، ويضحك بعد كل كلمة ينطق بها. وسار إلى جنب الملكة بين الجدران المرمرية وعطر المسك يفوح منها، حتى بلغ باب المحراب وهو يتمايل بجسمه الضخم في زهو. ونظر إليها قائلا: هذا يوم من أسعد أيامي يا مليكتي. أحس السلام يملأ قلبي، وأكاد أحب أعدائي. ليت قومك كانوا في هذا اليوم معي.
فوجمت الملكة ونظرت إليه نظرة سريعة، وقالت في جفاء: ما أشد وحشتي إليهم ومن بعدهم.
وجلست عابسة صامتة، فلم تجب أبرهة بعد ذلك على أحاديثه التي كان يتدفق فيها. ولما تمت الصلاة وتلقى أبرهة ومن معه بركة القس الأكبر، عاد الموكب إلى القصر، فما كادت ريحانة تبلغه حتى أسرعت إلى جناحها، وانتبذت في شرفتها تسند رأسها إلى يدها وتتأمل الأفق البعيد ساهمة.
وشغل أبرهة بضيوفه، وكان قد أعد لهم سماطا عظيما لطعام الغداء، وكان يتفقد ذا نفر ونفيل بن حبيب وصفوان بن قيس، فلم يرهم بين الوفود، وأحس لذلك قلقا مبهما، وكان في أثناء طعامه يستعيد صورهم ويردد أصداء أحاديثهم في شيء من الحنق.
الفصل الرابع
قال الراوي:
وكان الخريف يخلع على المروج الخضراء بقية روائه، كأنه الشباب المدبر إذ يبالغ في الزينة متعلقا بالحياة، ولكن ريحانة لم تر شيئا من الجمال في كل ما وقعت عليه عينها وهي جالسة في شرفتها. كانت الوحشة الكامنة في صدرها تصور لها القصر الفخم كأنه سجن مظلم، تذكرها جدرانه بأنها ريحانة الأسيرة التي فقدت قومها وعزها يوم دخلته. وكانت البساتين اليانعة التي تمتد تحت بصرها تلوح في رونقها كأنها عدوة حسناء تسخر من شقائها، وكلما هبت نسمات الجنوب على أفنان الشجر، أو لمعت أشعة الشمس على رءوس جبلي نقم وعيبان، أو امتدت الظلال توشي ساحة صنعاء المزدهرة؛ زاد شعورها بوحدتها وقسوة الأمس واليوم والغد عليها. كانت كل المحاسن التي حولها لا تحمل بهجة إلى قلبها، وهو مغلق يسبح في ذكريات قديمة حزينة مرت بها منذ عشرين عاما. وتمنت لو كانت تعيش في كوخ وضيع ينزوي في ركن بعيد من شاطئ قفر، أو في خص مهلهل في جانب واد من أودية سراة حمير تقضي فيه حياتها سعيدة مع من اختاره قلبها في شبابها؛ إذن لكانت الزهرة الخجول التي تنبت في شق من الصخر، أحلى منظرا وأعطر أريجا من كل أزهار البساتين اليانعة في غمدان، ولكانت قطعة العشب الضئيلة المصوحة التي تحف بجوانب بئر عميقة من ماء أجاج في بطن واد أجرد، أحب من كل المروج الريا الفسيحة التي تكسو ربى الساحة.
وما غمدان وما ساحتها وما البساتين والمروج؟ لم تكن كلها سوى زخارف سجن سلبها حريتها وذهب بكرامتها، ولم يعطها بدلا منها سوى تحف وآنية وأثاث ورياش وطعام مترف وفراش منعم. ماذا أعطاها غمدان غير تلك العروض الرخيصة التي لم تهب لها السعادة في يوم من الأيام؟ وتذكرت حياتها الأولى البعيدة التي مضى عليها أكثر من عشرين عاما.
ما كان أقصرها من حياة! ولكنها كانت ما تزال ماثلة في ذهنها واضحة حية نابضة، مرت بها ولم تخلف لها سوى ما تبعثه الذكرى من قلق وألم وحسرة على حب مفقود. تذكرت زوجها الأول أبا مرة ذا يزن الذي لم تعرف الحب إلا منه وله، وتذكرت الأشهر القليلة التي لم تزد على عامين، وإن كانت عندها أثمن ما في حياتها، لقد تمتعت في تلك الأشهر القليلة بالحياة معه - مع أبي مرة الفارس النبيل - وكان منزلهما على ضفاف وادي ضهر، قريبا من قصر أبيها ذي جدن. ما كان أقصرها من أشهر مرت كما تمضي ليلة الصيف المقمرة، وأثمرت ثمرتها الفريدة، فولدت ولدها الأول والأحب، وكانت تحسب أن الحياة تبتسم وأن الدنيا تغني أغنية السعادة، وأن ذلك الوليد سوف ينمو ويحبو ويشب في رحاب أبيه؛ ليقر عينيهما في شيخوختهما، ويرث السيادة المنحدرة إليه من جديه. ولكن وا أسفا! فإن أبا مرة خرج يوما إلى حرب الأعداء ولم يعد إليها، خرج إلى حرب هؤلاء الأحباش يقودهم أبرهة، وما كانت تحسب عند ذلك أنهم يصيرون سادة الأرض، أو أنه سيأتي عليها يوم تكون فيه ...
وأغمضت عينيها عندما تمثلت لها صورة أبرهة.
كانت آخر كلمة سمعتها من أبي مرة أن قال لها: «قبلي طفلنا كل ليلة، وانظري إلى نجم الشعرى، فإني سأرقب طلوعه لأنظر إليه، فتتلاقى نظراتنا هناك وأعلم أنك تقبلين ولدي، وأرجو أن يكون لقاؤنا قريبا.» ثم قبل الطفل الذي كانت تحمله بين ذراعيها، ونظر إلى وجهها باسما ولكنه لم يقبلها، لقد آلى ألا يشرب خمرا ولا يقرب امرأته حتى ينتصر على عدوه. وأسرع يبتعد عنها كأنه ينزع قدميه من موطئهما، ووقفت تنظر إليه وصورته تسبح من وراء عينيها الدامعتين، ثم غاب وراء ثنية الوادي، وغاب آخر فارس من الذين كانوا يركبون وراءه.
كانت تقف في الأصباح والأماسي في شرفة قصر أبيها الذي انتقلت إليه، لعلها تجد مع أهله أنسا. وكانت تترقب الأفق تنتظر عودة فارسها المنتصر، وكم خفق فؤادها كلما لاح لها شبح فارس من ثنية الوادي، ولكنها كانت في كل مرة ترد بصرها خائبة حزينة.
وطلع عليها آخر الأمر فارس ومن ورائه ركب، وجاءوا يقصدون نحو القصر، ولكنه لم يكن أبا مرة، وتأملت أشخاصهم في قلق ولهفة حتى نزلوا، ثم صرخت في يأس. كانوا ركبا من الأعداء الذين خرج أبو مرة إلى حربهم، سود الوجوه شعث الشعور، في أيديهم حراب طويلة، وجاءوا إليها بعد حين يحملون إليها أمر أبرهة أن تسير إلى صنعاء، وتلفتت حولها ترجو أن ترى نصيرا، ولكن لم يكن هناك قومها، لم يكن هناك سوى شيوخ من الأتباع وعجائز أو صبية من الأهل؛ لأن الرجال جميعا خرجوا مع أبي مرة. وصاح الجنود في وحشية ينادونها باسمها، أما كان خيرا لها لو ألقت بنفسها من الشرفة فتدهدهت على حافة الوادي الصخرية؟ ولكن الوليد كان بين ذراعيها، وأمسك بها في ذعر عندما صرخت، ودفعتها الفطرة إليه، فنظرت إليه تطمئنه من خلال لهفتها، فتبسم لها بعينيه الواسعتين البريئتين وهو لا يدري ماذا ينتظره في الغد الموحش.
وأغمضت ريحانة عينيها مرة أخرى في يأس، تريد أن تبعد الصورة عن ذهنها، ولكنها تشبثت بها في لجاجة وقسوة، فلم تبعد عنها. ورنت في أذنيها أصداء ضحكة مزغردة، كانت بلا شك ضحكة أبرهة عندما رآها تدخل عليه في بهو غمدان، ثم قوله لها: أنت ريحانة حقا! ما هذه السحابة التي تغشي وجهك يا ريحانة؟
أهو حلم أم حقيقة؟ أهي الرؤية البعيدة أم هو أبرهة الحي الذي أمامها؟ وقامت ريحانة جافلة نحو باب الشرفة، وكان أبرهة هناك حقيقة يناديها في ضحكته المزغردة: ما هذه السحابة التي تغشي وجهك يا مليكتي؟ هكذا كنت عندما وقعت عيني عليك أول مرة.
ونظرت إليه نظرة صامتة فيها كل مشاعرها، فاستمر قائلا: إنها النظرة الحانقة الصامتة.
فعادت ريحانة إلى مقعدها صامتة، وقال أبرهة: أهكذا تلقينني؟
فقالت في دفعة: وماذا تريد مني؟
فقال أبرهة هادئا: لقاء بديع في مثل هذا اليوم السعيد.
فسكتت ريحانة وقالت في سرها: سعيد حقا؟
ولكنها لم تنطق.
ومضى أبرهة قائلا: أأنت غاضبة؟ لقد رأيت ذلك منذ كنا في القليس. أأغضبك شيء؟ أهكذا تغضبين كلما رأيت مني انشراحا؟
فقالت في حنق: إنها القسوة التي أعرفها.
فقال في دهشة: قسوتي أنا؟
فقالت: قسوة من إذن؟ هذه الضحكة التي تتعمد أن تسخر بها من آلامي، تقطع ضاحكا، وتطعن ضاحكا، وتسوق ضحاياك إلى الموت ضاحكا.
فقال أبرهة في نغمة عتاب: كل هذا؟ كأنها أصداء قديمة.
فقالت: بل متجددة، تجددها دائما.
فقال: أهو الماضي مرة أخرى؟ أما يختفي ذلك الماضي ويندثر حيث مضى؟
فقالت في دفعة: إنك أنت تنبشه ليعود جديدا في بشاعته وقسوته، كأنك تجد متعة في العبث بجراحي.
فقال: حسبتها اندملت. أما زالت بك بعد كل هذه السنين؟
فقالت فيما يشبه الحقد: إذن فاعلم أنها لم تندمل ولن تبرأ أبدا. لن أنسى اليوم الذي جئت فيه إلى هذا القصر المظلم، ولن أنسى الكوارث التي ساقتني إليه، لن أنسى يوم جئت إلى هنا يسوقني عبيدك كأنني أمة.
فقال أبرهة: وهذه السنون العشرون. وهذه الفلذات التي نحيا فيها معا: مسروق وبسباسة. أما ترقين من أجلهما؟ أما تنسين من أجلهما؟
فتحركت ريحانة في ضجر وثارت في قلبها عاصفة مكبوتة. مسروق، بسباسة. أحقا هما ولداها؟ إنها تكاد تنكرهما، ألم تجعل اسمه «مسروق»؟
هكذا قالت في نفسها: «إنها لسرقة شنيعة أن تغتصب مني ولدا.» ولكنها جمجمت ما في نفسها وبقيت صامتة.
فقال أبرهة: أما تتغير هذه الجفوة على الدهر؟ هبيني أجنبيا أمت إليك بأنني قريب لهذين. أما تتغير هذه الجفوة؟
فقالت في صوت مختنق: وهل تغيرت أنت؟ أما زلت تذكرني بأوجاعي وتسخر من شقائي؟ أما زلت تذكرني بوحدتي وبهلاك قومي؟ ألم تكن اليوم كما كنت منذ هذه الأعوام العشرين، وتتمنى لو شفيت نفسك بأن ترى أهلي إلى جنبك يشهدون موكبك ويخضعون لمجدك؟ لقد كان القضاء بهم رحيما إذ أعفاهم من شهود هذا اليوم. ألم تقل لي: «ليت قومك كانوا هنا؟» ووضعت رأسها على يديها باكية.
فمد يده إلى رأسه عاطفا وقال: كلمة واحدة تثير كل هذا؟ من أجل كلمة واحدة تنسين كل حبي وكل مودتي؟ ومع ذلك فما قصدت كل هذا.
فرفعت رأسها قائلة: إذا فماذا حملك على إقحام قومي في حديثك؟ أكنت تريد أن يكونوا اليوم معك أتباعا؟ إذا شئت فاعلم أنني لن أنسى أنهم كانوا أهل الملك وأصحاب الأمر، ولن أنسى ما فقدت عندما ذهبوا عني. نعم، ليتهم كانوا إلى جانبي وحدهم سادة كراما.
فقال ضاحكا: في القليس؟
فقالت في حدة: حيث يكونون سادة، لا أبالي أيكونون في القليس أم في معبد مناة. لست أبالي أين يكونون لو كانوا إلى جانبي، ولكنها أمنية حمقاء.
فقال أبرهة: لقد قلت حقا، إنها أمنية حمقاء، وما كانت أمنيتي إلا كذلك، وماذا فقدت من السيادة والكرامة؟ ألست اليوم ملكة؟
فقالت في حنق: نعم، فامض في قولك وعد إلى قسوتك. قل ما تعودت سماعه منك غير مرة، فليست هذه أول مرة تمن علي فيها بأنك اتخذتني زوجا. امض في سخريتك وقل إنك لم تعاقبني كما تعاقب الأمة، ولم تتخذني امرأة كما تتخذ الأمة، وقل إنك أكرمت ولدي الذي جئت أحمله بين ذراعي فجعلته مثل ولدك. قل ذلك وغيره، فإنه غير جديد علي.
فقال أبرهة: وهل في ذلك سخرية؟ نعم أقول إنني اتخذتك زوجا وجعلت ولدك في مكان ولدي، وسميته سيف بن أبرهة، أقول ذلك لا أمن به عليك ولكن لأذكرك بمكانتك عندي.
فقالت في جفاء: لم تزدني مكانة يا أبا يكسوم. لن أنسى أنني ريحانة ابنة ذي جدن.
فقال: هذا حق، وهو ما يزيدني لك مودة. أعندك طعنة أخرى؟ أما من طعنة أخرى؟ لم لا تقولين إنك ريحانة زوج أبي مرة؟
فانتفضت في وثبة وقالت: بلى. أنا ريحانة زوج أبي مرة ابن ذي يزن. ألم تعرف ذلك عندما بعثت إلي تحملني إلى هنا؟ ألم تعرف ذلك وأنت تنزعني من بيت أبي؟ نعم أنا زوجة أبي مرة الذي ما يزال حيا، يهيم على وجهه في الأرض شريدا، يذكر امرأته وولده كل يوم إذا أصبح وإذا أمسى.
فقال أبرهة: أنت تثيرين غضبي.
فقالت في حنق: فليزد قلبك ثورة، إذن فهلم إلى بطشك حتى لا تبقي على حياة أمقتها وأبقى فيها ولا أستطيع أن أنسى عاري.
ثم وضعت وجهها بين كفيها واستخرطت في البكاء.
فهدأ أبرهة واقترب منها، وجعل يمسح رأسها ويفرق بأصابعه خصل شعرها الغزير الأسود. ثم قال: لا عليك يا ريحانة، قطعت يد امتدت إليك بسوء. وهل تمتد يدي إليك بغير الحب والإجلال؟ إنك تزينين ملكي، ولك علي الفضل في عشرين عاما من حياتي. أنت تعلمين ما أضمره لك في قلبي، أأغضبتك كلمة فهت بها عفوا ولم أقصد بها ما فهمت منها؟
فقالت ريحانة وهي أهدأ: أكنت حقا تحب أن يشهد قومي موكبك؟
فقال أبرهة: أما قلت إنها أمنية حمقاء؟ هزني طربي فقلت الكلمة كأنني ألقي بها تحية إليك. هبيها كلمة ذهبت في الهواء لا تقدم ولا تؤخر شيئا.
فقالت ريحانة: ولم أفعل سوى أن قلت كلمة. وهل كنت لأملك نفسي من لوعة الذكرى؟ أغيرة من الموتى؟ أغيرة من خيال؟
فقال أبرهة في رقة: ما بي من غيرة ولا غضب. إنك أعز الناس عندي وأقربهم إلى قلبي، بل إنك صاحبة الفضل علي؛ لأنك أدخلت إلى قلبي رقة لم أعرفها قبل أن أراك. منذ رأيتك تفتح قلبي كأنه كان في ظلمة ثم دخله النور. لست أكذب إذا قلت إنني كنت أقصد بكلمتي غير ما فهمت منها، فلو رأيت قومك اليوم لفتحت لهم ذراعي مرحبا وقلت إنهم أهلي. بل لست أكذب إذا عدت إلى الماضي قليلا يوم رأيتك، فلقد وددت في ذلك اليوم البعيد عندما وقع بصري عليك لو لم يكن بيني وبين قومك عداوة، وددت صادقا لو رضي ذو يزن بالعودة إلى صنعاء، فأردك إلى بيته زوجة له كما كنت، ولا أمد إليك يدا. لست أدري كيف أدخلت السلام إلى قلبي منذ رأيتك، لم أنظر إليك كامرأة أريد أن أتخذها لنفسي، بل كنت في نظري ملاكا يوحي إلي بالسلام. ولو رضي ذو يزن أن يعود إلى صنعاء لجعلته أقرب سادة اليمن إلى مجلسي، ولكنه أبى، وآثر أن يخرج هائما في الأرض يلتمس المعونة ليعاود قتالي. فهل فعلت أكثر مما كان ينبغي لي؟ اتخذتك زوجة، وجعلت ولدك ولدي، وسميته باسمي، ولم أعاتبك يوما على ما سمعته منك وأنت ترددين على مسمع مني كل ما تدفعك إليه ثورتك، ولكني لم أكره يوما بعد أن أحببت. ترفقي بنفسك وكفي عن هذا البكاء، ولا تعكري علي صفاء هذا اليوم. لا تذرفي هذه الدموع الحزينة، فإني ذاهب غدا إلى حرب لست أدري ما يخبئ لي القضاء فيها.
فقالت ريحانة وهي تجفف دمعها: لست أدري أنا ما يخبئ لي القضاء.
فقال: لقد طالما ندمت على هذه الضحكات التي تنطلق مني وتلك الكلمات التي ينفجر بها لساني أحيانا، ولو استطعت أن أزيل عنك آلامك بأن أحملها عنك لما أحسست منها ألما. سأمضي إلى الحرب غدا، ولا يداخلك هم فإنها رحلة خريف قصيرة، وسوف أعود منها منصورا، وأمد ملكي إلى حدود الشام وأصافح ملك صديقي قيصر. وسوف أقسم البلاد فأجعل لسيف ولدك شطرا منها، ولن يعرفه الناس إلا سيف بن أبرهة. أيكون هذا اعتذارا من خطئي؟ أيرد هذا حق ولدك إليه ويرضي قلبك عني؟
فقالت ريحانة متهافتة: أتفعل حقا؟
ومرت صورة ولدها في ذهنها كما يمر شعاع مضيء في حجرة مظلمة.
ثم قالت في صوت خافت: ليست هذه أول مرة أسيء فيها وتعفو، وتكرمني وأجفو، وتحسن إلي وألقى إحسانك بالنكران، ولكني إذا خلوت إلى نفسي كدت أقطعها أسفا. اعف عني لما فرط مني في ساعة غلبني ضعفي، واذهب إلى حربك وعد منصورا موفقا، وسأصلي لك لعل الله يستجيب لدعائي ويغفر لي زلل لساني.
فنظر إليها أبرهة متأثرا، ثم حول عينيه حينا فشخص إلى الأفق، ثم انفلت مسرعا وهو يمد يده إلى عينيه يمسح منها دمعة.
وبقيت ريحانة في مكانها ساعة طويلة تتحدث إلى نفسها حديثا صامتا، وكانت كلمة أبرهة ترن في سمعها إذ قال لها: «سأجعل لسيف ولدك شطرا منها.» وكانت تضطرب مثل ريشة في مهب الهواء، يضيء لها الأفق الذي تحت عينيها حينا، ثم يقتم حينا، وتسائل نفسها: أحقا يصدق أبرهة؟ أم هي إحدى دفعاته التي يتدفق فيها القول على لسانه حلوا، حتى إذا ما هدأت نفسه وذهبت عنه الدفعة، نسي ما قال أو تناساه، أو جحده في جمود. وهل يستطيع أن يبر بذلك الوعد الذي نطق به في حرارة تشبه حرارة الصدق؟ أو هي حماسة لحظة لا تلبث أن تنطفئ إذا أحاط به ولده يكسوم وقواده الأحباش، الذين ما زالوا يلومونه على إفراطه في تكريمها؟ وهل كان يستطيع أن يصدق في قولته تلك ويتحدى ولده يكسوم؟ ومع ذلك كله فمن يدري؟ إنه لم يعدها بأكثر من أن يجعل لولدها شطرا من ملكه. وأي ملك هو؟ أهو الملك الذي انتزعه قسرا من قومها؟ أم هو الملك الذي لم ينطق القضاء بعد بحكمه فيه؟ من يدري؟ ماذا يكون حظه في المغامرة التي يعتزم أن يقتحمها؟ إنه يعدها بقطعة من حلمه، بظل من خيال، بأمل في أمنية ما تزال وهما في خاطره. أرضيت نفسها بعهد يقطعه على نفسه في أمر ما يزال محجوبا وراء ستار الغيب؟ وهل هي حقا رحلة خريف؟ تلك الحرب التي يعتزم أن يخوضها مع قريش صقور عرب الشمال؟
وعاد قلبها يثور ويرمي أبرهة بالسخرية والقسوة، وقالت في سرها: «إنه في كل مرة يسحر قلبها بألفاظه المعسولة، حتى إذا ما ذهب عنها وجدت أنها لم تقبض منه إلا على الريح. أين سيف؟ إنه لم يكن اليوم في الموكب.» وهجم عليها فجأة شعور الأم التي تفتقد ولدها، كأنها لم تفطن إلا في تلك اللحظة إلى غيابه. أين سيف؟ ولدي سيف؟ وقامت في لهفة تبحث عن ولدها.
الفصل الخامس
قال الراوي:
خرج أبرهة في الصباح الباكر مع جيشه، يتدفق مثل نهر يفيض تحت عاصفة، وكانت الفيلة تسير في الطليعة كأنها حصون تتحرك بطيئة، ومن ورائها سارت الخيول العربية رشيقة، من فوقها حراب تبرق في سحابة من الغبار، وبقيت ريحانة في شرفتها تنظر في أعقاب الألوف المتدفقة بين جبلي نقم وعيبان، حتى غابت أواخر صفوفها بين الربى الخضراء، ثم استلقت على أريكتها وقد استولت عليها رهبة شديدة. كانت منذ ليلة تتحدث إلى نفسها حانقة على أبرهة، حتى خيل إليها أنها لا تضيق بالحياة إلا من أجله، وجرفتها الهواجس في تيارها حتى اتهمت نفسها، وودت لو كانت قضت على حياتها قبل أن تعرفه، ولكنها مع ذلك أحست له وحشة عندما فارقها.
ومهما يكن من الأمر فإن ريحانة استلقت على أريكتها في الشرفة مستسلمة لهواجسها، تتمثل أبرهة وقد بلغ مكة؛ فخرجت إليه قريش خاضعة ذليلة، تسأله العفو وتذعن له بالطاعة، ثم تتمثل الفيلة الضخمة وقد شدت إلى الكعبة تنقض بناءها حجرا حجرا، حتى تدكها وتسويها بالرمال المحيطة بها. ثم تتمثله عائدا بجيشه العظيم يشق جبلي صنعاء مرة أخرى ويسوق أمامه الغنائم والأسرى، وقد خرجت تستقبله في موكب ضخم مع شيوخ اليمن وأمرائها، وتستنجزه وعده الذي قطعه على نفسه أن يجعل لولدها سيف شطرا من ملكه. أيفعل حقا؟ أم يعود أدراجه وينسى وعده، أو يجحد أنه نطق بحرف منه؟ وما كادت ريحانة تخلص إلى تلك النهاية حتى ارتدت عليها الهواجس، تصور لها فرسان قريش وهم يسارعون إلى القتال من رءوس جبالهم الجرداء، وشعاب أوديتهم الوعرة التي يتربصون فيها، ثم يثبون على الحبشة فيشردونهم ويوقعون بهم القتل والأسر، حتى لا يبقى لأبرهة جيش. وتمثلته يرتد كسيفا يتعثر في هزيمته الشنيعة، هائما على وجهه في الصحراء. أهي نقمة القضاء عليه من أجل تشريده لأبي مرة؟ وخيل إليها أنها حقائق، لا هواجس يجسدها الوهم لها. وكادت تصرخ قائلة: «أية مقادير تلك التي تتعقب آثاري؟» لم تحمل إليها تلك الخواطر الحزينة شيئا مما تحمله أحلام اليقظة من الرضى، بل إنها حملت إليها فزعا وقلقا لم تكن تتوقعه، فلو هزم أبرهة حقا وشرد عنه جيشه، وارتد يتعثر في الهزيمة هائما على وجهه في الصحراء كما فعل أبو مرة من قبل، لكانت كارثة جديدة بعد كارثتها الأولى، كأن الزمان موكل بها يختار لها أشد الكوارث وأقساها.
وأحست يدا تمسح على رأسها في رفق، فالتفتت إلى ورائها وهي ما تزال ماضية في سبحها، ثم انطلقت منها صيحة مكبوتة: سيف؟
ومدت إليه يدها قائلة: أين كنت يا ولدي؟
وجذبته إلى مقعد بجوارها، وأشرق على وجهها شعاع من البشر وهي تتأمل قامته الفارعة، ووجهه الذي ينطق بالرجولة، وعينيه اللتين يأتلق فيهما نور حالم، وكأنها لم تره منذ كان طفلا إلا في تلك اللحظة، ألا ما أشد الشبه بينه وبين أبيه ذي يزن؟ أوهو الشبه بينه وبين أبيها ذي جدن؟ وأطرقت تفكر فيما تقوله له كما كانت تطرق كلما رأته يدخل عندها.
وخيل إليها أنه كان في مظهره ومشيته غير ولدها الذي اعتادت أن تراه مقبلا عليها، كأنها كانت غافلة عن مسايرة نموه حتى طلع عليها فجأة وهو رجل. أهكذا تبدل بين عشية وضحاها؟ أوهي التي كانت تنظر إليه ولا تراه؟ ولم يفتها أن ترى كذلك ما على وجهه من آثار تنطق بأنه يخفي في قلبه أشياء تقلقه وتحركه، ولا يستطيع أن يطلق بها لسانه. كانت عيناه تضطربان ولا تستقر نظراتهما، وقد أحاطت بهما دائرتان بين السواد والزرقة. وكان وجهه ذابلا، فيه خطوط تشبه تجاعيد الكبر، وتتوسط خديه بقعتان ورديتان تشتعلان حينا ثم تنطفئان. وهجم عليها ذلك الشعور القوي الذي تحسه الأم عندما ترى ابنها مشرفا على خطر، وامتلأ قلبها لوما لنفسها وإشفاقا على ذلك الابن، الذي لم يكن له في الحياة سند غيرها منذ طفولته الأولى. لقد تركته الأقدار طفلا وليدا بين ذراعيها، ثم ألقت به بين أعداء أبيه يمدون إليه أيديهم بالرحمة، وهم يشعرون في قرارة نفوسهم أنه ليس منهم، ولم يكن ذلك الشعور جديدا عندها، بل كان يهجم عليها في كل مرة يقع بصرها عليه، وكانت كلما أحسته وجدت نفسها تضطرب وترتبك، ويغمرها ضيق عجيب يطوي تحته أمواجا من مشاعر مبهمة، تشبه مشاعر الذي يتهم نفسه بجريمة لم يطلع عليها غيره؛ فكانت لا تطيق مجالسته إذا جاء يوما ليجلس إليها، ولا تقوى على مواجهته بعينيها خوف أن تنم عن خلجات ضميرها. فإذا انصرف تنفست نفس المكروب يؤذن كربه أن ينكشف عنه. وقد ازداد بها ذلك الشعور في الأشهر الأخيرة؛ لأنها كانت كلما لقيته أحست في غموض أنه يريد أن يقول شيئا ثم يرد نفسه عنه قسرا، فما ذلك الشيء الذي يريد أن يقوله؟
وسمعت من أعماقها صوتا يصيح بها: «خذي ولدك المسكين بين ذراعيك وبللي عنقه بالدموع، وافصحي له عن الحقيقة التي أخفيتيها عنه هذه السنين الطويلة. إنك تدعينه ابن أبرهة، وتأمرين الجميع أن يدعوه بذلك الاسم، وستكون صدمته عنيفة إذا تكشفت له الحقيقة يوما.» وكادت تطيع ذلك الصوت وتجهر له بالحقيقة السافرة. وأي عار عليها أن تكون قد أخفت عنه قصة مولده، وهو طفل لا يطيق أن يتحمل وقع المأساة ولا يتحمل معنى الحياة؟ بل أي عار عليها أن تتخذ أبرهة زوجا بعد أن خرج أبوه من الأرض وتركها وحدها لا حامي لها؟ ولكنها لم تقو على أن تخطو تلك الخطوة، بل ارتدت عنها في شيء يشبه الذعر. ألم تكن تستطيع أن تهلك نفسها قبل أن تصير زوجا لغير صاحبها؟ أكان أبرهة يجرؤ على أن يتخذها زوجة بغير أن يجد منها ما ينم عن الرضا؟ أقالت لأبرهة عندما لقيته: «أيها الرجل، اقتلني إذا شئت أو أطلق سراحي؟»
ورفعت رأسها بعد لحظات كأنها ساعات طويلة، ونظرت إلى ولدها ورأت ما عليه من أمارات القلق والتعب، ولكنها لم تلبث أن عادت إلى إطراقها في اضطراب وارتباك كأنها تتوارى.
ولاحظ سيف ما بدا على وجه أمه من ظلال الحيرة، ونظر إليها نظرة إشفاق مترددة، وهم أن ينطق بكلمات يسألها عما بها، ولكنه أمسك، فكيف يسألها عما بها في اليوم الذي يسير فيه أبوه إلى القتال؟
وفطن إلى الفكرة التي خامرته وقال في نفسه: أأقول إنه أبي فيما بيني وبين نفسي؟ فلم جئت إذن؟
ومرت دقائق أخرى وهو لا يدري أيذهب عنها معتذرا بعذر مصنوع كما فعل من قبل مرارا، ثم يذهب إلى مخدعه ليناجي وساوسه حانقا على نفسه، كما فعل في كل هذه الأشهر التي مضت عليه منذ أواخر الربيع؟ أم يجمع نفسه ويقذف الكلمة التي يريد أن يقولها؟ وذهب إلى جانب الشرفة يجول ببصره في البساتين والربى وفي جبلي نقم وعيبان، ووجد في اللحظات التي وقفها هناك متنفسا يستجمع فيه جنانه وأفكاره الشاردة. ولعل ريحانة كذلك قد وجدت في تلك اللحظات متنفسا تتماسك فيه، وتحاول أن تجمع قوتها لمقابلته. وعاد سيف إليها قائلا: معذرة يا أماه أن أكون قد جئت إليك في هذه الساعة التي ...
وتردد لا يدري كيف يتم كلمته. فقالت ريحانة مع ابتسامة ضئيلة: اجلس هنا يا سيف، اجلس إلى جنبي فإني في وحشة! وأشعرني بقربك مني.
وبعثت كلماتها فيه هزة، أأمه ريحانة في حاجة إلى أن يجلس قريبا منها ليشعرها بوجوده؟ إذن فهذا هو إلى جنبها، وقال في عطف وحماية: ها أنا ذا في جنبك أيتها الأم النبيلة. لا غرو أنك تحسين الوحشة في مثل هذا اليوم.
وكان صوته العميق يفيض رحمة. وأنست ريحانة إلى صوته وانقشع عنها كثير من وجومها، وقالت في هدوء: أين كنت يا سيف؟ لم تكن في موكب الأمس ولا في وداع أبيك اليوم.
وما كادت تنطق بكلمتها حتى عاد إليها جفولها وندمت عليها. أتعيد الكذبة في مثل هذا الهدوء؟ أتسأله عن وداع أبيه؟ وفتحت عينيها وأذنيها تنتظر الجواب في لهفة.
وقال سيف في هدوء كذلك: أبي؟ أسألك العفو يا أماه، فقد خرجت منذ يومين إلى وادي ضهر.
وغمرها شعور بالنجاة؛ لأنها لم تتوقع جوابه، وقالت كأنها في حلم: وادي ضهر؟
وأرادت أن تبعد عن موطن الخطر، فصرفت الحديث إلى ذلك الوادي قائلة: كانت ليالي قمراء.
فقال سيف: كان القمر في أزهى مطالعه حقا، لم أر الوادي في مثل منظره تحت أشعته الرفيقة، وكان يسبح بين السحب البيضاء كأنه ملاك يبحث في الآفاق عن الأشقياء ليبعث إليهم رحمته. كان يرسل أنواره إلى أركان الشطوط، كأنه يبحث فيها عن وحيد يؤانسه أو حزين يواسيه.
وأحست الأم أنه يعود إلى الموطن الذي تتهرب منه، وقالت في نفسها: «مسكين ولدي! إنه يهيم في الخيال كما أهيم، أهي جناية أخرى جنيتها عليه إذ أورثته لعنتي؟»
ثم قالت له عاطفة: أكنت وحدك؟
فقال في صوت خافت: ومن يكون رفيقي؟
وكان في نغمته شيء زادها قلقا.
فقالت وهي تتكلف المرح: ما أبدع وادي ضهر في الليالي القمراء! لقد طالما خرجت إليه في صباي في مثل هذه الليالي، وكان البدر كما وصفت، يخلع على جمال الوادي ما يشبه أن يكون سحرا.
ومضى سيف قائلا في حماسة: كانت السحب تحيط بالربى الحالمة كأنها إطار من فضة حول نقش بارع، وكانت الأشجار تقطع صفحة السماء بين باسق منها وقصير، في منظر يقصر اللفظ عن وصفه. كان السلام يلف الأرض الصامتة، وكأن صوتا عذبا من أنغام السماء يتردد في طباق الجو قائلا للناس إن الجمال أسمى من المجد، وأغنى من الغنى، وأخلد من الحياة.
وتبسمت ريحانة مرتاحة؛ فهذا خير من الحديث عن حرب قريش وعن جيوش أبرهة وعن التفكير في الأمس والغد. وعجبت أن تسمع من سيف مثل هذا القول الذي يشبه قول الشعراء، ولم يكن عجيبا منه أن يحس الشعر؛ فقد كان جده ذو جدن شاعر اليمن الذي بكى عزها الذليل. وقالت: إذن قضيت لياليك ساهدا.
فضحك سيف وقال: سوف ننام طويلا.
ووثب قلبها وثبة شديدة. ماذا يقول سيف؟
وقالت وهي تنظر إلى الدائرتين المظلمتين حول عينيه: لقد أجهدت نفسك يا ولدي، ألا تصيب بعض الراحة في مضجعك؟
فأغضى سيف وقال في شيء من الارتباك أو السخرية: مضجعي؟
فقالت ريحانة: ماذا بك يا سيف؟
وما كادت تنطق بلسانها حتى انكمشت.
فقال هادئا: عفوك يا أماه، فإني لا أحس رغبة في نوم. دعيني ساعة إلى جنبك فهذا أحب إلي.
وأحست ريحانة إحساسا غامضا بأنها حيال عاصفة توشك أن تهب، وقالت في دفعة لم تفكر فيها: أرى كأنك تخفي عني أشجانا في نفسك.
ثم انكمشت مرة أخرى وندمت على كلمتها.
وقال سيف: معذرة يا أمي؛ إذ أجيء إليك في مثل هذه الساعة التي تحتاجين فيها إلى السلام والمؤانسة، فأزعجك أو أثير أشجانك.
فقالت والألفاظ تنفلت منها انفلاتا: كنت منذ حين أراك على غير عهدي بك، كنت أراك قلقا حزينا، وأرى على وجهك حديثا تطويه عني، ولست أحب أن أتدسس إلى أسرارك، فإني أعرف الشباب وما يبعثه في القلب من شجون.
وتمنت لو أتاحت لها الكلمة الأخيرة منقذا من موقفها.
فقال سيف: ليس بي شيء مما تظنين يا أماه.
فقالت باسمة: أعرف أن للشباب أسرارا يؤثر أن يخفيها لكي يناجيها وحده.
وعلقت بصرها في وجهه تتمنى أن ترى عليه حمرة، ولكنها رأته هادئا، يذكرها بوجه أبي مرة وهو خارج إلى المعركة.
وأجاب: إني أعلم ما في نفسك اليوم من وحشة وقلق، وما كان أجدرني أن أجنبك فيه حديثي، ولكني أتيت إليك بعد أن سألت خيلاء. «إذا فهي خيلاء!»
وقالت ريحانة وهي تحس النجاة: خيلاء! أسألتها؟
فقال سيف مبادرا: نعم، وأنا آت من عندها في هذه الساعة، وهي التي أشارت علي أن أفضي إليك بكل ما في نفسي. إن إيمانها بك يشبه إيمانها بالعذراء. «أكان يسألها عني؟ ألم يحدثها هي؟ ليته يطمئن إلى سلامها ووداعتها؟»
هكذا قالت في نفسها. ثم قالت تتمسك بأمنية واهية: أكنت تنتظر مشورة خيلاء لكي تفضي إلي بما في نفسك يا سيف؟ قل ما عندك تجده ينطلق إلى قلبي قبل سمعي. لا تخف عني نبضات فؤادك.
فقال سيف: كنت منذ أشهر أترقب مثل هذه اللحظة، ولكني لم أجرؤ، وهي التي شجعتني على أن أفضي إليك بوساوسي.
فقالت ريحانة في نفسها: «وساوسه؟» واستعدت تستقبل العاصفة التي أحست ألا مفر منها.
ومد سيف يده إلى يد أمه، فأمسك بها ومضى قائلا: لم أجرؤ أن أحرك لساني بألفاظ لا تؤدي حقيقة ما في ضميري، وكثيرا ما خلوت في مخدعي أو في ركن من الأركان البعيدة، فأعيد على سمعي ما أود أن أنطق به، فكنت في كل مرة أجد الألفاظ ناشزة لا تعبر عن مقصدي؛ ولهذا كنت أتحاشى أن أزورك ما استطعت، ثم إذا غلبني شوقي إليك لم أشأ أن أطيل زيارتي.
فقالت ريحانة في صوت خافت: رأيت ذلك يا سيف، وكنت مثلك أود أن أتحدث ثم لا أجرؤ.
وما كادت تقول كلمتها حتى كادت تصيح قائلة: «لا، لا.»
وبادر سيف قائلا: عفوك يا أماه إذا سمعت مني ما يشبه أن يكون شكا، فما هو سوى وسواس أحب أن أكشف الستر عنه لأطرده من قلبي. أكاد أخجل من نفسي وأنا أسألك عن حقيقتي أيتها الأم النبيلة.
وكان قلب ريحانة يخفق في حنق، ولكنها تعلقت بأمنية واهية أخرى: ألا يقول سيف إنه وسواس؟
وقالت في مرح متكلف: حقيقتك؟ أنت سيف بغير شك.
فقال: نشدتك بحبي ألا تغلقي قلبي وقد جاهدت أن أفتحه. مريني أن أمسك لساني وأن أرد وساوسي إلى أعماق ضميري، ولن تسمعي مني حديثا في هذا أبدا.
وسرى حر في جسم ريحانة وندي جسمها، إنها حيال ابن أبي مرة، وامتزج في نفسها الإعجاب والضيق معا عندما قالت: عفوك يا ولدي، فما أردت إلا فكاهة. كن أكثر بيانا فإني لا أفهم. وخيل إليها أن الموقف أعنف من شجاعتها، وكادت تقول له: «بل استمع أنت يا سيف ولا تقل شيئا»، ثم تجهر له بالحقيقة بغير مداورة.
بل لقد خيل إليها أنها حيال أبي مرة نفسه وقد عاد إليها يحاسبها على التحلل من عهده. أتجثو على قدميه وتكشف عن نفسها صريحة ذليلة تسأله المغفرة؟
وقال سيف وهو أشد منها ارتباكا: بل اغفري لي أنت جرأتي، فإن لساني يخذلني، كيف أضع لك سؤالي؟ هل أنا ابن أبرهة؟
وكأنه وهو يقول هذه الكلمة الأخيرة رجل مستيئس، يرمي سهما إلى صدر عزيز، وهو يغمض عينيه حتى لا يراه يقع حيث رماه.
ولم تملك ريحانة صيحة انفلتت منها، ثم تهالكت في مقعدها.
فقام سيف في لهفة وأمسك بيديها قائلا: أيتها الأم النبيلة، عفوا. لا تظني بي الظنون فإني ما تزعزعت عن يقيني لحظة، كان خيرا لدي لو كان شكي في انتسابي إليك أنت، ولكن لم تطعني طبيعتي. كيف آتي إليك أسعى بنفسي يائسا سائلا: «أنا ابنك حقا؟» حين روحي تصيح بي ودمائي تتداعى بالحق أنك أمي. غير أني لو كان هذا سؤالي كان عندي أخف وقعا وقسوة، بل لعلي أراه أشبه شيء باعتراف مني بحسن صنيعك. أنت أولى بالنبل لو لم تكوني لي أما، وهبت لي من حنان فوق قدرة الوفاء والشكران. ليت قلبي يشك فيك فآتي شاكرا ما لقيت من إحسانك.
وسكت سيف لحظة، ونظر إلى وجهها الحزين وهي مطرقة صامتة، ثم استأنف قائلا في رقة: لا تضيقي بما أقول يا أماه. نعم، فإني أحتمل كل شقاء في الحياة، بل إنني أحتمل الموت أو العار نفسه حتى لا أحرم من بنوتك أيتها الحبيبة. ومع ذلك فإني أجد ألفاظ سؤالي تصدع سمعي كأنها قعقعة الصواعق، وتجعلني أتجرع ما أتجرع وأنا أسألك عن أبي، فرفقا أيتها الأم، ولا تحزني واحتملي قسوة سؤالي، فإن الألفاظ عاجزة عن أن تذهب ببشاعته.
وتمالكت الأم جنانها بشيء من القسر وقالت: ماذا يدفعك إلى أن تستسلم إلى هذا الذي تسميه وسواسا؟ وما الذي أدخله إلى نفسك؟ ماذا حملك على الشك في أبوة أبرهة؟ ألم تجده أبا بارا؟
فأجاب سيف: بل عرفته يقربني ويكرمني ويفيض علي من رحمته ما لا يدع لي شكوى، ولكني لم أحس منذ عقلت أنه أبي. كنت منذ طفولتي أشعر بشيء يقف حائلا بينه وبيني. كنت أدخل عليه فأناديه: «يا أبي»، ثم أحس قلبي يخونني، وأجد بردا يتمشى في مفاصلي. وأنظر إلى وجهه متأملا فأراه يبتسم لي مرحبا مداعبا، ومع ذلك فإني كنت أحس أنه يضحك مني، فأبادر خارجا أتسلل والخجل يبلل جسمي.
وصمت حينا، وكانت ريحانة مطرقة تحاول أن تهدئ من ضربات قلبها، ومضى سيف قائلا: قولي كلمة واحدة تكفيني. قولي ولو إشارة فإن صمتك يشعرني بأني ارتكبت جرما.
وأوشكت ريحانة أن تجهر بالحقيقة، ولكنها نكصت تتعلق بأمل ضعيف أن تؤجل الصدمة حتى تتبصر فيما تقول، فإنها كانت تحس أنها لا تقوى عليها في تلك اللحظة.
ومضى سيف قائلا: وهذه الأحلام يا أماه، أليست توحي بالحقيقة؟ وإلا فما هذه الرؤى التي تعتادني؟ وما هذه الأشباح التي تسألني عن أبي؟
وقالت وهي تكاد تغص بريقها: أهذا هو كل ما تشفي به نفسك يا ولدي؟ أوهام طفولة عابرة، وأحلام وأشباح لا تزيد على أخيلة؟ أما كان جديرا بك أن تكشف من قبل عن هذه الهواجس أو أن تلقاها وجها لوجه وقد كبرت وصرت رجلا؟ إنما هي أرواح خبيثة أعرف أنها تدخل على الطفولة أوهاما ومخاوف، وكنت دائما حريصة أن أقرأ عليك الرقى حتى لا تجد إليك سبيلا. فابحث في أعماقك ثم حدثني كيف تساورك، ومتى تعتريك اليوم؟ فإنه لا يجدر بك الآن أن تقيم وزنا لمخاوف الطفولة الجوفاء.
فقال سيف في حزن: ولكنها تتعلق بي برغمي، وما تزال تطاردني.
فقالت ريحانة وهي أملك لنفسها: ما هي يا ولدي؟ ما تلك التي تتعلق بك؟
فقال سيف: أشباح غامضة تتحرك في غبش الظلام وتنطق في جلجلة خرساء، فأهب من نومي وأنا أسأل: «أأنا ابن أبرهة؟»
ثم حدثها عن أحلامه التي كانت تعاوده على فترات.
فقالت ريحانة: أضغاث أحلام يا سيف، أضغاث أحلام. أمن أجل هذا تفسد على نفسك السعادة؟ أتعطي زمامك لخيال لا يزيد على أن يكون نفثة شيطان يحقد عليك؟ سوف أذبح للعذراء قربانا وأجعل خيلاء تصلي لها من أجلك حتى لا يعود إليك. واملأ قلبك يا ولدي بمباهج الشباب، أنت تعذب نفسك يا ولدي بهذه الأوهام التي تضرب فيها وتتطلع إليها، لقد صرفتك عن الحياة حتى ألفتها وجعلتها عالمك، وأسلمت نفسك للخيال يشرد بك، حتى إذا عدت إلى الحقائق وجدتها تصدمك وتهزمك وتجرفك. اعرف هذا يا ولدي لأنني عرفته في نفسي، ولعله ميراث مني، فحاول أن تتخلص منه وتعيش مع نفسك ومع الناس. أنت في زهرة العمر التي لا تتفتح إلا مرة في ساعة قصيرة، أما تخرج للصيد مع لداتك كما كنت تفعل؟ أما تذهب إلى منازه الأودية النضيرة مع صحبك وخدمك؟ وخيلاء، أين أنت منها؟ وهذه الدروس التي كنت تحضر فيها إلى ابن عمي أبي عاصم، لم هجرتها؟ أين ذهب أبو عاصم؟ لقد بلغني أنه غضب وذهب إلى داره في حقل صنعاء، أفلا تذهب إليه تسأله باسمي أن يعود إلى غمدان؟
وقامت تتنفس، وأخذت بكتفي سيف قائلة: دع هذه الوساوس واذهب الآن إلى مخدعك حتى تنال حاجتك من الراحة، قم إلى مخدعك معي، فأغني لك كما كنت أفعل وأنت طفل، أتضحك يا سيف؟ إنك ما تزال عندي صغيرا، وهكذا تبقى حتى تصير شيخا. نعم، هذا أطيب لنفسي، فقبلني كما كنت تفعل كل ليلة إذا ذهبت إلى سريرك. هلم فاستشعر الأمان إلى جنبي.
وجذبته فسار معها حتى ذهبت به إلى حجرته، واستطاع بعد قليل أن يغمض عينيه على أغنيتها، وهي تمسح بكفها على شعره الصقيل، وتبسمت في حزن عندما نظرت إلى وجهه الهادئ في نومه كما كانت تبتسم كلما رأته ينام وهو طفل، وسألت نفسها كما كانت تسألها: «ماذا يكون غدا؟» ثم عادت إلى مخدعها تجرر قدميها، وهجمت عليها ذكرياتها تتدسس في تلافيف سرها، وكان رثاؤها لنفسها يصاحب رحمتها لولدها، كلاهما يعيش في الخيال ويصطدم بالحقائق، كلاهما يهيم مع الصور ويفزع من الواقع. أية لعنة أورثت ولدها! وأسفت أشد الأسف على أن ابن عمها، الشيخ غادر القصر، فهو وحده الذي يحب ولدها ويستطيع أن يعيد إليه الطمأنينة. ولكن أيرضى أن يعود؟ أيرضى وهذه الذئاب تتربص به في بلاط غمدان؟ وعزمت على أن تتوسل إليه ليرضى، فإنه البقية الضئيلة من أهلها، لعل ولدها يجد في قربه أنسا وفي حكمته هاديا.
الفصل السادس
قال الراوي:
كل شيء في الحياة يتغير، وهذا أمر لا شك فيه ولا موضع فيه للتأمل. ولكن الذي يدعو إلى العجب هو أن الإنسان يتغير بين صباح ومساء أو بين ساعة وساعة في نظرته إلى الأمور وفي تقديره لنفسه ولما يحيط به، فقد يرى الدنيا معتمة في ساعة، ثم يراها متلألئة في أخرى، وقد يضيق بأمر في موقف، ثم يكاد يسخر من ضيقه في موقف آخر، وقد يكون ذلك التغير نتيجة لسبب تافه، مثل كلمة أو حادث صغير، كما قد يكون لسبب غامض خفي لا يستطيع أن يتبينه. تعجب سيف من نفسه عندما رأى الأمور تتبدل في نظره بعد أن استيقظ في عصر اليوم الذي لقي أمه في صباحه، كان عندما هب من نومه شخصا آخر غير الذي كان في الصباح، واستعاد حديثه مع أمه وجعل يردد أقوالها حرفا حرفا، ويتمثل حركاتها حركة حركة. وخيل إليه أنه إنما كان يلتمس أسباب الشقاء لنفسه بالاسترسال في أوهامه، والخضوع لوساوس أحلامه. وكاد يضحك من الحماقة التي جعلته يترجح في هبات تطوح به كما شاءت، بغير أن يتحكم في نفسه بعقله كما ينبغي لمثله، بعد أن شب عن طوق الطفولة. ألم تكن أمه صادقة إذ قالت له إن أوهامه لم تكن إلا مخاوف طفولة؟ بل لعلها لم تكن سوى أثر من المتاعب التي أجهد فيها جسمه في تلك الشهور الأخيرة بغير حكمة. فما الذي كان يريده من وراء كل تلك الحماقات؟ أكان يحب أن يسمع أن أبرهة لم يكن أباه؟
وكانت الشمس الغاربة تطل على الحجرة من وراء صفائحها المرمرية الشفافة، فتملؤها بنور رفيق، يخلع بهاء على الأثاث الثمين الذي كانت ريحانة تعنى بترتيبه وتنسيقه بنفسها، كما كان يزيد في بهجة الأزهار الزاهية، التي كانت تبتسم في آنيتها الفضية الأنيقة.
ومد يده إلى زنبقة بيضاء متفتحة، وخيل إليه أنه يمد يده إلى خيلاء يحييها شاكرا، فهي التي أشارت عليه بأن يذهب إلى أمه ويكشف لها عن وساوسه ، حتى لا تبقى في ظلمة سره وتنمو ولا تدع له سلاما. وتذكر يوم مد يده بمثل تلك الزنبقة إلى خيلاء يحييها بها بعد غيبة، فرشقتها في شعرها الغزير، فكانت مثل غصن مزدهر. ماذا يقول لها إذا لقيها؟ فإنه سيلقاها بعد قليل في خميلة من خمائل البستان أو في ردهة من ردهات القصر، فإذا لم يجدها فإنه ذاهب إليها ليقص عليها ما سمع من أمه. ولكنه كان يجد في نفسه حديثا طويلا آخر لا يدري ما هو، ولكنه يعرف أنه يتدفق في أعماقه. أحقا استطاع أن يمتنع عن لقاء خيلاء عمدا كل تلك الأسابيع الطويلة، فكان لا يكاد يراها إلا في لحظات مثل لمح البصر، ثم ينصرف عنها كأنه يهرب منها؟ أي شيطان ذلك الذي وسوس له ليحرمه من جنته، ويقذف به إلى الشقاء الذي عذبه كل تلك المدة!
وعاد إلى حديث أمه يردده حرفا حرفا، ويتمثل حركاتها حركة حركة، وكاد قلبه يغوص في جوفه عندما لم يجد في كل ما قالته له ما يدل على شيء قاطع. لم تقل له في صراحة: «ما لك تقول هذا القول يا سيف؟ فإنك بلا شك ابن أبرهة.» بل كانت تسأله عن أسباب شكه وعن مبعث أوهامه، ثم أخذت بيده آخر الأمر إلى مخدعه، فهدهدت أشجانه بأغنيتها الحلوة حتى نام.
وذهب إلى النافذة، وكانت أشعة الأصيل تتخلل ظلال البستان ندية هادئة، لم تقع عينه على منظر أبعث على السلام منه. ورفث في صدره نشوة من الشعور الغامض الذي يجعل الشباب يغني بحب الحياة، فما الذي يحمله على تعكير صفائه باللجاجة في شكوك لا تؤدي إلا إلى الشقاء؟ إن الذين يجاهدون في سبيل أمنية عزيزة يحملون أنفسهم العناء حينا من الدهر؛ لكي يفوزوا فيما بعد بجزائهم الجزيل من السعادة عندما تتحقق أمنيتهم، فما الذي يدعوه إلى المجاهدة والمراجعة ومكابدة الأحزان؟ مع أن الأمنية التي يتوق إليها ماثلة أمامه بغير مجاهدة ولا لجاجة. وماذا يجديه من هذه الوساوس التي تطارده كأنما هي حريصة على أن تبرئه من أبرهة؟ ولو كان أنفذ بصيرة وأكثر حكمة لكان يتبين من أول الأمر أن خيلاء هي أمنيته الكبرى التي يتطلع إليها ويتمنى أن يحققها. أهي في مخدعها في مثل هذه الساعة، فلا تخرج إلى البستان لتتمتع بساعة الأصيل الحالمة؟
وكانت خيلاء في تلك الساعة في البهو الأكبر الذي يلي جناح الملكة، وتنتهي إليه الردهة المؤدية إلى حجرتها. هناك كانت تجلس في انتظار درس الشيخ أبي عاصم في تلك الأيام السعيدة الماضية، قبل أن يطرأ على سيف ذلك التغير العجيب الذي اعتراه في الأشهر الطويلة منذ الربيع المنصرم. وسارت حول البهو تقلب بصرها في تحفه وتماثيله ونقوش أثاثه وستوره، وهي شاردة لا تدري ماذا تفعل هناك. كانت تعلم أن الشيخ انقطع عن دروسه منذ أيام، وأنها لن تستقبله هناك كما كانت تفعل من قبل، فماذا كانت تبغي من بقائها هناك؟ وتمثلت لها صورة سيف الذي رأته في الصباح عند عودته من وادي ضهر، وكان عند ذلك مضطربا يلوح عليه الحزن على رغم ابتسامته الضئيلة. وتذكرت ما قاله لها، وما أشارت به عليه من الذهاب إلى أمه الملكة ليفضي إليها بأحزانه.
أفما كان ينبغي له أن يعود إليها ليقص عليها ما قالت له الملكة؟ أيكون قد خرج من عندها عائدا إلى وادي ضهر كما أتى؛ ليستأنف لياليه المسهدة؟ لم تعرف منه سوى أنه فريسة لشكوك مضنية لا تدع له سلاما في ليل ولا في نهار، وأنه لا يستطيع الإفضاء بشيء من تلك الشكوك إلى أحد إلا إلى أمه، فهي وحدها التي تستطيع أن تلقي الضوء عليها. وكان في نفسها شيء من العتب لأنه لم يفض إليها بشيء من تلك الشكوك، لعلها تشاركه برأيها أو تسري عنه بمواساتها. أهكذا لا يعود إليها بعد أن ذهب إلى أمه وأودعها أسرار حزنه؟ ولم يخل قلبها من الغيرة لأنه لم يظهر لها من الثقة ما كانت تتوقعه منه. ألا يستطيع الإفضاء بما في نفسه إلا إلى أمه وحدها؟ وكانت ترهف سمعها لعلها تسمع وقع خطواته فوق الطنافس الوثيرة، فلعله كان متعبا فذهب يستريح حينا، بل لقد كان متعبا بلا شك، فإن عينيه كانتا تنطقان بالإعياء. أو لعله ذهب إلى الشيخ أبي عاصم قبل أن يفكر في العودة إليها. ومن هي حتى يسرع إلى لقائها عقب لقائه لأمه؟ بل لعله كان لا يعبأ بلقائها أول الأمر لو لم يتفق لها أن تكون في البستان، منذ الساعة الأولى من الصباح في الممشى المؤدي إلى جناح الملكة، ومع ذلك فقد بقيت ترهف سمعها لسماع وقع خطواته، والأمل ما يزال يساورها أنه سيبحث عنها حتى يلقاها، لا شك في أنه لن يبطئ عن الليلة في السعي إليها. وأخذت تدبر في نفسها أحاديث كثيرة فيها عتب وفيها عطف وفيها رحمة ومواساة. كانت تردد في سرها ألفاظا تختارها وعبارات تتأمل جرسها وتقدر وقعها، حتى إذا لقيته وحدثته لم يخنها لسانها بكلمة تنم عن شيء من خواطرها، بل إنها كانت في عباراتها تحرص على أن تخفي قلقها ولهفتها على لقائه، وتظهر له أنها ما وقفت هناك في ذلك البهو إلا عفوا، وجريا على عادة تقودها إلى هناك بغير إرادة. وتذكرت آخر مرة لقيته فيها بذلك البهو، وكان ذلك في أواخر الصيف، كان عند ذلك شاردا صامتا، لا يكاد يهتز إلى شيء من قولها. وتذكرت كيف كانت نظراته خابية وانية، وكيف كان لا يرفع بصره إليها ولا يكاد يلقى نظرتها، حتى يحول عينيه سريعا في شيء يشبه الجفول. فما السر في تلك الجفوة التي اعترته؟ أهي الشكوك التي أدخلت إليه كل هذا التبدل؟ أم هو الذي انصرف عن مودته الأولى؟ وما تلك الحمرة التي كانت تصبغ وجهه، ثم لا تلبث أن تنطفئ وتخلف وراءها بقعة صغيرة وردية سقيمة؟ أكان عند ذلك يضمر مفارقتها وقطيعتها التي مضى فيها سائر الصيف وصدرا من الخريف؟
وطال انتظارها منذ ذهبت إلى البهو في عصر اليوم حتى اقترب الليل، وكادت تذهب إلى مخدعها فلا تفارقه ما دام سيف مقيما في غمدان، حتى تجزيه على جفائه بمثله. لا شك أنها تستطيع أن تدله على أنها لا تقف ساعات في البهو في انتظاره، ولا تسعى إلى لقائه في لهفة. ولكن ألا يكون قد غادر غمدان؟ أم يكون قد ذهب إلى حجرته فلا يبارحها سائر اليوم ويبقى إلى الليل في عزلته، ثم يبكر في الصباح خارجا إلى بعض ما يخرج إليه، فلا تراه بعد ذلك إلا اتفاقا إذا لقيته مصادفة عند عودته؟ وما يدريها أنه إذا لقيها بعد ذلك يوما ألقى إليها تحية فاترة من بعيد ثم يمضي إلى حيث يريد، فلا تصيب من وراء لهفتها إلا أقسى الآلام وأبشع الهوان.
ولكنها مع ذلك بقيت في البهو كأنها في رحلة حوله، تقف عند كل صورة تتأملها حينا، ثم تنتقل إلى أخرى، وأنفاسها المضطربة تساير دقات قلبها، كلما سمعت صوتا تحسبه حفيف ثيابه أو وقع أقدامه. وكيف تلقاه فاترة هادئة وهذه الخفقات تسرع بأنفاسها، ولا تستطيع معها أن تتحدث إليه هادئة؟ وعزمت على أن تلقاه إذا أقبل نحوها وهي عابسة، كأنه لم يكن عندها شيئا. ولكن ألا ينم ذلك العبوس عن مقدار اهتمامها أو يكشف عن لهفتها؟ ألا يدله ذلك على أنها كانت تفكر فيه وأنها قد تعمدت أن تقف في البهو لتلقاه؟ ولكن ما الذي يحملها على كل هذا؟ وكانت قد بلغت في سيرها الركن الذي فيه الوعاء المرمري الوردي، هناك كانا يجلسان جنبا إلى جنب على الأريكة المجاورة له، ويعلقان فيه بصرهما ويتحدثان في حماسة عن بهاء لونه وبراعة صناعته. وكان سيف عند ذلك لا يخفي عنها نأمة من صدره ولا يطوي عنها شيئا من أفكاره. كان يتدفق في حديثه إليها مرحا باسما سعيدا، ويجعل الدنيا تبتسم أمامها مرحة سعيدة. فما الذي غيره وجعله يتنكر لمودتها؟ ألا يكون ما ذهبت إليه في قلقها من تهويل الخيال، وهو بريء من كل ما ذهبت إليه؟ ألا يكون في ضيق أو حزن أو يأس لسبب من الأسباب التي تعرض لمن كان مثله؟ ليته لم يكن سيف بن أبرهة، ليته لم يكن سوى شاب تستطيع أن تلقاه عاطفة وتقول له: ها أنا ذا إلى جنبك، أقدر على أن أخفف عنك وأن أواسيك بنفسي. وما الذي يمنعها أن تقف إلى جنب سيف بن أبرهة فتخفف عنه همه وتواسيه بنفسها وعطفها؟ إن الرحمة والمودة والمواساة من هبة الله للقلوب الإنسانية، ولا ينبغي أن يقف شيء في سبيلها، فخير لها أن تقبل عليه باسمة مرحبة وتفتح له قلبها وتسأله عن نفسه، وتعتب عليه لأنه لم يظهر لها الثقة التي كانت تنتظرها. خير لها أن تدسس إلى أعماق سره، ولا تجعل شيئا من الأوهام يقف حائلا بينهما، ولكن كيف ينظر هو إليها؟ أينظر إليها كما ينظر أمير إلى فتاة وحيدة، لا تعرف عن نفسها شيئا سوى أن ريحانة الكريمة تضمها إلى جناحها؟ ألا يكون مثل يكسوم؟ ألا يكون كل ما ظهر منه نحوها نوعا من إعجاب السيد بجارية حسناء؟ ألا يكون قد أحس شيئا جديدا بعد أن تخطى حدود الصبا وأصبح كما تراه رجلا؟ كأن تلك الشهور الأخيرة قد أضافت عشر سنوات إلى سنه وسلبته تلك السذاجة الطيبة التي كانت تجعله زميلا صديقا ... لم لا يكون ...
ولم تقو خيلاء على المضي في ذلك التفكير المظلم؛ فليس من الوفاء لسيف أن تقرن صورته بصورة أخيه يكسوم القاسي، الذي تنطق كل جارحة فيه أنه فظ طاغية.
لم لا يكون ...
وسمعت عند ذلك حفيف أقدام على بسط البهو، فدق قلبها سريعا، ولكنها لم تلتفت وبقيت حيث هي تنظر إلى الوعاء المرمري، وبدأت عند ذلك حقا تلتفت إلى لون الوعاء ونقوشه البديعة التي تشبه الوشي فوق ثوب الحرير. وكانت الصورة التي عليه تمثل جانبا من بستان فيه شجر باسق، يظلل رقعة خضراء تتخللها شجيرات تتدلى أغصانها محملة بعناقيد مرسلة من الزهر، وكانت الطيور تبسط أجنحتها، بعضها يسبح في الهواء وبعضها يهبط نحو الأرض، والقمر الكامل في أعلى الصورة يبعث أشعته على شابين، فتى وفتاة، يسيران في الممشى، وقد تعاقدت يمناه بيسراها وهما يبسمان نحو القمر.
هناك طالما وقفت مع سيف يتحدثان في إعجاب عن الصورة ونقشها، قبل أن يأتي الشيخ أبو عاصم إلى الدرس.
واقتربت الخطا خفيفة، فخفق قلب خيلاء تأثرا ولكنها لم تلتفت، هي هي خطاه، فهي تعرفها من بعيد، وسمعته يناديها باسمها في نغمة عجبت لها، هي نغمته التي تعودت أن تسمعها من أمد بعيد كلما أقبل نحوها في أصائل الربيع، ولم تدر ألتفتت إليه آخر الأمر أم بقيت جامدة في مكانها، فإنها وجدته ممسكا بيدها يتدفق في تحيته، وعيناه معلقتان في عينيها مخلصتان كعهدها بهما، صريحتان تشعان مرحا. وقال مبادرا: أنت هنا؟ لقد بحثت عنك في كل مكان، في البستان وفي جناح الملكة وفي حجرتك، وأنت هنا تخفين نفسك عني وراء الآنية المرمرية والفضية؟
فقالت في نغمة عتاب: كما أخفيت نفسك عني.
ونسيت كل العبارات المقدرة التي رددتها في نفسها من قبل حتى حفظتها، كما نسيت شكوكها التي كانت تتدافع في صدرها منذ لحظات. وازدحمت المشاعر على لسانها تريد أن تتدفق، ولكنها لم تنطلق فبقيت صامتة، وقنعت بما نطقت به عيناها. ولكنه لم يقف ليقرأ ما على وجهها ولا ليستمع إلى ما تنطق به عيناها، بل أسرع غير متحفظ يقص عليها ما كان بينه وبين أمه منذ فارقها في الصباح، وتنبه بعد أن قص عليها ما أراد إلى الوعاء المرمري الذي كانت خيلاء واقفة عنده، فقال لها: أتقفين وحدك عند الوعاء؟ أليس هنا موقفنا معا؟ ماذا ترين فيه يا خيلاء؟ حدثيني، فإني أخذت الوقت كله لنفسي، وأحب أن أروي سمعي من صوتك. ماذا ترين في هذا الوعاء؟ كنت أسمع منك عنه أحاديث طلية، ولكنك تعرفين أنني أعجز عن حفظ هذه الأقوال التي تحسنين صياغتها.
فقالت خيلاء باسمة: قطعة من المرمر الوردي الجميل.
فقال سيف: أهذا كل ما عندك؟ إنك اليوم متحفظة، كأنك تعرفين أنني أحب أن أتكلم. نعم، قطعة من المرمر الوردي الجميل كانت يوما في جوف صخرة، قد يتخذها حجار ليضعها في جدار بيت، أو تتخذها عجوز فقيرة لتصنع منها رحى، أو تربط بها حبل عنزها.
ولكن انظري يا خيلاء كيف حولها صانعها إلى تحفة حية، بل هي أكثر حياة من كثير من الأحياء.
هكذا هي تمثل أمامنا دليلا على ما يستطيع الإنسان أن يصنع من الحجارة. وهكذا هي تنطق قائلة: «أيها الأشقياء الذين تفسدون الحياة على أنفسكم بالغباوة والحماقة، إنكم تستطيعون أن تصنعوا حياتكم بأيديكم. تستطيعون أن تجعلوا منها وعاء مرمريا بديعا بدلا من تركها قطعة صماء من الحياة.»
وكانت خيلاء تستمع إليه في نشوة، وتعجب أن يكون هذا الذي يتكلم هو سيف الذي رأته في الصباح. بل لكأنها كانت تستمع إلى شخص آخر غير الشاب المرح الذي كان يجلس معها إلى الشيخ أبي عاصم، ويكاد يضيق بما يفيض فيه الشيخ من المعاني. لم يسبق لها أن سمعت منه مثل هذا، لئن كان تبدل فما أسعد هذا التبدل. ومضى سيف يقول: كنت كلما وقفت هنا إلى جنبك يا خيلاء أحس شيئا غامضا لم أكن أفهمه، وإن كنت أحسه. انظري إليه يا خيلاء من بعيد.
وجذبها من يدها خطوة إلى الوراء وضغط على كفها وهو يجذبها، وأغضت خيلاء وعلت ابتسامتها حمرة.
وقال سيف: كأنها قصيدة، كأنها من تلك القصائد التي كان الشيخ يمليها علينا مترنما في إنشادها، وأنا أداري وجهي حتى لا أظهر ضحكي. لم أكن أفهم من قوله شيئا، وكنت أعجب لك كيف كنت تستمعين إليه في استغراق، كأنها قصيدة. ألا ترين ذلك يا خيلاء؟
فقالت خيلاء باسمة: هي كذلك إذا شئت، أو هي كما أسميها أنا فيما بيني وبين نفسي.
فقال سيف مبادرا: ألها عندك اسم؟ لقد حسبت أنني أول من قرأها.
وضحك معتذرا.
فقالت في صوت خافت: أسميها لحظة مسحورة. لحظة من اللحظات التي تمر بالأحياء فتهزهم وتأخذ بمشاعرهم وتنقش على قلوبهم، ثم يثبتها الفنان على قطعة جامدة من الحجر، فإذا هي مثل هذه الصورة التي تسميها قصيدة أو تحفة حية.
فقال سيف في حماسة وإعجاب: صدقت يا خيلاء، وما أبرعها من تسمية. حقا إنها لحظة مسحورة، جعلها الفنان تتحدى الزمان والتغير والفناء، وتبقى خالدة ثابتة وإن تبدل كل ما حولها. ذهب الفنان الرومي الذي صنعها، وذهب هذان الشابان اللذان كانا يقفان يوما في ظلال البستان المزدهر، ودار القمر دورات لا يحصى عددها، ولكن هذه الصورة بقيت خالدة على وعائها. البستان مزدهر أبدا، والطير لا يهبط من سمائه، والشابان يقفان باسمين ويشيران إلى البدر الذي لا يعتريه محاق. السعادة التي تغمرها في مأمن من صروف الدهر. ذهب الجزء الفاني من هؤلاء جميعا وبقيت الصورة تتضمن الجانب الخالد الذي لا يفنى، هما هناك شابان لا يعتريهما كبر ولا ضعف، ولا يداخلهما حزن ولا هم، هو لا يتغير، وهي لا تشك، هما هناك دائما سعيدين، يشيران إلى البدر ويتمتعان بالشباب، بل إن الغصون هناك دائمة النضرة تجري فيها مياه الحياة، وذلك الطير لا يسف ولا تنقطع أغنيته.
وعلى فجأة منها رفع يدها إلى فمه فاختطف منها قبلة، وتمنعت خيلاء في رفق، فأرسلها وقال في شيء يشبه الاعتذار: لو كنت فنانا لخلدت موقفنا هذا.
فقالت باسمة: أيستحق عندك الخلود؟
فقال سيف: وهل تشكين يا خيلاء؟ لو كنت فنانا لأبدعت صورة لا نكبر فيها ولا نفترق، نكون فيها مثل هذين. لحظة مسحورة حقا. وأخذ يدها في شيء من القسر، فرفعها مرة أخرى إلى فمه فلمسها بشفتيه. وسمعا من ورائهما صوتا يقول في رفق: لحظة مسحورة حقا.
والتفتا إلى الوجه الباسم الذي طلع عليهما، وقالت خيلاء في صيحة مكبوتة: مولاتي!
فقالت ريحانة في مرح: أشركاني في حديثكما، فإنه يجلو قلبي. ماذا سمعت منك يا سيف؟ لحظة مسحورة؟
فقال سيف: نعم، لحظة مسحورة يا أماه.
وكان ينظر إليها باسما هادئا وهو واقف، ومضى قائلا في هدوء: كنا نتحدث عن هذا الوعاء المرمري. انظري إليه يا أماه.
ولمعت عينا الملكة في رفق وقالت باسمة: صورة طالما استرعت نظري.
وقالت في سرها: صورة قديمة تتجدد، وحديث يعيد نفسه دائما.
ووقفت تتأمل الصورة وهي لا تكاد تلتقط لفظا مما كان يقوله ولدها وهو يبين لها دقائقها، ويعيد عليها ما قاله لخيلاء.
وقالت في سرها مرة أخرى: أهذه أول مرة يرفع سيف يد خيلاء إلى شفتيه؟
ثم قالت لهما: ألا نقضي ساعة في البستان؟ هلما فإن الليلة مقمرة.
وقضوا ثلاثتهم ساعة طويلة، حتى سطع القمر وراء الظلال ولف الليل بأشعته الهامسة، وكانوا يتناجون بحديث ذي شجون.
ولما عادت خيلاء إلى وحدتها كانت تحس أن الهواء يتنفس عطرا، وأن الحياة يغشاها جمال باهر، وأن الفضاء يردد أنغاما سعيدة. وبقيت صورة سيف مائلة أمام عينيها مع صورة الوعاء المرمري، وكانت حرارة شفتيه ما تزال مطبوعة على أناملها، ورفعت يدها إلى شفتيها في رفق كأنها تريد أن تستوثق من تلك الحرارة الرفيقة. وتمنت لو كانت مع سيف صورة كصورة الوعاء المرمري، لا تبلى ولا يدركها ما يدرك الأجساد من الفناء، ولا يعتريها ما يعتري قلوب البشر من تقلب أو هموم أو شكوك.
الفصل السابع
قال الراوي:
انصرف الزائران اللذان كانا مع الشيخ أبي عاصم في الصباح، وبقي هو في مجلسه مائلا بظهره على الوسادة التي وراءه، شاخصا ببصره في الفضاء الذي وراء باب الحجرة الفسيحة. وكانت ضبابة خفيفة تنعقد في الجو تضل فيها أشعة الشمس القليلة التي تنفذ من الباب، وتحجب عن النظر زرقة السماء، فكانت نظرته لا تستقر عند غاية، كما كانت أفكاره لا تستقر عند غاية. وبدت له الحياة مثل الفراغ الأغبش الذي لا معالم فيه، عماء من فوقه هواء ومن تحته هباء، لا تلوح فيه بارقة تتطلع فيها العين إلى ما وراءها. ماذا كان بالأمس وماذا يكون غدا؟ تذكر الأمس فوجد فيه كوارث تنبعث منها كوارث، مثل أمواج البحر المضطرب، كل منها يسوق ما أمامه، وهي جميعا تصدع الساحل في عنف، ولو بقيت من بعد تلك الكوارث المتلاحقة بقية من الأمل لكانت الحياة تبدو أقل جهامة؛ لأن الأمل يبعث في الشقاء شيئا من الرفاهة. ولكن أين يلوح وميض ذلك الأمل الخابي؟ لم يجده الشيخ في نفسه، فإنه كان في حياته وحيدا كأنه غصن اهتصر عن شجرته، فلماذا حرص على البقاء ولم يلحق بأصحابه الذين كانوا إلى جنبه وسقطوا في المعركة، ووجدوا الراحة في النسيان؟ ذهبوا جميعا وخلفوه بين هؤلاء الذين لا يعبئون إلا بأنفسهم وبما يعود عليهم من النفع في المال أو الجاه، ولا يغضبون إلا بمقدار ما يصيبون أو ما يصيبهم. وهل في مثل نفيل بن حبيب بقية؟ ذلك الذي كان يحدثه منذ ساعة قصيرة ويدعوه إلى العودة معه إلى أودية الصحراء ليثيرا معا ثورة القبائل على أبرهة، أليس هو الرجل الذي خان قومه من قبل عندما وقفوا لأبرهة منذ عشرين عاما؟ كان أبرهة عند ذلك يستميله بالوعود ويبعث إليه الهدايا، ويلوح له بالسيادة في قومه إذا هو تخلى عن المعركة، لم يتردد عند ذلك في شيء، وانقلب على أصحابه ففر من المعركة بلا خجل وأوقع الفشل في أصحابه، ولم يكن ذلك كله إلا من أجل السيادة والمال، ومن أجل الحقد الذي كان يضمره لمنافسه الشاب ذي يزن أبي مرة. وذلك الشيخ ذو نفر الذي جاء مع نفيل ليذكره بمجد حمير الزائل، ويقول له بصوته المتهدج المرتعش: لقد ذللنا. أذللنا لأن أبرهة ذاهب إلى قريش ليهدم كعبتهم؟ ألا يغضب إلا لأن أبرهة يصلي في القليس ولا يعرف آلهة قريش؟ ألا يعبأ بشيء سوى اللات والعزى ومناة؟ أما ذلك الذل الذي استعبد فيه الأحرار وأهدرت فيه الكرامة، والحرمان الذي يعيش فيه أهل المدن والقرى والبوادي؛ لكي يوفروا للسادة السفلة ما يتنعمون فيه من ترف، وذلك الظلم الذي يخبط الناس خبط عشواء ليمهد للطغاة أسباب السرقة، أما هذا كله فلا يعبأ به ذو نفر. أين ذو جدن؟ وأين ذو يزن؟ وأين الآخرون الذين سقطوا وقوائم السيوف في أيديهم، أو هاموا على وجوههم في الأرض ليستأنفوا الجهاد إذا ما سنحت الفرصة؟ وتذكر صورة الشاب الفارس أبي مرة الذي كان يحارب إلى جنبه حتى أثخنته الجراح، وتمثل صورته وهو يتسلل في الظلام إلى ظهر فرسه، ويناديه باسمه هامسا بصوته الضعيف قائلا: «إذا كتبت لك الحياة فانظر إلى زوجتي وولدي.» إنها لبقية ضئيلة تلك التي بقيت بعد هؤلاء. أما هو ففيم امتدت به الأيام؟ وتمنى الشيخ لو كانت الجراح التي أصابته في ذلك اليوم قد ذهبت به مع صديقه وابن عمه ذي جدن، أو لو استطاع أن يقوم على قدميه مترنحا من بين جثث القتلى كما فعل ذو يزن، ثم يلتمس فرسا من بقايا المعركة ويتسلل معه في الظلام ضاربا في الأرض، ولكنه أفاق من غشيته فوجد نفسه في خيمة، ووجه أسود يطل من فوقه، وتذكر إذ صاح به: «نح وجهك الكريه عني.» ولكن أبرهة ضحك مقهقها وقال: «إنها فكاهة ظريفة.» ثم التفت إلى أصحابه قائلا: «اعنوا بجراحه من أجلها.» ثم تذكر اليوم الذي رأى فيه أبرهة مرة أخرى بعد ذلك، وكان أول ما قاله له: «أما زلت تكره النظر إلى وجهي؟»
وكانت لحظة ضعف غلب عليه حب الحياة فيها، فقال له: «بل أنت أكرم الناس نفسا أيها الملك.»
فما باله يلوم الناس على خضوعهم لأبرهة، وقد كان من أولهم خضوعا. وأحس الشيخ أن الجو يزداد ظلاما، فقد مرت به هذه الأعوام العشرون وهو يحاول أن يصرف نفسه عن التفكير في الحياة، منقطعا إلى الكتاب. وسافر في أنحاء الأرض يلتمس ما يسميه الحكمة، حتى أصبح الناس يقولون عنه: حكيم اليمن وعالمها. فماذا أجدى عليه ذلك العلم أو تلك الحكمة؟ هل رعى أبرهة علمه وحكمته؟ هل رعى أذناب حاشيته أنه حكيم اليمن؟ لم يكن عندهم إلا رجلا تافها يتقرب إلى القصر بأن يكون معلما للصبية، ولو كان قد خرج ليفسد في الأرض أو يقطع الطريق ويسلب الناس، أو لو رضي أن يتذلل لأبرهة ويأخذ أجره على ذلك بسيادة مزيفة يستطيع بها أن يعسف ويملأ خزائنه من ضرائب العسف، لو أنه فعل ذلك لكان أكرم عند الناس وأسمى قدرا. وها هي ذي الأيام تتقاضى حقها منه إلى آخر ذرة، ولم يبق له إلا أن يشرب الكأس حتى ثمالتها. لم يبق له إلا أن ينتظر انقضاء آخر أيامه وحيدا محروما معدما.
وسمع الشيخ في وسط عاصفته كأن صوتا يناديه باسمه، ومن ذا الذي يأتي إليه في تلك الساعة في بيته المنعزل المهدم؟ أهو نفيل يعود إليه؟ أيجرؤ؟
وقام في شيء من الغضب إلى باب الحجرة، فأطل من الطنف على البستان الأشعث، ومن خلال أشجاره نحو الباب الواسع الخشبي الذي تراكمت الرمال تحت عقبيه. وقال: من أنت؟
فخرج سيف من وراء الفروع المتسلقة التي كانت تتوكأ صاعدة على جانب الطنف وأعلن عن نفسه.
وزحف الشيخ مسرعا، وكان صوته هشا يحمل ترحيبه، وتحرك ليهبط على الدرج المحطم وهو يقول: لقد تكلفت مشقة في سعيك إلى هنا.
فقال سيف وهو يسرع نحوه مادا يديه: عفوا يا سيدي الجليل، فإنه لا يشق علينا إلا أن نحرم منك.
ودخل الشيخ والفتى يسنده من ذراعه إلى ما يشبه البهو، لولا أنه كان عاريا من كل أثاث إلا أريكة خشبية خشنة تعلو شبرين عن الأرض، وعليها فروة شاة تغطيها، ومن ورائها وسادة. فمال الشيخ إلى الأريكة ليصلحها، وأومأ بيده كأنه ينفض عنها غبارها قائلا: لم تكن مثل هذه الأريكة بمجلس للأمير.
وتبسم سيف قائلا: كل ما في هذه الدار كريم يا سيدي الشيخ.
فتبسم الرجل ونظر إليه عاطفا، ثم التفت عنه ذاهبا إلى داخل الدار، فغاب لحظة، وجلس سيف على الأريكة وهو يدير بصره في البهو، وداخله ما يشبه الحزن أو الرحمة. الشيخ يؤثر هذه الدار المهدمة على غمدان! وعاد الشيخ ووجهه متهلل، وأعاد كلمته قائلا: لقد جشمت نفسك مشقة يا سيدي.
فأجاب سيف: لو كان في سيري مشقة لكان جزائي مضاعفا إذ أراك سليما معافى.
وقال الشيخ وهو يجلس: أعائد من وادي ضهر؟
وجاءت خادم تحمل طبقا من الخوص فيه أصناف من الفاكهة، ووضعته على الأرض بين يدي سيف، ثم خرجت تتعثر في أذيال ثوبها البالي. ومد سيف يده إلى الطبق وهو يقول: بل جئت من صنعاء. أهذه الفاكهة من بستانك؟
فقال الرجل باسما: إذا شئت أن تسميه بستانا.
وقال سيف وهو يذوق تفاحة: ما أشبه بستانك هذا ببعض أركان وادي ضهر.
ونظر إلى إفريز الجدار من أعلى، وكانت عليه زخرفة كبيرة الشبه بزخرف قصر ذي جدن، وكانت الجدران مطلية بجص أبيض لامع، لم تبق منه إلا قطع قليلة، وكانت الأبواب والنوافذ تحتفظ بأثر من روعتها، وبقية ألواح النوافذ المحطمة كانت من المرمر، الذي اعتاد سادة صنعاء أن يجعلوه في نوافذهم وسقوفهم، فلا يحجب لمعة الشمس وإن حجب حرارتها.
وقال سيف ماضيا في الحديث: لم أذق مثل هذه الفاكهة في غمدان، بل هي صنف لم أر مثله من قبل.
فانبسطت أسارير الشيخ وقال في بساطة: أأعجبتك حقا؟ وأخذ يمد يده إلى الطبق فيأخذ من أصنافه قطعا يضعها أمام سيف وهو يتحدث عنها وعن أشجارها، كأنه يتحدث عن جمع من الأصدقاء لكل منهم عنده قصة.
فهذا عنقود من العنب الملاحي، نقلت أولى أعواده منذ ثلاثين عاما من وادي الخارد، هدية من صديق كان شيخا لخثعم. وأما العنب الأشهب فقد نقل من وادي ضهر من حدائق ذي جدن جد الأمير نفسه.
وتبسم الشيخ قائلا: كان ذو جدن صديقا لي يا سيف. وأما شجر التفاح فإنه نقل من أعلى أودية السراة، أهداه الملك ذو نواس نفسه إلى أبيه شكرا له على خدمته في القضاء على ثورة أهل نجران. ألا تذكر قصة هذه الثورة؟ ثورة أتباع المسيح على ذي نواس؟
وكان سيف يستمع إليه في شغف كأن كل قطعة من الفاكهة إنسان من بقية الماضي، فلم يتنبه إلى سؤال الشيخ إلا بعد مضي لحظات، فقال في شيء من الارتباك: لا شك يا سيدي الشيخ أني أذكر تلك القصة، ولكني لم أعرف أنها وقعت في هذه السنين القريبة.
فقال الشيخ باسما: لم تكن في هذه السنين القريبة يا ولدي، فإنها وقعت منذ خمسين عاما.
ومضى في حديثه متدفقا في سرد الذكريات التي تثيرها فاكهة البستان، وكان يتحدث كما لو تحدث إلى نفسه. وكان سيف ينظر حينا إلى وجهه المجعد الذي خلعت عليه الحماسة شيئا من الحمرة، ثم إلى جدران البهو المتداعية وإلى نوافذه المحطمة، وإلى الفضاء الأغبر الذي خلف بابه كأنما كان يهيم في حلم.
ولما فرغ الشيخ من حديثه نظر إلى سيف عاطفا، كأن تلك الصور القديمة قد أشاعت في نفسه أنسا بعد وحشة، وتنفس عميقا وهو يقول: لقد نسيت نفسي فأطلت الحديث عن هذه الأشياء التافهة التي لا تمثل لك شيئا. إنها أزمان مضت يا سيدي الأمير، ولم يبق منها إلا شيخ محطم تراه، مثل النخلة التي جف ماؤها وذوى أعلاها ونخر أسفلها.
فقال سيف في حماسة: بل هي أحاديث طلية، وما أشد أسفي إذ حرمت من مثلها هذه المدة الطويلة، ولعلها تتجدد يا سيدي الجليل.
فقال الشيخ هادئا: وكيف حال سيدتي؟
فقال سيف: هي في وحشة من غيبتك.
فنظر إليه الشيخ مترددا، وتحرك وجهه المجعد حركة خفيفة. وقال سيف ماضيا في الحديث: بل إن صنعاء كلها في وحشة من غيبتك، وما أكثر ما أسمع من سؤال أهلها عنك!
فقال الشيخ وبسمة ضئيلة تنطلق على وجهه: صنعاء في وحشة من غيبتي؟ وما أنا في صنعاء؟ وهل أنا إلا بقية من ماض بعيد لا محل له اليوم في مكان؟
ونظر سيف إليه صامتا، ومضى الشيخ قائلا: إنه لمنظر حزين عندما يجف البستان وتيبس أشجاره، وتتساقط الأوراق الصفراء عنها فتذروها الرياح، ولا تبقى منها سوى نخلة وحيدة يضطرب سعفها في عنف أمام عاصفة هوجاء. ما أشد شقاء النخلة الوحيدة والرمال السافية الكالحة تغطي الأحواض التي حولها، بعد أن كانت منابت لخمائل الزهر.
وصمت لحظة ثم قال: عفوا يا سيف، فإني أكاد أعجب من نفسي إذ أقول لك هذا، فكأنني نسيت أنك أمامي، إنما هو مثل أضربه، وما أكثر الخطأ الذي تطويه الأمثال في زخارفها!
فقال سيف: ولكن النخلة الوحيدة لا تبخل بظلها أبدا. ها أنا ذا أمضي مع المثل، وما أحسبه إلا صادقا.
فقال الشيخ باسما: ومن ذا يعبأ بظل نخلة ذاوية؟ إنه لا يغني شيئا إذا اشتد الحر في الظهيرة، ولا يقدم للناس عذرا بثمرة ترجى منه. ما أنا إلا رجل تخلف عن عالمه خطأ، ذهب لداتي الذين عرفتهم وعرفوني، وزالت معالم الحياة التي أنست إليها، فأنا لا أرى حولي إلا أغرابا، أجهل عنهم كل شيء ويجهلون كل شيء عني.
فقال سيف: قد تجهلهم أنت يا سيدي، ولكن من ذا يجهلك أنت؟
فقال الشيخ هادئا: ومن أنا يا ولدي؟
فقال سيف في ثبات: حكيم صنعاء، بل حكيم اليمن. هذا ما يقوله الناس جميعا.
فقال الشيخ: حكيم اليمن؟ ما أطيب الناس إن قالوا هذا!
لست أتواضع يا سيدي الأمير، ولا أحب التواضع الكاذب الذي يستدر الرحمة أو يختلس المجاملة، أود مخلصا لو استطعت أن أتجرد من هذا الفكر الذي أشعرني الجدب والإفلاس، فكلما تعمقت ضميري لم أجد فيه شيئا يستحق أن أسميه فكرا. فإذا عثرت على شيء أظنه يستحق أن أجهر به لم أجد جدوى في أن أنطق به. ولمن أنطق؟ لمن أتحدث؟ أللقليلين الذين يستطيعون أن يستمعوا، ومع ذلك فهم لا يريدون إلا أن ينصرفوا إلى التافه السخيف؟ أم إلى الأكثرين الجهلاء الذين لا يجدون وسيلة إلى شيء غير ما يمسك الرمق؟
فقال سيف: إذن تعيش لفكرك وحكمتك، وحسبك أن تكون موردا لنفس بشرية واحدة.
فأطرق الشيخ ثم قال في صوت خافت: لو علمت أن عندي ما يروي نفسا بشرية لما ترددت في شيء. ليس عندي ما يروي، فما أنا إلا رجل إذا عاش مع الناس عاش وحده. إن المغني لا يطرب إذا غنى في سجنه؛ لأن طربه مستمد من استجابة سامعيه.
فقال سيف: أليس هذا هبوطا بالفكر؟
فقال الشيخ: ولم تسميه هبوطا؟ إن الناس يخدعون أنفسهم بمثل هذه الأباطيل، وما هي إلا محاولة ماكرة لصرف الفكر عن أداء واجبه في الحياة. ليس المفكر مثل الوعاء الممتلئ الذي يفيض بما فيه عن مدد غير منقطع. لا يستطيع المفكر أن يؤدي الفرض الذي توجبه عليه طبيعته إلا إذا اتصلت أسبابه بالناس، واستطاع أن يستمد منهم نبع أفكاره، فهو يعطيهم ما يستمده منهم، مثل النحلة التي تستمد شرابها من قطرات الزهر ثم تحيله إلى عسل فيه حلاوة وشفاء. الأفكار لا تعيش في فراغ ولا تجد صدى إلا في القلوب، والمفكرون قوم فيهم شطط وكلفة، لا يرضون إلا إذا تحركت قلوب الناس ليستمدوا الإلهام من حركتها. ولكن الحركة تكلف الناس جهدا، كما أنها تزعج الذين اطمأنوا في مقاعدهم، بعضهم يقتعد الأكتاف من عل، والآخر يرزح مطمئنا تحت العبء الثقيل الذي يحمله، وكلاهما لا يحب أن يتكلف مشقة، فالراكبون على الأكتاف يخشون مشقة النزول، والرازحون تحت الأعباء لا يستطيعون أن يبذلوا جهدا ليتخلصوا من أحمالهم. فما الذي يحملني على أن ألتمس المتاعب لنفسي ولغيري؟
فقال سيف باسما: لم أقصد كل هذا يا سيدي الجليل، وإن كان ما أسمعه يلذ سمعي، ولكن قولك يحملني على أن أسألك هل ترتاح إلى أن تترك الشر مستقرا لأنك تشفق من الحركة؟ ماذا تريد أن يبقى للناس إذن؟
فقال الشيخ في شيء من الحنق: تبقى فيها الأسواق التي تعرض ما يطلبون.
فضحك سيف قائلا: عفوك يا سيدي، فإنها كلمة فكهة. أتقصد الخبز واللحم والمساكن والملابس؟
فقال الشيخ باسما: صدقت يا ولدي. وإن شئت فأضف الخمر والعطور وأنواع العقاقير من مخدر وسم وترياق.
فقال سيف: أهذا كل ما ينبغي أن يعرض في الأسواق؟
فقال الشيخ: في أسواقنا ... هذا ما يطلب الناس حقا ... هذا كل ما تتحرك نفوسهم إليه.
فقال سيف: وليس للفكر مكان؟ ولا للأدب ولا العلم ولا الحكمة؟ أأنت تقول هذا يا سيدي الجليل؟
فقال: لأني لست أحب أن أكذب نفسي أو أكذب الناس. ولكني لست أنكر قدر العلم أو الحكمة أو الأدب، وهل أنكرها وهي كل ما أدعي؟
فقال سيف: ما الذي يحملك على أن تحسب أن الناس لا يطلبون شيئا من ذلك؟
فقال الشيخ في شيء من المرارة: رأيتهم يختارون ما يطلبون وينصرفون عما لا يحسون حاجة إليه، هذا كل شيء. وجدتهم يشترون ما يتملق غرائزهم البهيمية وما يثير الحيوان في طبيعتهم، ويبذلون أثمانا غالية، حتى إنهم ليشترون الإنسان نفسه إذا وجدوا فيه متعة. أليسوا يشترون المرأة ليتخذوها أمة ومتعة؟ ألا ترى الناس يهبطون بالإنسانية إلى مستوى السلعة إذا وجدوها ترضي حيوانيتهم؟ ولكنهم لا يقذفون قطعة من الخبز الجاف إلى إنسان جائع. يبذلون الأموال في الخمر والميسر وفي الجواهر، في الحجارة الثمينة، وفي العطور والحرير، بل يرضون أن يبذلوا الأموال ثمنا لكلمة نفاق أو رياء أو مديح أو دعاية، ولكنهم ينصرفون ساخرين عن الإحسان وعن الكلمة التي تثير المعاني السامية، أقصد المعاني التي تقلق النفوس أو تكلف الأجسام شيئا من المشقة. هم يختارون ما يشاءون، ولا حيلة لأحد في حملهم على غير ما تهوى نفوسهم. أيستطيع أحد أن يلقي سلعته على الناس قسرا؟ تقول لا؟ إنهم يدوسونها بالأقدام ثم ينصرفون ساخرين. إذن فأولى بمن كانت عنده سلعة كاسدة مثل سلعتي أن يتحمل وحدته وأن يقنع بجدب الوحشة والعزلة، فذلك أرفق بي وأهدأ لضميري.
فقال سيف في شبه عتاب: قد يكون أرفق بك، ولكنه لا يمكن أن يكون أهدأ لضميرك.
بل عفوا أيها السيد الجليل إذا قلت: كأنك أنت تشفق على نفسك من الحركة. لا تؤاخذني فيما أقول يا سيدي، فإنني أحد من يطلبون ما عندك.
فقال الشيخ باسما: أنت؟
فقال سيف: عفوا يا سيدي، فكأنك تشير إلى ما اعتراني في تلك الأشهر الماضية.
فقال الشيخ هادئا: بل أشفق عليك يا ولدي. - وكيف؟
فقال الشيخ بعد لحظة صمت: لقد كلمتني صريحا فلأجبك صريحا.
ثم سكت لحظة أخرى واستأنف بعدها: إنك أمير وابن أبرهة.
وصمت مرة أخرى ينظر إليه، وخيل إليه أنه يرى حمرة خفيفة على وجه الفتى.
ومضى قائلا: وهذا الذي أصفه لك من فساد الضمائر وإسفاف النفوس وزر من أوزار الحكم. لا تؤاخذني فقد قلت إنني سأكون صريحا. بل لا يغضبك قولي؛ لأنني أقوله لك على أنني أمت إليك بصلة من القربى لا تعرفها.
فقال سيف: بل أعرفها، فإن أمي أخبرتني.
فقال الشيخ مرتاحا: لست أحاول أن أسمو إلى مقام الملكة، فما أنا إلا رجل من العرب وهي ملكة اليمن. ولكني أتوسل إليك بصلة القربى ليكون قولي عندك رفيقا. فإذا أردت أن تحرك الأفكار وأن تجعل الناس يتحركون، كنت بمثابة من يريد أن يزلزل الأرض تحت أقدامه.
فقال سيف: ولكن الحاكم يستطيع أن يصلح ويستطيع أن يسمو بالناس إذا خلصت نيته في الإصلاح.
فقال الشيخ وفي صوته هزة: هيهات يا ولدي! لعلك نسيت أنني عربي. لعلك نسيت أنني حاربت يوما في صفوف العرب ضد أبرهة.
فأطرق سيف حينا ثم قال: ولكن ذلك عصر مضى، وأبرهة اليوم ملك اليمن، والعرب رعاياه. بل لعلك أنت تنسى يا سيدي الشيخ أنني ابن ريحانة.
وخفق قلب الشيخ وقال: ما أجمل هذا يا ولدي! كأنني أسمع صوت ذي جدن.
فقال سيف: لقد نسيت يا سيدي أن أحمل إليك رسالتي، فإن أمي بعثت بي إليك ترجو أن تعود إلى غمدان.
فقال الشيخ: عهدتها نبيلة كريمة، فاحمل لها شكري ومحبتي.
وصمت لحظة ثم قال: واعتذاري.
فقال سيف في قلق: إذن فهل أقول إنني كذلك أتيت إليك راجيا؟ وهل أعزز رجائي باسم خيلاء؟
فقال الشيخ متأثرا: أنت تعرف ما لك وما لخيلاء عندي، ولكنك لا تعرف ما للملكة الرحيمة من دين في عنقي.
واستند برأسه إلى الوسادة التي وراءه وأغمض عينيه قائلا: احمل إلى الملكة الجليلة جميل عرفاني ورجائي أن تعفيني من العودة إلى صنعاء. لن أستطيع أن أعيش هناك طويلا، وأحس أن صفحتي قد طويت أو أوشكت أن تطوى، فدعني أقيم هنا في هذه الدار البالية أنتظر يومي. هنا لا أرى إلا السماء والنجم، أو هذا البستان الأشعث المضطرب، أو حقول الأودية المحيطة بي، حيث لا يلقاني إلا العامل الذي يسوق الثور، أو الراعي الذي يسير مع كلبه وراء غنمه، فهؤلاء أقرب إلى نفسي من كل السادة الذين أراهم في أبهاء غمدان. لا، لن أعود إلى غمدان.
فقال سيف: لا يحملك الغضب يا سيدي على أن تعيدني خائبا. ماذا أقول لك؟ أأقول لك أيها الخال العزيز؟
وتحرك الشيخ في مجلسه وأدار وجهه قليلا.
ومضى سيف قائلا: قد عرفتك كما عرفت نفسي، وإن كنت لا أبلغ أعماق حكمتك، وكنت أستمع إلى أقوالك أحيانا في ضجر عندما كنت تتحدث عن قوم أمي الذين حاربوا أبي، وكنت إذا قلت لي إنني أشبه جدي كنت أحس كأنك تريد أن تحط مني، ولكني كنت عند ذلك لاهيا، يحملني الجهل والغرور على تياره لا على طبيعتي. وإني أحس في نفسي شيئا جديدا، أحس كأنني كنت نائما ثم استيقظت، فأنا أنظر اليوم إلى الناس كما أراهم، ولست أكذبك أن بؤس الأشقياء يحرك من نفسي أكثر مما تحرك الكبرياء، أحس في قلبي أحاديث كثيرة، وأتلفت أحيانا أريد أن أجد أذنا تسمعني. وهناك خيلاء تستجيب لي، ونهيم معا في أودية الفكر على غير هدى، فهل لك أن تكون هادينا؟ ألا تجد سوقا لحكمتك إلا أن تكون سوقا عامة مزدحمة تلتمس لها الرواج فيها؟ لا تنزل إليها الحكيم بالحكمة إلى سنة الأسواق كما يفعل باعة الخبز واللحم أو الخمر أو العطور. لا تؤاخذني إذا كان قولي عنيفا فإني أود أن تسمع حجتي.
وأطرق الشيخ في صمت، وذهب به خياله إلى بعيد عندما قال له أبو مرة: «أوصيك بولدي.» أيقول الفتى إنه يحس في نفسه شيئا جديدا؟
ونظر إلى وجهه وإلى جبهته العالية وعينيه السوداوين العميقتين وتعبير ملامحه النبيلة، وخطر له سؤال وهو يعلق به عينيه: أما آن الأوان بعد؟
ولم يملك أن قال: سأعود معك إلى صنعاء يا ولدي، وإن كلفني ذلك ما بقي من أيامي.
وكان الليل يلف صنعاء عندما دخل الراكبان من بابها الضخم، وكانت الأنوار الباهرة تلمع من نوافذ القصر ومن وراء قبته المرمرية العالية. وذهب سيف إلى أمه بعد أن أنزل الشيخ في غرفة بمنزل الضيوف ليحمل إليها بشرى عودة ابن عمها.
الفصل الثامن
قال الراوي:
مضى الخريف والشتاء ولم يعد أبرهة مع جيشه العظيم إلى صنعاء، ولم يبعث خبرا بنصره على قريش، ثم أقبل الربيع في موكبه الحافل يختال بين البساتين ومروج الأرباض وفي الرحبة الفسيحة بين جبلي نقم وعيبان، وتزينت الأرض تتبرج في زخرفها، والسماء تبدي صفاء ديباجتها لا تشوبها إلا سحب رقيقة تكلل الربى المزدهرة. وكان النسيم يهب دفيئا يفوح بعطر الليمون والنارنج، والحياة الجديدة تردد أغنية مرحة كأن لم يكن في صنعاء خوف ولا كآبة، وكأن لم يكن ملك الأرض غائبا في تيه لا يدري عنه أحد شيئا. وجلست ريحانة في شرفة القصر تسرح بصرها في الأفق، وخيل إليها أن الطبيعة الضاحكة تتحدى هموم الإنسان وغروره ومطامعه. لم لم يبعث أبرهة رسولا كل تلك الشهور الطويلة؟ ألم تكن رحلة خريف؟ أم هو في شغل من تدبير ملكه الجديد بعد أن هدم الكعبة ودانت له قريش؟ وهل نسي أن يجعل لسيف شطرا من ذلك الملك الجديد؟ أو بدا له أن يقيم على الحجاز ملكا من أتباعه الذين كانوا يتبعونه كالكلاب الجائعة تنتظر أن يقذف إليها بفضلة من المجد؟ وكان فناء القصر يضطرب منذ الصباح الباكر بحركة الجنود؛ لأن يكسوم أعد لذلك اليوم موكبا عظيما يسير فيه إلى الكنيسة الكبرى للصلاة من أجل انتصار أبيه. وسمعت ريحانة تصايح الأحباش برطانتهم التي كانت لا تفهم منها حرفا، وخيمت على قلبها سحابة. ماذا تحس في أعماقها التي لا تستطيع أن تخفي عنها حقيقتها؟ أكانت تلك التي تخفيها هناك أمنية أم خوفا؟ أيكون أهل مكة حقا قد غرروا بأبرهة وتركوه حتى تنفد مئونته وتخور قوى جنوده من الحر والجوع والجهد، ثم هبطوا عليه من رءوس الجبال فجأة فحطموا جيشه؟ لم يبعث أبرهة رسولا منذ خرج، ولكن الأنباء كانت تتطاير في الظلام مثل خفافيش الليل، تذيع في الناس أن أبرهة قد هزم هزيمة طاحنة. أتحزن لتلك الكارثة لو كانت حقيقة؟ ماذا كان على أبرهة لو قنع بملك اليمن واقتطع لولدها قطعة منه ليعوض عليه ما أصابه في جده وأبيه وقومه؟ ولكن يكسوم يعد الموكب ليستنقذ الانتصار بالصلوات.
وضحكت ريحانة ضحكة كادت هي تفزع منها، وعادت تنظر إلى أعماقها لترى ما تخفي بها. أهي أمنية أم هي خشية؟ وماذا يفعل يكسوم لو صح أن أبرهة قد هلك كما تقول الأنباء التي يتهامس بها الناس إذا خلا بعضهم إلى بعض في ستر الظلام؟ كان يكسوم يزداد حنقا وقسوة يوما بعد يوم، ويزيده حنقا ما يرفعه إليه جواسيسه من همسات الناس في خلواتهم. كانت الطباق الرطبة الجاهمة التي في أغوار القصر تستقبل كل ليلة عددا من وجوه صنعاء، الذين يتهمهم الجواسيس بالتآمر على الثورة. بل إن يكسوم لم يتردد في أن يذهب إليها هي ليحدثها عن ولدها سيف وعن خيلاء، وأنهما يقضيان ساعات من الليل أو النهار وحدهما، يتحادثان فيما لا يدري أحد من الأحاديث، ويحضران معا دروس ذلك الشيخ الذي يفسدهما بآرائه التي لا تزيد عن سفاسف العامة. فكيف تسمح لسيف أن يجالس فتاة مثلها؟ وكيف يقيم الشيخ في غمدان عزيزا كأنه لم يكن في يوم من الأيام من أعداء أبرهة؟ أيبقى في القصر ليسمم قلب سيف ويلقي ستارا على اجتماعه بخيلاء؟ وكان يكسوم في ثنايا حديثه يشير إلى أن صبره كاد ينفد، وإلى أن سلامة الدولة لا تعرف قرابة ولا مجاملة. ومع هذا ستذهب معه في الموكب إلى الكنيسة وتصلي معه من أجل الانتصار، حتى لا يجد سبيلا عليها. وسمعت صوت الأبواق ودق الطبول، رأت تحت بصرها صفوف الأحباش تنتظم في صفوف وتستعد للموكب، ولن تستطيع أن تعتذر عنه بعذر من فتور أو مرض، بل إنها توسلت إلى سيف أن يركب معها حتى لا يلهب غضب يكسوم عليه.
وكانت كلما فكرت في ذلك الموكب زادت منه نفورا، وأحست هاجسا يهتف أنه ينطوي على نكبة. أيسير موكب في صنعاء الصامتة الكئيبة التي لم يمر عليها أشقى من الشتاء المنصرم ولا أشد كسادا من ذلك الربيع؟ لم تتوافد القوافل في ذلك العام كعادتها من الشمال والشرق، ولم تتلاحق السفن إلى شواطئ زبيد وعدن تحمل البضائع من أقصى أركان الأرض إلى صنعاء، ولم تنعقد الأسواق في ميادينها الفسيحة ولا في أرباضها الفيحاء، ولم يتزاحم أهل البوادي على الطرق المؤدية إليها صاعدين من كل فج عميق بما عندهم من سلع يعدونها طوال العام انتظارا للموسم الأكبر، ولم تكن صنعاء في ذلك العام ملهى صاخبا، فيه السمر إلى جانب البيع، وفيه المجون إلى جانب الجد، وفيه المسابقات والمباريات والمناضلات والمفاخرات بالأشعار. لم تشهد صنعاء في ذلك الشتاء المنصرم شيئا من كل ذلك؛ لأن الحرب تركتها خامدة مظلمة، وكانت طرقها الخالية وساحاتها العارية تبدو كأنها بقية من عالم مندثر. فهل كانت مثل هذه المدينة لتخرج بقية أهلها إلى الطريق العظمى لتحية الموكب، كما خرجوا لتحية أبرهة؟
وجاءت الوصيفة الحبشية لتؤذن الملكة بأمر سيدها أن الموكب في انتظارها، فسوت حلتها وحليها وقامت بطيئة بقلب ثقيل تسير في البهو نحو السلم الرخامي، ولما بلغت باب القصر كان يكسوم هناك بوجهه الجاهم، ومد إليها يده ليساعدها على الصعود إلى هودجها. وسارت الخيول بعد أن استوى الموكب. وكانت أصداء حوافرها تقعقع على الأرض الصلبة في الطريق الخالية. وكانت البيوت العالية مغلقة الأبواب والنوافذ عن اليمين والشمال. ونظرت ريحانة خلفها فزادت قبضة صدرها، كان سيف يركب جواده الأبيض عن يسار يكسوم، وكان ولدها مسروق يسير عن يمينه، وكان يكسوم على جواده الأدهم وعبدان يمسكان بزمامه، وفي يمناه حربة طويلة وهو يسمو بقامته وهامته الضخمة فوق الركب، ونظراته العابسة تبرق كما يبرق سنان حربته. إنه موكب يكسوم! ولاحت قبة الكنيسة مشرفة من بعيد من بين أشجار الجوز والليمون والسمر والسلم. ثم بلغ الموكب الباب المزخرف ذا الياقوتة الحمراء. وكان القسوس وقوفا تحت الدرج الواسع في استقبال الركب الملكي، يلبسون مسوحا سوداء واسعة، وعلى رءوسهم قلانس عالية، وتقدم القس الأكبر من الملكة، وفي يده صولجان من الأبنوس يعلوه صليب من الفضة.
ونزل يكسوم عن فرسه مسرعا، فقبل يد القس منحنيا، ونزلت الملكة في ثيابها البيض وعباءتها الحريرية الزرقاء، وكانت حليها تتوهج بالجوهر. وتقدم القس نحوها رافعا يده بالصولجان، ونطق لها بكلمات رومية فهمت منها أنها تحية مقدسة، فانحنت له في صمت، وسارت رافعة الرأس نحو الباب بين صفي القسوس حتى شقت الصحن. وكانت نوافذه العالية تصفي شمس الضحى في صفائحها المرمرية وزجاجها الملون، فيغمر الضوء الخافت الفسيفساء الأنيقة التي كانت تزخرف الممشى، ويخلع على جو الكنيسة غموضا وجلالا.
وأقام القس الصلاة، وكان ترتيله عميق الصوت يرن في جنبات الصحن، والصفوف المتراصة على المقاعد تنصت خاشعة. ولما فرغ من ترتيله أتى إلى الملكة والأمراء، فأشار إليهم ليذهبوا إلى قدس الأقداس. وكانت الشموع هناك تضيء الحجرة الضيقة بنور ضئيل، يغشى الجدران بظلال المذبح والتماثيل القائمة حولها، وكانت روائح الند والعود تفوح من مجامر النحاس ممتزجة بعطر المسك الذي طليت به الجدران.
وعادت الترانيم ترن جليلة عذبة، وأقبل القس الأكبر نحو الملكة رافعا صولجانه مرتلا بصوت هادئ، وتلقت الملكة بركته راكعة تميل برأسها نحوه، فلوح بالصليب فوق صدرها ورأسها، ولمس به تاجها الذهبي عند اللؤلؤة التي تتوسطه.
ولما فرغ من مباركته ذهب يكسوم إليه، فتناول طرف الصولجان وقبل الصليب وخشع يتلقى البركة، حتى إذا فرغ القس منه أقبل نحو سيف يباركه، وعلقت الملكة نظرها في وجه ولدها والقس يقترب منه، فإذا يكسوم يسرع ويدفعه في عنف، ويقدم أخاه (مسروق) نحو القس قائلا: «ابن أبرهة أولى.»
وكانت الحركة أسرع من أن تتنبه ريحانة إلى بدئها ونهايتها، فما كادت تفطن إليها حتى رأت وجه سيف يشتعل، ثم يتجه إلى يكسوم متحديا في حنق، وأحس القس حرج الموقف، فأسرع يبارك الفتى الذي تقدم إليه، وذهبت ريحانة إلى ولدها الذي أذهلته المفاجأة، ولكنه بادر قبل أن تدركه فانفلت من الحجرة قائلا: «لا حاجة بي إلى بركة.» وظهرت في عيني الأم دمعة، فحولت بصرها إلى الباب الذي خرج منه سيف، ودارت بها الأرض فلم تتمالك نفسها، حتى اقترب القس منها وعلى وجهه أثر من الارتباك وتمتم بكلمات، فقالت ريحانة: «عفوا أيها الأب المبارك»، ثم انصرفت خارجة.
وعاد الموكب في الطريق الخالية حتى بلغ القصر، وذهبت الملكة إلى جناحها مسرعة، حتى إذا بلغت مخدعها ألقت بنفسها على أريكة وغلبتها دموعها.
وجاء إليها سيف بعد قليل، فوقف عند رأسها ينظر نحوها صامتا، ثم ناداها بصوت خافت: مولاتي!
وسمعت صوته كأنها في حلم، فرفعت رأسها وقالت في صيحة مكبوتة: عفوك يا ولدي!
فقال سيف هادئا: بل عفوك أنت، فقد أحدثت لك حرجا يا مولاتي!
فقالت في ألم: أبهذا تناديني؟
وقامت إليه فضمته بين ذراعيها وألقت رأسها على كتفه باكية.
فقال سيف: لا يحزنك شيء أيها الأم النبيلة.
فقالت: بل تكلم يا ولدي وانطق بما في نفسك، ولا تخفف من عنفه شيئا. قل إنني كذبت وإنني ضعفت وإنني أسأت، فإنه خير عندي أن أسمع منك ما يصك أذني ويصدع قلبي؛ لعله يخفف من حزني.
فقال سيف: ليس في قلبي لوم ولا حاجة بي إلى مزيد من القول، لقد برح الخفاء، وما كنت تستطيعين أن تكوني أكرم نفسا.
فقالت ريحانة في ضراعة: دع لي فرصة لأبين لك عذري. إنما عذري إليك محبتي وإشفاقي وضعف الأم التي تحس ذنبها. لم تكن هذه الأكاذيب التي كررتها عليك هينة عندي، كان كل لفظ منها يجفف ريقي ويطعن قلبي، وكان ضميري في كل مرة يصيح بي قائلا: «اجهري بالحقيقة»، ولكني ضعفت ولم أطع صوت ضميري كما تفعل المرأة التي تحس ذنبها، وكان ذنبي أنني لم أقتل نفسي عندما كنت أحملك بين ذراعي. ألا فاعلم يا سيف أنك ابن الأكرمين كابرا عن كابر، أنت ابن سادة اليمن، وأنا ريحانة ابنة ذي جدن، كان أبوك زين الفوارس؛ أبو مرة ذو يزن.
ففتح سيف عينيه وقال في همسة مدهوشة: ذو يزن!
ومضت ريحانة قائلة: إنهما اسمان لا يزيدان عندك على لفظين، ولكن استمع إلى قصتي لتعرف من كان هذان.
وأخذت تسرد عليه قصتها وهو يستمع إليها في لهفة وتأثر. ثم قالت في ضراعة: هذه هي الحقيقة التي كنت أطويها عنك، وليس فيها ما يندى له جبينك خزيا إلا أن يكون أنني لم أضع في قلبي خنجرا عندما دخلت غمدان. فإذا كنت أسأت في هذا فإنني أطلب عفوك، ولا أتوارى مما يقع في قلبك.
ورفعت رأسها ثانية تنظر إلى وجهه الهادئ وجبينه الفسيح.
وأخذ سيف يديها فقبلهما قائلا: لم يقع في نفسي إلا أنك أعز الناس عندي وأكرمهم شيمة وأنبلهم قلبا.
وأطرق لحظة ثم قال: ولكن الحقيقة تطلع علي فجأة وتبهرني كما يقع النور الساطع على العين فيبهرها. قلبي يجيش ولساني يتلعثم.
والتفت يريد أن ينصرف، فتمسكت به قائلة: بل أقم إلى جنبي حتى أهدأ، ولا تدعني لأحاديث وحدتي العنيفة. وانفجرت في بكائها متهالكة على مقعد.
فبقي سيف في جوارها حزينا من أجل حزنها، ولكن أفكاره كانت تضطرب كما لم تضطرب من قبل في وساوسه، ورنت في أذنيه كلمات يكسوم وهو يقول: «ابن أبرهة أولى»، وتذكر نظرته عندما نظر إليه بعينيه الجامدتين. وعادت إليه فجأة صورة العينين اللتين طالما أفزعتا أحلامه وأفسدتا سلامه، أليستا هما العينين القاسيتين اللتين اتجه بهما إليه في قدس الأقداس؟ تلك نظرتهما وهذا بريقهما البارد، وتلك هي الهامة الضخمة، وذلك هو الوجه الأسود الذي كان يحملق فيه. إنه الوجه الغليظ الذي كان يصيح به في الأحلام: «من أنت حتى تضرب ابن أبرهة؟»
وكان في مضطرب أفكاره تلك ينظر إلى أمه المسكينة تهتز في فحمة البكاء وقلبه مملوء رثاء. ما كان أشد الأيام والليالي في قسوتها!
كان يراها مثل شابة لم تنل السنون منها إلا خيوطا بيضاء قليلة تلمع بين خصل شعرها، وما كان يستطيع أن يحسب يوما أن مثل تلك الآلام المبرحة تعذبها. أعرفت ريحانة في زمانها كل تلك المحن وعركت الدهر في كل تلك المواقف؟ فلو عرف أن أبرهة لم يكن أباه، وأنه لا يزيد على أن يكون ولدا لرجل من العامة، مات عنه أو هجر أمه حتى تلقاها أبرهة فضمها إليه، لما أحس في الأمر كله سوى صدمة الحقيقة. ولكن الحقيقة كانت أبشع من صدمة؛ لأنها كانت مأساة دامية، وما كانت ريحانة إلا إحدى ضحاياها. أكل ذلك كان ينطوي وراء بسماتها وأغانيها له؟ أكل هذه الأسرار السوداء كانت تكمن في قلبها ليلا ونهارا وهي لا تنطق بكلمة؟ وثبت بصره عليها حينا وقلبه يتحدث: أيتها الأم المسكينة، لم تتعذبين هكذا؟ ولم تبكين مثل هذا البكاء المر؟ ألأنك لم تقتلي نفسك عندما قتل أبرهة قومك وشرد زوجك وبعث إليك لتكوني امرأته؟
وناداها قائلا: هوني عليك يا أمي.
ووضع يده في عطف على رأسها.
وكأنها كانت تنتظر منه تلك الكلمة، فرفعت رأسها تنظر إليه نظرة ملؤها الشكر، وقالت: أنت هذا إلى جانبي يا سيف؟
فقال لها: أنا فداؤك أيتها الأم النبيلة، هوني عليك فإن هذه الأحزان تزيدك نبلا. إن قلبك الذي تحمل كل هذه الصدمات يجعلني أفخر بأنك أمي. كوني كما كنت دائما، أستمد منك قوتي وآوي إليك في لحظات كربي، وأستوحي منك سبيل الهدى. أماه، لست أجد من الألفاظ ما أبين به رحمتي وحبي وإجلالي سوى أن أقول أماه! وسأمضي عنك حتى تعودي كما كنت، فلا أراك من بعد إلا ظلا لي ونبعا وسندا.
وخرج من الحجرة كأنه يسير في حلم على رأس جبل، يرى من حوله فضاء ومن تحته فضاء، أنى رمى ببصره لم ير قرارا. رأى أن حياته كانت قائمة على هوة انكشفت فجأة بعد أن زال عنها غطاؤها، فرآها تفغر فاها مظلمة، ليس يدري ما ينطوي في جوفها. وبدت له الحقائق التي كان يطمئن إليها زائفة، والمعاني التي كان يستقر عليها ولا يخطر بباله أن يجادل فيها، مسارب ظنون يحيط بها الشك، وليس فيها موضع ليقين. عرف آخر الأمر أنه ليس ابن أبرهة، أليس هذا ما كان يود أن يعرفه؟ ولكنه عندما عرف الحقيقة أدرك أنه كان يهيم في الخيال، بل أدرك أنه كان يخدع نفسه بغير أن يحس، وأنه كان في قرارة قلبه يود لو بقي على نسبته. فعندما خرج من عند أمه أول مرة وقد سخرت من وساوسه عاد إليه هدوءه ورضي عن نفسه، شاعرا كأنه نجا من مأزق مخطر. ألم يكن ذلك لأنه كان يضمر أمنية خفية أن يبقى ولد أبرهة؟ وها هو ذا قد عرف الحقيقة، فماذا يجني منها؟ كيف يكون موضعه من يكسوم من بعد؟ وكيف يكون موضعه من خيلاء؟ أهي الأخرى لا تعبأ إلا بابن أبرهة؟ ونزل بغير أن يقصد إلى البستان، وسار في المماشي التي كان يسير في ظلالها مع خيلاء، وعادت إليه نبرات صوتها وهي تحدثه عن المساكين الذين كانت تراهم في ضوء القمر، يساقون إلى ناحية الجب العميق. كانت تهيم معه في الخيال مع أمانيها تقول له: «سنذهب يا سيف إلى أبيك إذا عاد، لتخرج هؤلاء إلى ضوء الشمس.» وسار يدفعه دافع نحو بناء كالح في زاوية القصر مما يلي مرابط الخيل. هناك كان يتسلل مع خيلاء إذا هما طفلان، فيتعلقان بالقضبان الحديدية التي تعترض النوافذ الضيقة القريبة من الأرض، ويتدسسان بنظرهما في ظلمة الفراغ الذي وراء النافذة، ويخيل إليهما أن أصوات الجن تنبعث خافتة من أعماق الجب العميق، تشبه صيحات بومة مخنوقة أو عويل قطة حبيسة، فيصيحان فزعا ويجريان مبتعدين عن البناء الغامض، حتى إذا ما صارا منه على مسافة مأمونة وقفا يضجان ضحكا ويصفقان ويقفزان. هذا هو الجب الذي حدثته عنه خيلاء منذ أسابيع قليلة، وكانت تحدثه بحزن عميق عن المساكين من أهل صنعاء الذين كان الأحباش يسوقونهم إليه في غلظة تحت الظلام. كان عند ذلك يحسب أن هؤلاء المساكين من رعاياه ورعايا أبيه، وأنه سيشفع لهم من أجل خيلاء. ووقف عند النافذة القريبة من الأرض، وخيل إليه أنه كان يسمع من وراء قضبانها الحديدية الصدئة أنينا بعيدا؛ إذن فهؤلاء هم قومه الذين يتعذبون ويفقدون أبصارهم؛ إذ يقضون أيامهم ولياليهم في غيابة الظلام، هم هناك يقضون أيامهم أنة بعد أنة، أو لحظة معذبة بعد لحظة. وثار قلبه غيظا من أجلهم ومن أجل نفسه؛ لأنه قد صار منذ ساعة أحدهم بعد أن كانوا رعاياه.
وانصرف مسرعا يحس كراهة تتزايد في قلبه، فلما بعد عن البناء الكالح التفت وراءه كأنه ينظر إلى الأنين الخافت يلحق به. وحمد الأقدار التي مهدت لأبيه سبيل الخلاص ليضرب في الأرض شريدا. ذو يزن! أو مرة ذو يزن! اسم له رنين، ولا غرو أن يكون صاحبه فارسا يستطيع أن يتحامل على نفسه في الليل وهو مثخن بالجراح ليهرب من العبودية. ولكنه لم يره يوما يبتسم له كما يبتسم الآباء إلى أبنائهم، ولم يشعر يوما بحمايته له ولا بمشاركته في عاطفة. لم يكن ذو يزن عنده سوى اسم، لا شخص له ولا صورة، ولو كان ابنا لأحد المساكين من الرعاة الذين يتواثبون على صخور الجبال وراء قطعان الماعز، لكان أحب إليه من أن يكون ابنا لخيال، فإنه كان يعرف ذلك الأب ويعيش كما يعيش ويشقى كما يشقى، لا يعرف وراء حياته أمنية جوفاء تقلق نفسه.
ومر بمرابط الخيل، فلمح من بعيد أحد السواس من الأحباش يركب مهره الأبيض، وهو يصهل في غضب ويقفز من تحته يريد أن يقذف به عن ظهره، ورفع السائس سوطه فأهوى به على رأسه، فصاح سيف صيحة مكتومة وأسرع يجري نحوه، حتى أدركه وقد رمى به المهر عن ظهره، وعرف المهر صاحبه فوقف حياله رافعا رأسه فاتحا خياشيمه وفي عينيه ذعر وغضب. وأقبل الحبشي بسوطه يريد أن يهوي به على رأس المهر، فبادر سيف إليه ونزع السوط من يده فأهوى به على وجهه بضربة حانقة، ولم يفهم شيئا مما صرخ به الحبشي وهو ينظر إليه نظرة وحشية، ثم ينصرف عنه مزمجرا. وأقبل سيف على مهره يمسح وجهه ورقبته، حتى هدأ وذهبت عنه رجفته، وأخذ يشم كتفيه ويصهل صهيلا خافتا، ثم قاده إلى مربطه وأوصى به كبير السواس. وقال في نفسه وهو ذاهب نحو القصر: «ماذا يكون من هذا الرجل لو عرف أنني لا أزيد على ابن ذي يزن؟» ولما دخل من باب القصر كان يتخيل في نفسه أن ذلك السوط الذي أهوى به على السائس قد نزل على وجه يكسوم. أيستطيع يوما أن يرد عليه إهانته؟
وزاد به الضيق عندما آوى إلى حجرته وأسلم نفسه للأمواج الصاخبة التي تدافعت إليه من شتى الآفاق، كيف يلقى الذين كان يلقاهم وهو ابن أبرهة؟ كيف يكون خطابه لهم؟ وكيف يكون خطابهم له؟ أيذهب إلى أمه آسفا يقول لها إنه يود أن يبقى أمام الناس كما كان، ولا يكشف لهم عن حقيقة نسبه؟ كم من صلات قديمة تنقطع عنه بعد يومه ذاك، وكم من صلات جديدة لا يعرفها سوف تصله بأقوام لم يلقهم من قبل؟ سوف تكون صلته الوثقى بهؤلاء الأشقياء الذين تلقى إليهم الفضلات ويسخر الأحباش من شقائهم، سوف يغضب لهم ويتلبس بمشاعرهم وينظر إلى الأشياء من ناحيتهم. وسوف يلقاه هؤلاء السادة الأذلاء الذين يحتشدون بباب القصر يتزلفون آل أبرهة، فينظرون إليه شزرا ويتبرءون منه علانية، كما كان يسمعهم من قبل يتبرءون من أبيه وهو لا يعرفه، وسوف تقع أقوالهم على أذن أخرى تحس في كل لفظ من ألفاظهم وخزة، ثم خيلاء، أكانت حقا ... لا! لم تكن خيلاء لتنظر نظرة أحد غيرها من الناس.
وسار في حجرته يحدث نفسه بألفاظ متقطعة تتخللها ضحكات تشبه أن تكون مأفونة: «إلى أين؟ من أين؟ ظلام فوق ظلام. أهذه هي الحقيقة؟ اسم جديد لخيال جديد؟ أهذه قصارى الحقيقة التي كنت أنشدها وأعذب نفسي من أجلها؟ أم هو حلم من الأحلام المفزعة التي طالما اعتادتني؟ أم هي صحوة من حلم طويل؟ أحقا رأيت الشمس طالعة في هذا الصباح ترسل أول شعاعها من وراء الأفق كأنه موكب قدسي؟ وهل كنت في الصباح حقا في موكب يكسوم، وذهبت إلى القليس واستمعت إلى ترانيم القسوس؟ وهل دفعني يكسوم قائلا: «ابن أبرهة أولى؟» أهاتان هما عيناه أم هما العينان اللتان أفزعتا أحلامي؟»
وضحك ضحكة أخرى جوفاء أفزعته، فأسرع خارجا من الغرفة إلى حيث لا يدري، وكأنه يهرب من نفسه.
وسمع صوتا في البهو يناديه: إلى أين يا سيف؟
فالتفت إلى خيلاء، وكانت تنتظر الشيخ أبا عاصم كعادتها ساعة الدرس، وقالت في لهجة الاعتذار: أراك مسرعا.
وكانت إلى جانب الوعاء المرمري، ونظراتها تنم على ارتباك ودهشة، وصدرها يتحرك في موجة رفيقة، وخيل إليه عندما رآها أنه كان غريقا فعثرت يده بجانب صخرة، وملأ عينيه منها ثم تردد كالحالم إذا بدأ يستيقظ، وتعجب كيف لم يرها من قبل في مثل هذا الرواء.
كانت خيلاء في تلك اللحظة مثل دمية أحد البارعين الذين يخلدون اللحظات المسحورة بفنهم، ولو وضعت في الكنيسة لكانت أيقونة العذراء. أهي خيال آخر في حلم متصل؟ واقترب منها كالمأخوذ، ومد يده نحوها ولم يدر ما يقول لها. ومرت لحظة طويلة وهي رافعة بصرها إليه مترددة، وكست وجهها بسمة خاشعة حزينة، وزادت موجة صدرها شدة، ونزع سيف ألفاظه مرتبكا: خيلاء! معذرة لما ترين مني. لم أذكر أنك هنا، بل ما عرفت أنني آت إلى هنا. تعالي أستمع إلى صوتك، فإن قلبي ممتلئ وهو مغلق، وكأن نبعا حارا قد انبثق في أعماقي، أحسه يتدفق كامنا مكبوتا فوارا.
وجلس معها على المقعد في جوار الوعاء المرمري، وكانت نظرتها على هدوئها تصيح سائلة. فقال سيف: لا تعجبي لما ترين، فإني اليوم غير من تعرفين، وغير من أعرف أنا. إنني أشك في نفسي في هذه الساعة وأشك في كل ما حولي، ويخيل إلي أنني في عالم أجوف لا حقيقة فيه، وكل ما أرى منه لا يزيد على صور يخلقها لي وهمي وأحسبها حقائق. أسمعيني صوتك لأني لا أستطيع أن أشك فيه إذا سمعته، أعينيني على العودة إلى حسي حتى لا أنفض يدي من الحياة يائسا.
فتحركت خيلاء في قلق لا يخلو من الذعر، ولم يخف ذلك عندما قالت: تثبت يا سيف وهدئ من روعك وحدثني بما يزعجك. حدثني عما تحس أو ما يحزنك، لعلي أحمل معك حملك. كنت اليوم في القليس؟
فقال سيف في ضحكة ثائرة: نعم، ذهبت إليه في الصباح. ذهبت إليها شخصا وخرجت منها شخصا آخر. إنني في هذه الساعة مثل طفل صغير يسير في الظلام ويرى فيه أشباحا، فينطق ولا يدري ما يقول، وينادي وليس يعرف من ينادي، لعله يأنس بسماع صوت نفسه، فكلميني يا خيلاء فإني أفزع من صوتي.
فقالت خيلاء: أما من سبب لكل هذا؟
فقال: إنني أبدأ حياة جديدة منذ اليوم، ولست أدري أين أتجه فيها. علي أن أرتادها وأن أفهمها بعقل غير عقلي الذي اعتدت أن أزن به أموري، وأن أتعرف أهلها وأحوالها بعين غير عيني الأولى. قلت لك إنني مثل طفل، فلا تدعيني أتكلم، لا تسأليني، بل تحدثي إلي، قولي أي شيء، حدثيني عن هذا الوعاء وعن اللحظات المسحورة؛ فقد كان حديثا جميلا. حدثيني عما صنعت منذ الصباح، أو عما قلت في صلاتك للعذراء، لعل ذلك يدخل إلى قلبي شيئا من إيمانك. لو كنت أومن بشيء لآمنت بنفسي، ولكني أسبح في فراغ.
فأمسكت خيلاء بذراعه في حزن وأطرقت تبكي صامتة.
فقال سيف: معذرة يا خيلاء، فقد قسوت في ثورتي العمياء. لا تظني بي الخبل، وإن كنت لا ألومك إذا ظننت ذلك. ولكني أحاول أن أتماسك. دخلت هذا الصباح إلى الكنيسة وأنا سيف بن أبرهة، وخرجت منها وأنا سيف بن ذي يزن. أتفهمين قولي؟
فرفعت رأسها في دهشة ولهفة، ولكنها لم تتكلم، فمضى سيف قائلا: كنت أعيش كل هذه السنين في نسيج من الأكاذيب، كانوا يسمونني ابن أبرهة وهم يعلمون أنني ابن رجل شريد، ذهب على وجهه في الأرض منذ كنت طفلا. وأخذ يعيد عليها قصة أمة.
وكانت خيلاء تعلق فيه بصرها وهو يتحدث ووجهها ينطق قائلا: «ما أسعدني!»
ولما فرغ سيف من القصة قال كأنها يحدث نفسه: سيف بن ذي يزن. اسم جديد، لو سمعته بالأمس لما استرعى سمعي إلا كما يسترعيه اسم في أسطورة، ولكنه اليوم هو السبب الذي يصلني بالحياة. سيف بن ذي يزن! سيف بن ذي يزن.
وكان في ترديده يتمهل، كأنه يريد أن يملأ منه سمعه ويتبين جرسه ويقدر رنينه.
وارتفع صوت من ورائهما يقول في حماسة: ما أعذبه اسما! كأنه خلق هكذا وكتب هكذا في سجل الأزل.
ولمع وجه الشيخ أبي عاصم وهو يتقدم قائلا لسيف: من علمك هذا؟
فقال سيف في ارتباك: كأنك كنت تعرفه يا سيدي الجليل.
فقال الشيخ هادئا: أعرفه؟ أسؤالا بسؤال؟
وجلس أمامهما على مقعد وطيء، وأعاد عليه سيف قصة القليس.
الفصل التاسع
قال الراوي:
فرغ الشيخ من درسه وكان خفيف النفس متدفق الخاطر، فبينما هو يتحدث عن يوم من أيام الحروب إذا هو يورد ما قال الشعراء فيه يصورون هزات نفوسهم، ثم إذا هو يسبح في معاني الخير والشر ومقاييس الفضل والنقص.
وقام سيف وخيلاء يشيعانه وهو يسير بخطواته الهادئة يتكئ على عصاه الطويلة، حتى خرج من البهو وأخفته الأروقة عنهما. والتفت سيف إلى خيلاء آخذا بيدها قائلا: كنت كمن صدمته صخرة فزلزلته حينا، ولكني أعود إلى نفسي، وما كنت أحسب أن جناني يعود في مثل هذه الساعة القصيرة. أرى الغشاوات تزول عن عيني، وأبصر الأشياء كما ينبغي لي أن أراها. ليست الأشياء كما خيل إلي منذ ساعة، صورا مجردة يخلقها لنا الوهم، فتبدو لنا في هباء تخدعنا وتضللنا. هذه أنت يا خيلاء إلى جنبي تستمعين إلي، وهذه يدك في يدي، وهذه هي السعادة ترف علينا حقيقة لا خيالا. أكاد الآن أومن بنفسي.
فقالت خيلاء باسمة: وعرفت الإيمان؟
فضغط سيف على يدها قائلا: ما أسرع العقول في تبدلها، وما أسرع تبدل الرؤى في أعيننا، أليست هذه الحواس تخدعنا؟ إنها تخيل إلينا أن الشمس تجري بين السحاب إذا هبت عاصفة، وأن القمر يسير معنا في الليلة الصافية.
فقالت خيلاء: وتملأ قلوبنا بذلك شعرا. أليس كذلك يا سيف؟
فقال سيف: ولكنك تسألينني عن الإيمان.
فقالت خيلاء: وهل نؤمن بعقولنا؟ الإيمان لا يدخل إلينا من العقل؛ لأنه أسمى من عقولنا، وأنى لنا أن ندرك بعقولنا المحدودة ما يتعدى الحدود المباحة للحواس؟ نحن نلمس المادة الكثيفة، ونرى ما يستطيع بصرنا الكليل أن يبلغه، ونسمع ما يقرع آذاننا، ولكننا لا نستطيع أن نكابر الحق ونقول إن هذا كل شيء، فإن وراء ما نلمس عالم لا يدركه اللمس، ووراء ما نرى عالم لا يبلغه البصر، ووراء ما نسمع عالم لا يكشفه السمع. ولو قنعنا في الإيمان بما تدركه الحواس، لما زدنا شيئا على النملة التي لا تستطيع أن تطير في الجو، أو السمكة التي لا تعيش إلا في الماء، أو الحية الصماء التي لا تدرك إلا ما في الرمال التي تدب عليها. لا نستطيع يا سيف أن نبلغ الإيمان عن طريق عقولنا؛ لأنها لا تعرف إلا ما تمليه عليها الحواس التي تستعبدنا. لسنا ملائكة.
فقال سيف هامسا: ألا يكون البشر ملائكة؟
فقالت: لا بأس علينا إذا لم نكن ملائكة، إذا كنا نتواضع ولا يحملنا الغرور إلى أبعد مما ينبغي لنا، فالبشرية ضعيفة محدودة، ولكنها لم تخل من جمالها. وهذا الضعف الذي فينا قد يكون مبعث سعادة لنا إذا نحن آمنا. بل إن هذا الضعف يحملنا على التعلق بالإيمان؛ لأنه وسيلتنا إلى السلام وإلى الرحمة وإلى المحبة.
فقال سيف في حماسة: لو تكلم الملائكة لما قالوا خيرا من هذا يا خيلاء. فإن كلماتك تبعث في قلبي من الإيمان أكثر مما يستطيع عقلي؛ السلام والرحمة والمحبة. سأومن يا خيلاء، وسبيلي إلى الإيمان هو أنت. أنت السلام والرحمة والمحبة، فأنت هو.
وأخذ يدها بين يديه ناظرا إلى عينيها، وتحركت تقبض يدها، فتمسك بها قائلا: ما كان لي أن أذهب حتى أقول كلمة ما زالت تشتعل في صدري.
فأغضت وسحبت يدها في رفق، ومضى سيف قائلا: نحن هنا وحيدان في غمدان يا خيلاء. لم أكن أعرف ذلك إلا بعد أن عرفت أني وحيد هنا، كأنني لم أسأل نفسي عنك إلا في هذه اللحظة. نحن هنا وحيدان معا، والدنيا أمامنا فسيحة تدعونا لنلتمس فيها السعادة.
وبقيت خيلاء مطرقة صامتة.
ومضى سيف فقال: ألا تجدين في قلبك جوابا؟ أليست القلوب تتحدث؟ ألا تحسين ما أريد أن أقول؟ لست أجد لفظا يقوى على نقل ما في نفسي، فابحثي في قلبك عن الجواب على سؤال لم أنطق به بلساني.
فقالت بصوت متهدج: أنت تعرفه يا سيف.
فقال في حماسة: أعرف الأصداء التي تتردد في قلبي، ولكني أتوق إلى سماع صوتك لأنني أتوق إلى أن أستشرف السعادة منذ لحظتي هذه. انطقي بلفظة أتخذها زادا حتى نلتقي مرة أخرى. لم أكن من قبل أعرف حقيقة هذا الذي أحسه، أنت رفيقة طفولتي، وصاحبة صباي، وصديقة شبابي، ولكن هذا كله يتضاءل إلى جانب الحقيقة التي لم أكشف عنها إلا عندما تزعزعت وانكشف لي شقائي. لو قلت إنه الحب لكان أقل مما يصور الحقيقة التي أقصدها. أعرف أنني أحبك حبا ينتظم كل حياتي ، ولكن الحب الذي عندي، الحب الذي استمددته منك يأبى أن يتلبس في الثوب الذي اتخذه الناس على قدودهم، إنه شيء آخر أسمى من الحب الذي عرفه البشر منذ خلقوا له لفظا. أأقول هو ... ماذا أسميه؟ ولكن ماذا يبكيك أيتها الحبيبة؟
وكانت خيلاء قد انفجرت في نشيج واضعة وجهها بين كفيها.
فقالت خيلاء وهي تتحرك منصرفة: دعني يا سيف أمضي الآن.
فقال سيف في لهفة: إلى أين يا خيلاء؟ دعيني أكلمك وأستمع إليك. إنني لم أسمع بعد جوابا.
فقالت: هذه السعادة تطلع علي فجأة، فتذهل الألفاظ عن لساني وتنفجر بدموعي. دعني أذهب الآن إلى حجرتي، دعني أذهب فإني أحس حاجتي إلى الصلاة يا سيف.
فقال سيف متمسكا بها: بل قولي إننا سنخرج معا، نخرج من هذا القصر الذي لا تربطنا به غير ذكرياتنا، فلنخرج بها ولنذهب إلى ركن من الأركان البعيدة على شط من شطوط الأودية، أو في براح من الصحراء الفسيحة، هناك تكون دارنا لنا وحدنا.
فقالت خيلاء في صوت خافت: قلبي يفيض ولا أقوى على أن أفكر في شيء، دعني أذهب الآن لعلي إذا لقيتك بعد كنت أهدى إلى سبيلي.
واختطف سيف يديها فقبلهما، وكان صدر خيلاء يضطرب وعيناها تدمعان عندما تركها سيف عند باب مخدعها.
وما كادت تدخل حتى ألقت بنفسها إلى جنب تمثال العذراء تصلي صامتة، متجهة بقلبها الواجف إلى مورد الحب الأعلى، تدعوه أن يحمي حبها خالصا نقيا، وتودع عنده عهدها على الوفاء لسيف حتى يجتمعا معا عند كرسيه الأقدس.
وأما سيف فإنه لم يطق البقاء في مكان، كان يجد الفضاء نفسه أضيق من أن يحتويه، ولم يعرف أين يتجه، وخيل إليه أن الكون كله لا يهب له إلا ملجأ واحدا وهو خيلاء، فنزل إلى البستان ووجد الربيع فيه يتوهج بالأنوار، ولكن أين يستقر فيه؟ لم تكن أزهاره ولا طيوره تستطيع أن تستمع إليه إذا أراد أن يتدفق في الحديث، وما كانت ظلاله الحالمة توائم سعادته الواثبة التي تنفر به من الاستقرار. يذهب إلى أمه؟ ولكن أمه المسكينة كانت لا تقوى على التجرد من هزتها العنيفة لتؤنسه بمشاركتها. وهل كان يجرؤ على أن يتحدث إليها عن أمنيته في ترك غمدان مع خيلاء؟
وخرج من الباب الخلفي إلى الأرباض القريبة، وكانت الأكواخ الصغيرة التي في أطراف الربض تلوح له من بعيد هادئة قانعة راضية، كأنها تظل تحتها قلوبا سعيدة، وأي سعادة تنطوي تحت أحدها إذا كان يأوي إليه مع خيلاء! وخيل إليه أن يذهب إلى تلك الأكواخ واحدا بعد آخر، فيحيي من هناك من المساكين قائلا لهم: أنا ابن ذي يزن، ويصافح الأيدي القحلة التي تمتد إليه مرحبة.
وتمثلت له صورة شعب بعيد فيه منزل منعزل، تطلع إليه طريق صخرية، يحف بها من الجانبين صفان من شجر الطلح أو السمر، ويمتد فناؤه الفسيح مسرحا للعين، وفيه أركان ظليلة تتشابك فوقها فروع الأعناب وتستر جوانبها أعواد الياسمين، يشرف عليه القمر إذا طلع، وتلمع فوقه النجوم في الليالي المظلمة، وتكون فيه خيلاء. ألا يزري ذلك المنزل المتواضع بعظمة غمدان؟ وود لو لم يطل مقامه بعد في ذلك القصر الأجنبي ليلة واحدة، فهو قصر أبرهة وأبناء أبرهة، ثم هو قصر يكسوم. وعادت إليه صورة يكسوم وهو يدفعه قائلا: «ابن أبرهة أولى»، فما مقامه في غمدان وما مقام خيلاء هناك؟ فهي الأخرى ...
وتذكر في تلك اللحظة أنه لم يفكر فيما تحسه خيلاء ولا فيما تحبه خيلاء، فإنه لم يسمع منها لفظا واحدا يدل على أنها كانت تكره الإقامة في غمدان، أو أنها تؤثر الإقامة معه في أحد الأكواخ المتواضعة أو في شعب منعزل في الجبال. وكان يرى في سيره أشباحا تخرج من كوخ، أو توقد النار أمام خيمة قائمة، ترغو إلى جانبها ناقة هزيلة. أفي مثل هذه تقيم خيلاء؟ وهل تحمله غضبته على مثل هذا التفكير الذي لا يزيد على هذيان الحمى؟ وهي بعد كل هذا لم تقل سوى أن قلبها يفيض، وأنها تريد أن تذهب إلى حجرتها لعلها تهدأ، حتى إذا لقيته مرة أخرى كانت أهدى إلى سبيلها، ولم تقل له أنها تؤثر العيش معه في الخيمة المنعزلة أو في ركن بعيد من شطوط الأودية. إنه هو كذلك يحتاج إلى أن يهدأ حتى يكون أهدى إلى سبيله، فأين يذهب إذا خرج من غمدان؟ ولو خرج وحده يوما ليهيم على وجهه في الأرض كما خرج أبوه من قبل لكان أمره هينا، فهو يستطيع أن ينام حيث يدركه الليل، وأن يتحمل الجوع والعطش إذا لم يجد طعاما أو شرابا. وفي أية غاية يجر خيلاء معه إلى عالم مجهول غير محدود المعالم؟
من أجل أية غاية؟ الحياة؟ السعادة؟ الكرامة؟
وعاد أدراجه بقلب ثقيل، يسير نحو غمدان الذي خرج منه منذ ساعة بقلب يفيض سعادة ولا يتسع له مكان. ولما بلغ القصر ذهب إلى حجرة الشيخ أبي عاصم، لعله يجد في حديثه ما يضيء له غيابة الظلام الذي خيم على نفسه.
الفصل العاشر
قال الراوي:
كان نسيم الجنوب يشيع الراكبين مترفقا وهما يسيران بين الربى الخضراء الممتدة إلى الأفق كأنها أمواج في بحر هادئ، وكان سيف يسير صامتا يناجي الصورة التي ودعته عند باب حجرتها في الصباح وتقول له في صوت خافت: لقاء قريبا!
والتفت نحو المدينة المتباعدة تتضاءل بين نقم وعيبان، وثبت بصره عند قصر غمدان الباسق، يسمو بقبته المرمرية التي تلمع تحت شمس الصباح كأنها منارة في رأس علم. لقد عرف طبقاته السبع ركنا ركنا، وحجرة حجرة، وها هو ذا ينظر إليه متحرك الشجن بعد أن كان يحسب أنه لن يحس نحوه حنينا. فهل يقف أحد وراء شرفة من شرفاته المرمرية يرسل بصره في آثاره خافق القلب، كما كان قلبه يخفق وهو يلتفت إليه؟ وخطرت له خاطرة من الندم لأنه أسرع بالخروج قبل أن يفضي إلى خيلاء ببقية الحديث الذي كان يجيش في صدره. فهلا تمسك بيديها وهي تسلهما من يديه في رفق؟ وهلا تجرأ فضمها إلى صدره حينا ليهدئ من عنف خفقانه؟ وهلا أطال ضم بنانها إلى شفتيه ليطفئ من حرهما قبل أن يغادر موقفه منها؟ فقد ذهب في الصباح ليودعها قبل أن يسير إلى وادي ضهر، وليقول لها إنه سيغيب بضعة أيام في صحبة شيخه، ثم يعود إليها ليخرجا معا من غمدان آخر الدهر. ولم تكن خيلاء أهدأ نفسا ولا أهدى سبيلا، بل كانت عيناها مبللتين ووجهها يشبه الزهرة الذابلة. أأمضت ليلتها ساهدة كما كان يقضي لياليه ساهدا؟ ألم تكن مثله سعيدة قانعة به من الحياة كلها؟ وتنبه على صوت الشيخ يقول له: أما ملأت عينيك من غمدان؟
فأجاب في تأثر: بل أملأ منه قلبي. وأجدني أتشبث به وأنا أبعد عنه، وأحن إليه وأنا أضيق به.
فقال الشيخ: هكذا نحن يا سيف، نضيق بالحياة حتى نملها، فندفعها بإحدى يدينا ونتمسك بها بالأخرى.
فقال سيف: ما كنت أحسب منذ ساعة أنني أعبأ بغمدان ولا بصنعاء كلها، ولا أنني أجد مثل هذه اللوعة التي أجدها وأنا ألتفت من بعيد إلى الوراء. ومع هذا فإني أحس كأن في الجو غناء مشجيا، ليس كله طرب ولا كله سعادة، بل مزيج من الطرب والكآبة.
فقال الشيخ باسما: هو الشباب يا سيف. سوف تلتفت إلى أيامك هذه بعد حين كما تتلفت في هذه الساعة نحو غمدان. سوف تحن إلى شبابك وأشجانه، وتراها من بعيد زاهية زاهرة، سوف تأسى على أحزانه كأنما هي أمنية، وتود لو تعود إليها كرة أخرى.
قال سيف: فأنت تحن إلى ما قاسيت فيه؟
فقال الشيخ: هي أحلام الشيوخ دائما.
فقال سيف: وتود لو عدت إليه؟
فقال الشيخ: أمنية جوفاء.
فقال سيف: ولكنك تتمناها؟
فقال الشيخ: لا أملك أحيانا إلا أن أرحل إليها في خيالي.
فقال سيف: بي سؤال أيها الخال الكريم، فعفوا إن كان فيه جرأة.
فقال الشيخ باسما: أجيبك قبل أن تسأل.
فقال سيف باسما: القلوب تتحدث؟
فقال الشيخ في عطف: نعم تتحدث. تسألني هل أنا بشر؟ تسألني أما عرفت الحب؟ بلى يا ولدي.
فقال سيف: أنت؟
فقال الشيخ: ومن أنا حتى لا أعرفه؟ بل ما لي لا أعرفه وهو ما تهديه الحياة لنا؟ ولو خلت الحياة منه لكانت قطعة من الملال والسأم. بل لقد ارتطمت على صخور الأيام، وانزلقت في مزالق الأهواء، وذقت أمر المرارة حينا وأحلى الحلاوة حينا، ولست أدري إن كانت هذه الشيخوخة قد أخلت صدري من ضعف البشر. نعم، فأنا كما تراني، مثل جذع نخلة تقادم عهدها كما وصفت لك نفسي، وقد تساقطت عنها سعفاتها وانثنى عودها وجفت عصارتها، ومع هذا فلست أكذبك، إن قلب الإنسان لا يفارقه ضعفه، أو إذا شئت: لا تفارقه قوته.
فقال سيف في رنة شكر: أهي مواساة منك يا سيدي المبجل؟
فقال الشيخ: بل هو الحق يا ولدي. ليتني أجرؤ على أن أكشف لك نفسي، إذن لما وجدت في نفسك شيئا تحس فيه حرجا إذا كشفته. نحن نغلق أنفسنا على أنفسنا، وكل منا يحسب الآخرين أقل منه ضعفا، ولكن أي ضعف في سنن الطبيعة؟ إننا نحن نفسد هذه الطبيعة بأن نلقي عليها الأستار كأننا نخجل منها، إنه كذب لا يقل في بشاعته عن التدنيس. نحن ندنس الحب إذا تبرأنا منه، كما ندنسه إذا لهونا به، إنه كالميلاد والموت، لا محل فيه للخجل أو الخفاء، بل إن الذين يخفونه إنما يخفون شيئا آخر غير الحب؛ لأنه صريح بطبيعته السليمة. وأما الذين يخجلون منه أو يسدلون عليه الأستار المظلمة فإنما يتهربون من جريمة تدنيسه أو الإسفاف به، يتهربون لأنهم يخونون سنته الواضحة ويسخرون من رسالته العليا؛ رسالة الحياة نفسها.
وكان سيف يستمع إلى الشيخ في دهشة وأنس.
ولم يلاحظ أحدهما أن السماء قد تلبدت بالغيم وأن الهواء قد استدار إلى الغرب، حتى لمعت لمعة من البرق فجأة، وفرقع في أعقابها الرعد عنيفا، وأحسا قطرات من المطر تتوالى. فقال الشيخ: ألا نميل إلى هذا الشعب قليلا؟ إنه جبل ينور.
وكان سيف يعرفه ويحس رهبة كلما مر به، ودخلا في كهف فسيح به فجوات داخلة في الصخر من جانبيه، كأنها حجرات حول ردهة. وكان الظلام في جوف الكهف دامسا، يكاد يسمع فيه خفق أشباح خفية. وكانت بين الفجوات في ردهة الكهف مساطب ضخمة على جدرانها نقوش وصور عجيبة، بعضها ظاهر كأنما رفع الصانع يده عنها منذ ليلة، وبعضها مطموس تجري من بينه أخاديد مصقولة، كأن الماء كان يتحلب عليها من شقوق في سقف الكهف. فقال سيف في صوت حالم: لو اتخذت الجن قصورا لما اختارت خيرا من هذا.
ورنت كلماته بين الجدران عميقة مدوية، ثم أضاءت لمعة من البرق فتوهج الكهف لحظة، فانكشف باطنه بعيدا رهيبا، وانطلق صوت الرعد مجلجلا فيه كأنه صوت شياطين غضبى، وكانت الريح تزف فيه بما يشبه زئير السباع.
فقال سيف: كأن السماء غاضبة.
وأحس في نفسه قبضة. لم أرعدت السماء هكذا وأبرقت؟ وما الذي قذف هذا الكهف المظلم في سبيلهما في تلك الساعة؟
وعاد إليه شيء من الأنس عندما سمع صوت الشيخ يقول له: حقا إنه مقر جدير بالجن إن أرادت مقرا. فمن هنا يستطيعون أن ينفذوا من ظلمات باطن الأرض فيسترقوا منها فنون السحر الأسود، ومن هنا يستطيعون أن ينطلقوا إلى فضاء السموات ليسترقوا أسرار الغيب وطلاسم الكنوز المغلقة.
فقال سيف: وماذا تصنع الجن بالغيب والكنوز؟
فقال الشيخ باسما: إنه الإنسان الذي يتطلع إليها في حماقته، هكذا تقول القصة.
فقال سيف في حماسة: أية قصة؟
ورحب في نفسه بأن يسمع قصة تقطع تلك العاصفة، حتى تسفر السماء ويخرجا إلى الفضاء الطلق.
فأخذ الشيخ يقص عليه قصة حسان بن تبع.
وكان تبع الأكبر ملكا عظيما، ولكنه كان فانيا، ولما أحس اقتراب الأجل بعث بولده حسان إلى كهف ينور ليستطلع له أخبار الغيب، وكان يؤمن بمن في هذا الكهف من الجن. فلما جاء حسان إلى الكهف لقيته جنية في صورة ساحرة عجوز شوهاء، وقدمت له وسادة يجلس عليها، وكانت محشوة بالعقارب والأفاعي، فأبى حسان أن يجلس. ثم قدمت له صفحة من عظام وكأسا من دماء ليطعم منها ويشرب، فعافهما كارها. ثم قالت له: إذن فاقتل أول من تلقى إذا عدت إلى قصر أبيك.
فصاح بها حسان: إنه هراء.
فقالت: ألست وارث الملك؟ ألست تطلب ملكا؟
فأجابها في جفاء: بلى!
فقالت: هذا سبيلك إليه. هذا سبيلك إلى الملك، فافهم عني.
فقال لها في اشمئزاز: كفاك هذرا.
والتفت عنها منصرفا.
فصاحت في إثره: من لا تقتله يقتلك.
ثم رنت منها ضحكة مخيفة وقف لها شعر رأسه وأسرع كالهارب. ومضى حتى بلغ قصر أبيه، فلقيه أخوه عمرو عند الباب، فضحك في نفسه قائلا: أأقتل أخي؟ إنها عجوز مشئومة.
وسكت الشيخ لحظة، ثم قال: أتدري كيف تمت القصة يا سيف؟
فقال سيف: أحس قشعريرة ها هنا، وكأنني ألمح الساحرة هناك تبص بعينيها. ماذا كان يا سيدي؟
فقال الشيخ: تقول القصة إن حسان لم يقتل أخاه، ولكن أخاه قتله. قتله عمرو بن تبع.
فقال سيف وهو يسير نحو فم الكهف: ولكن ما العقارب والأفاعي، وما العظام والدماء؟
فقال الشيخ: هذا سبيل الملك يا ولدي، هكذا تقول القصة. هكذا قالت الساحرة العجوز أو جنية ينور. هذا سبيل الملك؛ تحطيم العظام والولوغ في الدماء، ولسع الشدائد كما تلسع العقارب والأفاعي.
وساد الصمت، وكان سيف يحس كأن بردا يتمشى في فقار ظهره، وصورة الساحرة العجوز تتخايل له ولا يستطيع أن يطردها، وتنفس في فرج عندما تكشفت السماء شيئا وهدأت الريح كما بدأت فجأة، إلا قطرات من المطر ما زالت ترسم حلقات صغيرة على وجه المياه المتجمعة في فجوات الصخر.
فجلسا على صخرة وشرد كل منهما في عالمه، وكان سيف ما زال يدير في نفسه قصة ينور وصور النقوش التي على مصاطبه، ويسأل أهي من صنع البشر أو هي من صنع الجن الذين يسكنونه؟ وخيل إليه أن صوتا يشبه صوت الرياح العاصفة يزداد في الكهف وينادي قائلا: ألست تطلب ملكا؟
والتفت إلى الشيخ قائلا: أما قلت إنك تعرف أبي؟
فهز الشيخ رأسه في هدوء وقال: دع الأرواح في مراقدها.
فقال سيف: ولكني أسألك عن أبي.
فقال الشيخ: لا تثر الأرواح يا سيف إن كنت تريد سلاما.
فقال سيف: صف لي صورته التي لم أرها، فما أعجب أن يكون أبي ولا أعرف عنه شيئا. صفه لي حتى كأنني أراه، فهذا آنس لقلبي ، صفه لي كيف كان إذا سار وإذا ركب؟ وكيف كان صوته إذا تحدث؟ وما كان لونه وهيئته؟ ماذا كانت حاله إذا طرب وإذا غضب، وإذا صادق أو عادى؟ صفه لي أيها السيد المبجل، فإني أحس في هذه الساعة شوقا إلى أن أملأ منه الفراغ الذي خلال منذ أن عرفت أن أبرهة لم يكن أبي.
فقال الشيخ هادئا: إن الصور حقائق يا سيف، فلا تسرع إلى إثارتها. ها قد أسفرت السماء، فهلم بنا قبل أن تدركنا عاصفة أخرى.
وسارا على الهضبة الصخرية، تبدو لهما الربى في زينتها وقد زادها المطر اخضرارا، وهب النسيم كأن لم تكن قبله زوبعة بارقة راعدة. وأرسلت الشمس شعاعها الخافت من خلال فلول السحاب المتناثرة، فما لبثا أن صرفا بصريهما إلى الآفاق الباسمة وسارا يتأملان مناظرها في صمت، ثم لاحت لهما جوانب وادي ضهر من بعيد، وماء النهر يبرق بينها متعرجا، وبدا قصر ذي جدن مشرفا فوق رابيته عابسا مسيطرا على الوادي.
وبلغا الطريق الصخري الصاعد إلى القصر، فوثب الجوادان فوقه تحف بهما هوتان عميقتان عن يمين وشمال.
ولما خلا الشيخ في مخدعه تلك الليلة تذكر صاحبه أبا مرة، وهو يودعه في ليلة النكبة من بين جثث القتلى، ذلك الوداع الذي لم يلقه بعده، ويوصيه بامرأته ريحانة وولده سيف. أما ريحانة فهي هناك في غمدان، وما جدوى الأسف؟ وأما سيف فهل آن له ...؟
وسبح في ذكريات تلك الأيام البعيدة، التي مرت منذ عشرين عاما كأنها دهر طويل.
الفصل الحادي عشر
قال الراوي:
تأنق الربيع في شطآن وادي ضهر وتفننت به الحياة في إبداعها، فكانت أزهاره تتبرج في ألوانها، وأعشابه تمتد في نضرتها، والسماء تبسم فوقه بزرقتها، والطير يسبح في جوه المعطر، والظلال تنتشر تحت خمائله وتنحسر عن بطاحه، فكان منظره يشغل البصر والخاطر معا.
وكان سيف يخرج فيه من طي نفسه إلى عالم الحس، فيجد فيه راحة لم يذقها منذ حين. وكانت صورة خيلاء تلازمه في كل ركن ظليل وكل مرج نضير، وكلما وقع بصره على القرى المطمئنة التي تستند على جوانبه وترسل صورها على جداوله، تمنى لو كانت خيلاء معه في إحداها، يعيشان معا بعيدين عن ضيق غمدان الفسيح وعن بذخه الفقير، وينعمان وحدهما بحياة وادعة، يقنع فيها كل منهما بصاحبه ويتخذه صومعته، ويتنسكان معا في حبهما.
كان لا يمر يوم بغير أن يخرج إلى الوادي يسرح فيه وحده أو مع صاحبه الشيخ، ثم يعود إلى قصر جده يستزير طيف خيلاء.
ولكنه ما كاد يقضي هناك أياما، حتى جاءت إليه وفود تسعى من مواطن شتى لم يسبق له عهد بها، بل لم يسمع يوما بذكرها. وكانوا يأتون إليه في أول الأمر في سر الليل، ويجتمعون به حينا فرادى وثنى وثلاثا، يسمون أنفسهم له ويسمون له القبائل التي ينتسبون إليها، ويذكرون له طرفا من صلتهم القديمة بآبائه من جهتي أبيه وأمه. وكان يجد في لقائهم أنسا وفي أحاديثهم متعة، كأنه يطلع منهم على عالم جديد كان محجوبا عنه، فكان ينصت إليهم في شغف، ويحفظ الأسماء التي يرددونها، ويسألهم عن صلات العشائر والقبائل وعن تشابك الأنساب ومجامع الأصلاب. فإذا ما انصرفوا عنه أعاد ما قالوه في نفسه كأنه درس يحفظه. وتكاثرت الوفود شيئا بعد شيء، وتجرأت حتى كانت تلم بالقصر في ساعات النهار، وكثيرا ما كان يعود من نزهته فيجد بعضها في انتظاره منذ الصباح. وقد تردد اسم ذي يزن في فجاج اليمن كأن الرياح حملته معها، فكانت قبيلة تسمع أن أبا مرة عاد من مهربه وأقام في قصر صهره ذي جدن مهادنا لأبرهة، وتسمع أخرى أنه عاد خفية يدبر قتالا جديدا، وتسمع قرية أنه سيف بن ذي يزن الذي كان أبرهة يدعيه ويخلع عليه اسمه، عرف حقيقة نسبه وهاجر من صنعاء ليجمع قومه حوله، ويهب معهم مطالبا بالثأر لأبيه.
وكان سيف يستمع إلى هذه الأنباء في دهشة لا تخلو من ارتياح وبهجة، فإنه إن انقطع عن نسبة أبرهة قد وجد عوضا عنها بهذه الألوف التي تفتح له صدرها، وتهتف باسمه وأسماء آبائه في اعتزاز. وكان أحيانا يحس في نفسه حرجا أو نفورا من الأعراب الجفاة، الذين كانوا يلتفون به في غير تجمل، ويحيونه في غير تكلف، ويقحمون عليه قرابة لا يعرفها، فكان يقلق في مجلسه ويود لو قاموا عنه وخلوا بينه وبين الوحدة التي جاء ينشدها.
على أنه اعتاد كل يوم أن يعقد مجلسه في فناء القصر يتلقف من ضيوفه أخبار أبيه وجده وقومه، حتى انتزع من أحاديثهم صورة أبيه، وصار يراها من وراء ضبابها أكثر وضوحا وأقل شحوبا. وصار كلما سكن في خلوته يتمثلها ويسأل نفسه: أين يكون أبوه في تلك الساعة؟ وكان أحيانا يشرد مسحورا بها كأنه يراها تشير إليه أن يتبعها. أيستطيع في يوم من الأيام أن يرى ذلك الأب وأن يسند كتفه إليه؟ ولكنه كان كلما أجهده السبح وراء تلك الصورة اختفت عنه فجأة، كأنها كانت تسخر منه، فيذكر قول الشيخ أبي عاصم عندما قال له: «دع الصور في مراقدها ولا تقلقها»، فما جدوى ذلك الخيال العقيم الذي يضل معه وراء أمنية مجدبة، وتقطع ما بينه وبين الحقيقة الماثلة التي تملأ حياته؛ خيلاء. أيخرج من أرضه ويتركها وراءه ويهدر السعادة التي تثوي عندها في طلب خيال؟
وعاد ليلة من مجلسه بعد أن مضى أكثر الليل، وكان مجهدا ضيق الصدر، فأراد أن يذهب عنه الضيق بذكر خيلاء، ولكنه كلما تمثلها عادت إليه أصداء المجلس الذي كان فيه، فيشرد عنه ويستغرق في أمواج من الهم. وكأنه سمع هاتفا يهتف به في صوت يشبه الصوت الذي سمعه في كهف ينور قائلا: «ألست تطلب ملكا؟» وتمثلت له صورة العقارب والأفاعي والعظام والدماء، وأخاه «مسروق»، كأنه يراه عند باب غمدان. ألا يكون ذلك الذي يراه عند الباب هو يكسوم الغليظ القلب؟ إذن لجرد سيفه وأغمده في صدره بغير أن يحس أسفا.
أهو يطلب الملك حقا؟ إن هذه الجموع التي تلتف حوله في كل ليلة لا تكاد تدع له سلاما، وكأنها تصيح به هاتفة بصوت ساحرة الكهف قائلة: «ألست تطلب الملك؟»
وطلع عليه الصباح ولم تغمض عيناه، فعزم على أن يخرج مبكرا إلى نزهته؛ حتى لا يلقى أحدا من هؤلاء الذين كادوا يجعلون مقامه هناك حملا ثقيلا. ووجد الشيخ أبا عاصم حيث تركه مضطجعا في مجلسه كأنه لم يذق هو كذلك نوما. فتبسم له الشيخ قائلا: «لا أراك ذقت النوم في ليلتك.» فقال له سيف: أحب أن أرى مطلع الشمس في الوادي.
فهب الشيخ ولف عليه رداءه قائلا: كدت أسبقك إلى هناك.
وخرجا معا إلى الهضبة المقفرة التي في ظهر القصر، وكان الوادي ينحدر من هناك تحتها عميقا في أخدود قائم الجدران، يتعرج في ثنيات متوالية، وكان قاعه يبدو في النور الخافت في ألوان مختلفة، بين بياض الماء، وشهبة الرمل، وسواد النبات، كأنه ظهر حية تتلوى هاربة. وأشرفا بعد حين على طنف بارز من جانب الوادي فيه أطلال بالية، تصف بقاياها رسم معبد قديم لم تبق منه إلا أركان شاحبة، لوحتها الشمس وبرتها الأمطار ونخرتها الرمال السافية مع الرياح. وكانت بقايا البناء قطعا ضخمة ما تزال راسخة على أساسها، كأنها عماليق أدركتها الهزيمة وهي تتعثر في أعقاب معركة هائلة. كانت الأحجار تحمل آثار جراحها، والأعمدة المحطمة ملقاة على الرمال معفرة مثل أشلاء الصرعى. هنا قطعة من عمود مرمري، ما زالت صفحتها الصقيلة تلمع في شعاع الشمس المشرقة، وفتات الحصى متعلق بأصلها، وأعواد خضراء من الحشائش والأعشاب تنشب جذورها في شقوقها، وهناك لوحة من صخور داكنة أو وردية أو بيضاء، عليها نقوش وصور لا يدري أحد ماذا تصف من شئون الذين بنوها وعاشروها حينا ثم خلفوها. وفيما بين تلك قطع مهشمة من تماثيل، لم يبق من ملامحها إلا ما يبقى من هيكل جثة محنطة، من تلك التي كان الأعراب يعثرون عليها في المقابر، ويمزقون عنها لفائفها في طلب ما قد يكون عليها من الذهب أو الجوهر. كان منظرا حزينا جليلا، زاده روعة منظر الرمال المتموجة الصفراء، التي كانت تمتد إلى الأفق من وراء الحطام حتى الأفق الشرقي، لا يقطع صمتها صوت سوى طنين الحشر المتطاير، أو صدى صوت عصفور يزقزق من بعيد ثم يختفي سريعا، كأنه يسخر ممن يدب على الأرض بطيئا.
وذهب الشيخ إلى أقصى الطلل، فاعتمد على أصل عمود قائم، ينظر نحو ربوة تكللها قطع رقيقة من السحاب الأبيض، وشعاع شمس الصباح يقع عليها في ألوان ذهبية وردية، وتنفس نفسا عميقا عندما سمع صوت سيف يناديه: أشاعر على طلل؟
فقال الشيخ باسما: ومن ذا الذي يقف هنا ولا يشعر؟
فقال سيف: أي قوم ملئوا الأرض بهذه البقايا؟
فقال الشيخ: هذا ما كنت أقوله لنفسي. كانوا أجيالا من الملوك يا سيف، لكأنني أرى هذا البناء المتهدم عندما فرغ الصناع من صقله ونقشه، ووقف الملك الذي أحدثه ينظر إليه معجبا ويقول: «ها أنا ذا قد خلدت ذكري.»
فقال سيف: أتذكر اسم أحد من هؤلاء؟
فقال الشيخ: نسي اسمه كما تهدم بناؤه، ولكنه كان ملكا عظيما.
وماذا عليه أننا لا نعرف اليوم اسمه؟ وهبك سميته تبع أو مرثد أو وائل، فماذا كان اسمه يزيدك به علما؟ لقد كان ملكا عظيما وكفى.
فقال سيف: ولكن هذا الفناء يملأ نفسي حزنا. كل شيء هنا ينادي قائلا: «كنا»، أو يقول: «ما هذه الحياة سوى باطل وغرور.»
فقال الشيخ باسما: ولكني أسمع لغة أخرى. كأن هذه الأطلال تقول إن الألوف كانوا يحجون إلى هنا، يملئون الفضاء الذي تراه اليوم مقفرا، وكانوا ينظرون إلى هذه الأعمدة ويتأملون جمالها ويعجبون بها خاشعين. وكانوا يدخلون إلى المعبد ويستمعون إلى أناشيده تتردد بين جنبات المحراب جليلة، فتمتلئ قلوبهم تقديسا، ويخرجون بعد ذلك إلى الصحراء ويطلقون أنفاسهم في جوها، وهم يحسون أنهم ألقوا عن كواهلهم أثقالها، فالتوبة للآثم، والعزاء للحزين، والأمل للبائس.
وصمت هنيهة وسيف ينظر إليه مستغرقا: وكانت الشمس تخطر في موكبها، فقال الشيخ: لا يلهنا الحديث عن جلال الصباح يا سيف، إن موكب الشمس مشرقة أعظم بهاء من موكبها غاربة. هذا أجدر أن يكون تتمة حديثنا.
فقال سيف باسما وهو ينظر إلى الشمس: إنك تنطق الأشياء كما تحب يا سيدي المبجل. حقا ما أبدع الشمس في إشراقها على طلل مثل هذا. الحياة والفناء معا.
فقال الشيخ كأنه يحدث نفسه: حكمة أبدية تنطق بها الأشياء جميعا؛ غروب وشروق، حياة وفناء، شباب وشيخوخة، وكلها تتعاقب في دورات متوالية. الحياة بعد الفناء، والشروق بعد الغروب، والشباب بعد الشيخوخة. لا عبرة هنا بالأفراد، فإن سنة الحياة لا تقف عند حدود حياتنا الفانية.
الحياة في إبانها والفناء في إبانه، وكلها تخضع لحكمة أزلية، تدبرها يد عليا.
فقال سيف: أتؤمن يا سيدي الشيخ؟
فقال الشيخ باسما: لست أدري يا ولدي، بل كأنني لا أفهم ما أقول. هي معان في النفس غامضة، فإذا حاولت أن أفصح عنها تعثرت الألفاظ وناءت بحملها.
ولو فتح الناس قلوبهم لأدركوا بها فوق ما يدركون من هذه الألفاظ التي ندعي أنها وسيلتنا إلى البيان. كل ما في الكون ينطق لمن يستطيع أن يدرك كلماته. كل حركة بميزان، وكل شيء لحكمة، حتى الأمم في حياتها وفنائها تتكلم.
فقال سيف: قائلة؟
قال الشيخ: تقول إنها تفنى عندما يحق عليها الفناء، وتحيا إذا استحقت الحياة.
فقال سيف: ولا تملك شيئا من أمرها؟
فقال الشيخ: بل تملك كل أمرها. ليتني أستطيع يا سيف أن أبين لك ما أريد، فإني كلما نطقت بشيء سمعته في أذني غامضا فاترا لا يصور الحقيقة التي أحسها.
فقال سيف بعد صمت لحظة: كأنني أفهم طرفا مما تقول يا سيدي المبجل. وأسأل نفسي: كيف ذهب قومي؟
فقال الشيخ: صدقت يا ولدي، فإن المعاني لا تتجسد إلا في حادثة. وصمت لحظة ثم قال: لك أن تعجب إذا قلت لك إن هذه أول مرة ينصرف فيها فكري إلى سؤالك هذا. كيف ذهب قومنا؟ أهي غضبة من الأقدار؟ هكذا يقول بعض الذين يخادعون أنفسهم ويريدون أن يلقوا ذنبهم على وهم غامض لا يستطيع أن يقول لهم كذبتم. إن للأقدار حكمة كما قلت، ولكنها حكمة نستوحيها نحن من الحوادث، أما الأقدار نفسها فليست شخصا يغضب فيعصف بالناس، أو يرضى فيحابيهم، الأقدار لا تغضب على أحد ولا تحابي أحدا، وهي مثل الدهر الذي يمر علينا فنهرم ونفنى، ومثل الفلك الذي يدور في دوراته، فيطلع النجوم في أوانها ويغيبها في أوانها.
ومع ذلك فإننا نستطيع أن نستوحي حكمتها من الحوادث، أو من أنفسنا.
فقال سيف: أنفسنا؟
فقال الشيخ: نعم يا ولدي. إن في أنفسنا عالما كبيرا لو تمكنا من إدراكه لكان ذلك حسبنا. فينا كل عناصر الضعف وعناصر القوة، فينا الحيوان والحكيم، وفينا الشيطان والملك، أو هو الشر والخير، ولنا أن نختار في سلوكنا ما نشاء في نفوسنا.
فقال سيف: والناس يختارون دائما؛ لأنهم يطيعون طبيعتهم.
فقال الشيخ: وهذه هي التي أسميها حكمة الأقدار، فإذا اختار الناس ما فيهم من ضعف ومن حيوان ومن شيطان حق عليهم الفناء.
فقال سيف: أهكذا اختار ذو جدن؟ أهكذا اختار ذو يزن؟
فقال الشيخ: من يكون ذو يزن وذو جدن؟ لن يستطيع فرد أن يقاوم سنة الخليقة.
فقال سيف: إذن فلا حيلة لنا؟ فما معنى اختيارنا؟
فتبسم الشيخ قائلا: مرحى يا سيف! حجة قوية. نعم يا ولدي، لن يستطع فرد أن يختار لأمة. لن يستطيع فرد أن يرد تيار أمة، ولكنه يقدر على أن يضرب المثل الأعلى.
فقال سيف: لقوم يختارون لأنفسهم؟
فأجاب الشيخ: صدقت مرة أخرى يا سيف، الناس يختارون لأنفسهم حقا، ولكن الإنسان على ما فيه من أخلاط الضعف ينطوي على ضمير، نعم، للإنسان ضمير يتعلق دائما بالمثل الأعلى.
فقال سيف كأنه يحدث نفسه: المثل الأعلى!
فقال الشيخ في حماسة: نعم يا ولدي. هو الذي يمس ضمير الإنسانية دائما، هو الذي تتعلق به الأمم دائما حتى في أشقى حالاتها. لن تجد أمة تنطق بلسانها العام إلا رددت مثلا أعلى، هي لا تنتظر إلا من ينطق لها أولا، هذا هو المنبع.
فقال سيف: هذا هو المنبع؟
فقال الشيخ: نعم يا سيف؟ هذا المنبع الذي تستمد الأمم منه حياتها. لسان صادق يهتف أولا بالمثل الأعلى.
فقال سيف: ولم لا ينطق به الناس، لم لا تنطق به أنت مثلا؟
فقال الشيخ: تسألني لم يا ولدي؟ لست أدري. ولكنه قد كان. من السهل أن نتحدث هكذا، فإنه لا يكلفنا إلا أن نتكلم. ولكن الصعوبة هي أن نفعل وأن نستطيع.
فقال سيف: إذن فلا جدوى من كل هذا، إنها أحجية يا سيدي، وعفوا إذا قلت هذا، إنه لغز. تقول إننا نستطيع أن نختار وأن ننطق بالمثل الأعلى وأن هذا هو المنبع، ثم تقول إننا لا نستطيع أن نفعل.
فقال الشيخ هادئا: مرحى مرة أخرى يا سيف. حجة قوية. نعم يا ولدي صدقت، فإنا نستطيع أن نفعل إذا كان لنا القلب الذي يؤمن، والجنان الذي يقوي، ثم ...
وصمت قليلا وسيف ينظر إليه في لهفة. واستأنف قائلا في تمهل: ثم التوفيق يا سيف. التوفيق إلى أن يستمع الناس ويؤمنوا.
وأطرق سيف حينا طويلا ثم قال في صوت خافت: حدود وقيود لا يكاد يلوح فيها أمل.
فقال الشيخ: بل فيها الأمل يا سيف؛ القلب المؤمن، والجنان القوي، واسم ذي يزن.
فقال سيف في صيحة: ذو يزن؟
فقال الشيخ: نعم يا سيف بن ذي يزن، كأنني أرى مشرق الشمس غدا إذا كان لك القلب المؤمن والجنان القوي.
فقال سيف كالحالم: المؤمن!
فقال الشيخ في حماسة: نعم يا ولدي. القلب الذي يحس أن الحياة لا تستحق شيئا إذا لم تكن في ظل الكرامة والحرية، والذي يؤمن بأن الحياة تكون دنسة كريهة في ظل العبودية، والذي يمتلئ اعتقادا أن الذي خلق الإنسان يغضب عندما يراه لا يسمو إلى إنسانيته.
ثم رفع بصره إلى سيف باسما، وكان الفتى يعلق بصره في وجهه مستغرقا.
ومضى الشيخ قائلا: انظر إلى الشرق يا سيف، ولا تضيع ما خرجنا من أجله، هذه هي الشمس المشرقة التي غابت تحت الأفق بالأمس.
وكانت شطآن الوادي تتفتح للصباح وتتضح فيها الحدود بين الماء والمروج الخضراء. وخرجت الطيور إلى غصونها، ورف النسيم على الصحراء الصامتة. وسارا يصعدان حينا ويهبطان حينا نحو القصر في صمت، وكان في الفناء جمع كبير من الوفود، فاتجه سيف إليهم بقلب يفيض أملا، إنهم قومه الذين يستطيع أن يصيح فيهم بقلب مؤمن وجنان قوي ، وأن يرى معهم شروق الحياة مرة أخرى على اليمن السعيدة.
ومر به اليوم وصدر بعده من الليل، لم يحس ضيقا ولم يفتر نشاطه، حتى خلا إلى نفسه مرة أخرى في الليل، وكان القمر الناقص يرمق النجوم فاترا، والهواء البارد يحمل أريج الزهر من الوادي. وعاد إلى سبحه في أصداء أحاديث الوفود المثرثرة، وكان طلل المعبد يبرق له في شمس الصباح، وصوت الشيخ يرن في سمعه يقول له: «إن موكب الشمس مشرقة أعظم بهاء من موكبها غاربة»، وخيل إليه أن الصوت الذي كان يهتف به قائلا: «ألست تطلب ملكا؟» قد صار عاليا يشبه هدير الرياح في كهف ينور. أحقا يقتحم المعامع التي تذيقه لسع الأفاعي والعقارب، وتطعمه العظام والدماء، وتجعله يقتل أول من يلقاه وإن كان أخاه؟ وأين إذن خيلاء؟ أين الآفاق العلى التي يسمو إليها إذا استمع إلى نجواها؟ أهذا بعض الثمن الذي تتقاضاه الأقدار إذا شاء أن يسير بقومه نحو الشروق؟ وخيل إليه أن الفضاء الأغبش الذي يترامى تحت عينيه قد امتلأ عظاما رميما تسيل من بينها الدماء الحمراء. وقام مسرعا من مجلسه يهرب من المنظر المرعب، يلتمس السلام في صورة خيلاء، ويستعيد أحاديثها إلى جانب الوعاء المرمري.
وعزم على أن يجعل الليلة خاتمة تردده، وأن يعود من الغد إلى صنعاء ليلقى خيلاء، ويتم معها حديثه الذي لم يبلغ بعد منه المدى. سيذهب إليها فاتحا لها ذراعيه مؤثرا معها السلام والأمن، مؤثرا إياها على كل المطامح التافهة التي أخذت تراوده عن سعادته، وسيخرج بها من غمدان إلى قصر جده، ويصد عنه تلك الجموع التي تريد أن تلوي به إلى تيه بعيد الأغوار معقد الشعاب. ولما واتاه النوم بعد حين ألم به طيف خيلاء، وكانت باهرة الحسن، لم يرها يوما في مثل ذلك البهاء. ولكنها كانت دامعة العين، تمد إليه يديها في ضراعة كأنها تعاتبه على هجرانه. وقال لها: فديتك يا خيلاء، لم تبكين؟
فقالت تعتذر: أكنا نسير في صحراء؟ أكنا نتجه إلى سراب؟
فناداها في لهفة: لم تتكلمين هكذا ؟ ما تلك الصحراء التي تذكرينها؟ وما ذلك السراب؟ كأنك تنطقين ببعض ما كنت أنطق به في سورة جنوني ويأسي. تعالي نذهب معا إلى حيث نجد السعادة، فليس هناك صحراء ولا سراب، هناك سلام وحقيقة. ألا تعرفين أنني وجدت قومك وقومي؟ فلنذهب إليهم ولننس كل شيء هنا.
وذهب إليها ليضمها بين ذراعيه، ولكنها لم تكن سوى خيال فاختفت عنه، وهو يفتح عينيه ويحس في قلبه حسرة وضيقا، وكان قلبه يخفق تأثرا وقطرات من الدمع تبلل عينيه، وكان القمر الناقص ما زال يخوض في السحب هابطا في السماء نحو الغرب، شاحب اللون مثل طعين منهزم يتوارى في جثث القتلى، مثل أبيه. وقام من مرقده يحاول أن يعيد إلى نفسه هدوءها، ولكن الحلم كان في نفسه كالحقيقة.
وطلع عليه الفجر مثل الطفولة البريئة تطلع على الشيخ الفاني، فتبعث إلى قلبه شيئا من الدفء والبهجة، وبدأ الطير يتناجى ويسبح بتحية الإشراق، ثم تزايد النور شيئا بعد شيء حتى لمعت من الأفق خيوط ذهبية تصبغ السحب. إنه موكب الشمس المشرقة مرة أخرى. ثم سمع صوت طارق يدق باب مخدعه، فأجفل وداخله شعور غامض بأنه أمر خطير: ورأى أمامه الشيخ أبا عاصم، وكانت نظراته تنم عن حديث.
فبادره سيف قائلا: عم صباحا يا خال.
فقال الشيخ: عمت صباحا يا ولدي.
ووقف ينظر إليه صامتا.
فقال سيف في لهفة: نظرتك تتحدث يا سيدي.
فقال الشيخ وفي صوته رنة من الأسى: أبرهة!
فصاح سيف في فزع: ما لأبرهة؟
فقال الشيخ: لك طول البقاء.
ثم دخل وأخذ يحدثه بما سمعه من وفود أتت في الليل، تحمل ما سمعته من أنباء تطايرت إليهم مع الركبان العابرة.
الفصل الثاني عشر
قال الراوي: «إننا نتحرك معاشر البشر كما تريد لنا الطبائع المركبة فينا، ولا نملك من مصائرنا شيئا سوى ما يخيل لنا أننا نملكه منها. الحب والكراهة والأماني والأوهام تدفعنا وتأخذ بزمامنا قسرا، ونحن نحسب أننا نسعى إلى غاية مقدورة دبرناها بأنفسنا، وننخدع فيملي علينا الغرور أننا نختار كل أمورنا بعقولنا وإرادتنا . نحن كالمسافر في غابة كثيفة، لا نرى منها إلا الخطوة التي نوشك أن نخطوها، ثم إذا خطوناها لم نزد على طاعة الحدود والقيود التي تحتمها الطبيعة علينا. قد نتجه يمينا أو شمالا، وقد ينتهي بنا السير إلى بقعة مكشوفة تسطع عليها أشعة الشمس، فيملؤنا الإعجاب بأنفسنا ونقول: ما كان أحسن اختيارنا! وقد ينتهي بنا الطريق إلى هاوية عميقة، أو سد قائم، أو وجار وحش ضار، فنقف حائرين، ونتهم عند ذلك صروف القضاء ونندب حظنا. ولو تأملنا حياة من سبقنا لأدركنا طرفا من الحقيقة التي نضل عنها، وهي أن الأقدار لها حكمة وخطة أعلى من حكمتنا وأصرم من خطتنا.»
هكذا كان الشيخ أبو عاصم يتحدث إلى سيف، عندما حمل إليه أنباء الفاجعة التي حلت بأبرهة وجيشه في الهضبة المطلة على مكة.
فلنرجع إلى أبرهة بعد أن سار من صنعاء تملؤه أماني المجد والسيطرة، وتحدوه الثقة بتحقيق الخطة التي دبرها.
كانت الأماني الفسيحة تنداح أمام عينيه، سيكون حامي النصرانية في الجنوب كما كان قيصر حاميها في الشمال، وسيبقى ملكه أخلد من ملك يوستن ويوستنيان؛ فإن الله وهب له ما لم يهب لهما؛ ثلاثة أبناء من زوجتيه، نعم ثلاثة أبناء؛ لأنه وعد ريحانة ألا يتخلى عن ولدها، ولن يضيره أن يجعل ولدها ملكا على الحجاز بدلا من ذلك الدعي قيس بن خزاعي، الذي يطمع في أن يكون خليفته هناك. ولا شك أن أهل مكة يرضون عن ملك سيف أكثر من رضائهم عن ملك رجل من العامة. لكن أحلام أبرهة لم تدم طويلا، ولم يكن سيره في أرض اليمن نزهة خريف ولا موكب مجد، بل كان قتالا عنيفا مع أعداء اجتمعوا له من فجاج الأرض يحاربونه بصرامة.
وخشي أبرهة أن يضيع وقته وجهده في شعاب ضئيلة تعوقه عن تحقيق غايته الكبرى، فترفق ولجأ إلى حيلته، وبذل لأعدائه الوعود، واستمال رؤساء العشائر بالهدايا حتى اضطر أعنف الزعماء إلى الاستسلام، وكان نفيل بن حبيب وذو نفر ممن خضعوا له، وتعهدا أن يكونا دليلين لجيشه في أرض مضر، يسندانه بالنصح ويفاوضان له رءوس قريش.
فلما لاحت له مكة آخر الأمر كان الخريف قد تصرم، وجاء الشتاء يزحف سريعا، ووقف بجيشه على الهضبة يشرف على وادي المحصب، وظهرت مكة من تحته صاعدة على جانب جبلها الأغبر، وهابطة إلى البطحاء الفسيحة الجرداء. وكانت الكعبة مطمئنة على ساحتها الرملية، وأشعة الشمس تغمرها لا يعترضها شيء يلقي تحته ظلا.
وهبطت طلائع الجيش إلى الوادي فساقت ما فيه من الإبل غنيمة، ولكنها لم تجد به أحدا سوى بعض العجائز والصبية؛ لأن حماة المدينة أحسوا اقتراب الجيش وعرفوا ما يريده أبرهة منهم، فأجمعوا على أن يصعدوا في شعاب الجبال ليتربصوا هناك بعدوهم كلما وجدوا منه غرة.
وأشار نفيل بن حبيب على أبرهة أن ينزل في فضاء الهضبة المشرفة على الوادي، لعل أهل مكة يعودون إلى أنفسهم وينزلون على حكمه بغير قتال. وتردد أبرهة حينا وهو ينظر إلى الصحراء الجرداء التي تمتد إلى دائرة الأفق، فماذا يجد هناك ليمد به جنده وخيله وفيلته؟ ولكنه مع ذلك أمر بإقامه معسكره، راجيا أن تبعث إليه قريش رسلها تسأله السلام. «وهل كانت قريش لتصبر على الحرب وهي أمة من تجار؟ إنهم لا يحرصون على شيء سوى المال والسلام.» هكذا قال نفيل وصدقه ذو نفر.
وبالغ نفيل في النصيحة فعرض أن يذهب إلى مكة ليدعو سادة المدينة إلى الاستسلام، ضاربا لهم المثل بنفسه وبصاحبه.
وعاد نفيل بعد يوم ومعه شيخ قريش عبد المطلب بن هاشم، فكان ذلك عند أبرهة أول الفوز، فاستقبل الشيخ في قبته الكبرى ونظر إلى نفيل شاكرا، ودعاهما إلى الجلوس معه فطرح لهما فراشا على الأرض، وأبى إلا أن يكون مجلسه إلى جنبهما.
وقال مرحبا بالشيخ: إني سعيد بأن أراك يا أبا عبد الله.
ولكن عبد المطلب لم يجبه، ونظر إليه متجهما.
وقال أبرهة متساهلا: ما بعثت إليك يا أبا عبد الله إلا رغبة في السلام، فما لك لا ترد على تحيتي؟
فقال عبد المطلب بصوته العميق: عفوا أيها الملك، فإنك رجل سمعنا بحلمه قبل أن نراه.
فنظر إلى نفيل نظرة عاطفة، وأنصت إلى الشيخ في اهتمام.
ومضى عبد المطلب قائلا: عرفنا رجاحة عقلك وتجاوزك عن ذنوب أعدائك، ثم جئت إليك فأوسعت لي وأكرمت مجلسي بنزولك معي.
وصمت قليلا ثم قال: واتجهت إلي بتحيتك الكريمة قائلا إنك سعيد بأن تراني. ولكني أكذب عليك إذا رددت بتحيتي قائلا إني سعيد بأن أراك هنا.
والتفت إلى الخيام التي تملأ فضاء الهضبة.
وكان أبرهة يجيل بصره في وجهه المجعد، الذي تلمع فيه عينان واسعتان مضيئتان، لم تطفئ الشيخوخة شيئا من وهجهمها. وقال بعد صمت لحظة: لعل أبا حبيب لم يقل لك إني لم أجئ إليكم غازيا.
فتبسم الشيخ حتى علا اللون في وجهه وقال: بل قال لنا ذلك، وأدى أمانتك على وجهها أيها الملك.
فقال أبرهة: وإذن؟
فقال الشيخ في صوت خافت: إذن لقد تكلفت شططا أيها الملك.
فقال أبرهة وقد أحس الصدمة: ماذا تعني؟
فقال الشيخ: أعني أنك تأتي بهذا الجيش الكبير، وهذه الفيلة الضخمة التي لم يطأ أرضنا مثلها من قبل، وتملأ فضاء الهضبة بخيلك ورواحلك، وأنت تعلم أن صحرائنا تضيق عن سرحنا نحن، ومع هذا تقول إنك لم تأت غازيا. فإذا لم تجئ غازيا أجئت مع هؤلاء حاجا؟
وكانت نبرات صوته الهادئ تفيض سخرية.
فجمع أبرهة أطراف ثوبه وفي نفسه دفعة من الغيظ، ولكنه ملك نفسه وقال هادئا: ماذا قلت يا أبا عبد الله؟
فقال الشيخ هادئا: أسألك: هل جئت حاجا؟ هل جئت للحج إلى هذا البيت العتيق الذي يحج إليه الناس جميعا؟
ولمعت عيناه ببريق فيه لون من السرور المكبوت.
فقال أبرهة متحديا: بل جئت لأهدمه. أمثلي يحج إلى هذه الكعبة الشوهاء ويصلي إلى هذه الأوثان؟ ما جئت إلا لأهدمها، وما بعثت إليكم إلا رحمة مني أن أسفك الدماء في قتال من أجل كومة حجارة، فكيف ترضى وأنت شيخ حكيم كما علمت، أن تعبد هذه الدمى وأن تقول إنني جئت لأحج إليها؟ هذه الدمى الحجرية الرخيصة.
فقال عبد المطلب وزادت عيناه التماعا: نتخذها لك من ذهب إذا شئت أيها الملك.
فقال أبرهة غاضبا: أشيب وسخرية؟
فقال الشيخ جادا: عفوا أيها الملك فما قصدت السخرية، ولكني عجبت لقولك إن آلهتنا دمى حجرية رخيصة، وإن كعبتنا كومة من حجارة. فما نعبد الدمى ولا نطوف بكومة الحجارة إلا كما تعبد إلهك في القليس. نحن نتسالم عندها ونتصافى، ونطهر نفوسنا بالتعبد في جوارها كما يتعبد الناس في أركان الأرض، كل على طريقته.
فقال أبرهة في جفاء: لم أبعث إليك لنتحدث في هذا.
فقال الشيخ: فأنا سامع لما بعثت من أجله، فبم بعثت إلينا رسولك أيها الملك؟ أبعثت إلينا لننزل على حكمك؟
فقال أبرهة: أما عندك قول تفضي به فيما قلت آنفا؟ ما بعثت إليك إلا لكي أمد إليكم يد صديق يريد السلام. سلني أيها الشيخ ما شئت تجدني سريعا إلى الاستجابة. أما عندك قول؟
فقال الشيخ بعد لحظة صمت: إذن فاردد ما أخذت من أموالي. هذا سؤالي إن كان لي سؤال.
فنظر إليه أبرهة في دهشة، ولم تخف عنه حركته عندما رفع حاجبيه الكثيفين يلحظه من جانب عينيه، وقال كأنه يتحفز لمنازلة: والكعبة؟ ماذا عندك في شأنها؟ ألا تراها جديرة بأن تحدثني فيها؟
فقال الشيخ: قلت لي أن أسألك ما أريد، وما كان لي أن أتحدث إلا عما أملك. ليست الكعبة ملكا لي ولا ملكا لأحد من قومي، إنها بيت الله لا بيت أحد منا، وما بيوتنا إلا هذه التي تراها هناك، صاعدة في الجبل أو هابطة إلى البطحاء.
وأشار بيده إشارة عامة بغير أن ينظر نحو المدينة.
ثم واجه أبرهة قائلا: ومع ذلك فقد هجرنا هذه البيوت التي نملكها ولا نعبأ بما يصيبها، ولا نقيم اليوم إلا في شقوق الصخر وشعاب الأودية الوعرة.
وأحس أبرهة أنه حيال رجل عنيف يجمجم ما في نفسه، وقال وهو يحاول أن يملك غضبه: أهذا كل ما عندك؟
فقال الشيخ بنبرات تنم عن تأثر: وما أملك أن أقول أيها الملك؟ سننتظر الغد وما يسوقه إلينا. فاذهب إلى الكعبة واهدمها كما تقول، وإذا شئت فاهدم هذه البيوت حجرا حجرا، لن تجد هناك من يلقاك؛ لأننا لا نقوى على أن ننازلك في معركة، لك القوة والسطوة وليس لنا سوى قلوبنا. لن نكون عبيدا لسلطان وإن عجزنا عن لقاء قوته، لقد هربنا بحريتنا وكرامتنا وأعراضنا، وهذه هي كل ما نحرص عليه في حياتنا، وسيحكم القضاء حكمه فيما بيننا.
فقال أبرهة وكأنه تأثر بقوله: أهكذا يقول من أمد يدي إليه بالسلام؟
فقال الشيخ: عفوا أيها الملك لما تسمع من قولي، فإني لا أقصد التطاول ولا التحدي، ولكني لم أجئ إليك أقصد خداعا. إنني شيخ كما ترى، وقد عركت الأيام وعركتني منذ كنت طفلا يتيما، فلم أجد في الحياة ما هو أجدر بي من أن أقول الحق صريحا، فلا تنتظر مني كلمة كذب ولا رياء. لا أحب أن تكون كلمتي وديعة وقلبي يضمر لك حربا، ولا تحسب أنني أحب الصدق في نفسي ثم أرضى بغير الصدق في فهمي. فماذا تقصد بقولك إنك تمد إلينا يدك بالسلام؟ إنما سبيل السلام واضحة.
فقال أبرهة متحفزا: وما تلك؟
فال الشيخ: انصرف بجيشك عائدا إلى صنعاء، فإذا فعلت هذا لحقنا بك منذ الغد نحمل إليك شكرنا وصداقتنا.
فقال أبرهة ساخرا: عجبا منك أيها الشيخ.
فقال عبد المطلب هادئا: وما وجه العجب أيها الملك؟
فقال أبرهة في دفعة: عجبت منك غير مرة، وإن كنت صبرت عليك نفسي ومددت إليك يدي مسالما، فما ذلك إلا أني لا أدع فرصة في السلام تنفلت من يدي، ولكنك تأبى إلا أن تردني ساخرا. سألتني أجئت حاجا؟ وأنت تعرف أنني أدعوكم إلى الحج إلى قليسي. وقلت لك سلني ما شئت، فنسيت كعبتك وآلهتك وقومك وحدثتني عن إبلك. ثم تريدني آخر الأمر على أن أعود أدراجي حتى تلحق بي لتشكرني. أجادا تنطق أم هازلا؟ أليس في كل ذلك ما يدعو إلى العجب الأعجب؟
فتبسم الشيخ قائلا: ألم تسمع قبلي رجلا صدقك؟
فثار أبرهة قائلا: أشيخ قريش أم سوقة؟
واتجه إلى نفيل قائلا: من ذلك الذي جئت به يا نفيل؟ أهو أبو عبد الله حقا؟
فقال عبد المطلب مبادرا: أتسأل عني يا أبا يكسوم وأنا أسمعك؟ أسمعت مني سفها؟
فقهقه أبرهة قائلا: بل سمعت عجبا.
فقال الشيخ هادئا: ما هكذا نقهقه في نوادينا إذا تحدثنا في الجد، وما هكذا نقهقه إذا طالبنا أحد بحقه، إننا نعرف الحق ونقدره، وننصر المظلوم، ونتعاون على رد المعتدي.
فقال أبرهة في جفاء: ما أشد خيبتي فيك يا ابن هاشم!
فثار الشيخ أول مرة قائلا: لعلها أول الخيبة!
فصاح أبرهة: ماذا قلت؟ وهل تأمن أن أعاقبك أيها الشيخ على سوء أدبك؟
فقال الشيخ باسما في سخرية: لو كنت سوقة لقهقهت ضاحكا. أتعاقبني وأنا في منزلك؟ أتعاقب رسولا بعثت تطلبه وجاء إلى جوارك آمنا يعرف أنه يلقى ملكا؟ أتعاقب رجلا جاء ليخاطبك ويرد على قولك بما يليق به؟ أتغضب من رجل جئت تغزو بلده فيقول لك: «لعلها أول الخيبة؟» ماذا كنت تتوقع مني أن أقول لك جوابا على قولك: «ما أشد خيبتي؟» أكنت تحسب أني أجيبك متمنيا لك النجاح؟ ماذا يغضبك مني وأنا أتمنى لك الخيبة في إذلال قومي وانتهاك حرماتنا ودك حرمنا وتحطيم آلهتنا؟ أما تعلم أنني أرجوها لك حقا؟ ثم ما هي تلك الخيبة التي وقعت في قلبك منذ سمعت قولي؟
فقال أبرهة وهو يحاول أن يمسك نفسه: إنك منذ اليوم تثيرني كأنك ما جئت إلا لتحرضني على القتال. لم أبعث إليك لتبارزني بحد لسانك، فإني أشهد أنك لصاحب لسان حديد، ولكن هذه الأقوال لا ترد قضاء ولا تغني فيما نحن فيه شيئا. لقد هبتك أيها الشيخ عندما وقعت عيني عليك، ورأيت من شيبك ومن هيئتك أنك زعيم نبيل حكيم، وحسبت أنني أستقبل داهية القوم.
فقال الشيخ باسما: ثم رأيت ...؟
فقال أبرهة: رأيت رجلا ...
وسكت لحظة كأنه يريد أن يختار لفظا ملائما، ثم قال: ولكن ما جدوى المضي في هذا الحديث؟ قل لي يا أبا عبد الله، أما من سبيل سوى القتال؟
فقال عبد المطلب في هدوء: نحن في قبضة القضاء جميعا، مثل قوم في بحر يتقاذف بهم الموج، وقد هب عليهم إعصار حجب عنهم منظر الأرض والسماء، فماذا نستطيع أن نفعل لأنفسنا سوى أن نتماسك حتى تنجلي عنا غمة العاصفة؟ لا حيلة لنا إلا أن نتماسك ونجاهد حتى تنجلي عنا، فإما غيبتنا الأعماق في ظلامها، وإما خرجنا إلى البر في سلام.
ثم تحفز للقيام قائلا: ومع هذا فلست أيها الملك بأول من نظر فأخطأ.
وكان صوته العميق يرن هادئا كأنه يلقي تحية.
فقال أبرهة: إلى أين يا أبا عبد الله؟
فقال عبد المطلب: هذا آخر ما عندي.
فقال أبرهة: ألك في رأي آخر؟ اجلس يا أبا عبد الله حتى نتم حديثنا.
فجلس عبد المطلب قائلا: إني سامع لما تقول أيها الملك.
فقال أبرهة: ألا تذهب إلى قومك فتحدثهم عني؟
فقال الشيخ: ما كنت لك رسولا أيها الملك. ابعث معي من شئت يكن في جواري، لا يمد أحد يده إلا من بعد هلاكي وهلاك عشيرتي.
فقال أبرهة: ألم تسمع ما قلت؟
فقال الشيخ: بل قد سمعته. فهل تريدني على أن أذهب إلى قومى قائلا لهم: «أسلموا قبل أن يحطمكم أبرهة؟» أم تريد أن أقوم فيهم قائلا: «أنكروا آلهتكم وانظروا إليه وهو يهدم كعبتكم؟»
فقال أبرهة: بل قل لهم هو يطلب مودتكم وسيعود عنكم وهو حليف لكم، لا يريد إلا أن نكون معا يدا واحدة، فتسودوا على الناس جميعا وتتدفق الخيرات إلى واديكم الأجرد. وأما الكعبة فسأبدلكم خيرا منها.
فقال الشيخ: هذا قولك أيها الملك، فابعث به إن شئت رسولا ينطق بلسانك.
فقال أبرهة متلطفا: وأين تكون أنت؟
فأجاب الشيخ: أكون واحدا من قومي، أدلي إليهم برأيي.
فقال أبرهة: ألست كبيرهم؟
فأجاب: ولكني أحدهم.
وكان وجه أبرهة ينطق بما ينطوي تحته من الحنق، ولكنه قال لمن حوله: ردوا على الشيخ إبله.
ثم قال للشيخ: سأبعث معك رسولي. امض معه يا نفيل.
وكان نفيل جالسا يتأمل حركة الشيخ ويحفظ أقواله مستغرقا فيها.
فأجاب في تردد: وماذا أقول يا مولاي؟
فقال أبرهة: أما سمعت ما كان بيننا؟
فأجاب: بل حفظته.
فقال أبرهة: كن عندهم رسولي.
ولما قام عبد المطلب منصرفا مال أبرهة على نفيل قائلا: هذه ساعة الوفاء يا نفيل.
فقال هامسا: سأحاول ما استطعت يا مولاي.
وركب الرجلان متجهين نحو مكة، وأبرهة ينظر في إثرهما صامتا، فلما التفت من حوله رأى عدوة ينظر إليه عابسا.
فقال له في شيء من الضجر: ما بك يا عدوة؟
فقال في هدوء: أحس شرا يا مولاي.
فانصرف أبرهة عنه وهو يغمغم بكلمات حانقة حتى خرج من خيمته وسار على الهضبة، وحركته تنم عن قلقه. •••
ومضى يومان ولم يعد نفيل بن حبيب، وكان أبرهة يشرف بين كل حين وآخر من قبته العالية، ينظر نحو المدينة الخالية ويقلب بصره في الأفق، ثم يجيله بين الخيام المتزاحمة، ويستمع إلى ضجيج الجيش ويناجي نفسه قائلا: «لم يعد نفيل.»
وظهرت على أفق الجنوب سحابة سوداء تلتمع في حواشيها بروق تعقبها رعود، تتدهدى من بعيد كأنها صخور هائلة تتهاوى في باطن الأرض. وكانت الشمس تتكبد السماء، وسكنت الريح، فكأن الفضاء يتقد في أتون.
وكانت الرمال ترسل وهجا ثقيلا تكاد الأنفاس تحترق فيه.
وكان عدوة واقفا أمام خيمة الملك وفي يده حربة طويلة، وهو بين آن وآخر يسير في خطوات بطيئة واسعة، ويتطلع في الآفاق عابسا، وكان في قوامه الفارع الدقيق ووجهه الجاهم ورأسه المرفوع ما يدل على أنه محارب حانق.
وبدأت الريح تشتد وتسفو الرمال في وجهه، وهزيم الرعد يكاد يصم أذنيه. وناداه أبرهة مرة بعد مرة حتى بلغه الصوت بعد حين، فسار في خطاه الواسعة إلى داخل الخيمة وحياه ثابتا.
فقال أبرهة في حنق: أما تسمع؟
فأجاب: معذرة يا مولاي ...
وانطلق الرعد مرة أخرى فأغرق تتمة قوله.
وقال أبرهة حانقا: ويل لهذه السماء! كأنها تتعمد إثارة غضبها الآن. لم يعد نفيل يا عدوة.
فوقف الجندي الشيخ صامتا.
وصاح أبرهة: ألم تعد إليك الطليعة التي بعثتها إلى أعلى وادي المحصب؟
وانطلقت فرقعة من الرعد فانتظر عدوة مرة أخرى حتى هدأت، ثم قال: وبعثت من بعدها أخرى.
فاندفع أبرهة ساخطا: أوقعت في كمين هؤلاء؟ إنهم يرصدون لنا في ثنايا الأودية كالفهود أو بنات آوى، ويخرجون على جنودنا كلما وجدوا فرصة، ثم يختفون في شقوق الأرض كأنهم من الحشر. أنسينا القتال يا عدوة؟
فقال الشيخ: لم ننس القتال يا مولاي، ولكنك ترى من نحارب. هم يعرفون كل صخرة وكل شق فيها، ولا يبالون أن يتواثبوا على أضراس السفوح كأنهم وعول.
فقال أبرهة في ضجر: كأنك تشيد بحمدهم. والآن يا عدوة؟
فقال عدوة: أنت تعرف رأيي يا مولاي.
فقام في وثبة وقال: نعم أعرف رأيك، أعرف أنك لا ترى ما أرى، ولا تحب ما أحب. أعرف أنك تتكهن بالشر أبدا وتريد أن تخلع قلبي.
فقال عدوة عابسا: ما سمعتك قبل اليوم يا مولاي تقول هذا. إن الغضب يحملك إلى حيث لا تريد.
فقال أبرهة ذاهبا مع حنقه: بل أعرف أنك تبدلت وتباعدت، فما أمرتك أمرا إلا قلت لي «ولكن» ...
فأجاب: إذا رأيت يا مولاي أن أمسك لساني فلا أراجعك في قول فعلت.
فعاد أبرهة إلى مجلسه صامتا يدمدم، وخرج عدوة إلى موقفه في العراء، وكان المطر يتساقط رذاذا، ولبث أبرهة قليلا ثم قام خارجا ونادى عدوة قائلا: ابعث إلى أنيس صاحب الفيلة.
فقال عدوة: هو مع الفيلة يا مولاي.
فصاح أبرهة: لست أزعم لك أنه يرقص حول النار أو أنه يقم عرسا لابنته. أعرف أنه مع الفيلة.
فقال عدوة: وهو يحاول تهدئتها.
فصاح أبرهة في ذعر: أهي الأخرى؟
فقال عدوة: كلما تقدم أحد إليها همت تريد أن تبطش به غاضبة.
فقال أبرهة: ماذا أصابها؟
فقال عدوة: جائعة، عطشى، لا تجد ما يكفيها من الطعام والماء، وهو يحتال أن يصيب لها شيئا من ذلك، حتى أشركها في مياه الجنود.
فقال أبرهة: مرحى أيها الأصدقاء! ألا تقدرون على حمل الماء من الوادي؟
فقال عدوة: غوروا المياه وطموا الآبار في الليل.
فصاح أبرهة: يا شياطين الجحيم! لا أسمع إلا ما يملؤني غيظا. كل شيء يخونني.
وانطلقت فرقعة أخرى من الرعد وهطل المطر في عنف، وارتد أبرهة يحتمي بالخيمة.
وقال: كل شيء يخونني حتى السماء. وأنتم جميعا تخونونني.
فقال عدوة ثابتا: عفوا يا مولاي. إن الخائن يتستر ويتلطف، ولكني أثير غضبك؛ لأن ولائي أكبر عندي من سلامتي.
فقال أبرهة: ماذا تقصد؟
فأجاب عدوة: أقصد أنك أمنت الذين خدعوك، واستخونت الذين يفدونك بأنفسهم.
فأجاب أبرهة غاضبا: نعم أعرف ما تريد. ليس هذا القول جديدا عندي، فإنك تكره هذا الرجل وما زلت تفرغ حقدك عليه في أنا. وماذا تريد بعد؟
فقال عدوة: أعيد عليك نصيحتي.
فصاح أبرهة: نعود إلى صنعاء؟
فقال الرجل ثابتا: اليوم قبل الغد، والساعة قبل الساعة التي بعدها.
فصاح في عنف: هراء، وسخف، بل جنون.
فقال عدوة: ليست هذه الأرض مقاما لك.
فقال أبرهة عابسا: نصيحة معادة، كأنني أرضى أن أتردد في هذه اللحظة وأنا أنتظر عودة الرسول، سنتحرك إلى مكة غدا وإن لم يعد نفيل. ابعث طليعة أخرى لترى ما فعل نفيل.
ولزم عدوة الصمت ووقف جامدا كأنه لم يسمع.
فقال أبرهة: أما سمعت قولي؟
فقال عدوة: ألوذ بالصمت يا مولاي لأنني ألمح اللهيب في عينيك.
فقال أبرهة: بل انطق.
فقال عدوة: أحس ريح نكبة.
فقهقه أبرهة بضحكته المزغردة قائلا: عرفت من قبل أنك تتكهن. أهكذا أخافتك ريح النكبة التي تحسها في جو السماء؟ اذهب أيها الرجل فأنفذ أمري.
فقال عدوة بعد لحظة صمت: سمعا يا مولاي، وسأكون أنا الطليعة.
ورفع حربته وانحنى، ثم مضى صامتا.
وبقي أبرهة حينا ينظر في أعقابه، ثم هرول داخلا في الخيمة بجسمه الضخم، وارتمى على مقعد في الصدر، وكان وجهه متقلصا من الغيظ، وتدفق المطر كأنه ينصب من ميازيب، ولجأ الجنود إلى الخيام، وأطرقت الإبل والخيول برءوسها خاشعة، وانسابت في الجو ضجة رهيبة. ولكن عدوة مضى في سيره تحت السماء الغاضبة وقلبه أشد منها غضبا، وإن كان يكبته في صرامة، وكان جواده يتكفأ به في الأرض الزلقة، والريح العاصفة تطوحه في هباتها، والفضاء الأغبر يحجب عينيه فلا يرى أمامه إلا كتلة من ماء صبيب .
وبلغ آخر الهضبة ولم يستطع أن يهبط إلى الوادي الذي كان يتدفق مثل نهر فائض، تتوالى فيه أمواج السيل واحدة بعد أخرى في فرقعة تزلزل الأرض. وكانت جذوع النخل تطفو على وجه الماء أحيانا وتغوص أحيانا، تتخللها أجسام الإبل تتقلب مع التيار، فتعلو بأسنامها حينا وبأخفافها حينا.
ثم لاح على البعد جمع يتحرك نحو معسكر الجيش، فظنه عدوة جمعا من العرب يريدون على عادتهم أن يهبطوا على أطراف الجيش يقتلون من تصل إليه أيديهم، ثم يتسللون كالأشباح الخفية قبل أن يفطن أحد إلى وجودهم. فاستتر وراء الآكام والكثبان حتى اقتربوا منه وبلغت أذنيه كلمات من حديثهم، وما كان أشد عجبه إذ سمع حديثا حبشيا، ولما لقيهم عرف أنهم بقية السرية التي بعثها إلى مكة في الصباح تستطلع أخبار نفيل بن حبيب، واستمع إلى القصة كأنه يعرفها. كان نفيل يقود السرية العربية التي هبطت عليهم من الجبل كأنها صخرة تتدهدى وتحطم وتترك أثرها من خلفها، وما كادت فلول السرية الحبشية تنجو من المفاجأة حتى أدركها السيل في الوادي، فكان جهدها في تسلق الجوانب الصخرية أشق عليها من جهد القتال وعنف السيل. وهكذا اتجه عدوة في حسرة مع تلك الفلول المسكينة عائدين إلى أبرهة. وفكر كيف يلقى ذلك الرجل الذي كان منذ ساعة يصيح به غاضبا معنفا ويتهمه بأنه يخونه؟ سوف يلقاه في أغلب الظن صائحا به: «أهكذا تعود؟» كأنه هو الذي أثار العاصفة. أترى يصدق أن نفيل بن حبيب كان يقود السرية التي مزقت رجاله؟ وأحس جسمه يتحرق كأن فيه لسع جمر. ولما اقترب من المعسكر طلع عليه منظر عجيب لم يشهد له مثيلا من قبل، حتى خيل إليه أنه في حلم مزعج، وكان وجهه المتقد حرا يحس خيوط المطر تغسله، فيجد راحة من حرارته حينا، ثم تشتعل فيه الوقدة كأنه كان يحترق في لهيب. ورأى فوقه سحابة لم ير سحابة مثلها في حياته، تسبح من فوق رأسه نحو خيام الجيش كأنها دخان حريق يتطاير الشرر خلاله، وسمع منها زفيفا يشبه عزيف الجن في الليلة المظلمة، وتساقطت منها قطع من حمم كلما أصابت موضعا من جسمه أشعلت فيه وقدا. ورفع إليها رأسه في رعب، وتجلد حتى لا يصرخ من الألم. فلما ثنى عنقه أحس كأن سنان حربة ينفذ فيه، وغامت عيناه، وبدا له في السحابة خفق أجنحة متوهجة. وكانت صيحات الذين معه تتعالى من حوله وهم يتفرقون في فزع ويصيحون: «الحمم! النيران!»
وتماسك عدوة وهو يحس رعدة من برق متقد، ولكنه لم يقو على الثبات، فكان يرتج بردا، ولسع الحمم يشتعل بجسده. ولما بلغ المعسكر رأى ما زاده هولا، فكان السيل يتدفق مثل بحر مائج في بطيحة فسيحة، وبقايا الخيام وجثث الجنود والخيل تنجرف مع التيار إلى حافة الهضبة نحو فم المسيل، ثم تهوي نحو الوادي. وكان أبرهة يسير ذاهلا بين حطام المعسكر يحاول أن يجمع في بصره هول النكبة، وأن يعيد بصراخه جنان الجنود اليائسة. ورأى السحابة السوداء ذات الحواشي المتوهجة تقترب منه رفافة بطيئة، تخفق في غبش المساء بشعاع وردي داكن، وسمع الصيحات تتوالى: «الحمم! النيران!»
وتجلد ما استطاع، حتى أظلم الليل وهو يحاول الإغاثة على ضوء المشاعل، ثم جاء إليه بعض الجنود الذين يحملون عدوة، فنظر في وجهه المنتفخ وإلى عينيه الزائغتين وإلى جسده الملتهب، واستمع ممن يقوى على الكلام قصة السرية البائسة، وكان جاثيا في أثناء ذلك إلى جنب عدوة يصيح به: «عدوة! أيها الصديق! أما تسمعني؟»
وانتفض الجندي الشيخ وتقلصت أعضاؤه، وصاح في هذيان الحمى: «الطير! الحمم! النيران!»
ثم خفت صوته.
وطلع الفجر بطيئا يطل في نوره الخافت على الأفق، وازدان الشرق لموكب الشمس الطالعة كأن لم تكن في الليل عاصفة دمرت جيش أبرهة.
وسار الملك المسكين بمن بقي معه يجرر أذيال الحسرة نحو الجنوب في طريق صنعاء.
الفصل الثالث عشر
قال الراوي:
خرج يكسوم يستقبل أباه، ولكنه استقبل جثة ممزقة. وأما جيشه المتدفق الذي سالت به رحبة صنعاء، والفيلة التي خرجت تهز الأرض كأنها حصون، والخيل ذات الخيلاء، والجند العابس الذي كان يثير الغبار سحبا ، وحرابه تلمع من خلاله كأنها بروق، فقد اختفت جميعا كما يختفي طيف الخيال.
وتلفت أهل صنعاء في دهشة يتساءلون: أحقا ما يرون وما يسمعون؟ أتلك هي الفلول التي نجت من الموت تجرر أقدامها خائرة القوى، وتتسلل في ظلام الليل إلى بيوتها مخافة أن تقع عليها العيون من وراء شرفات المنازل المغلقة؟ وأصبحت المدينة مناحة على صرعى القتال الباطل، الذي كان مثل فقاعة ارتجفت حينا على سطح غدير.
ولكن الهزيمة والخيبة لم تزيدا يكسوم إلا عنفا وقسوة، فكان مثل فهد جريح في غابة، لا يكاد يسمع همسة حتى يثب غاضبا مفترسا. وكانت المفاجأة العجيبة مثل صدمة شديدة أذهلت أهل صنعاء، فلزموا بيوتهم في حيرة وذعر، فالوباء ينتشر في المدينة، لا يعلم أحد كيف يتدسس إلى الأصحاء، أيدخل إليهم مع الأنفاس؟ أم يثب إليهم مع أشعة الأبصار؟ ويكسوم يسلط عليه جنوده وأعوانه، فلا يجرؤ أحد أن يظهر شيئا ينم عن الفرحة المكبوتة لهلاك جيش الحبشة. وكانت الكارثة طاحنة مثل زلزال من الأرض أو صاعقة من السماء، لا يكاد الحس يدركها حتى تشله صدمتها. وتلفتوا حولهم لعلهم يرون رجلا يجتمعون إليه أو يجدون في رأيه عصمة، فلم يجدوا من السادة إلا هذه الأذناب التي تتمسح في أذيال يكسوم، وهم أشد عليهم من الحبشة وطأة. فكانت صنعاء مدينة ليس فيها سوى بيوت مفردة بعضها يخشى بعضا، ويحسب كل منها أن جاره يسعى به عند الطاغية. وعاد سيف إلى القصر الحزين، وكان قلبه أشد حزنا، لم يكن يحسب أن هلاك أبرهة يقع منه ذلك الموقع الذي كان أبلغ من حزن الولد على أبيه، فلو هلك أبرهة قبل سيره إلى قريش، إذ كان سيف موزعا بين الشك واليقين لا يدري أهو أبوه حقا أم هو أجنبي عنه، لوقف على جنازته حائرا مضطربا لا يذرف دمعة. ولكنه منذ عرف بموته ارتدت عليه موجة من حزن يشوبه الأسف والندم على ما خطر بقلبه من التنكر له وجحود فضله عليه. ولم يذكر في أثناء سيره إلى صنعاء سوى ما كان يلقى من بره وعطفه ورحمته. تذكر كيف كان يداعبه صغيرا، ويحمل إليه الطرف من الهدايا، وتذكر كيف كان يعابثه ويقهقه بضحكته العالية المزغردة في معابثته. طالما أركبه على ركبته كما لو كانت مهرا، ولقنه صيحات الحرب كما كان الأحباش ينطقون بها، وطالما سمعه يقول لمن حوله: «هذا أول أبنائي العرب.» وإذا كان الشك في أبوته قد أفسد عليه حكمه حينا، فلم يكن ذلك من ذنب أبرهة المسكين ولا من قصور في مودته، بل لقد بدت رحمته لسيف في ذلك الحين أعظم نبلا وأجدر بالشكر من رحمة الأب لابنه؛ لأنه لم يكن أباه.
وأسرع سيف إلى أمه، وعجب إذ رأى في جناحها حبشيين كأنهما تمثالان من نحاس يقفان عند باب البهو وينظران نحوه جامدين. ولما رأته ريحانة هبت تستقبله فاتحة ذراعيها متهانفة بالبكاء وقالت: أهكذا تغيب عني؟
وجلسا حينا في صمت لا تقطعه إلا شهقات الأم الحزينة. وقال سيف مواسيا: تجملي بالصبر يا أماه.
فنظرت إليه نظرة طويلة ثم قالت: لست أدري يا ولدي أينا أكثر شقاء.
فقال: لم أعرف اليتم إلا في هذا اليوم يا أماه. عرفته اليوم جديدا.
فقالت في حزن: عرفنا معا كل ما تستطيع الأيام أن تمد به يديها. كنت أحملك على يدي طفلا وأبكي كما أبكي في هذه الساعة، وأسأل نفسي: ماذا يحمل الدهر لنا؟ وها أنا ذا أراك شابا وما زلت أسأل نفسي: ماذا يحمل الدهر في الغد؟
فقال سيف: لا يذهب بك الحزن إلى كل هذا أيها الأم العزيزة، فإني وإن كنت لا أزال محتميا بظلك أعرف كيف أواجه الحياة، وليس حزني من أجل نفسي، بل هو خالص لفقد قلب كريم.
فقالت: ما أكرم قلبك يا سيف! كأن قولك يؤنبني. لست أحب أن أكذبك يا ولدي كما كذبتك كثيرا، إنما أحزن من أجل نفسي ومن أجلك. ألم تر الحبشيين الواقفين عند بابي؟ هذا ولم يمض إلا أيام على السيد الجديد، يكسوم! ألا تعرف أنني لم أستطع أن أبعث إليك رسولا؟ أبى يكسوم أن يبعث إليك رسولي، أنا التي كنت بالأمس ملكة اليمن.
فقال سيف متماسكا: سلمت يا أماه ولا حمل لك الدهر إلا الكرامة. وإن كان أبرهة قد هلك فإنك أمي، وأنت بعد هذا أم مسروق بن أبرهة، فلا تجعلي هذه الأمور تضاعف أحزانك.
فمدت يدها إليه قائلة: اقترب مني يا سيف ودعني أبكي ساعة وأنت هنا. دعني أفتح لك صدري وأنفض ما فيه، لعله يلقي سمومه التي توقده. اقترب مني حتى لا يسمع هؤلاء الذين أقامهم يكسوم يحصون علي خطواتي ويحفظون همساتي.
فأمسك سيف بيدها قائلا: لا يذهب بك الحزن والهم إلى كل هذا، والجزع لا يغني شيئا من القضاء الواقع.
فقالت في أنة: ليس الحزن علتي، وليس الهم ما يحرقني. إنه قلبي الذي يخونني، إنه قلبي الذي يعصف بي. إن حياتي تجتمع في هذه الساعة تحت عيني كأنها صفحة أقرؤها، وكل سطر فيها يزيدني حيرة وعذابا. تقول إنك عرفت اليتم جديدا؟ ولكنني أقول إنني عرفت عاري جديدا. لا تنتفض هكذا كأنك تؤنبني. قلت إنني لن أكذبك مرة أخرى، تتمثل لي في هذه الساعة فداحة مصابي عندما دخلت إلى هذا القصر كأنني أمة. فلم أبقيت على حياتي؟ أأقول مرة أخرى: من أجلك أنت؟ كذبة أخرى؟ بل هو الخوف من الموت الذي حجزني عن الخطوة التي كانت واجبة علي. نعم، هو الخوف على الحياة الحقيرة التي طال فيها هواني، فبقيت هنا أحس البغضاء تملأ قلبي. اقترب مني يا سيف، فإن صوتي يعلو برغمي. كأن نظرتك تؤلمني.
فقال سيف في رقة: ليس بي إلا المواساة والرحمة.
فقالت: دعني أنفس عن صدري، لطالما كتمت ما في قلبي عنك، فدعني أنفضه مرة واحدة وإن ضاق به صدرك أنت. فلو ملكت أن أقطع نفسي أسفا لكان أروح لها.
فقال في نغمة عتاب: لا تخلقي من ذلك الماضي أوهاما تعذبك، وأسدلي عليها الستر الذي أسدلته عليها السنوات.
فقالت في شيء يشبه الحنق: هيهات! هيهات أن يدعني ذلك الماضي وإن حاولت أن أدعه؛ فذلك الستار الذي تسدله الأيام ما هو إلا الوهم الذي نخدع به أنفسنا، ذلك الماضي مستقر بأعماقي لا يفارقني، دعني أكشف عنه كأنك كاهن في المحراب أكشف له عن مكنون سري. ماذا قلت؟ أأقول كأنك كاهن؟ وهل آمنت بشيء من هذا الدين الذي ألحقني به أبرهة؟ لا تحمل لي ضغنا يا ولدي إذا أقررت لك أنني لا أومن بشيء، لا أومن بآلهة آبائي التي لم تستطع حمايتي، ولا أومن بإله أبرهة الذي لم يمنعه من إذلالي. إنني أمقت الكهنة ومحاريبهم، فلتكن صديقا مواسيا، أو لتكن ابن أبي مرة.
فقال سيف في حزن: مولاتي!
فقالت: لا تتبرأ مني يا سيف. قل يا أمي، قل أيتها الأم البائسة، قل أيتها الصاحبة التي لا وفاء لها، لم رضيت أن تكوني زوجا لغير أبي؟ ما أشد ما ألقى من كبت حنقي، واضطراري أن ألقى يكسوم وأنا أداري كراهتي، ثم أنطق له قائلة: «لك العزاء أيها الملك!»
أقد صار يكسوم ملكا؟ أنذهب بعد أيام لنصلي له في القليس ونلبسه تاج اليمن؟ لن تكون هذه الصلاة إلا لعنات أصبها على حظي وعلى قضائي وعلى الذي تحسبني أحزن عليه.
فرفع سيف عينيه في لفتة جافلة وقال: أمي!
فقالت في عنف: لا تتجه إلي بهذه النظرة، فإنها تزيدني حنقا وحقدا على نفسي وعلى الأحياء جميعا. قلبي يفور كالمرجل وعقلي يهيم في جحيم.
فقال عاطفا: ما قصدت سوى أن تترفقي بنفسك، وأن تذكري خير ما تبعثه الذكرى. كان أبرهة بنا رحيما، فلنترحم عليه ولنذكره بالسلام، فهذا أبعث للسلام في قلبينا.
فحولت ريحانة عنه عينيها قائلة: كأنني أسمع صوت خيلاء، كأنني أفزعتك يا سيف.
فقال: ليس في قلبي سوى المواساة والرحمة.
فقالت وهي أهدأ: أسألك العفو يا ولدي. إن ضعف المرأة ينطق على لساني، هكذا كنت دائما أثور بأبرهة كلما غضبت، فلا أدري ماذا يثيرني، ثم أهدأ وأذكر أقوالي فأزداد ثورة على نفسي. عفوك يا ولدي، فما أشقاني!
فوضع سيف يده على رأسها ونظر في وجهها قائلا: بل ما أكبر قلبك!
فقالت في رنة الشكر: إنني كالريشة في مهب الهواء، لا أعرف لنفسي وجهة. أقلت لك إنني لا أحس حزنا من أجل أبرهة؟ لقد كنت أكرم مني وأنبل قلبا عندما قلت إنك عرفت اليتم جديدا، وإلا فما الذي حرك كل أشجاني؟ كأنني يا ولدي أعنف عليه ميتا كما كنت أعنف عليه حيا، وألقي عليه اللوم كأنه هو الذي اختار أن يهلك ويدعني تحت رحمة يكسوم. وما كان أجدرني أن أرحمه وأحس فقده. كان بي وبك رحيما، وما زال منذ دخلت هذا القصر يوسع لي من صدره ويصبر على بوادر غضبي، وقد طالما عنفت عليه وثرت به ورميته في وجهه بأنه عدوي وعدو قومي. وطالما أنكرت إلهه في سمعه، ولكنه لم يثر بي مرة ولم يوجه إلي لفظا قاسيا. وها هو ذا يموت عندما كان عازما على أن يهب لك شطرا من ملكه. ها هو ذا يموت ويتركنا. أعد علي كلماتك يا سيف، وعلمني كيف يكون القلب نبيلا. أنت رجل وما أنا إلا امرأة.
وكان سيف ينظر نحو الباب في لهفة يتوقع بين دقيقة وأخرى أن يرى وجه خيلاء.
فلما سكنت أمه شيئا قال لها: ما لي لا أرى خيلاء إلى جنبك؟
فنظرت إليه الأم في شيء يشبه الوجل ولم تجب.
فأعاد سؤاله في لهفة: ما لي لا أرى خيلاء هنا؟ ألا أذهب إليها فأرى ما عاقها عنك؟
فتحركت الأم حركة سريعة فيها ذعر لم تملك أن تخفيه، وقالت: دع خيلاء حيث هي يا سيف.
فقال: أهناك شيء؟
فقالت متداركة: خير لي أن أبقى معك وحدنا في هذه الساعة.
فقال: إذن سأذهب لأراها.
ولم يبق ليستمع إلى قول ريحانة وهي تحاول أن تمنعه، وذهب مسرعا وقلبه يتوجس. دع خيلاء حيث هي؟ لمه؟
وكانت خيلاء في حجرتها إلى جانب تمثال العذراء، فسمعت طرقا على بابها، وقامت فاترة تجفف عينيها، وكان على وجهها ظل من فزع تملكه قسرا. وفتحت الباب وقالت في صيحة مكتومة: سيف!
ثم ردت بصرها مسرعة واكتسى خداها حمرة. واندفع سيف نحوها مادا يديه قائلا: أحمد الله إذ أراك سالمة.
وتبسمت بسمة ضئيلة ومدت يدها قائلة: ما علمت أنك هنا.
وسارت أمامه إلى أريكة فجلست على طرفها، وجلس على قيد ذراع منها وهو يعجب من فتورها. ما الذي ذهب بنضرتها وأذبل عينيها؟ أبلغ بها الحزن على أبرهة أن تغمرها مثل هذه الكآبة البائسة؟ وأحس شيئا من الخيبة في لقائها الساهم الجامد. أهكذا تلقاه فلا ترتمي بين ذراعيه وترسل دموعها الحزينة على عنقه، وتلتمس من وجودها عند صدره ظل الأمن والطمأنينة والعزاء؟ وشردت عنه الألفاظ فلم يدر كيف يفتح الحديث معها. كان يحسب أنها تطالعه بوجه فيه الحزن وفيه اللهفة وفيه إشراقة من سرور، وكان يحسب أنه يتدفق في الحديث ليقول لها إنه هناك، وإنه يبذل نفسه في سبيل حمايتها وإسعادها. ولكنها تستقبله بعين كليلة وبوجه ساهم متردد ينم عن انكماش وانطواء عنه، فماذا يجول في أعماق ضميرها ويقيم ذلك الستار بينه وبينها؟
وانتزعت خيلاء كلمة بعد لحظة صمت، فقالت: لك العزاء يا سيف.
وزادت خيبته عندما سمع كلمتها. أتقول لك العزاء كما يقول الألوف من المواسين الذين لا تزيد مواساتهم على لفظة؟ لم تفض إليه بحزنها ولا بجزعها ولم تلجأ إليه هو، ولم تقل له: «ذهب من كان يظلني برحمته، ولم يبق لي غيرك.»
وقال في ارتباك: حق لنا أن نحزن على أبرهة يا خيلاء، ولكن لا تدعي الحزن يبلغ منك ما أرى. أرى عليك أثرا لا أدري ماذا أسميه. ألا تحدثينني عما بك؟
فقالت: ليس بي شيء سوى أنني كنت أصلي. كنت أصلي من أجل روح أبرهة المسكين الذي تعذب وتألم.
فقال سيف مواسيا: لن يرد الحزن أبرهة إلينا. ولو كنت أعرف كيف أصلي لجثوت إلى جانبك أشاركك في الدعاء، ولكن لا مفر لك ولا لي من أن نفكر معا فيما ينبغي لنا أن نفعل بعد هذا، فلنفكر معا يا خيلاء منذ الساعة، فإن الوقت أضيق من أن نقطعه في حزن عقيم لا يقدم ولا يؤخر شيئا. متى نغادر غمدان؟
فأطرقت خيلاء وهي تعبث بالصليب الفضي المعلق في عنقها، ومضى سيف فقال: لقد آن لنا أن نفارق هذه الأبهاء المظلمة التي تحجبها الأستار الحريرية عن ضوء الشمس. آن لنا أن نبعد عن هذه الأحجار المغلقة التي يقف الأحباش عند أبوابها.
ولكن خيلاء لم تنطق بحرف، وخيل إلى سيف أنها كانت بعيدة عنه مغلقة دونه. ماذا؟ أهذه خيلاء التي وقفت تودعه منذ أيام عند باب حجرتها وتقول له: «لقاء قريبا» وهي تغمره بعينيها؟ كانت أجفانها الوطفاء تطرف في شيء يشبه الوجل، كأنها منصرفة إلى حديث مفزع بينها وبين نفسها. ماذا تقول في سرها؟ أهي تحاول أن تخفي عنه سرا لا تجرؤ على الإفضاء به؟ أبدا لها شيء جديد منذ ذهبت حماسة الصدمة الأولى، بعد أن عرفت أنه ابن ذي يزن؟
وقال في شيء من القلق: معذرة يا خيلاء إذا قلت لك إنني ألمح عندك شيئا غامضا لست أفهمه، لست أدري كيف أتكلم، فخبريني أنت عما يضطرب تحت صمتك وإطراقك. أنت بغير شك تجاهدين ألا ينم لسانك عما عندك، ولكن وجهك ينطق ويعصيك. لم تحولين بصرك عني هكذا؟ ولم تردين الألفاظ التي تتبادر إلى لسانك؟ ليس يزعجني بكاؤك ولا جزعك، ولكن يزعجني إطراقك وحركة وجهك ونظرة عينيك. فارفعي ذلك الستر الجامد الذي يحجب عني خيلاء التي أعرفها.
فقالت خيلاء في صوت خافت وهي تحاول النظر إليه: إنه المصاب الذي حل بنا يا سيف. هو وقع الكارثة التي لم يكن أحدنا يحلم بها، وإن موت أبرهة لم يكن كموت الناس، فيه لوعة الفراق وحدها. كان موته ...
ثم ترددت وحولت عينيها ومنعت اللفظ الذي كادت تنطق به في تتمة حديثها.
فقال سيف: افتحي صدرك يا خيلاء، وانثري ما فيه ولا تردي من قولك حرفا. لست أفهم من قولك إلا أن الحزن قد غلبك، فخيل إليك أن الكارثة فوق طوق الاحتمال، ولكنني هنا فلا تجعلي الجزع يحملك إلى أبعد مما ينبغي له.
واقترب منها مادا يده إلى يدها، ولكنها تخلصت منه في رفق قائلة: دعني يا سيف! بحقك دعني الآن ، فلست أدري ماذا أقول لك. إنني لا أملك أنفاسي ولا أقوى على الحديث.
وكان في صوتها فزع ظاهر.
فوقف سيف وقال في لهفة: أبك عتب علي يا خيلاء؟ إن كان شيء من ذلك فلا تخفيه عني حتى أبادر فأجثو إليك معتذرا. كم غبت عنك حتى يعتريك كل هذا التغير؟ أم أنت تخفين عني سرا رهيبا؟
فقالت في حزن: ما غبت عني ولن تغيب عني.
ووقفت مرتدة إلى الوراء كأنها تريد أن تهرب من موقفها.
فقال سيف: إذن فما هذا الجفاء الذي تطالعينني به؟ أسمعيني صوتك الذي عرفته، وانظري إلي ببسمة تعودتها وإن كانت حزينة. قولي ما في نفسك فإن هذا الصمت يفزعني، بل يكاد الشك يتسرب إلى قلبي. لست أجرؤ أن أقول إن قلبي يشك في مودتك، فإن قلبي نفسه يكذبني. قولي إنك ما زلت على عهدي لم يداخلك شك في حبي. قولي هذا وهو يكفيني.
فقالت والعبرات تغالبها: ليس بي جفاء ولا شك يا سيف، وهذا صوتي الذي عرفته يقول لك إنني ما زلت على عهدي كأقوى ما كنت مودة، وما زلت على حبي كأصفى ما كنت حبا. بل أقول لك إنني كنت في هذه الساعة أصلي لك كما كنت أصلي لروح أبرهة. كنت أفزع إلى العذراء بما في قرارة نفسي، وأقول لك ما قلته في اعترافي لها إن حبي لك أبقى من الحياة وأقوى من الموت.
فصاح سيف: إذن فما أسعدني! ما أسعدني أن أجثو عند العذراء أكرر لها مثل هذا القول، فإني الآن أومن بها وأحبها.
ومد يده إلى يدها مرة أخرى، وتباعدت عنه في رفق مرة أخرى وقالت: لم أتم لك حديثي بعد يا سيف.
فقال سيف: إن اشتياقي إلى حديثك أشد من حرصي على بث ما في نفسي. قولي وأفيضي حتى أروي سمعي وأطمئن قلبي وأجلو عني المخاوف التي ساورتني. ما لي أراك تباعدين يدك كلما مددت إليك يدي؟ هاتي يدك حتى أعرف أنك حقا أمامي. تكاد الوساوس تعاودني فأتوهم أننا في حلم مضطرب.
فقالت بعد تردد: لا تسئ بي الظن والتمس لي المعذرة إذا وجدت قولي مضطربا. أعيد عليك أن حبي مقيم على الدهر، عميق عمق البحر الزاخر، مشرق إشراق الصباح الزاهر. هو غذائي الذي يغذيني وهو عزائي الذي يعزيني، فلنجعله خالدا صافيا عميقا أبد الدهر.
فقال سيف: حسبي هذا يا خيلاء، فلا تقولي بعد ذلك كلمة. كأنني أحس رهبة من كلمة أخرى.
فقالت خيلاء: اسمع يا سيف تتمة قولي. فإن الحب الذي بيننا أنصع من أن يداخله الرياء أو الخوف، هو مودة الأرواح، فلنجعل مناجاتنا فيه مثل مناجاة الملائكة، ولا نسلم أنفسنا إلى غرور السراب.
فصاح سيف: ماذا قلت يا خيلاء؟ ألسنا هنا حقيقة؟ والعالم الفسيح من حولنا حقيقة؟ أهي الأحزان التي استولت عليك فجعلتك تنطقين بهذه الكلمة؟ السراب؟ ما لنا والسراب؟ ألست أنت أمامي وأنا هنا معك؟ تعالي نغادر ذلك القصر الحزين الذي يشيع في القلب ظلامه. تعالي نبدأ حياتنا جديدة في موطن آخر نكون فيه وحدنا، مجردين من كل شيء سوى نفسينا، فلنذهب إلى قصر ذي جدن لنعيش فيه وحدنا، خيلاء وسيف، ثم نضرب بيننا وبين هذا العالم كله حجابا.
فقالت خيلاء: تمهل يا سيف، فلا مفر لي من أن أكشف لك مأساة كنت أحاول أن أؤجل كشفها.
فصاح في ذعر: مأساة؟ حماك الله يا خيلاء أن تكون لك مأساة. أفصحي عنها أو أبقي عليها حتى تجدي نفسك أكثر هدوءا، فليس بي لهفة على سماع خيال ووهم. بغير شك إنه خيال ووهم. نفسي فداؤك من كل مأساة. ومن ذا يستطيع أن يسوق إليك الأسى؟
فقالت في صرامة: بل استمع إلى تتمة الحديث يا سيف. لست أملك نفسي، لست أملك نفسي، هذه هي المأساة.
فقال سيف في دهشة: لست أفهم. ماذا تقولين يا خيلاء؟ لست تملكين نفسك؟ ومن ذا يملكها؟
فقالت: يملكها الذي لا أستطيع أن أعصيه.
فصاح في حنق: من ذا الذي لا تستطيعين أن تعصيه؟ لا أكاد أصدق أذني.
فقالت في هدوء: بل هو الحق.
فقال كالحالم: فأين إذن أحلامنا ؟ أين أحاديثنا الطوال؟ وأين آمالنا الحلوة؟ بل أين قولك إنك ما زلت على عهدي؟ لا تملكين نفسك؟ يملكها من لا تستطيعين أن تعصيه؟ بل أعصيه أنا وأرده عنك بسيفي. من ذا الذي ...
فقالت خيلاء: لا تخطئ يا سيف. قد وهبته، قد وهبته راضية.
فقال في دفعة: بل قوليها صريحة، قولي أنك آثرت غيري وأنك قد تبدلت، ولا تموهي الحقيقة بكلمات لا غناء فيها. ما هذا الحب العميق القوي الذي تحدثت عنه إن كنت قد بعت نفسك لغيري. وتقولين لي «لا تخطئ» إذا قلت إني أرده عنك بسيفي؟ من هذا الذي قد وهبت له قلبك؟ كان أحق لو أعدت ما قلت أولا: «يملكه الذي لا تستطيعين أن تعصيه.» أمة تتكلم؟
ومضى في قوله يهيم في شكوك غامضة، ويهدر بأقوال كأن فيه شيطانا هائجا. وكانت خيلاء تنظر إليه في حزن وذعر، وكلما نطق بكلمة اضطربت أهدابها الوطفاء كمن يحس وخزة. ووجد سيف في دفعته شيئا يشبه الراحة، وفي إثر كلماته العنيفة شيئا يشبه الرضى. ووقف لحظة ينظر إلى وجهها الصافي الحزين وضميره يصيح به قائلا: «ماذا فعلت؟ ماذا تقول لخيلاء؟»
فانثنى يقول: خيلاء! ماذا قلت لك؟ وماذا اعتراني حتى جرؤت على كل هذا؟ أحقا صدقني سمعي أم هو وهم خيلته لي شقاوتي؟ أقلت لك إنك آثرت غيري ورجعت عن عهدي؟ بل أنت لي كما أنني لك، ولن نستطيع إلا أن نكون هكذا. أنت الحياة التي أتعلق بها وأطرح كل شيء ما عداها، فإن كان أساءك شيء مني فإني أعتذر منه. لم أذهب إلى قصر جدي إلا لكي أفكر في أيامنا المقبلة. لم أغب عنك هذه الأيام إلا لأنني كنت مع قومي وقومك الذين سنذهب إليهم. قولي إنك كنت تمتحنين حبي، أو قولي إنك كنت تعبثين بي؛ فهذا أرفق بي. قولي شيئا آخر غير ما قلت، فإني أنتظر في كلمتك قضائي.
فقالت خاشعة: عفا الله عنك يا سيف، فما بي ألم من شيء تقوله، بل إني أرحمك كما أرحم نفسي. ما كنت لأتخذ عنك بديلا، وكل ما سمعته منك وإن كان قاسيا لا يؤلمني.
وتحدرت الدموع من عينيها.
فقال سيف في صوت متهدج: ليتني أملك هذه الكلمات الحانقة التي خرجت من بين شفتي، أو أستطيع أن أردها من الهواء إلى حيث كانت في ظلمة النسيان. لم أفهم ما قلت، فإن عقلي وقلبي يكذبان هذه الألفاظ التي قلتها. بل قلبك لي يا خيلاء، ولا يمكن أن يكون لغيري. لن يملكه سواي ولن تهبيه إلى أحد غيري. انطقي يا خيلاء بما يعيد السلام إلى قلبي. أأقول لك بحق حبي؟ أم نسيت ذلك؟ أحقا قلت هذا؟
وكانت خيلاء تستمع في صمت ودموعها تبلل وجنتيها الصفراوين، وقالت: أقول لك مرة أخرى عفا الله عنك، وإن كنت حزينة.
فجثا سيف إلى جنبها قائلا: دعيني أتوسل إليك بحبي أن تعفي عني وأن تكشفي هذه الغمة التي تحير لبي.
فقالت في عطف: قم يا سيف، فلست أنكر حبك ولا أنكر حبي، كنت أحسبك تفهم قولي منذ بدأت. إنني لم أخجل أن أقول لك إن حبي أبقى من الحياة وأقوى من الموت. ولكنك تتصور أنني وهبت قلبي لبشر. ما كان لبشر أن يملكه وما كان لي أن أهبه لأحد من الأحياء غيرك، ولكن غضبك لا يجعلك تفهم. ما وهبته إلا للذي يملك قلوبنا جميعا، ومن نجد فيه سلوتنا، ومن نستمد منه سلامنا. وهبته للسيد المسيح!
فقال سيف في نشوة: فلم إذا لم تقولي ذلك من أول كلمة؟ السيد المسيح! فليكن ذلك، بل هلم نهب له نفسينا معا، أنا وأنت. وإني أعاهدك أن أومن به إيمانا لا شك فيه. سأتخذ له عندي صورة أجثو عندها، أو نتخذ له صورة عندنا، نحن معا، أصوم له معك وأصلي صباحا ومساء، وأحارب باسمه أعداءه حتى يؤمن به الناس جميعا. أذهب من فوري إلى القليس أقبل يد القس، ونذهب معا إلى قسطنطينية لنرى خليفته. وسأخدمه وأضرب بسيفه حتى يؤمن أهل الأرض جميعا. أهذا يرضيك يا خيلاء؟ فلنهب نفسينا له.
فقالت خيلاء في حزن: لست تفهم يا سيف. من تهب نفسها للمسيح لا تعرف رجلا.
فقال في حنق: أي خيال يسيطر عليك؟ ماذا يفعل المسيح بقلبك إذ يسلبه مني؟ لو كان رجلا لذهبت إليه أجالده عنك؟ ولكن أين هو؟ خيال؟ صورة؟ سراب؟ أليس هذا هو السراب؟
فقالت خيلاء: لا تتحدث هكذا، فإنه قول عظيم. سوف أستغفره لك ولن يحمل لك غضبا، فهو قلب رحيم.
فمد يديه نحوها قائلا: دعي هذه الأوهام يا خيلاء. تعالي أحدثك حتى تهدأ نفسك، فلا شك أن الحزن زعزعها. ماذا بعث إليك هذا الوهم الذي يكاد يكون مضحكا؟ كنت في أثناء غيبتي لا أفارقك في ساعة من ليل ولا من نهار. كنت أمامي في الزهرة والطير وفي الجدول الصافي والمرج الأخضر. كنت في السماء والنجم وفي الرمال الممتدة والنسيم الطلق. فلنذهب من هنا.
فقالت بصوت متهدج: بحقك يا سيف لا تمض في هذا القول، فإنه يدمي فؤادي.
فاستمر سيف: لنذهب من هنا إلى حيث نعيش وحدنا، لا نعرف سيدا، هناك تشرق الشمس فلا تشرق إلا لنا، وتطلع النجوم لتزين سماءنا وتؤنس مجلسنا، ويضيء القمر لكي يحلو تحته حديثنا. هناك كل ما يقع تحت بصرنا ملك لنا. هناك نستمع إلى نجوى الليل وأنغام الكون دون حجاب من سمعنا، ونقف وجها لوجه أمام الحياة دون حجاب من نظرنا. هلم نهرب بحبنا.
فقالت خيلاء في رقة: هو حبي الذي أريد أن أهرب به. سوف أحمله في قلبي لا يعتريه سأم ولا ملل، سوف يكون هو القربان المقدس الذي أتقرب به إلى مورد الحب الأسمى. أتذكر إذ كنا نقف إلى جانب الوعاء المرمري ونتأمل صورته؟ أما تذكر إذ قلت لي إن تلك الصورة تتحدى الزمان وستبقى إلى الأبد نابضة حية فتية؟ هكذا تبقى صورة حبنا منقوشة على قلبي.
فنزع سيف يديها وتمسك بهما قائلا: ما هذه النقوش التي نتخذها بديلا من وجودنا؟ نحن هنا حقائق، فلا تجعلي هذه الألفاظ تضل بنا. دعي الأسماء، ولا تسيري بنا أنت نحو السراب.
فقالت في صوت خافت: الحزن يغمرني يا سيف . ماذا أقول لك؟ لا تجعل حزن الساعة يطفئ القبس الذي أتعلل بنوره. دع لي صورتي. ماذا أقول لك؟ سأهرب إلى الدير، دير نجران، لن يصل أحد إلي هناك. سوف يعصمني الدير وأعيش فيه حرة محتفظة لك بحبي. لم أقل لك كلمة أخجل أن أقولها. لست إلا أمة. لست إلا أمة مملوكة.
وتغيرت لهجتها الوديعة إلى حنق ثائر، ومضت قائلة: نعم، أمة مملوكة يستطيع مالكي أن يجرني قسرا إلى حيث أكون له متعة، وقد يقتلني إذا شاء أو يجعلني أمثولة للذل والهوان. ما أنا إلا أمة مملوكة مثل الإبل والضأن ومثل أثاث البيت أو ...
فصاح سيف: ماذا تقولين يا خيلاء؟ من ذا يجرؤ أن يقول هذا؟ من ذا يجرؤ أن يمد إليك يدا؟
فقالت في حنق: يكسوم! الطاغية يكسوم. كنت أمة لأبرهة وورثني. ألم أقل إنني مثل الشاة أو الناقة؟ أسيرة صغيرة قتل قومها في الحرب فصارت أمة. أليس هذا هو شرع الناس يا سيف؟ لو لم يكن يكسوم سوى أحد العامة لاستطاع أن يجرني حيث شاء قسرا. ولكنه يكسوم الذي ورثني.
وبلغ بها الحنق أن جف دمعها ولمعت عيناها كأنها لم تكن خيلاء الوديعة.
وأنصت سيف إليها متكئا على سيفه والدهشة تعقل لسانه.
ومضت قائلة: سأذهب إلى نجران حيث لا يستطيع أن يمد يده إلي، هناك يعجز أن يكون سيدي. هكذا أشار علي الناصح المشفق، فذهبت إلى القس وعرضت عليه أن أكون راهبة.
فقال سيف: أي ناصح!
فقالت: الملكة! الملكة التي تعرف حبنا ويذوب قلبها شفقة علينا، ولولاها لكنت اليوم في بيت الطاغية.
فتمسك سيف بها في ضراعة وقال: بل نخرج الليلة من صنعاء.
فقالت خيلاء: لا يخدعك السراب.
وكان صوتها صارما كصوت القضاء. وأطرق سيف كسيفا، وعادت إليه رؤياه في قصر ذي جدن.
وخرج آخر الأمر صامتا يجرر قدميه حتى صار في مخدع أمه، فقامت إليه في لهفة وقالت: تجلد يا سيف.
فقال لها: قلبي يتمزق. الحياة تسخر مني، ولا أكاد أصدق أنني لست في خيال الأحلام.
فقالت ريحانة : تجلد يا سيف فما هي سوى الحقيقة.
فقال في دفعة: أية حقيقة يا أمي! أأرضى أن أضيع خيلاء هكذا؟
فقالت: إذا شئت أن تبقى لك.
فقال: وما بقاؤها لي هناك في نجران؟
فقالت: ستبقى لك بتولا حتى تلتقيا في السماء. نعم، في السماء يا سيف. ما أشقى الذين لا يجدون في أنفسهم إيمانا!
ثم انتفضت بعد لحظة صمت وقالت: ماذا قلت لك يا سيف؟ السماء؟ ما هي سوى أكاذيب أداري بها عداوتي وحقدي. لن يصل إليها يكسوم؛ وهذا كل عزائي. لن يحرمك منها لكي يجعلها في قصر غمدان أمة أخرى. لن تكون خيلاء أمة ثانية أو ملكة ثانية في مثل شقائي، وهذا كل شيء.
فقال سيف: لن تكون له. سأقف دونها بسيفي أدفع عنها، بل سنخرج الليلة من صنعاء وننجو معا من العبودية واليأس.
فقالت: أنت تلقي بها إليه إذا فعلت. استمع إلى أمك يا ولدي، أو استمع إلى صديقة عرفت الحياة في أبشع صورها، مكشوفة كالحة لا تداري قبحها. ليتني وجدت ديرا يعصمني.
فصاح في غضب: خيلاء أمة؟
فقالت: ليست بأول أمة في هذا القصر، دعها تخرج إلى نجران، فهناك تكون حرة حقا. كم من الحرائر يبعن حريتهن من أجل فقاعة، ولا عيب على امرأة تكون في أعين الناس أمة وهي في حقيقتها صافية الحرية. دع يكسوم يزدرد غيظه وهو يراها تنجو من مخالبه.
فقال سيف في حزن: وأما أنا!
فقالت ريحانة في عطف: تجلد يا ولدي ودع الأيام تداوي جرحك، وعزاؤك أنها لم تصبح أمة.
فقال في غضبة: وأبقى أنا عبدا؟ أماه! لا بقاء لي هنا.
فقالت ريحانة في ذعر: سيف! ماذا قلت يا سيف؟
فأجاب: لن أبقى هنا!
فقالت: بل ابق إلى جنبي، لا تتركني يا سيف لوحدتي وشقائي.
فقال: لقد حرصت على حرية خيلاء، فلا تكوني أقل حرصا على حريتي. لن أبقى هنا لأكون عبدا ليكسوم، بل إن دماء أجدادي تناديني أن أذهب إلى قومي وأدعوهم إلى استرداد إنساتيتهم وحريتهم. هذا فرض توجبه علي الدماء المنحدرة إلي من آبائي.
فقالت ريحانة في حزن: وأمك يا سيف؟
فقال: أنت أولى بأن تدفعيني إلى أداء هذا الفرض يا أمي، وألا ترضي عن ولدك إن كان يقنع بحياة تدنسها العبودية. إنها حياة مثل شجرة بغير جذور ولا ثمر، وفي عصارتها سم ناقع. إنها تدنيس لإرادة الخالق الذي جعل الإنسان حرا عندما خلقه. لقد كنت موزعا بين خيلاء وبين هذا الفرض الذي لم يبق لي غيره. كانت خيلاء تعدني بالسعادة، وكنت أطمع أن نعتزل الحياة وحدنا ونتعبد في صومعة حبنا، ولكنها ذهبت تتعبد وحدها في نجران، فلأذهب أنا إلى واجبي.
وكانت ريحانة تنصت في لهفة وصدرها يضطرب وعيناها تنطقان عطفا. ثم قالت: ولدي! كأنني أسمع صوت أبي مرة. اذهب يا ولدي كما شئت، فقد امتحنك القضاء في هذه الساعة واختار سبيله. صدقت يا ولدي، فلست أرضى لك أن تكون عبدا، فاهرب كما هربت خيلاء. أنت ابن ذي يزن، وقومك هناك في أودية الجبال وسواحل البحر ينتظرون قيادتك، اذهب وقم بالفرض الذي توجبه عليك دماء أجدادك كما تقول ... وأما أنا ... يعز علي أن تفارقني، ولكني فارقت أباك من قبل مكرهة، فلأفارقك أنت راضية. سأتجرع الغصص كل يوم وكل ليلة وأنت بعيد عني لا أدري أين ولا كيف أمسيت. هكذا كنت أتجرع الغصص من أجل أبيك.
وألقت رأسها بين يديها، وجعلت تنشج نشيجا مرا، ووقف سيف حيالها في صمت مضطرب بين الحيرة والحنق، ثم انصرف مسرعا لا يدري أين يتجه، ولا يعرف ما يريد في ساعته. وتقدم له الحارس الحبشي عند الباب فقال له: الملك في انتظارك.
ولكنه مضى في سيره حتى أدركه الحارس، فأعاد عليه القول أكثر غلظة وهو يمسك بكتفه: الملك يدعوك.
فهز نفسه من يده وخرج إلى فناء القصر، فاعترضته ثلة من الأحباش بحرابها الطويلة، ولمس سيف مقبض سيفه، ثم أرسله وذهب صامتا في وسط الحلقة الجاهمة إلى حيث كان يكسوم. وكانت كلمات أمه ترن في سمعه: «لست أرضى لك أن تكون عبدا، فاهرب كما هربت خيلاء.»
الفصل الرابع عشر
قال الراوي:
عندما وقع بصر سيف على يكسوم في صدر الإيوان اعترته هزة، كأن صوتا صاح به في تلك اللحظة قائلا: «لقد مات أبرهة»، وأحس في أعماقه كأن صوتا آخر يصيح: «أيها الطاغية الغاصب.»
وتقدم نحوه يسير بطيئا ويحس الثورة المكبوتة في نفسه تضطرب في عنف، لم يخطر له من قبل أنه سيجد نفسه واقفا أمام يكسوم يحس في قلبه المقت والغضب ولا يستطيع أن ينفس عنه بكلمة، فكان صوت ضميره يزداد حنقا ويقول: «أيها الطاغية الفظ الذي سلبت مني سعادتي»، ولكن لسانه لم يتحرك إلا بتحية خافتة عندما صار أمام العرش، فقال: عمت صباحا أيها الملك.
وما كاد يقولها حتى انكمش واقشعر بدنه كأنه ارتكب خزيا على ملأ من الوقوف والجالسين، وعلا الدم إلى رأسه ووقف جامدا ينتظر صوت يكسوم، ولكنه لم ينطق برد التحية، بل نظر إليه بعينين تبصان ببريق بارد خاطف، ثم انصرف عنه متجها إلى القائد العربي الذي كان واقفا بين يديه، فقال له: أحسنت يا حناطة إذ أشعرتهم عضة السيف.
ورن صوته الغليظ رنين النحاس.
وقال حناطة: كانت يا مولاي وقعة حاسمة، أخذناهم جميعا في الشعب كما تؤخذ الفيران في مصيدة، فلم ينج منهم إلا من كان واقفا عند فم الوادي مترددا.
وخفق قلب سيف وهو يحس بوادر العاصفة. فمن هؤلاء الذين أوقع بهم حناطة في الشعب الضيق؟ أهم بعض قومه؟
ومضى حناطة الحميري قائلا: وجاس الرجال خلال الوادي كله، فلم يبقوا على شيء، قتلوا الرجال وغنموا النساء والأطفال وأحرقوا المزارع والقرى، وقد اخترت لك يا مولاي أبرع فتياتهن حسنا، وبعثت بهن إلى قصرك بشرى الانتصار.
وابتسم ابتسامة خفيفة.
فقال يكسوم: أحسنت يا حناطة. ليعلم الجميع أن العقاب قريب، وأن الفناء جزاء من يعين أعداء الملك، ولك أن تصنع ما تشاء بالأسيرات، فوزعهن أو احتفظ بهن، وأما الأطفال فاصنع بهم كما تريد.
وكان سيف يقول في نفسه: إنها قصة معادة، ولكنه حناطة الحميري هذه المرة هو الذي يقتل الرجال ويغنم النساء والأطفال ويبعث بأبرعهن حسنا إلى يكسوم. أهكذا وقعت خيلاء يوما من الأيام في يد رجل مثل حناطة؟
وقال حناطة: وإن أسفت على شيء فقد أسفت على إفلات ذلك الثعلب نفيل.
وصاح سيف في سره: نفيل؟
وقال يكسوم: إلى الجحيم أفلت. سوف تقع يدي عليه يوما وسوف يعرف جزاء الخائن كيف يكون. سأذهب إليه بنفسي وأستوفي منه دينه عضوا عضوا وقطعة من لحمه بعد قطعة. امض يا حناطة حتى لا تبقي ولا تذر. امض حتى لا تدع منهم باقيا أو هاربا. لقد جرأهم أبرهة بالعفو فحسبوا كل بارقة ذهبا.
ونظر بعد حين إلى سيف متجهما، فقال له: أقد عدت إلى صنعاء؟
وكانت بسمته تصف حقده.
وأجاب سيف ثابتا: عدت إذ جاءني النبأ الفاجع.
فقال يكسوم في ضحكة: أكان فاجعا حقا؟
فقال سيف: إنما أتحدث عن نفسي.
فقال يكسوم في غيظ: حسبتك استغنيت عنه منذ حين.
فقال سيف: كان برا رحيما وقلبا كريما. ألهذا القول جئت بي إلى هنا؟
فقال يكسوم: ليس لهذا دعوتك، ولكني عجبت لقولك.
فقال سيف: ألم تسمع من قبل رجلا حزن على صديق؟
فقال يكسوم ساخرا: صديق؟ مرحى لك! ما أبرهة سوى صديق؟ ومن هذا الذي تملأ الأرض بذكره؟ من هذا الأب الذي استحدثته؟
فقال سيف ساخرا: أنتحدث عن أنسابنا؟
فقال يكسوم جامدا: لا حاجة بنا إلى هذا، ولكنها خاطرة طارئة. أتتبرأ ممن أحسن إليك ومن تقول إنه كان برا رحيما؟ ألم يكن أبرهة سوى صديق؟
فقال سيف: لو عرفت معنى الصديق عندي لعرفت كيف أصفه.
فقال يكسوم: ومن هذا الذي تنادي الناس باسمه، وتتوافد عليك الوفود لتتحدث عن مفاخره؟ أتريدها ثورة جديدة؟ ما هذا الاسم الجديد؟ أهو ذو يزن؟
فانتفض سيف قائلا: ليس ذلك الاسم جديدا، وهل تجهله حتى أذكرك به؟ نعم هو ذو يزن، هو أبي ذو يزن، وهو أولى أن أسمى باسمه ولست أبغي عنه بديلا. أهذا كل ما أردت أن تقوله؟
فقال يكسوم متمهلا: لا، لا، كل هذه خواطر تخطر لي في ثنايا حديثك، وما جئت بك إلى هنا إلا لكي أقول لك كلمة؛ لقد آن لك أن تطرح ما تعودته من تدليل أبرهة، ليس لك اليوم إلا الجد والحذر، أو عداوة سافرة.
فقال سيف هادئا: عرفت ذلك قبل أن تقوله.
فقال يكسوم غاضبا: بل أرهف أذنيك فإني أنذر وأحذر، لست أنطق إلا جدا مرا.
فتضاحك سيف قائلا: علمت أنني لم أجئ لألهو.
فقال في صيحة: حسبك أيها الفتى! لقد عرفت غرورك وبطرك وعنادك، ولكنك لن تعرف الجد حتى ترى الرءوس تطيح عن أعناقها. سوف تعرف الجد متى علمت مصير أصحابك وأعوانك ومن تسميهم قومك.
ثم صفق بيديه في عنف.
وسكت سيف لا يدري ماذا يقصد، حتى سمع ضجة عند باب الإيوان، وصاح يكسوم قائلا: أسرعوا به إلى هنا.
ودفع الجند رجلا يتعثر بينهم في القيود، وكاد سيف يصيح ذعرا: «أبو عاصم!»
واتجه نحوه بغير وعي يمد يده إليه في مواساة، ولكن الجنود جعلوا يدفعون الشيخ في عنف وهم محيطون به حتى أوقفوه أمام يكسوم. وعجب سيف لابتسامة ضئيلة بدت على وجه الشيخ، وأحس في قلبه شعلة لهب.
وقال يكسوم في سخرية وحقد: أما زالت فيك بقية أيها الخبيث؟
وتعلقت الأبصار بوجه الشيخ المجعد وهامته الكبيرة البيضاء التي وقعت عنها عمامتها، وقال من بين ابتسامته: تسألني أبقيت في بقية؟
فصاح به يكسوم: سمعت الصواعق. أما سمعتني؟
فقال الشيخ: عرفت أنك تسألني مثل هذا السؤال وأعددت لك جوابي. فإن كنت قد دبرت في هلاكي خطة وجدت في قولي عذرا. لقد حاربت أباك عندما كنت أنت صغيرا ...
فقاطعه يكسوم: ولم يزدك عفوه إلا خبثا.
فقال أبو عاصم: مهلا! حاربت أباك، وكان يعرف أنه ما كان لي إلا أن أحاربه؛ ولهذا عفا عني، ولو قتلني ما نفعه قتلي.
فصاح يكسوم: كما نفعته حياتك.
فقال الشيخ: صدقت. فإن اعتداله رد السيوف إلى أغمادها سريعا.
فقال يكسوم: أتهددني؟
فقال الشيخ: افهم من قولي ما شئت. لقد مضت الأعوام منذ حاربت أباك وكأنها لم تكن ساعة واحدة، وأنت هذا تراني مشرفا على قبري ، وسيان عندي أتستعجل هذه البقية الضئيلة أم تدعها، اختر لنفسك ما تحب. ولكن اعلم يا يكسوم أنك تحفر لنفسك هاوية، أنت تستعجل خاتمة طغيانك كلما أوغلت فيه.
فصاح يكسوم: اصمت أيها الأحمق.
ومضى الشيخ كأنه لا يسمع: أنت لا تزيد إلا حنقا بطاعة حنقك، ولا تزيد إلا عذابا بما توقع من العذاب. أنت لا تزيد إلا بعدا عن الطمأنينة كما ظننت أن عسفك يوقع الخوف في أعدائك، وتقرب الخلاص إلى المطحونين كلما بالغت في طحنهم. أنت تحطم قيود الأشقياء الذين تقتلهم، وتضعها في عنقك أنت وفي عنق أمثال هذا الشيطان الذي يغرر بك. وأشار إلى حناطة.
وكانت كلماته هذه تتقذف في وجه يكسوم برغم صرخاته المتوالية: اصمت! اخرس! كمموا فمه!
وكان الحراس الذين حول الرجل يحاولون إسكاته وإغلاق فمه ويتجاذبونه في عنف، وهو يقاوم في قوة تشبه قوة شاب ثائر.
ولما سكت آخر الأمر كانت قواه قد خارت، وتخاذلت أعضاؤه تحت ثيابه التي ذهبت قطعا ممزقة.
وصاح يكسوم لاهثا: لقد حانت ساعتك أيها الخبيث، وما كان أولاك بالهلاك منذ أمد بعيد حتى لا تملأ الأرض فسادا، ولكنك ستلقى جزاءك الأوفى. خذوه حتى آمر فيه بأمري.
وأسرع حناطة ومن معه من الجنود يدفعونه في حنق وقسوة، وهو يحجل في قيوده ويتكفأ. وكان سيف ينظر مبهوتا إلى المنظر العاصف ويكتم صيحات حنقه، ولما رأى الشيخ يترنح تحت ضربات الحراس صاح قائلا: أيها الذئاب!
فلكم حناطة الشيخ قائلا: اخسأ أيها الخائن.
ونظر نحو سيف كأنه يخاطبه.
فنظر الشيخ إليه، وقال له هادئا بصوت خافت: لو غيرك قالها؟
فكان رد حناطة لكمة أخرى ترنح لها الشيخ صامتا، ومضى يحجل في قيوده متعثرا.
وصاح سيف متجها نحو يكسوم: إنها مثلة! إنها وحشية!
ونظر الشيخ نحوه نظرة أخرى، وانفرج وجهه البائس عن بسمة خافتة قبل أن يخرج من الباب.
وقال يكسوم في حقد: حقا إنك كنت أولى بهذا. ولكن مهلا! مهلا حتى ترى بعينيك هلاك فلول الخونة الذين يشاركونك. أتعرف نفيل بن حبيب؟
فنظر إليه سيف في غيظ ولم يجبه.
ومضى يكسوم قائلا: سأحمل إليك بعض أنباء لا تعرفها، وأظنك تطرب لها. كان نفيل ينتظرك في شعب غيمان مع أصدقائك، وبعث إليك رجلا من قومك يستعجلك، بعث إليك هذا الشيخ لتذهب إليهم، ولكنك كنت في شغل عن مثل هذا العناء، كنت في شغل بأحاديث أخرى مع النساء.
وضحك ساخرا ضحكة طويلة، وكان سيف يستمع وهو بين اللهفة والحنق، وتمنى لو استطاع أن يقذف بحربة إلى صدر ذلك الضبع الذي أمامه.
ومضى يكسوم قائلا: كنت في شغل عن قومك ومؤامراتهم ومتاعبهم. وما لك أنت وهذا العناء؟
وأحس سيف لذعة السخرية التي لاحت على وجوه الجمع الذي حول يكسوم. ومضى يكسوم قائلا: فلما وجدتك لاهيا في أحاديثك الناعمة بعثت آخر بدلا منك ليأتي إلي بأصحابك.
فقال سيف في دفعة: أبعثت إلي لتسمع هؤلاء كيف تذلني؟
فقال يكسوم في هدوء منذر: من هؤلاء الذين تشير إليهم بقولك؟ دع هؤلاء فإنني أنا أخاطبك وأصبر على حماقتك. دع هؤلاء فهم أعواني وأصحابي، هؤلاء هم الذين لا يداخلهم شك في ولائي ولا يداخلني شك في ولائهم. انظر إلى نفسك أنت واستمع إلى ما أنذرك به.
فقال سيف وهو يرتجف غضبا: بل استمع أنت، ولا تدخل في الحديث غيري. سأهب لك جوابي مثل ما وهب لك الشيخ الطيب. سأهب لك عذرا تتخذه تكأة للتنكيل الذي تهفو إليه نفسك. أقول لك: إنني ابن ذي يزن، سيد حمير، وإن لي قوما لا أبرأ منهم إلا أن يكون فيهم زنيم مثل حناطة هذا، يستعبد نفسه لك ويلعق قدميك لقاء فضلة من سلطانك، فيستعبد لك الأحرار ويغنم لك النساء ولا يرحم طفولة ولا شيخوخة ...
فقاطعه حناطة في غضب: جرأة خائن. وما سمعت بمثلها جرأة في حضرة ملك.
وكان يكسوم يتقد غيظا، ولكنه قال ضاحكا في غل: امض في قولك فأنت لم تتمه.
فقال سيف ضاحكا: هذا أجدر بالضحك يا يكسوم. دع ذكر الخيانة يا حناطة فما أنت إلا عبد أخذت ثمنك طعاما ونساء بعد أن لم تكن شيئا.
وهب حناطة غاضبا، وهب الأحباش يحيطون بسيف، وهو واضع يده على مقبض سيفه وفي عينيه لمعة من العزم على أن يجعلها موقعة حاسمة.
وعلا صوت يكسوم قائلا: دعوه فإن لي معه شأنا.
وقام من مجلسه متجها إلى سيف بنظرة فيها سخط وفيها وعيد، وقال في حقد: ما زلت تملأ شدقيك غرورا وعداوة، ولولا أن يقول الناس إنني بدأت بأخ لمسروق وبابن لريحانة لما أبقيت عليك ساعة، ولكن مهلا حتى ترى مصارع أصحابك. لست أدعوك إلى التجمل ولا إلى الموادعة، اذهب إلى من تسميهم قومك فانظر ما تستطيع أن تصنع بهم، وابحث فيهم عمن تحمله على غرورك. لن أعيد عليك بعد اليوم لفظا. أو عد إلى مجالسك حيث كنت مع النساء.
ثم قهقه ساخرا وسار خارجا من الإيوان، وحراسه يسيرون وراءه ومن حوله سراعا، وبقي سيف واقفا في مكانه يحس قدميه ثقيلتين كأنه في كابوس. ودار به رأسه فلم يدر أين هو، وغابت عنه أشخاص القوم وراء الأروقة، وسأل نفسه وهو يسير كالمذهول: «أحقا هذه الحوادث التي أشهدها؟ أحقا ودعت خيلاء آخر الدهر؟ ورأيت صاحبي الشيخ يحجل في قيوده بين الجنود الغلاظ، وسمعت يكسوم يسخر مني ويقهقه متحديا؟» ولمس سيفه فوجد مقبضه باردا في قبضته المحمومة، وجذبه من قرابه فخرج منه مقدار شبر تتردد فيه لمعة زرقاء صارمة، وقال في مرارة: «لم يبق لي غير هذا.» •••
وخرج في أصيل اليوم التالي يودع خيلاء عند باب صنعاء، فلو وقف رجل على شاطئ بحر هائج في يوم عاصف وحول يديه ورجليه أغلال وقيود ثقيلة من الفولاذ، ورأى أعز الناس عنده يجاهد الموج المفترس حتى تخور قواه، ويغيب تحت الماء بغير أن يستطيع أن يمد إليه يدا أو يخطو نحوه خطوة، لما كان أشد من سيف يأسا وحنقا وحزنا في موقفه وهو ينظر إلى ركب الراهبات اللاتي ذهبن بخيلاء على طريق نجران. وهم بالسير وراء الركب، فأشارت كبرى الراهبات إليه أن يبقى حيث هو، وكانت إشارتها هادئة وديعة، ولكنها صارمة. ونظر نحو هودج خيلاء يحاول أن يلاقي نظرة منها، يتخذ منها آخر ذخيرة للذكرى، فرآها مطرقة تضم الصليب إلى جبينها وتميل برأسها في خشوع تصلي، ولا ترفع بصرها إلى شيء. وكاد يصيح صارخا يدعوها دعوة يائسة إلى البقاء، ولكن صوته لم يطاوعه، وسارت الإبل تميل بهوادجها على رسلها لا تبالي شيئا من أمامها ولا من ورائها. وأخذ النسيم يرف بأستار المحامل كأنه يلوح بتحية حائرة مضطربة، حتى غاب الركب وراء ثنية الطريق. وبقي سيف في موقفه حينا ينظر في الفراغ الصامت، وفي قلبه حرقة طفل ينزع من بين ذراعي أمه، ويعجزه الضعف أن يلحق بها. ولم يدر كم مضى عليه من الوقت وهو هناك ثابتا لاهيا عن كل شيء سوى حزنه. ثم تنبه إلى نفسه يسألها كأنه لا يعرف الحقيقة، فكأن مسالك الفضاء قد سدت دونه، وكأن نور الأصيل قد خبا فعاد ظلاما، وكأن الربيع قد تعطل من محاسنه وشحب لون زهره، وكأن أشعة الشمس الخابية تقذف شررا. وتلفت إلى ورائه نحو القصر الكئيب، وهمت به دفعة أن يهرب منه كما يهرب المخبول من الأشباح التي تطارده، ولكن إلى أين؟ واقتلع قدميه يسير على غير هدى، فإذا هو يعود إلى القصر، حتى إذا بلغه ذهب إلى البهو، ووقف عند الوعاء المرمري، ولكنه وجده صامتا جامدا فاترا، لا يزيد على قطعة من الحجر. وذهب إلى حجرة خيلاء لعله يتنسم من قبلها أنفاسا تبعث إليه شيئا من السلام، ولكنها كانت مثل طلل في صحراء مقفرة بعد أن غادرتها خيلاء، فعاد نحو حجرته. وكان لا يزداد مع كل خطوة إلا ضيقا، حتى أفاق على الحارس الحبشي يعترضه مثل تمثال من نحاس قائلا: لا يؤذن لأحد في الدخول إلى هنا.
فلم يجبه ولم ينظر إليه، ومضى في سيره كالحالم، حتى أعاد عليه الحبشي قوله مرتين، ثم رآه يسد طريقه بسنان الحربة، فنظر سيف إليه في سخط، ثم سار خارجا حتى بلغ مرابط الخيل، فأخذ مهره الأبيض وخرج من الباب الخلفي إلى طريق الشمال، «إلى أين؟» لم يدر سيف إلى أين يتجه بعد أن وجد نفسه فجأة على الطريق الخالية، فإنه كان إلى تلك اللحظة منقطعا إلى نفسه وأحلامها وخواطرها وأشجانها وأحاديثها المختلفة، فلم يفكر ساعة واحدة في خطة لحياته، ولم يصرف ذهنه مرة واحدة إلى الحقائق التي كان لا بد له من مقابلتها. أهكذا يخرج من حياة إلى حياة أخرى، كمن يلقي بنفسه إلى البحر عندما يجد نفسه على شاطئه؟ وتذكر قول أمه إذ قالت له: «إنك أسلمت نفسك للخيال، حتى إذا عدت إلى الحقائق وجدتها تصدمك وتهزمك وتجرفك.» نعم، كانت الحقيقة تجرفه وهو لا يدري إلى أين.
وجاء الليل على بطء يستصحب مرارة العجز وحر القيظ، وضيق الوحشة، وخلف سيف المدينة وراء ظهره، يرى من أمامه ظلاما ومن خلفه ظلاما، وفي قلبه ما هو أشد سوادا من الظلام. وأخذت النجوم تلمع من فوقه صامتة هادئة لا تبالي شيئا من الهموم التي تثقل قلوب البشر.
أهكذا خرج أبو مرة في ظلام الليل وحيدا لا يعرف قرارا يستقر فيه؟ وأين ذهب؟ أما زال حيا؟ أم قضى عليه الهم والأسى؟
وكان النسيم يهب من الجنوب يحمل عطر أزهار الربيع، كأن ليس على الأرض طريد محروم يهيم على وجهه وحيدا. وعاد فكره إلى خيلاء في شيء من العتب، كأنها قد تخلفت عنه وقطعت ما بينهما عمدا. أكانت في تلك الساعة تنظر مثله إلى السماء، وترى النجوم البعيدة تومض إليها كما تومض إليه غامضة رهيبة؟ أما يتجه فكرها إليه كما يتجه هو بكل قلبه إليها؟ أم هي تصرف عنه فكرها خشية الخطيئة؟
وكانت الآكام تحف بطريقه من جانبيه، والطريق ينفرج في الضوء المنبعث من النجوم، والجواد يسير على رسله والعنان مرخى على كاهله، وقال في نفسه: «أيها الجواد، سر أين شئت، فأنت أهدى مني.» ومسح على معرفته في عطف وشكر.
لم يدر كم مضى عليه في سيره، ثم أحس بالجواد يصعد في أرض صلبة، وتلفت فإذا عن يمينه وشماله هوتان عميقتان مظلمتان، ومن أمامه قصر عال يقطع صفحة السماء عابسا، «إنه قصر ذي جدن!» ونزل كأنه يتحرك في نومه متجها نحو الباب المغلق وطرقه، فجاء إليه الحارس بعد حين يطل من كوة صغيرة قائلا في نغمة جافية: من أنت؟
وأجاب سيف في صوت خافت: أنا سيف.
فهز الرجل نفسه في دهشة قائلا: سيدي!
وفتح خوخة الباب في حذر ثم ردها وراءه هامسا: الحبشة هنا.
وصمت سيف لحظة في تردد وزاد انقباضا، ثم ذهب إلى جواده قائلا للحارس: وداعا يا صبيح! لا تخبر أحدا عني.
وسمع همهمة الرجل وهو يجيبه بصوته الخافت في رحمة. ثم سمع خوخة الباب وهي ترتد وراءه، وكأن بقية من أمل قد غلبها اليأس في نفسه. «حتى بيت جدي!»
هكذا قال في نفسه: «حتى بيت جدي الذي كنت أحسب أن أعيش فيه مع خيلاء!»
وعاود السير على الطريق تاركا عنان الجواد على كاهله، ومسح عنقه يستأنس به شاكرا أن يجد على الأرض صديقا باقيا لا يسأله إلى أين تسير. وسار الجواد خفيفا جريئا كأنه هو خرج يقصد قصدا. وظهر القمر بعد حين من وراء الجبل الشرقي مثلما ينهض العليل النحيل، يجاهد أن يقوم والضعف يعجزه ويترنح به، ولكنه جلا الأرض شيئا وكشف له وجه الربى المعشبة. وعجب إذ أحس شيئا من الأنس يدب إلى قلبه كما يتنفس النسيم الفاتر في أعقاب يوم شديد الحر. وأحسن كأن الليل يبش له بعد عبوس، فملأ صدره من الهواء وزالت عنه تلك الوحشة التي خيمت عليه منذ خرج من صنعاء. إن أودية الأرض ما زالت واسعة، يستطيع فيها أن يجد جوارا يأمن عنده وديارا يحل فيها كريما. أليس قومه أمامه في تلك الأودية الساكنة؟ وطال به السير حتى لاح الفجر من المشرق يتنفس هادئا مثل جواده الفتي، ورأى إلى يساره ضوء نار تتقد حينا ثم تخبو حينا، فلوى عنان الجواد متجها نحوها وهو يحدث نفسه حديثا جديدا. سوف يمضي إلى قومه في شعاب الجبل، فهم يملئون الأرض وينتظرون مقدمه، وسوف يجمع شملهم ليستأنف الجهاد الذي بدأه جده وأبوه. سوف يستعذب لسع الأفاعي والعقارب، وسوف يستسيغ طعام العظام والدماء، وسوف يقتل ويقتل ويقتل. ولاحت له صورة يكسوم إذ ينظر إليه بعينيه القاسيتين، ورنت ضحكته الساخرة في أذنيه، وثار الدم في رأسه. سوف يقتل ويقتل ويقتل. وبلغ قريبا من النار، فالتفتت إليه امرأة شابة تتلفف في خمارها، ويبدو شبابها من اعتدال رأسها ولين حركتها. وقالت له مبادرة: على الرحب نزلت.
ثم أسرعت نحو الخيمة تنادي زوجها.
وترجل سيف في تردد، حتى رأى صاحب المنزل يخرج إليه وهو يلقي شملته على كتفيه ويناديه قائلا: مرحبا بك وأهلا!
وما كادت عين الرجل تتبينه حتى صاح قائلا: سيف بن ذي يزن!
وفتح له ذراعيه، وانقشعت هموم الليلة فجأة عن سيف كما تنقشع السحب السوداء في أعقاب زوبعة.
الفصل الخامس عشر
قال الراوي:
كانت المياه الصافية الزرقاء تتموج في رفق تحت الصخور السمراء العالية المحيطة بالخليج، وجلس على الشط رجال يتحلقون في حلقات، يتناقلون الأحاديث على الرمال، والنسيم يرف رهوا دفيئا من قبل البحر الهادئ. وكانت الشمس تبعث أشعتها المائلة تتواثب على ظهور الموج في عرض البحر، وتنبعث منها خيوط من بين فرجات الصخور، فتقع لامعة على قطع من الخليج الظليل، وترسل بسمة مؤنسة في وحشته. وكان سطح البحر يشف عن شعاب المرجان تتلألأ في ألون شتى، بعضها أبيض ناصع وبعضها أحمر قرمزي أو أزرق بنفسجي، كأن عرائس البحر قد تأنقت في ذلك الركن المنعزل من شاطئ السودان وأعدته ليكون لها مراحا. وعلى صخرة ناتئة في البحر في الطرف الأقصى من الشاطئ، جلس سيف بن ذي يزن في ثوب من الزرد وسيفه يتدلى من منطقته، يمد عينيه إلى الأفق ساهما، وفي نظرته العابسة ما ينم عن صرامة تكاد تبلغ القسوة. وكان وجهه المعروق تعلوه سمرة، والنسيم الهفاف يعبث بأطراف شعره المرسل إلى كتفيه، لا يكاد الناظر إليه يتبين ملامح الفتى الذي ترك غمدان منذ ثلاث سنوات. لشد ما تبدل سيف في هذه السنوات التي قضاها في اضطراب بين أودية اليمن وشواطئها، لا يستقر به المقام في مكان حتى تلاحقه جنود يكسوم قبل أن يجتمع إليه جمع يستطيع أن يثبت به في قتال، فما زالت شعاب اليمن وشواطئها تتقاذف به حتى انتهى به الوثوب إلى ذلك الملجأ المنعزل من الشاطئ المقفر عبر البحر. وكان معه فتيان من قومه أبوا أن يتخلوا عنه، وساروا معه يشاركونه حياة لا استقرار فيها. فكانوا يهبطون معه على سفن الأحباش العابرة بين شاطئ البحر، فيغنمون ما فيها من بضاعة ويوقعون بمن قد يكون فيها من جنود يكسوم، ثم يعودون إلى مخبئهم الخفي. ونسي سيف في تلك الحياة الجديدة - أو كاد ينسى - كل ما مر به في حياته الأولى، إلا خطرات كانت تعتاده حينا بعد حين. لم يبق في قلبه إلا شيء واحد؛ أصبح كل همه في حياته أن يصدم أعداءه أينما استطاع، وأن يوقع بهم كلما استطاع. وكان في جلسته على الصخرة ينظر إلى البحر الواسع الممتد تحت عينيه، كما ينظر الفهد الذي يتربص بأعداء يطاردونه من حواليه. هذا البحر الفسيح يفتح له آفاقا، باسما حينا وعابسا أحيانا، وهو في كل أحواله صديق جبار يعجز يد يكسوم أن تمتد إليه.
وبرقت أمامه هنة ضئيلة تتحرك عند أفق الجنوب، فمد بصره إليها، وتقلصت عضلة ساعده وأسرعت أنفاسه، وعلق بصره بها كما يعلق الفهد بصره بفريسة مقبلة. لقد مضت أيام ولم يجد فرصة يشفي بها غليل قلبه. ولكن الهنة الضئيلة كانت ثابتة عند الأفق لا تكاد تتحرك، فنزل إلى الشاطئ الرملي يسير بخطوات واسعة حتى بلغ آخر منحناه، ورأى أصحابه في حلقاتهم الصغيرة يتحدثون، ما لهم يتضاحكون هكذا كأن قلوبهم خالية؟ وعاد نحو صخرته مسرعا في خطاه مؤثرا أن يخلو إلى خطراته الحانقة. وسأل نفسه: ما جدوى تلك الصدمات الصغيرة التي لا تصيب يكسوم إلا بأيسر الأذى؟ إنه هناك في غمدان تبلغه الأنباء أحيانا أو تخفى عنه، وما يزعجه من سفينة أغار عليها لصوص البحر، فاقتطعوا من بضاعتها غنيمة أو قتلوا ممن عليها بعض الجنود؟ أهذا كل ما يستطيع من جهاد يكسوم؟ وتمنى لو رآه أمامه في جمع من أحباشه فيقذف نفسه عليه، حتى إذا لم يبق له من الحياة إلا ما يمكنه من أن يتعثر إليه حتى يغمد سيفه في قلبه لمات سعيدا.
وهجمت عليه صور من الذكريات كأنها كانت حبيسة، ثم انطلقت جافلة. كيف أمست خيلاء بعد هذه السنوات؟ أهي مثله تعاودها ذكرياتها بين حين وحين؟ ألا تذكره في ساعة من ليل أو نهار؟ أم هي لا تفكر إلا في المسيح الذي انقطعت له؟ لحظات مسحورة! ألا ما أقساها وقعا إذا ذكرها المحروم منها. إنما يسعد بذكرياتها أولئك الذين تغمرهم السعادة دائما، وأما المحرومون فإنها تزيدهم شقاء. أيعود يوما إلى نجران حتى إذا وقعت عينها عليه ألقت بنفسها بين ذراعيه باكية من فرط السعادة؟ هيهات هيهات! وعاد ببصره إلى الأفق، فرأى الهنة الصغيرة قد تبينت صورتها، إنها سفينة حقا؟ وكان الموج الهادئ يتدافع تحت قدميه كأنه دلافين تتلاعب في مرح. وود لو ثارت عاصفة فقذفت على الشاطئ بموج فائر، يصطدم في الصخور صاخبا ويتطاير عنه الرشاش الأبيض مدويا عنيفا، فإن ذلك أكثر اتساقا مع خواطره الثائرة.
وشق السكون الشامل صوت منبعث من أعلى الشاطئ الصخري، يشبه صيحة أنثى العقاب إذا آوت إلى وكرها في قمة الجبل بعد طول غيبتها؛ لتدعو فراخها حاملة إليهم بشرى عودتها إليهم بالفريسة. فاستجمع سيف نفسه ووثب من مجلسه خفيفا وقد شردت عنه ذكرياته، كأنها سرب من الخفافيش أزعجتها المطاردة في الظلام؛ فتفرقت تطلب ملجأ في الزوايا البعيدة. وكانت الصيحة معروفة له ولأصحابه؛ صيحة الربيئة الواقف في أعلى الصخور يرقب البحر في انتظار السفن العابرة.
وتسابق الفتيان إلى سفينة قابعة في ركن من الخليج، تترجح فوق الماء الصافي، وما هي إلا لحظات حتى استقروا في مواقفهم، وقال سيف: الجميع هنا؟
فأجابته أصوات بعضها جاد، بعضها ضاحك معابث، واندفعت السفينة الصغيرة منسابة في الخليج، والمجاديف تضرب في الماء معا ثم تعلو معا، كأن يدا واحدة تحركها. ووقف سيف عند صدر السفينة يقلب بصره في عرض البحر، واضعا يسراه فوق حاجبيه. وصاح قائلا: الشمس تميل إلى الغرب، فاجعلوه سباقا معها.
وتقاربت ضربات المجاديف واندفعت السفينة تشق الماء رشيقة، وأمسك الفتيان عن النطق إلا همسات، كأنهم يجمعون جهودهم للمعركة المنتظرة. واقتربت السفينة الضخمة بعد ساعة، وكانت تجاهد بطيئة في سيرها، والنسيم الفاتر لا يكاد يملأ أشرعتها الثلاثة. ونظر سيف إلى سطحها يتأمل من عليه وما عليه، وأحس بشيء يشبه خيبة الأمل. لم تكن من تلك السفن الأنيقة التي تحمل تجارة الحبشة من زبيد أو جزيرة فرسان، ولم تكن من السفن السريعة التي تقصد شواطئ مصر، عيذاب أو القلزم أو أيلة، وتحمل رسل يكسوم وهداياه إلى قيصر. كان يود لو كانت تلك إحدى السفن التي يجد فيها فرصة لشفاء غليله، ويرى دماء أعدائه تسيل تحت قدميه، ويستمع إلى أنينهم وهم يعالجون سكرات الموت.
وجاء بعض ركاب السفينة، فوقفوا وراء جوانب السطح ينظرون في دهشة إلى السفينة الصغيرة التي تقترب منهم مسرعة، وعلا صوت سيف قائلا: علقوا السلاليم.
وهدأت السفينة الصغيرة في سيرها، وقام بعض رجالها إلى سلاليم عريضة من الخشب، لها كلاليب من الحديد في أطرافها فألقوها على السفينة الضخمة، وغرزوا الكلاليب في جنبها، واهتزت سفينتهم هزة عنيفة، ثم استقرت تساير السفينة الأخرى. وعقلت الدهشة ألسنة الركاب، فبهتوا حينا وهم ينظرون إلى الفتيان إذ يتبادرون إلى السلاليم وسيوفهم في أيديهم، ثم انطلقت منهم صرخات الذعر الحبيسة، وتفرقوا في اضطراب يلتمس كل منهم ركنا بعيدا يلوذ به. وصعد سيف إلى السفينة أخيرا وهو فاتر، حتى إذا بلغ سطحها رأى منظرا جعله يغمد سيفه ويقف مبهوتا.
كان ركاب السفينة مثل قطيع بائس من الماعز، يتزاحم ويتخبط في دفعات هوجاء. وذهب الفتيان يبحثون في السفينة، فإذا التيار الأعمى يرتد نحو سيف في عنف وقد غطى الذعر على عيونهم، فوقف ثابتا حتى اختلط به الجمع كأنه دجاج مذعور يتعثر فيه ويتطاير حوله. وكان فيه فتاة تحاول أن تقاوم صارخة غاضبة والتيار يدفعها معه، لا يستمع إلى شيء من ألفاظ الحنق التي كانت الفتاة تصبها. واصطدمت في اندفاعها بسيف ، ومدت يدها تتعلق به، فمد يده إليها وانتزعها، فإذا هي بين ذراعيه يسندها، وتشبثت به حتى تفرق الجمع ومضى في دفعته إلى أقصى السفينة من الناحية الأخرى، ثم دفعت نفسها عنه في غضب وقالت له: تعسا لك!
فقال لها سيف: لا تراعي يا فتاة.
وكأنه لمح في وجهها شيئا استوقف نظره لحظة، ثم التفت نحو أصحابه، وكانوا عائدين يتضاحكون في عجب.
وصاحت الفتاة بهم: ويلكم، ماذا تبغون منا؟
فقال لها سيف في نظرة عابرة: لسنا نبغي شيئا، فاهدئي.
فقالت في عنف: ما أخيبكم من لصوص جبناء. أتقول اهدئي؟ وهل رأيتني فزعت حتى أهدأ؟ إن هؤلاء الحمقى هم الذين جرفوني، ولو كان معي سيف لوقفت في وجوهكم جميعا. أما تخجلون أن تجردوا السيوف على العجائز والأطفال؟
وكان وجهها المقلص وعيناها الملتهبتان ورأسها المرفوع بالتحدي تزيد من ألفاظها حرارة. واتجه سيف إليها بنظرة فاحصة وهي تقذف بألفاظها، وتبعث مع كل لفظ منها شرارة من غضبتها. ولم يملك ابتسامة شاردة اجتمع فيها إعجابه ودهشته. كان وجهها الأسمر تعلوه نضرة الشباب، وعيناها السوداوان الواسعتان تنطقان عنفا، على حين كان حاجباها الدقيقان وأنفها المستوي الدقيق تنطق رقة من وراء ثورتها الوحشية، وكان رأسها المرفوع يبرز محاسن عنقها وصدرها، وحركة غضبها تهز قوامها اللدن المعتدل. كان جمالها يبرق من خلال عنفها كما تبرق محاسن النمرة الشابة إذ تتجمع للوثوب على غريم تعرض لها، ولم تزدها ابتسامة سيف إلا غضبا، فقالت: خذ أصحابك وانصرفوا إن بقيت فيكم شهامة، واستشعر الخجل بدل أن تبتسم هذه الابتسامة المتكبرة.
فقال سيف: أزيلي أيتها الحسناء هذه السحابة عن وجهك. ممن أنت؟ وخيل إليه أنها هدأت قليلا عندما سمعت قوله، ولكنها همهمت بجواب، ثم مضت بعد أن علقت بصرها لحظة في وجهه. وخيل إليه كذلك أن بسمة خاطفة مثل لمحة البصر سنحت في عينيها وهي تنصرف نافرة. ونظر في أعقابها حتى غابت وراء أكداس الطرود الملقاة على السطح. ثم رأى رجلا ضخما يتدحرج في مشيته البطيئة مقبلا نحوه كأنه كان مختفيا يرقب ما يحدث للفتاة. وكان من ورائه بعض رجال يبدو عليهم الضعف والهزال في ثيابهم المهردة. وصاح الرجل قائلا بصوته الحاد: ما خرجنا إلى قتال أيها الشجعان، وليس معنا ما يستحق أن يؤخذ. نسائي طوالق وسفني غوارق إن كنت أقول غير الحقيقة.
فقال سيف باسما: إلى أين تسير أيها الربان؟
فقال الرجل كأنه لم يسمع سؤالا: هل مثل هؤلاء يحمل شيئا له قيمة؟ ما رأيت في حياتي أكثر منهم خبثا ولا أشد منهم لجاجة ومماكسة في الأجر.
فقال سيف: من هم؟
فقال الربان: هؤلاء الذين تسمع صياحهم وترى تخبطهم، كأنما رأوا الشياطين أمامهم. يضطربون هكذا مثل قطيع من الغنم، كأن حياتهم ذات قيمة. ولو رأيت كيف قلعوا الصاري الأكبر ...
فقاطعه سيف قائلا: وأين تسير بهم؟
فقال الرجل: ليتني أستطيع أن أقذف بهم ها هنا، خذهم إذا شئت فقد يكونون أثمن من بضاعتهم، قد تبيع الواحد بدينار والواحدة بنصف دينار، وفيهن واحدة يقال إنها بمائة ناقة. نسائي طوالق وسفني غوارق إن كنت أقول لك كلمة ...
فقال سيف مقاطعا: ولكنك لم تقل إلى أين تسير، وكنت أود أن أسألك من أين جئت؟
فقال الرجل: ومع هذا فإنهم لا ينقطعون عن الثرثرة. ألم تسمع بأذنك كيف تستطيع إحداهن أن تشتم؟ هكذا يشتمونني أنا. ليتك رأيتهن وهن يطلبن مني كالمجانين أن أسرع إليكم لأطردكم، كأنني خرجت لأطرد من يتعرض لهن. وهذه الجنية الشيطانة التي رأيتها منذ لحظة، أتصدق أنها خنقتني يوما بيديها وكادت تزهق روحي. أتصدق أن فتاة مثلها تفعل ذلك؟ أظنك تبتسم لأنها أعجبتك، لا يغرنك حسنها، فإن أظافرها مثل مخالب القطط.
وغمز بعينه باسما وقال: كلما نزلنا بشاطئ أثارت فيه معركة، ومع هذا فكلهم يسألونني من هي؟ ولو عرفوا حقيقتها لفروا من وجهها. إنها تصبح سيدها بعلقة وتمسيه بعلقة.
فقال سيف: ألها سيد؟
فقال الرجل ضاحكا: هكذا كان الجميع يسألون عنها. أرأيت؟!
وأعاد ضحكته عالية. ومضى قائلا: لست أدري في الحقيقة أيهما السيد وأيهما الأمة؟ هو يقول إنه اشتراها بمائة ناقة، وإنه لا يبيعها إلا بمائتي ناقة سود الحدق. ولكني أظنه نتاشا كاذبا، وأغلب ظني أنه يبيعها لك إذا شئت بمائة دينار. ولكن كيف تأتي له بثمنها؟ لا تؤاخذني يا سيدي. نسائي طوالق وسفني غوارق إن كنت أقصد ...
فقاطعه سيف باسما: دع نساءك في سلام وقل لي من أين جئت؟
فقال في تردد: من جزيرة فرسان بعد أن انتهى سوقها. والحق أنني سمعت هناك. ولكن نسائي ...
فقال سيف: ماذا سمعت؟ قل ماذا سمعت؟
فقال: أقصد أنهم قالوا لي، ولكني لم أصدق. كل منهم يريد أن يقول كلمة.
فقال سيف في شيء من الضيق وهو ينظر إلى الشمس المنحدرة: ماذا قالوا؟
فقال الرجل: قالوا كلاما كثيرا، ولكن هذا الطريق أقصر، وأنا أعرف هذه الشواطئ جميعا، والماء هنا أهدأ والشواطئ لا صخور فيها. والطريق الآخر أشد عواصف، ولو استمعت إليهم لكنت الآن أزحف في وجه التيارات القوية، ولكني عصيتهم وسرت من هنا. وإذا علت الريح اندفعت السفينة مثل المهر الأصيل. ولستم مع هذا كما صوروكم في أحاديثهم، لم تمدوا يدا إلى أحد، وأنت تتحدث معي كما لو كنت إنسانا مثل الناس. نسائي طوالق ...
فانطلقت ضحكة عالية من الفتيان وقال أحدهم: كم عدد نسائك أيها العصفور؟
فتبسم الرجل في خبث حتى ضاقت عيناه المكورتان وقال: إن شئت الحق فلست أدري ما عددهن.
فعادت الضحكة وقال سيف: كم ثوبا تشتري لهن؟
فقال وقد اتسعت بسمته: لست أشتري شيئا، كل شاطئ فيه واحدة أو اثنتان أو ثلاث، ولست أجد وقتا للشراء في أحدها، فأنا دائما على عجل.
فقال أحد الفتيان: ومن معك منهن على السفينة؟
فالتفت إليه الرجل بنصف جسمه قائلا: أما هذا فلا. نسائي طوالق إن كنت أحدث الناس عن حرمي.
فقال سيف وهو يضرب بكفه على كتفه: يلوح أنك غيور يا صديقي. كم سنة تجوب هذا البحر؟
فقال في مباهاة: أربعون عاما. قبل أن يعبر الحبشة إلى اليمن. لست أنت من الحبشة بلا شك.
فقال سيف: وأنت؟
فقال الرجل: أنا؟ أما ترى وجهي؟ ليس على سفينتي أحد منهم. أما سمعت عن سيف؟
فقال سيف: أتعرفه؟
فقال الرجل: وكيف لا أعرفه؟ سيذهب إلى يكسوم بجيش عظيم ليطرده من صنعاء، ولكنه لن يدركه حيا إلا إذا أسرع منذ الآن.
فقال سيف في اهتمام: وكيف؟
فقال الرجل: يقولون إنه مريض، ويقولون إنه جرح في موقعة مع نفيل بن حبيب، ولكن آخرين يقولون إنها خدعة، وإنه يدعي المرض حتى يطمع فيه سيف بن ذي يزن ويعود إلى صنعاء، وهناك ...
ثم رفع يده وأشار إلى رقبته إشارة القطع.
فقال سيف: أنت رجل ظريف أيها الربان. ما اسمك؟
فقال الرجل: أظنك قد تأخرت هنا، والشمس تنحدر مسرعة. نسيت أن أقول لك إن هؤلاء سائرون إلى عكاظ، وسألقي بهم عند أقرب نقطة من ساحل الحجاز، فإذا احتجت يوما إلى خدمة مني فاسأل في جزيرة فرسان عن أبي العيوق.
فانفجرت ضحكة أخرى من الفتيان وشاركهم سيف وهم يسرعون على السلاليم، والرجل الضخم ينظر في آثارهم فاتحا فمه كأنه يقول: «إن في هذا العالم من يصيبهم الجنون.» ومالت الشمس تكاد تصافح الأفق عندما بلغت السفينة الصغيرة مدخل الخليج، وكانت الأمواج تتلاطم متدافعة في أذيال ريح عاتية بدأت تعنف شيئا بعد شيء آخر النهار. وتفسح الفتيان على الشاطئ بعضهم يوقد نارا وبعضهم يستروح ساعة قبل أن يلف الليل الفضاء. وكانت السفينة الضخمة تدب عند الأفق متجهة نحو الشمال، وصورة الفتاة الغاضبة تتمثل لسيف، وصوت الموج يقع في ظهر وعيه الحالم. ولما غمضت الآفاق وانبهمت معالم الشاطئ قام من مجلسه يسير نحو الكهف الذي اتخذه منزلا؛ إذ لم يجد خفة إلى المجلس الذي اعتاد أن يجتمع فيه مع أصحابه في ساعة العشاء.
وكانت شعلة المصباح الضئيل تتراقص مع أنفاس الهواء، وتبعث على جوانب الكهف ظلالا غبشاء تتحرك كالأشباح، فعادت إليه ذكرى كهف ينور وقصة العجوز وصاحبه الشيخ المسكين أبي عاصم. أيهلك يكسوم قبل أن ينفذ إلى صدره طعنة تمزقه؟ أتحرمه الأقدار من هذه السعادة الكبرى؟ وخيلاء؟ كان يوما يظن أنها سعادته الكبرى. أحقا تبعد عنه أبد الدهر ؟ أحقا كان يوما في قصر غمدان ووقف معها إلى جانب الوعاء المرمري؟ إنها أيام بعيدة إن كانت حقيقة. ثم لمعت له صورة الفتاة الغاضبة، لم يكد ينظر إلى وجهها عندما قال لها: «لا تراعي يا فتاة»، ولكنه أحس دفء جسمها وهو يضمها إليه بغير وعي، ثم نظر إلى وجهها الغاضب. ما أعجب تلك اللمعة الوحشية التي رآها في عينيها، وأنفها المستقيم، وحاجباها الدقيقان، ورونق شبابها النضير. كان جسمها اللدن أشبه بتمثال جنية غاضبة. كم وقفت تلك الفتاة في مواقف عنيفة؟ كانت كل حركة منها تنم عن أنها اعتادت الدفع والمقاومة والاستماتة، ومثلها من يستطيع أن يطعن بخنجر أو يتعرض للطعنة. أهي الأخرى أمة تباع وتشترى بمائة ناقة أو مائة دينار؟
كان بين الصورتين شبه عجيب، كما كان بينهما فرق عجيب. بين صورة تلك الفتاة، وبين صورة خيلاء. ماذا تفعل في عكاظ؟ وأية تجارة هناك لمثل تلك الشيطانة الحسناء؟ وأي فرق بين بسمتها وبسمة خيلاء؟
وأحس وخزة من الندم عندما تحدث عن خيلاء وهو يتمثل صورة الفتاة النمرة. كيف يقرن صورة ملاك بصورة ... ماذا يسميها؟ ولكن أين خيلاء؟ إنها هناك في دير نجران، لا في عكاظ حيث الزحمة والتدافع والتنازع والتحدي.
أما الأخرى فهي مثله في حياته الجديدة التي يحياها في السطو على السفن، أو في القتال العنيف الذي يملأ قلبه حقدا وعداوة وقسوة. هذه تستطيع أن تستمع إليه إذا حدثها عن طعناته للأعداء وعن مغامراته في الأودية والبحار، وتطرب إذا وصف لها المآزق التي وقف فيها، ونجا منها على سراط ضيق معلق فوق هوة عميقة مظلمة.
واستطاع بعد حين أن يغمض عينيه في نوم عميق، لم يستيقظ منه إلا بعد أن أطلت الشمس عليه من بين صخور الكهف.
وكان أول خاطر سنح له: أن ذهب إلى أصحابه ليفضي إليهم برأي جديد بدا له بغتة، كأنما استقر عليه في أثناء نومه العميق.
فقد أوشك ذي القعدة أن يستهل، وسيذهب الناس من كل فج إلى سوق عكاظ يبيعون ما عندهم ويشترون ما عند غيرهم، ويشهدون الموسم الذي تستفيض فيه الأحاديث عما يجري في بلاد العرب جميعا، يحمل كل قوم منهم طرفا يعلمونه. وهناك يستطيع أصحابه أن يجمعوا أكداسا من الذهب لقاء ما عندهم من الغنائم المكدسة. وما كاد يفضي بهذا الرأي إلى أصحابه حتى وثبوا إليه في حماسة كأنهم كانوا يتمنونه.
وأخذوا يستعدون من ساعتهم للرحلة القريبة قبل أن تتفلت فرصة الموسم العظيم.
الفصل السادس عشر
قال الراوي:
بدأت الصبا تهب رفيقة من قبل نجد على النازلين في عكاظ على مقربة من مدينة الطائف، وتدفق الناس إليها من الآفاق القريبة والبعيدة ليشهدوا الموسم في ذي القعدة، قبل أن يذهبوا إلى مكة ليحجوا إلى الكعبة المقدسة. وكان موسم العام أشد زحمة مما عرف الناس من قبل؛ فإن قبائل العرب تسابقت إلى الحج منذ شاع فيها نبأ انتصار قريش على أبرهة الحبشي، وعدوا ذلك النصر آية دالة على قدرة هبل واللات والعزى ومناة. وكانت الخيام تمتد في صفوف متداخلة كأنها مدينة نبتت فجأة في الصحراء، بينها طرق متعرجة وميادين فسيحة، بعضها لمباريات الشبان في الرماية، وبعضها لمسابقات الخيل والرهان عليها، وبعضها لعرض السلع التي أتى بها الناس من أركان الأرض ليقضي كل حاجته من بيع أو مبادلة. وكان في سرة الخيام ميدان في وهدة من الأرض تحف بها من جوانبها صخور مدرجة، وفي وسطه ربوة تبرز عالية فوق الوهدة، كأن الطبيعة أعدتها لتكون مجتمعا عاما. فكانت الآلاف المتزاحمة تحيط بالوهدة الواسعة على الصخور المدرجة؛ ليستمعوا إلى أناشيد الشعراء إذ يتفاخرون ويتهاجون ويتنافسون في نشر مآثر قبائلهم، وهم وقوف فوق الربوة الوسطى، فإذا ما فرغ أحدهم من نشيده أطلق الحكم رأيه في قوله، فيقبله راضيا أو ساخطا، وخاشعا أو ثائرا. فكان ذلك الميدان لا يخلو من هزة تعقبها مشاحنة، قد تجر أحيانا إلى القتال بين العشائر أو المبارزة بين الأفراد.
فإذا ما انقضى النهار وهدأت الحركة في ساحات عكاظ، خرج طلاب المتعة إلى الأطراف البعيدة ليقضوا قطعا من الليل في الحانات أو أندية السمر، التي كانت تجمع أسباب اللهو من أطراف الشام واليمن والعراق. وكانت حانة النبطي مهبط المترفين من شيوخ القبائل وشبانها؛ إذ كان صاحبها رجلا مرحا لين العريكة، سريعا إلى إرضاء ضيوفه بكل ما يشاءون من لهو. وكان يختار لهم المعتقة من خمر الإسكندرية وأنطاكية، كما كان يختار لهم أجمل الراقصات وأبرع المغنيات، من فتيات العرب أو الروم أو أرمينية. وكان بين راقصات تلك الحانة في ذلك العام فتاة عربية عرضها النبطي أول مرة، فتناقل الناس أخبارها، وتحدثوا بأوصافها. قيل إنها من بنات حمير، سباها جيش أبرهة فباعها حبشي إلى تاجر من قريش طفلة صغيرة، وباعها القرشي لصاحب حانة في جزيرة فرسان عندما صارت شابة، ثم باعها صاحب حانة فرسان إلى صديقه النبطي الذي أعجب بحسنها ونغم صوتها وبراعة رقصها، فبذل في ثمنها مائة ناقة. وكانت الفتاة فيما يقولون ذات بدوات ونفرات، لا تعبأ بشيء إذا ثارت بها ثورة، فكانت تسوم صاحبها أعنف ما تنال حسناء قاسية من مطية ذليلة. ومع ذلك كان لا يغاضبها بكلمة، كأنه يتمتع بما يصيبه من عذابها. وهي فوق ذلك متقلبة بين المرح والطرب، وبين الفتور والسهوم. كانت تنفلت أحيانا من رقصها أو غنائها غاضبة لغير سبب ظاهر، فلا ترضى أن تعود وإن بالغ صاحب الحانة وزوارها في استرضائها. وكانت تغضب للكلمة التافهة تبدر من شاب عبثت به نشوة الخمر، أو من دفعة غير مقصودة من إحدى صويحباتها في الرقص، أو من صيحة ماجنة من خليع، أو من صيحة إعجاب في غير موضعها. بل كانت أحيانا تغيب من غير غضب إذا بدا لها أن تغيب، ولا يجرؤ صاحب الحانة على أن يلومها بكلمة. ولعل النبطي الماكر كان يرضى في نفسه عن بدواتها العجيبة؛ فقد كان يعلم أسرار النفوس، ويعرف أن رواد الحانة كانوا يزيدون بتلك البدوات حرصا على التردد عليها ليلة بعد أخرى.
على أن طليبة - وكان ذلك اسمها - كانت تسمح أحيانا وتقبل صافية الطبع على زوار الحانة، فتخطر بينهم مثل النسيم خفيفة متفننة مفاكهة متندرة، فتسحر ليلتهم وتشيع من حولها جوا صاخبا من المرح والنشوة.
ومضى صدر من موسم عكاظ ولم يبق منه إلا أيام، ينصرف الناس بعدها إلى مكة ليؤدوا مناسكهم فيها، ثم أقبلت قافلة من ناحية شاطئ البحر، تحمل تجارة لم ير الناس في عكاظ مثلها، فيها بضائع شتى من كتان مصر وأبراد اليمن وزبيب أيلة وخيل نجد، وفيها من الحلي وصنوف الأمتعة ما يتهافت عليه أهل الثراء والترف من شيوخ القبائل وسادة القرى. وكان صاحبها فتى سمحا في البيع، كريما واسع الرحاب لمن ينزل عليه، مهذبا في الحديث لا يحب اللجاجة في المساومة، فكان الناس يقصدونه في منزله للشراء، فيصيبون في ضيافته ما شاءوا من كرم الوفادة. وسرى ذكره بين النازلين في يوم وليلة، وصاروا يتحدثون عنه ويعجبون من يكون؛ إذ لم يعرفوا عنه إلا أنه معديكرب، وأنه في هيئته وطريقة حديثه يشبه أن يكون من أهل صنعاء.
وذهب معديكرب إلى حانة النبطي؛ ليستمتع بخمرها ويشهد ما فيها من رقص ويستمع إلى ما فيها من غناء، وليرى تلك الفتاة العجيبة البارعة طليبة التي سمع اسمها يتردد على الألسنة.
واستقبله النبطي مسرعا مرحبا واتخذ له مجلسا في الصدر، والتف حوله جمع من تجار القبائل، وجلسوا إليه يتحدثون في شئون شتى، وأنشد بعضهم ما خف عليه من قصائد الشعراء التي سمعها ... وأتت الكئوس تدور عليهم، ومعها أطباق من فاكهة الطائف وجلق، ومن بقول حلب وأزمير. ثم بدأ الغناء والرقص، فتطلع الفتى يدير بصره ليرى الفتاة التي سمع عنها، ولكنها لم تظهر بعد أن مضت ساعة طويلة، وخشي أن يكون قد عرض لها بعض ما كان يعتادها، وظهر عليه شيء من القلق وكاد يهم بالانصراف خائبا. ثم تعالت أصوات من أقصى المكان، واضطربت المجالس بمن فيها، وأقبل جمع من الشبان يتضاحكون وفي وسطهم طليبة، في ملابس براقة زاهية من الحرير الموشى، وسارت تنثر بسماتها، وكلما مرت بجمع أسفر وجهها عن بسمة ضئيلة، وقالت وهي تلقي عليه نظرة شاملة: «عمتم مساء.»
ونظر إليها معديكرب في دهشة، وأخذ الكأس التي مدت إليه فرشف منها يحاول أن يغطي دهشته. أتكون هي حقا؟ ومال النبطي على الفتاة يحدثها، ثم رفع صوته قائلا لها: هنا ضيف كريم يزورنا لأول مرة.
فالتفتت نحو معديكرب لفتة سريعة، ثم ردت إليه نظرتها حتى وقعت عيناه في عينيها في حركة تصبغها دهشة مستورة، وأسرعت متخلصة من نظرته في شيء يشبه الجفول، وصاح الفتى في سره: «إنها هي!»
ومضى النبطي قائلا: أرى على وجهك نظرة خبيثة، فلا تدعيه يفلت.
وتعالت ضحكته وضحك الجميع وفيهم معديكرب، وأظهرت طليبة شيئا من التدلل، ثم ذهبت تخطر خفيفة وبدأت تغني.
وتضايقت حلقة الجلوس في الحانة وتزاحمت صفوفها، وعلت أنغام الغناء تبعثها طليبة متطربة، ثم انطلقت في فضاء الحلقة في وثبات رشيقة أو خطوات رفيقة. وكانت إذا اقتربت من معديكرب تنظر إليه نظرة سريعة وتبتسم ابتسامة خفية، ثم تندفع في عنف باعدة عنه إلى أقصى الحلقة، وتطامن من وثبها وتهدئ من سرعتها كأنها تستروح بعد جهد شق عليها. ونسي الفتى في نشوته أنه هناك في حانة، وأحس في نفسه شيئا يشبه الغيرة أن تعرض هذه الفتاة محاسنها للأنظار المخمورة التي تتعلق بها. وخشع الجمع المحتشد وغشيه من سحر الفتاة ما أسكن ضجته، إلا همسات تقول إن طليبة لم تنطلق في ليلة كما انطلقت في تلك الليلة الرائعة. وإذا صرخة جشاء تعلو فجأة ولم يتبين أحد صاحبها، حتى تحول الموقف إلى منظر لم يتوقعه أحد، ولم يستطع أحد أن يحول دونه؛ فقد اندفع من بين الجالسين رجل طويل القامة مفتول الأعضاء مرفوع الرأس، تدل هيئته على التهور والقوة، يتمايل في خطواته وهو يصيح صيحة سكرى، حتى إذا ما بلغ الفتاة طوقها بذراعيه وأهوى عليها بقبلة معربدة، ثم وقف أمامها يتمايل من أثر الشراب وهو باسط ذراعيه، ويقول لها بلفظ متعثر: «أنت ساحرة.» وبرقت العيون من الدهشة، ولم يهم أحد من موضعه، كأن الجمع يشهد منظرا يريد أن يرى آخر مشاهده. ووقفت طليبة مذهولة لمدة لحظة، ثم نظرت إلى الرجل ثائرة، ورفعت رأسها وعلا صدرها مضطربا، وفي مثل لمح البصر رفعت يدها فصفعته، ووقفت أمامه متحدية متنمرة.
وما كاد الناس يرون ذلك حتى عمهم الاضطراب وثاروا من مقاعدهم؛ إذ أحسوا أن الأمر قد تحول إلى مأزق، وارتد الرجل إلى الوراء مترنحا يبتسم ابتسامة غل، وقال لها: هرة وحشية!
ورفع يده إليها، وما كاد يفعل حتى وثب معديكرب من مجلسه، فدفعه بجمع يديه وألقاه على الأرض ووقف ينتظر قيامه.
ووقف الناس سكوتا في خشية وعجب، ينظرون إلى الأشخاص الثلاثة في وسط الحلقة، كأنهم يرون ملهاة. وقام الرجل كأنه ثعبان غاضب، فاندفع نحو معديكرب، وابتدأ بينهما صراع عنيف يشبه أن يكون قتالا للموت. ومرت ساعة قصيرة تردد فيها الفوز بين الخصمين، وكانت طليبة تضع منديلا بين أسنانها وتنظر إليهما في لهفة، وفيما كان الجمع ممسكا لأنفاسه على إثر دفعة شديدة ألقى بها معديكرب خصمه على الأرض، قام الرجل حانيا جسمه إلى الأرض مطرقا في حقد، يختلس نظرة ثائرة إلى خصمه وهو مكشر عن أنيابه، وصرخ صرخة عالية وفي يمينه خنجر مسلول، ووضعت طليبة منديلها على وجهها في فزع، وهمهم الناس سخطا، وارتد معديكرب إلى الوراء خطوات وهو يرى السلاح الخائن يلمع نحوه مهددا، ولكن خطوات الرجل لم تكن ثابتة، فاستطاع الفتى أن ينفلت إلى جانب، وجمع قوته في ضربة حانقة، فتزعزع الرجل واضطرب، وانتزع معديكرب الخنجر من يده وقذف به تحت قدميه، ووقف ينظر إليه متحديا.
واعتدل الرجل منكسرا، ولكنه قال في حقد وهو ينهج: سوف تعرف أيها الفتى جزاءك.
فقال معديكرب باسما في سخرية: نلتقي إذا أفقت.
فقال الرجل حانقا: ومن تكون يا بائع التمر؟ من تكون حتى يلقاك نفيل بن حبيب؟
فقال الفتى في صرخة مكتومة: نفيل بن حبيب؟
فقال الرجل في مباهاة: نعم، نفيل بن حبيب، فافزع في صحوك وفي نومك، فلن تنجو طويلا.
ثم تحرك منصرفا.
وصمت الفتى لحظة ينظر إليه في هدوء، ثم قال: تمهل يا نفيل بن حبيب، فما كنت أحسب أن نلتقي على مثل هذا.
فنظر الرجل إليه في كراهة وقال: ماذا قلت؟
فقال الفتى في صوت خافت: أما تذكر إذ بعثت إلي لألقاك في شعب غيمان؟
فصرخ نفيل وهو مضطرب بين السخط والعجب قائلا: أنت؟
فقال الفتى في صوت متردد: نعم، أنا سيف.
فوقف الرجل مبهوتا ينظر إليه حائرا، ثم انفرج فمه عن بسمة ضئيلة وقال: كأنني أرى أبا مرة.
وكان في صوته بقية من حنقه.
وقال سيف في نغمة تشبه الرجاء: لحديثنا بقية يا نفيل.
فطوح الرجل قامته الطويلة قائلا: لا تكون هنا. •••
وسار نفيل مسرعا وسيف يلحق به حتى خرجا، والجمع الداهش ينظر صامتا في إثرهما، كأنها قطعة من ألاعيب الملهى قد دبرت وأحكم تدبيرها، وبقيت طليبة في موقفها حينا وهي مشدوهة ثائرة الأنفاس، تشخص ببصرها إلى حيث انصرف الخصمان، ثم مالت على الخنجر الملقى على الأرض، فأخذته وأسرعت تجري نحو خبائها، حتى إذا ما صارت وراء الستر ألقت بنفسها على أريكة، واستخرطت في البكاء.
وسار نفيل وسيف بعد خروجهما يسرعان الخطا في صمت، لا يسأل أحدهما إلى أين، وكان ضوء القمر الذي أوشك أن يكتمل يفيض على الفضاء الرملي الذي يحف بالخيام المتراصة، وأنوار المصابيح تخفق بينها خافتة كأنها يراعات تسنح ثم تختفي. وعرج نفيل نحو ربوة منعزلة فصعد فيها لا يلتفت إلى ورائه، وسيف يسائل نفسه ماذا عساه يفاتحه به، وماذا يمكن أن يقع بينهما بعد ذلك التحول السريع الذي نزعهما من النزال العنيف. والتفت نفيل إلى سيف عندما بلغ رأس الربوة، واستقبل وجهه بنظرة طويلة وأشعة القمر المائلة تسطع عليه، ثم وضع يديه على عضديه قائلا: أي فتى لو قتلتك!
وكان في صوته هزة، كأنه صياد يتأمل شابا من الوعول ويعجب بمحاسن أعضائه.
فتبسم سيف هادئا وقال: ولو قتلتك لفاتتني بقية حديث أود سماعه.
وكان في صوته نغمة من التحدي.
فقال نفيل وهو يرفع يديه عن الفتى: أي أقدار تجمعنا هنا! ما زالت هذه الأقدار تعابثني ولا تبالي أين تلقي عبثتها. هكذا ألقت بأبيك يوما في سبيلي.
فقال سيف في اهتمام: أكنت تعرفه ؟
وانصرف نفيل عنه كأنه لم يسمعه، فذهب إلى صخرة ناتئة في الربوة، وكان ما يزال يترنح سكرا، وجلس قائلا: أحس دبيب السن يا فتى. كنت لا أنهج في النزال هكذا. أتعرف هذه الفتاة من قبل؟
فقال سيف في غير اهتمام: أظنني رأيتها.
وقال نفيل: كأنك معجب بها.
فعجب سيف أن يسأله الرجل عن الفتاة في مثل ذلك الموقف، وأجاب في خبث: أظنني كذلك.
ونظر إليه كما ينظر إلى باب مغلق يريد أن يعرف ما وراءه، وقال: كيف كنت مع أبي مرة؟
فلمعت عينا الرجل وتحسس منطقته وقال في حنق: يا للشيطان، أين خنجري؟ وحق مناة إن لك مع الأقدار شأنا.
فقال سيف ساخرا: لقد نسيت خنجرك هناك.
فقال نفيل في كراهة: سقطة أخرى. أنت لا تضمر غدرا.
فقال سيف باسما: نحن في الشهر الحرام يا أبا حبيب. ولكن ما لنا نتحدث هكذا؟ هذه أول مرة ألقاك فيها، وكنت أود لو رأيتك قبل هذا.
فقال الرجل في جفاء: اجلس أيها الفتى حتى أجمع نفسي في حديثك.
وكان صوته الأجش ينم عن نفس متحركة. وجلس سيف مستندا إلى صخرة، والرجل يتبع حركته في اهتمام، ثم قال له بعد لحظة: لم تكن هذه المرة أول مرة رأيت فيها الهواء يقطر دما.
وكانت الخمر ما تزال تفور في صوته وتفوح في أنفاسه، ومضى يقول: إذا فأنت تحبها يا بن ذي يزن. لو علمت أنك ابنه ... كنت أسمع صوتا يصيح بي: اضرب، اقتل، بغير أن أعرف، ولو عرفت ... ويل لشيطان الجحيم! ما شعرت في حياتي خزيا كما شعرت الليلة. وأمامها؟ أمام تلك الهرة الوحشية؟ هكذا شعرت يوما منذ عشرين عاما عندما كان ينازلني شاب مثلك وكنت أنا شابا كذلك، كان كل منا يريد أن يفوز بها. ألست تقول أيضا إنك تحبها؟ دع هذا الحديث فإنه يحرج صدري. ويل للشيطان، فإنه تخلى عني مرة ثانية، ووجدت يدي ترتعش بالخنجر كما اهتزت من قبل.
وضحك ضحكة مزعجة، ثم وضع مرفقيه على ركبتيه وأسند بهما رأسه حينا، ثم رفعه قائلا: لست أبالي أيها الفتى ما تظن بي، فلست مخمورا كما قد تحسب، ولم تدركني بعد الشيخوخة كما قد يذهب ظنك. إن نفسي هي التي خانتني هذه المرة أيضا، كانت تقف من ورائك، ولو رميت خنجري فلم يصبك لوقع في صدرها هي. كنت أريد أن أبقي عليها حتى أغمد خنجري في صدرها عمدا وهي ترتعد في قبضة يدي.
وكان سيف ينصت إليه وهو بين العجب والازدراء، أهذا نفيل بن حبيب؟
ومضى الرجل قائلا: لا تسخر مني أيها الفتى في سرك، وإن كنت لا أبالي سخريتك، فإني مستعد لمنازلتك مرة أخرى أمامها وإن كنت لا أريد قتلك. كان خنجري تحت قدميك ولم ترده إلى صدري. قل ما شئت في سرك، فإن كرهي لك أشد من حقدي القديم على أبيك. بل إني أمقتك وأمقتها، ولو كان خنجري معي الآن لقذفته عليك ولم أخش أن يقع في صدرها. أنت شاب في ربيع الحياة وأنا شيخ في الخمسين؛ أليس هذا ما تقوله لنفسك؟ كان أبوك يشبهك، أو أنت تشبهه في هذا الرونق الذي أراه عليك؛ ولهذا فاز علي في المنافسة. لست في حاجة إلى التوسل عند النساء بجاه ولا بمال يا بن ذي يزن. أعرفتك طليبة؟ لم أر من هذه الهرة الوحشية من قبل نفورا كما رأيت الليلة. أذلك لأنك كنت هناك؟
ووقف فجأة كأنه يريد أن يستأنف القتال، ولكن الفتى لم يتحرك، بل نظر نحوه ثابتا يترقب حركته. وعاد الرجل إلى الجلوس في عنف، وأسند رأسه على يديه وانفجر باكيا.
وامتلأ قلب سيف شعورا بالخيبة يشوبه شعور آخر من الرثاء. كان يتمنى أن يعثر يوما بنفيل بن حبيب الذي يتحدثون عنه في كل واد كما يتحدثون عن بطل أسطورة، ولكنه رآه آخر الأمر مخمورا يسخر من سنه، كأنما هو أحد صعاليك الخلعاء، لا شيخ فرسان خثعم، ثم ينتهي به الأمر إلى أن يخلط ذلك التخليط في أقواله ويتهالك في ختامها باكيا، كأنه طفل أو فتاة بائسة. أهذا نفيل بن حبيب؟!
ولم يدر أينصرف عنه فيكون ذلك آخر العهد به؟ أم يبقى حتى يرى المهزلة إلى ختامها؟ ورفع الرجل رأسه بطيئا ومسح عينيه وقال في صوت كسيف: ماذا كنت تقول لي آنفا؟ أظنك سألتني عن أبي مرة.
ونظر سيف إليه وهو يحس نحوه انجذابا يشبه انجذاب من يرى أعجوبة، ثم قال له: نعم سألتك عن أبي، وتحدثت لي عنه.
فوضع نفيل يده على جبينه ثم قال: لا شك أنك كرهت ما قلته لك. كلهم يكرهون ما أقول إذا استولت الخمر على لبي، أما أنا فلا أذكر شيئا سوى خيال غامض من صور متفرقة. إني أعتذر إليك يا سيف مما لست أعرف، فإني لا أذكر ما قلته لك. لست أدري ما ذلك الذي يلتبس بي إذا سكرت.
وكان صوته عند ذلك صافيا ونظرات عينيه هادئة، واكتسى وجهه مسحة من سماحة، وعاد فاتكأ على مرفقيه شاخصا ببصره إلى الأفق الأغبش، وقال كالحالم: هي أيام مضت وتباعد العهد بها، أتأملها في هذه الساعة كما أتأمل صورة صاحب سايرته حينا في مفازة، ثم ثرت به في ساعة لعبت بها الخمر برأسي فقتلته ودفنته في الرمال وخلفته وراء ظهري، لا يعرف مقره أحد غيري، فإذا ذكرته يوما ملأ الأسف قلبي وشعرت بالجريمة، فلا أجد مفرا منها إلا بأن أنسى. لست أحب أن أكذبك، وحسبي ما كان مني. عرفت أبا مرة منذ كنا شابين نتنافس على ما يتنافس الشباب عليه، وكان أبرع مني في الرماية والفروسية، وأقوى مني في المصارعة والمسابقة، وكان فوق ذلك أحب إلى الفتيات مني. ولست أحب أن أطيل عليك، فإن قلبي كان يتقد منه غيرة؛ لأن فتاتي تعلقت به، وإن كان هو متعلقا بابنة عمه. لم يكن له ذنب سوى أنها أحبته، وكان ذلك كافيا. فلم يقف بي الحقد عند غاية، ولم أتورع عن شيء في منافستي. وأقبلت على الخمر في شراهة وحنق، وعرفت بين الناس بأنني عربيد، لا تؤمن وثبتي إذا أخذ الشراب مني. اقترب مني يا سيف، فإنني إذا أعليت صوتي شعرت بقشعريرة ، ويخيل إلي أن أشباحا ترقص في ضوء القمر. كم قتلت من الناس في هذه الثورات بغير وعي مني، حتى ملني الصديق وتبرأت مني عشيرتي من خشية ما أجره عليها من جرائري.
وانحدرت إلى هوة عميقة مع خنجري الذي رأيته، كم قذفت به إلى صدر عدوي، وكنت أحس نشوة من الفرح كلما أصاب قلبا، كأنني صائد يحس السرور عندما يصيب صيدا. لم يخني ذلك الخنجر إلا مرتين، وهذه الليلة إحداهما، أما الأخرى فكانت عندما كنا نحارب أبرهة. كان أبوك عائدا من موقعة منصورة، وأوقدت النيران ونحرت الإبل ودارت علينا الخمر احتفاء بالبطل الظافر، ووجدت نفسي أكثر من الشراب، وكانت النيران تلتهب في صدري من الحقد، فلما أخذ الشراب مني عربدت عليه - على أبي مرة - في أقوال لا أذكر منها حرفا، وانقلب السامر إلى منازلة عنيفة، وقذفته بخنجري رمية كادت تخترق صدره، ولكن يدي خانتني. وكانت تلك الليلة فاتحة الهاوية. أتسمع يا سيف؟ تخلى عني قومي ولم أجد لي صديقا، وشعرت بوحشة زادت قلبي غليلا، فانقلبت على قومي، وساعدت أبرهة. أتسمع قولي؟
وكان سيف يكبح نفسه قسرا. ومضى نفيل قائلا: وانتصر أبرهة، فشعرت بشيء يشبه السعادة عندما عدت إلى قومي سيدا على رغم أنوفهم. وعرفت أن أباك جرح في المعركة وتسلل هاربا في الليل يهيم على وجهه، فالتهب الفرح في قلبي.
ثم تبين لي بعد قليل أنني صرت عبد أبرهة. نعم، عرفت أنني بعت حريتي بحقدي، فاستعنت على النسيان بالخمر أعب منها حتى أنسى، ولكن قلبي كان ينطوي على حقد آخر من عبوديتي لأبرهة، فأطلق السكر أقوالي تفوح بما في نفسي.
فلما ذهبت إليه يوم عزم على الخروج إلى مكة ...
وضحك ضحكة جشاء حتى ظن سيف أنه يعود إلى تخليطه، ولكنه قال في هدوء: قلب لي أبرهة ظهر العداوة، وخاطبني كما ينبغي للعبد أن يخاطب. وخرجت من عنده وأنا عازم على استرداد حريتي. ولكن ... ولكن قومي لم ينسوا، أتسمع؟ تخلوا عني وتركوني في المعركة مع حفنة من عشيرتي أمام جنود أبرهة، ونجوت بنفسي من حراب الحبشة بأعجوبة، وتسللت في الليل أحس المطاردة من ورائي.
ثم وقعت أسيرا، وذهبوا بي إلى أبرهة، وهناك وجدت زميلا استسلم قبلي، أتسمع عن ذي نفر؟ كان الشيخ يحسب أن مناة تنصره، فلما رأيته هناك عاد حب الحياة يملأ نفسي. ولست أدري أأنا الذي خدعت أبرهة أم هو الذي خدعني؟ فاستنجدت بالشيطان ورضيت أن أعود عبدا لأبرهة وأكون دليله، أدبر له المكائد في حرب قريش.
ولما بلغت مكة ورأيت الكعبة تحت بصري، صاح قلبي قائلا: «اضرب ودمر واقتل.» وتمنيت لو رأيت الكعبة ذليلة محطمة وقد نقضت من أساسها حجرا حجرا، وتصورت ذل قريش أمام أبرهة، وتصورت ذا نفر عندما تقع عينه على أصنام مناة واللات والعزى معفرة في الرمال، والتهب صدري شماتة. كان كل العرب أعدائي؛ لأنهم جميعا يتخلون عني.
ثم رأيت رجلا لم أر مثله في حياتي، رجلا شعرت عندما لقيته كأنني طفل إلى جنب أبيه. لم أكن أومن بشيء من تلك الآلهة الصماء، ولم يكن في صدري مودة لأحد، ومع ذلك حدثت الأعجوبة. ألم تسمع بعبد المطلب بن هاشم؟
فقال سيف: بلى يا نفيل، وأظنه منا.
فقال نفيل ضاحكا: تقصد أن أمه خزرجية؟ إنها قرابة بعيدة لم أذكرها. ولكنه فتح قلبي بصوته العميق عندما رحب بي قائلا: «يا ولدي!» ولم يقل لي: «أيها الخائن.» وأخذ بيدي وطاف بالكعبة، وجعل يحدثني قائلا: «يا بن أخي.»
وأطرق نفيل حينا كأنه ينتظر حتى تهدأ نفسه، ثم استأنف قائلا: وقال لي الشيخ: أحقا جئت مع هؤلاء لتهدموا الكعبة؟
فقلت له متحديا: هي كومة من حجارة.
فقال الشيخ: وما بقاء العرب إذا انتصر أبرهة على قريش؟
فقلت له: أتهلك نفسك وقومك؟
فقال الشيخ في حدة: وإذا لم نهلك اليوم أما نهلك غدا؟ وماذا ينتظرنا إذا لم نهلك؟ أليست هذ العبودية؟ لا يا نفيل. ما هكذا ينبغي لك أن تقول. بل قل: إن العبودية شر من الهلاك.
ووقعت كلماته في قلبي كأنها أسنة حراب لا وخزات لوم. وانصرفت إلى نفسي أنظر إليها مكشوفة، فإذا هي نفس عبد آثر الحقد والحياة على الحرية والكرامة، وتواريت عن نظرات الشيخ وهو ينتظر إجابتي، حتى قال في صوته الضخم: عد إلى أبرهة يا نفيل وقل له جوابي.
فقلت له في دفعة: بل أبقى ها هنا، سأبقى مع قريش، سأحارب معكم يا أبا عبد الله لعلي أقتل في المعركة. سأحارب من أجل هذه الكعبة وإن كنت لا أومن بآلهتها.
فقال الشيخ: لسنا نحارب من أجل الكعبة ولا من أجل الآلهة، ولسنا نعبد الحجارة كما يزعم أبرهة. أترى العلم في المعركة يا نفيل؟ أيعبد حاملها الخرقة التي في يده؟ هكذا نحن مع هذه الكعبة التي بناها آباؤنا، إنما هي علم العرب الذي يجتمعون تحته. وما هذه الآلهة الكثيرة سوى رموز تتجسد فيها أرواحنا، ويتمثل فيها إيماننا. نحن نخلقها لنتمثل فيها ما نحب وما نخشى، فابق معنا إن شئت أو اذهب إلى أبرهة إذا شئت، فلن يجيبك القوم هنا إلا بما قلت لك. ليس عندنا إلا الجهاد حتى تحكم الأقدار بيننا.
فقمت إلى الشيخ وقبلت يده، وعرفت أنني في حضرة زعيم.
وأحس سيف نحو نفيل رحمة خالصة، وقال في حماسة: وحاربت مع قريش؟
فقال نفيل: حاربت كمن يريد أن يغسل ذنوبه. حاربت كالمنبوذ الذي يوعد قلبا يأوي إليه، وعقدت لأبرهة عقدة لا يستطيع جني أن يحلها. أنا الذي حفرت له الحفرة التي تردى فيها.
وكان ينطق بحماسة فيها غضب، وفي صوته رنين الاستعلاء.
وسكت لحظة ثم قال في مرارة الخيبة: كنت أحسب أنني غسلت أدران الماضي فأعود إلى قومي ويعودون إلي. بل لقد بعثت إليك - إليك أنت يا بن ذي يزن - لأضع يدي في يدك. ولكن قومي لم ينسوا ولم يفتحوا لي قلوبهم في شعب غيمان.
فصاح سيف: يوم بعثت إلي؟
فقال الرجل: نعم، يوم بعثت إليك، وكنت أنتظرك عندما جاءت جنود يكسوم مع حناطة الحميري، ولقيت جند يكسوم كما لقيت جند أبرهة مع حفنة من عشيرتي.
وضحك ضحكة أخرى مفزعة ثم قال: تخلى قومي عني مرة أخرى.
فقال سيف حزينا: وأسر أبو عاصم؟
فقال نفيل: ألم يحمل إليك رسالتي؟
فقال سيف: لم أره إلا في أغلاله بين يدي حناطة.
فقال نفيل في حزن: أهذا هو الحديث الذي أردته؟ هذا أنا تراني أهيم على وجهي، لا أجد مخلصا إلا في هذه الخمر التي تمكن الشيطان مني، وهذه المعرات التي ألطخ بها شيبي.
فقال سيف: ألك في خطة أخرى؟
فقال نفيل: هيهات!
فقال سيف: بل تهب نفسك للحياة يا أبا حبيب. هب ما بقي لك من حياتك لغاية أسمى مقصدا وأكرم موردا. هبها لما هو أكبر من كرامة نفسك ومن حرية شخصك. هب نفسك للجهاد من أجل بلادك.
فقال في حزن: هيهات يا ولدي. إنها آثام أكبر من التوبة وأعمق من المغفرة.
فقال سيف: ليس من الآثام ما هو أكبر من التوبة والمغفرة. انظر إلى أعماق نفسك تجد علة الشقاء. إنك تنتظر الجزاء دائما، فاحمل نفسك مرة على العطاء بغير أن تتوقع الثواب. تحمل المشقة بغير أن تتمنى الجزاء. هناك سعادة أكبر من الجزاء ومن الثواب، وهي سعادة من يعرف أنه يجاهد ويشقى في سبيل غاية نبيلة. أتعرف أين أبي؟
فأجاب: أظنه عند كسرى. أظنه هناك ما يزال يأمل أن يعود يوما. إنه هناك يعرف أن أبرهة هلك وأن يكسوم يوشك أن يهلك.
فصاح سيف: أحقا؟
فقال نفيل: لم أكن لأنسى ثأري.
وقال كأنه يحدث نفسه: العطاء والجزاء، والحرمان والجهاد. ماذا تقول يا سيف؟
وكان سيف منذ سمع بنبأ يكسوم غاب في سبحة بعيدة إلى غمدان. أيهلك يكسوم حقا؟ ومسروق؟ أهو الذي يلقاه عند باب القصر إذا عاد إليه؟
وقال عندما تنبه إلى سؤال نفيل: ماذا تقول يا أبا حبيب؟
فقال نفيل: أعيد ألفاظك التي نطقت بها، كأنك تبعث الأمل إلى نفسي.
فقال سيف: أتسير معي؟
فقال نفيل: إلى أين؟ لست أحب أن أغرر بك في هذه اللحظة يا ولدي. إنني أحدثك في هذه الساعة ولست أدري ماذا أقول لك في بكرة الصباح.
فقال سيف: ماذا كنت تفعل لو قتل أبوك ظلما؟
فقال نفيل: كما يفعل الناس يا سيف.
فقال سيف: ألست تقسم ألا تذوق خمرا ولا تقترب من امرأة حتى تدرك ثأرك؟
فعلق نفيل بصره في وجه الفتى لحظة ثم قال: استمع إلي يا سيف: إنني أعرف من ضميري ما لا تعرف، ولكني سأبذل جهدي. وأضرع إليك أن تضع سيفك في صدري إذا وجدت ضميري يخونني.
سأسير معك يا سيف، وآليت لا أشرب خمرا ولا أقرب امرأة حتى أكفر عن آثامي. آليت أن أضع يدي في يدك وأن أحمي ظهرك وأفديك بنفسي حتى أبلغ عذري.
أتقسم أنت يا سيف؟
فقال سيف: علام أقسم؟
فقال الرجل: أن تضع سيفك في صدري إذا لمحت مني غدرا.
فقال سيف: لن تغدر يا أبا حبيب، ولن أضع سيفي في صدرك أبدا.
فقام الرجل يمد إليه يده في حماسة وشكر.
وكان القمر ينحدر إلى الغرب بطيئا متعبا كئيبا، عندما نزل الرجلان عن الربوة يقصدان نحو الخيام المظلمة، وذهب أحدهما إلى اليمين والآخر إلى اليسار يقصدان منزليهما، وكانا في طرفي السوق من جانبيها المتقابلين. وتواعدا على اللقاء أول شيء في الصباح.
الفصل السابع عشر
قال الراوي:
أخذ سيف يسير بطيئا من جانب الفضاء حتى لا يتعثر بين الخيام في الظلمة، وكانت السرادقات العالية تحجب نور القمر الهابط، فكان لا يكاد يتبين ما أمامه. وكانت أفكاره ما تزال تضطرب بصور الليلة الصاخبة؛ حانة النبطي، وطليبة، والخصم المخمور، والخنجر الخائن، ونفيل بن حبيب، وأي رجل ذلك الرجل الذي كان يتطلع إلى رؤيته في يوم من الأيام! أي رجل يجمع من أسرار الطبيعة أضدادها! الرجل الذي لا يعرف عدلا ولا اعتدالا، ولا يؤمن بإله ولا إنسان، ولا يطمئن في صداقة ولا عداوة. بل الذي لا يطمئن إلى نفسه في يمين آلى بها على نفسه؟ أيريده أن يغمد سيفه في صدره إذا هو حنث في يمينه؟ وخيل إليه أنه يحس قشعريرة في جسمه، كأنه يرى كائنا لم تنجبه الطبيعة. ثم خيل إليه أنه سمع صرخة مثل نعيق بومة، كأنها صرخة جريح وقع خنجر في صدره. ورفع بصره يقلبه في الفضاء الأغبش الذي يمسحه الضوء الخافت، وكان السكون عميقا والهواء ساكنا، لو رف فيه جناح خفاش لتردد له صدى. ثم عاد الصوت يقطع الصمت كأنه أنين مكروب يعاني خوفا في أعقاب مأساة خفية يكتمها. وبدا له شبح يقطع صفحة السماء وهو يتعثر في الرمال خائرا، ويقلع خطواته مترنحا، فثبت في مكانه يراقب الشبح في دهشة. أهي امرأة؟
كانت حقا امرأة تنطق حركتها بالذعر والثورة، ويبرق في يدها شيء كأنه سلاح، فأسرع ذاهبا إليها يدفعه شعور قوي أنه حيال قصة دامية. ولما خرج من ظل الخيام ووقعت عليه لفتة المرأة المذعورة سمع صرخة مكتومة، ورآها تجري هاربة وأقدامها تغوص بها ثقيلة. ثم خارت قواها ووقعت، فلم تحاول النهوض وبقيت في مكانها تنظر إليه خامدة، وتقاربت أصوات أنينها المكتوم الممتد، ولما صار على خطوتين منها جمع صورتها في نظرة، وقال في صيحة ذاهلة: أنت؟
وكانت طليبة تنظر إليه مكشرة عن أسنانها، وعيناها تلمعان في الضوء الضئيل بحدقتين واسعتين يتمثل فيهما الرعب والتحدي. كانت مثل ذئبة جريحة لا تستطيع حراكا. ولما استطاعت أن تميز وجهه قامت تتساقط حتى وقفت، وتبدلت صورتها من الذعر اليائس إلى الاستسلام، وتهانفت باكية تقول في صوت متقطع: أأنت هنا؟ ألم يقتلك؟
واقتربت منه وسقط الخنجر من يدها، فانغرز في الرمل قائما.
وقال لها سيف: ماذا صنعت؟
فقالت وهي تلمسه بيدها: أنت هذا حقا ألمسك بيدي.
وتهالكت على الأرض تقول في صرخاتها المكتومة: قتلته. قتلته بخنجره ثم جريت أبحث عن جثتك، حسبته قتلك. وكانت تنتفض مكبة بوجهها إلى الأرض تسند رأسها بذراعها.
ومرت على سيف لحظات طويلة، خيل إليه في أثنائها كأن الوجود استحال إلى هباء، لا يرى فيه ولا يسمع شيئا. ثم أخذ الموقف المحزن يتجلى له؛ فها هو ذا خنجر نفيل مغروز في الرمل، وهذه البائسة ترتجف تحت قدميه. أتسخرها الأقدار في هذه اللحظة لكي تنفذ مشيئته؟ أهذه النمرة الوحشية تعرف الندم والحزن حتى تبكي هكذا في حرقة تهز جسمها؟ وتمثل له نفيل وهو يمد إليه يده مصافحا، كان المسكين ينظر إليه بعينين ضارعتين كأنه يستنجد به على نفسه. أفي هذه الليلة يقتل نفيل؟ وغمره حزن شديد كأنه فقد صديقا عزيزا!
وقال في صوت مهتز: ماذا فعلت أيتها البائسة؟
وأخذها من يدها فأقامها، ومال على الخنجر فغاص به في الرمل حتى دفنه. هكذا حلت الأقدار العقدة بضربة حاسمة قطعت تلافيفها، وانتهت حياة نفيل. ماذا فعلت هذه البائسة؟ المجرمة؟ هذه الهرة الوحشية؟ أهي مجرمة في شرعة الحياة المطلقة من قيود الأخلاق ومن عرف البشر؟ كيف ينظر وحش الفلاة إلى قطة وحشية حملها الذعر على أن تنقض على زميل في الفلاة وتنشب فيه أظفارها وأسنانها؟ كان نفيل مثلها ذئبا أو ضبعا أو سبعا، يشق طريقه في الأرض معترفا بشرعة الحياة المطلقة. كان يهاجم ويدافع ويراوغ، ويفر ثم يكر ويتربص، ويثب عندما يتمكن، فإذا انتصر ومزق فريسته أطلق نفسه في فرحة ضارية يستمتع فيها بنشوة النصر، لا يفكر في رحمة ولا عدالة. وسار بالفتاة متجها إلى منزله، وأحس يدها البضة تشتد في قبضته متعلقة مستأنسة، وتقترب إلى ذراعه حتى أحس دفء جسمها. وكانت تسايره غير متعثرة ولا تجرر قدميها. أذهب عنها ذعر الجريمة؟ أم كانت هزة المعركة ثم انجلت عنها؟ وبلغ منزله وهو لا يهتدي إلى رأي فيما يظنه عدلا في جزاء فعلتها. وكانت خيامه قائمة على نشز صلب من الأرض، وفي وسطها فناء واسع تكدست فيه طرود شتى، ومن ورائها فضاء فيه مرابط الخيل والرواحل. ولم يجد أحدا من أصحابه هناك، وكأنه أحس ارتياحا لذلك، ولكنه مع ذلك عجب إذ يبطئ أصحابه عن العودة إلى مثل تلك الساعة.
وقالت طليبة وقد فطنت إلى دهشته: ذهبوا يبحثون عنك كما ذهبت أنا، أو لعلهم ذهبوا يبحثون عن جثتك عندما قلت لهم إن الرجل لا بد قاتلك. لم يره أحد في ركن من السوق بعد أن جاسوا خلالها.
فقال سيف: وكيف وجدته أنت؟
فقالت: ذهبت إلى منزله. نعم، ذهبت إلى منزله فقد كنت أعرفه أيها الفتى. لست أعبأ بما تظن. هم يشتهون وأنا أغوي، وهم يسخرونني لمتعتهم وأنا أسخرهم وأتمتع برؤية قلقهم، وتزيد متعتي كلما رأيت قلقهم يشتد عندما يعودون بالخيبة.
ونظرت إليه كأنها في موقف إغراء، ثم عبست وحولت عينيها كامرأة تستلهم طبيعتها، ثم قالت فجأة: لم جئت إلى هنا؟ دعني أذهب إلى الحانة لأقضي سائر ليلتي أرقص وحدي وأشرب حتى يطلع الصباح. سأرقص وأرقص حتى أعيا، وأشرب حتى لا أعي. فغدا لا رقص ولا شراب، وسيعلم الجميع أني قتلت نفيل بن حبيب، غدا يمزقونني إربا إربا، ولكني سأكون مخمورة.
ثم ضحكت حتى ظن سيف أنها لا تمسك عن الضحك، وأحس اشمئزازا كأنه حقا أمام أنثى من الوحش.
وفي مثل لمحة البصر وثبت وثبة فتعلقت في عنقه بيديها، وألقت رأسها على صدره وجعلت تتشنج منتفضة.
ومضت لحظة لم يدر سيف كيف كان يصف شعوره فيها، ولم يعرف ما تكون حركتها المقبلة، كأنما هي هرة وحشية حقا.
ثم انفلتت منه في وثبة أخرى، وأخذ تعدو على الرمال متعثرة، فاندفع سيف وراءها وأمسك بها قائلا: قفي هنا.
ثم ألقاها كما يلقي حشرة، فلم تحاول مقاومة. وعاد إلى الخيام فأتى بفرسين عليهما عدة السفر، وعاد إليها فقال: أتركبين؟
فوثبت خفيفة بغير أن تجيب، وسارت معه في صمت حتى بعدا عن مضارب الخيام واتجها نحو الشمال. وكان القمر يميل إلى الأفق، لا يزيد على حلقة حمراء خابية، والسكون لا يقطعه صوت حشرة. وعلا صوت حوافر الفرسين بعد قليل، فارتاح سيف إلى أنه خرج إلى أرض صلبة، لا يستطيع أحد أن يتبع أثرهما فيها.
ولكن قلبه كان كئيبا لفراق أصدقائه الذين ساروا وراءه في فجاج الأرض حتى جاءوا معه إلى عكاظ، وشاركوه في هذه الأعوام مخاطر المعارك التي خاضها على البر وفي البحر، يقفون إلى جنبه ويحمون ظهره في المآزق. أهكذا تحل الأقدار العقد التي يعقدها البشر بضربة واحدة قاطعة؟
وسار الراكبان في صمت وكل منهما يهيم في عالمه. كان كلاهما يضرب في الأرض شريدا وحيدا ، وسأل سيف نفسه: «أية دفعة هذه التي جعلته يفعل ما فعل؟ لم أسرع وراءها حتى أدركها؟ أهي جرفة أخرى ينساق فيها منهزما مع الحقائق عندما يصطدم بها؟ وخطرت له صورة أمه ثم صورة خيلاء. ماذا تقول ريحانة إذا رأته يسير مع هذه المرأة التي قتلت رجلا من الأشراف في الشهر الحرام؟ وماذا تقول خيلاء لو خطر لها أنه يخرج في الليل هكذا مع مثل طليبة؟ أيخطر لها ذلك؟» ونظر إلى طليبة، وكانت تسير هادئة إلى جنبه، كأنها اعتادت كل حياتها أن تصاحبه. أكانت تريد أن تعود إلى الحانة لترقص حتى تعيا وتشرب حتى لا تعي ثم تنتظر قضاءها؟ وكأن الفتاة أحست بما يجول في صدره، فصرخت صرخة فزع مكتومة كأنها رأت جلاديها يقبلون نحوها. وكان نور الفجر يطل رويدا رويدا من المشرق، والنسيم الذي يرف من الشمال في وجهيهما. وانحدرت الهضبة إلى واد فسيح معشب فيه نخلات تلوح في الجانب الآخر هادئة وسنى. ونظر سيف إلى وجه الفتاة، وكان لونه المصفر يخلع عليه رقة لم يرها عليه من قبل. المسكينة! وهمز فرسه نحو النخيل، وكانت الشمس تبعث أشعتها الأولى إلى السحب المتبرجة كما تفعل دائما.
ونزلا في جانب النخلات التي تقبع في فجوة إلى جانب الوادي، تحتضنها الصخور من ورائها وتنفرج عنها إلى منبسط أصفر من طمي ناعم فيه شقوق واسعة لطول عهده بالأمطار، وتنبت فيه أشجار من السيال والسنط، وأنواع من شجيرات شوكية وصبير. وكانت أعراش الحنظل تمتد خضراء يانعة كأنها رويت منذ ساعة، وتتعلق بها ثمارها الموشاة بالنقوش مستظلة بأوراقها. وخطرت لسيف صورة خيلاء في ملابسها البيض وهي مطرقة في هودجها تصلي ولا تلتفت إليه. أما كان في مثل هذا الركن الضيق مثوى سعيد لهما؟ ولكنها آثرت أن تذهب إلى الدير ولا تخرج معه في ظلمة الليل. أيخطر لها وهي هناك أنه في تلك الساعة ينزل مع فتاة مثل طليبة في جانب واد معشب وسط الصحراء؟ أم نسيته وانصرفت بكل قلبها إلى الصورة التي اختارتها؟ ماذا تقول خيلاء لو رأتهما هناك؟
ونظر إلى طليبة وهي تأخذ مجلسها مستندة إلى الجدار الصخري، وتمد رجليها ثم تغلق عينيها كما يلقي المسافر المجهد عصاه ويطلب الراحة. أنسيت كل ما مضى؟ أهي لا تسأله عما يكون بعد ساعة؟ إنها تستجيب إلى حاجة الساعة التي هي فيها كما يستجيب كل أمثالها من ضواري الفلاة.
وذهب إلى ناحية من جانب الوادي فاستلقى مستندا برأسه إلى صخرة، ولكنه لم يغمض عينيه. فماذا يقول أصحابه غدا؟ وماذا يقول أهل عكاظ من شتى القبائل عندما يرون جثة نفيل بن حبيب؟ لن يذهب ظن أحد إلى الفتاة الراقصة، بل ستذهب كل الظنون إليه هو. ألم يخرج معه من الحانة؟ ألم يغادر عكاظ في ظلام الليل هاربا بالفتاة التي نازل ابن حبيب من أجلها؟ ولكن ماذا كان يستطيع أن يفعل؟ أكان يبقى في عكاظ ليشهد عذاب الفتاة حتى تموت قطعة قطعة؟ كانت طليبة أمة، وما كان لها إلا أن تجد عقاب أمة قتلت سيدا من الأحرار. أمة؟ أمة مثل خيلاء؟
مسكينة خيلاء! هي الأخرى ذهبت إلى الدير لأنها أمة. ولو كانت مثل هذه الراقصة الشيطانة لاستطاعت أن تغمد خنجرها في قلب يكسوم، ولكنها لا تستطيع أبدا أن تسير معه في ظلام الليل مستسلمة هادئة، ولا أن تغمض عينيها هكذا في ركن صخري من الصحراء كما تفعل هذه الأخرى. وكان النوم يمسح على ملامح طليبة ويزيل عنها هي كل أثر من العنف، فتمثلت له في صورة طفلة سعيدة، أهي طليبة حقا؟ هي الحياة التي عنفت عليها وجعلت منها الراقصة الشيطانة التي تلمع عيناها في ثورة ويرتد رأسها إلى الوراء متحديا، ولا تبالي أي قضاء ينتظرها. وقام ينظر إليها، فرأى تمثال حسناء ناعسة، بل هي خيلاء القريبة التي قاست في حياتها الكوارث والمآزق، وعرفت العنف في أعنف مآتيه والبؤس في أبعد مهاويه. هي التي تقوى على صحبته وهو يضرب في القفر مقاتلا مستيئسا، يتعرض في كل خطوة لصراع الموت والحياة. ألا ما كان أشبه ملامحها بخيلاء! وكأنه أحس في قلبه حركة نحوها.
وفتحت الفتاة عينيها كأنها أحست وقع نظراته، وقالت باسمة: أليس معنا طعام؟
فذهب يلتمس شيئا مما حمله معه في الحقيبة، وكانت الشمس تسطع صاعدة في السماء على الوادي الخالي.
وتبسم في شيء يشبه السخرية عندما أدرك الحقائق التي تحيط به، لقد صدقت ريحانة عندما قالت له إنه يعيش في الخيال ويصطدم بالحقائق وينجرف معها. •••
وتقاذفت بهما الصحراء، وكانت طليبة امرأة طليقة كالوعل والذئبة، أو كالقطاة أو أنثى الصقر، لا تعرف قيدا إلا ما تحتمه عليها الطبيعة. كانت تجوع فتطلب الطعام، وتلتمسه أنى وجدته، وتحس بالبرد فترتعد، والحر فتطلب الظل، وتحب فتهب حياتها للحب، وتكره فلا تبالي أين تندفع مع كراهتها. كانت لا تعترف بالناس لأنها لم تعرف نفسها سوى بضاعة، يملكها الناس كما يملكون الرواحل التي تحملهم ثم يذبحونها. لم تحس يوما أنها إنسانة في جماعة من الناس، كانت سلعة توهب أو تباع وتشترى، أو داجنة تقتل إذا بدا لمالكها أن يقتلها.
واتخذها الناس متعة فرأت نفسها قينة ترقص وتغني. لم تعرف القيود، ولم تكن بها حاجة إلى القيود التي يقيد الحرائر بها أنفسهن. وماذا يجديها أن تقيد نفسها وقد أخرجها الناس من حدود العرف والشرائع والأخلاق. لم تكن تعرف الإحسان أو الإساءة، ولا الخير أو الشر، والفضيلة أو الرذيلة، ولم ينتظر منها أحد أن تعرف من ذلك شيئا. كان الحرائر ينزلن عن حرية الطبيعة لكي يفزن بحرية المجتمع، فماذا يحملها على النزول عن الحرية التي تهبها لها الطبيعة؟ كانت وهي إنسانة تنظر إلى الناس كأنهم من عالم غير عالمها. كانت الطبيعة هي التي توحي إليها وترفص فيها. ترقص مرحا أو حزنا، وترقص حبا أو كرها، وترقص أمنا أو خوفا، كانت ترقص بكل خلجة من خلجات نفسها؛ ولهذا كانت حياة الصحراء أقرب إلى طبيعتها.
ومضى عليها الخريف والشتاء وسيف يضرب بها في الأرض كأنهما آدم وحواء، لم يطلب سيف منها شيئا ولم تطلب منه شيئا، بل كانا يتقاسمان ما يجدان معا، ويطلبان ما يريدان معا، وكان سيف لا يجد مشقة في النزول بأحياء العرب يحتمي بجوارهم قبيلة بعد أخرى؛ لأنهم كانوا جميعا يعرفون سيف بن ذي يزن. وكان في كل يوم من تلك الأشهر التي مرت به في شعاب الصحراء يرى لونا جديدا من محاسن طليبة. لم ير منها في أول عهده بها إلا رونق شبابها، ولا يحس منها سوى أنفاس حواء، ولكن دقائق حسنها بدأت تتكشف له واحدة بعد أخرى؛ حاجباها الزجاوان، وعيناها الواسعتان اللتان تتوهجان. وكانت نظرتها أحيانا تذكره بنظرة خيلاء. ألا ما أقساها من ذكرى! كان أحيانا ينطوي على نفسه بعد نظرة منها، ويقضي ساعات طويلة في كآبة، ولكن طليبة كانت لا تعبأ أن تقول له في أثناء ذلك كلمة؛ كانت هي كذلك تنطوي على نفسها ساعات، فلا تحب أن يقول أحد لها كلمة. وهذان الخدان الأسيلان اللذان أشربتهما شمس الصحراء سمرة الخمر المعتقة، وهاتان اليدان اللطيفتان البضتان وأناملها الرخصة المستوية الدقيقة، وذلك القوام اللين الذي يخطر خفيفا فوق قدمين صغيرتين خلقتا لكي ترقصا رشيقتين. وكانت تلك المحاسن تبدو له في ألون شتى، إذا تنفس الفجر، وإذا سطع ضوء الشمس، وإذا احتجبت أضواؤها خلف السحاب، وإذا أظلم الليل ولاح شخصها في ضوء النجوم الخافت، وإذا غمرها القمر في الليالي الزاهرة. أكانت خيلاء تستطيع أن تسير معه هكذا ولا تسأله إلى أين يسير بها؟ أكانت تصادم الليل والنهار معه هكذا، لا تعبأ أين يطلع عليهما الصباح التالي؟
وانتهى بهما المسير إلى جبل أوراة، من أطراف نجد فيما يلي العراق، فأقاما هناك في جوار بني تميم، وكان سيف يتحسس المواضع في سيره البطيء كأنه يقصد إلى قصد، وإن كان قصده مائلا أمام عينيه في كل لحظة. أيستطيع أن يدرك أباه وهو عند باب كسرى؟ أما زال أبوه يحزن من أجل زوجه ريحانة وولده سيف؟ أيعرف أنها ولدت لأبرهة؟ أمات يكسوم حقا؟ فمن يلقاه إذن عندما يعود إلى صنعاء؟ أهو أخوه مسروق؟
وكان أوارة الأجرد يشرف عابسا على مروج خضراء باسمة خلفتها الأمطار التي توالت غزيرة في شتاءين متعاقبين . وكانت بطون الصخر ملأى بالمياه الصافية، وقيعان الأودية ما تزال تلمع بجداولها المتعرجة، فأقام سيف هناك يستجم أياما قبل أن يثب المرحلة الأخيرة إلى الحيرة، ليلقى بها الملك عمرو بن المنذر. وكان في مقامه بأرض تميم يتطلع إلى اليوم الذي يبلغ فيه المدائن، فلا شك أن عمرو بن المنذر اليمني يعينه على بلوغ باب كسرى. بل هو جدير بأن يغضب معه لليمن وما أصابها من ذل الحبشة؛ لأنه كان يمنيا من قبل أبيه اللخمي ومن قبل أمه هند بنت الحارث بن عمرو الكندي.
ولكنه وهو يوشك أن يغادر الصحراء كان يتمسك بالأيام الباقية كما يتمسك الظمآن يبقيه ماء بارد في كأسه. كانت الصحراء تغمره شعورا بالحياة، ولا تقيم بينه وبين نفسه حجابا، ولا تختلس من إحساسه شيئا من المتعة التي يعب منها مع طليبة.
كان يحيا هناك في كل لحظة من أيامه ولياليه، يحيا في أنفاسه وفي عطر الصحراء الوحشي الذي يتنافح إلى شمه، وفي الأصباح والأماسي وفي محاورة الوعول فوق الهضاب، وفي استقبال طليبة إذا آب من الصيد، وفي عبير شعرها الذي لا يمسه الطيب، وفي لين غصنها الرطيب ونغم صوتها إذا كركرت ضاحكة أو ترنمت بأغنية، بل في نومه العميق الذي لا يتخلله حلم. وكان يجلس مع طليبة عند النار بعد عودته من الصيد، يجهزان معا عشاءهما وهي تحدثه بين ضحكاتهما عما لقيت في يومها عند مورد الماء؛ إذ انقطع حبل دلوها فقضت نصف يومها تفتل حبلا جديدا، وتصنع من جلد الماعز دلوا لا يكاد يمسك الماء. وحدثته عن كلبها الضاري الذي كان يدع الغنم وحدها ليلحق بأرنب تسنح له، ثم يعود خائبا غاضبا. ولما نضجت القدر وفاحت ريح الشواء كان عشاؤهما شهيا، وأخذ سيف يصف في مرح حوادث يومه الصغيرة.
وقالت طليبة في غير مبالاة: أعرفت أن القوم يتحملون للسير؟
فقال سيف في دهشة: يتحملون للسير؟
فقالت هادئة: أنذروا بغارة من عمرو بن هند؟
فقال في دفعة: أتحجبين هذا الخبر عني منذ عودتي؟
فقالت ضاحكة: أأقوله وأنا جائعة؟!
وقام يلقي رداءه على كتفه، فقالت: إلى أين؟
فقال: إلى حاجب بن زرارة.
وكان حاجب سيد قومه بعد موت أبيه زرارة الذي كان صاحب عمرو بن هند لا يكاد يفارقه، حتى لقد أمنه على ولده أسعد بن عمرو ليقوم على تنشئته بالبادية. وكان أسعد يلعب يوما بقوس، فرمى ناقة في ضرعها، فجاء صاحبها التميمي وعدا عليه فقتله ثم هرب، فأسر الملك غضبته على تميم إعظاما لصاحبه زرارة، حتى إذا مات وجه جيشه إليهم ليقتص من قتل ولده.
ولكن حاجب بن زرارة لم يكن هناك، فإنه ارتحل منذ الصباح يضرب في الصحراء هربا من جيش عمرو بن هند. وكانت خيبة سيف عظيمة عندما عاد إلى طليبة يؤذنها بالرحيل من أواره، وسار في أعقاب الليلة بقلب ثقيل على درب العراق، لا يدري كيف يصل إلى كسرى.
الفصل الثامن عشر
قال الراوي:
خرج الناس ألوفا يتزاحمون في طرق المدائن عاصمة بلاد فارس، ينتظرون خروج كسرى أنوشروان العظيم من قصره ذاهبا إلى الميدان الأعظم الذي حشدت فيه الجيوش للعرض المنتظر. وكان في الميدان منصة عالية عليها بسط بديعة الصناعة ذات نقوش زاهية من صور الزهر والطير وصنوف الحيوان والوحش، أو مناظر فرسان يطاردون الصيد، والظباء الحائرة تعدو في ذعر، والسباع تفترس الأبقار الوحشية. وبثت فوق البسط وسائد من الحرير ذات ألوان شتى عليها نقوش بخيوط الذهب والفضة. وكان قائد الجيش الأعظم بابك بن البيروان يتكئ على المنصة في لباسه الحربي الفخم، تزينه حلية من الجوهر والذهب. وكانت الجموع المحتشدة تتجه بأبصارها نحو الطريق التي تهبط من ناحية القصر الملكي، تتطلع لرؤية الملك مقبلا في موكبه؛ ليعرض نفسه على القائد الأعظم بأنه الجندي الأول الذي يضرب المثل لطاعة الجندي لقائده. وكانت الجموع أخلاطا من فرس وكرد وعرب ومن أهل خراسان وسجستان وفرغانة، ومن الترك والديلم والكرج، يقفون جماعات وفرادى يتحدثون في لغات شتى تشهد باتساع دولة كسرى.
وكان سيف واقفا بين الناس إلى جوار شيخ عربي يلبس ثياب الفرس، ووجهه ينطق بالقلق الذي يساوره .
وقال سيف: أترى يخرج كسرى اليوم يا أبا عدي؟ أم نعود بالخيبة كما عدنا في اليومين السابقين؟
فقال الشيخ: لا أحسبه يتخلف اليوم، فإن القائد يأبى إلا أن يكون كسرى أول من يعرض نفسه. إنه بابك بن البيروان، وهذا شرطه أن يقبل القيادة.
فقال سيف: أحس قلبي يتقد يا أبا عدي، والأيام تمر بي كما مرت بأبي. لم تبق إلا هذه الفرصة فإما أن أنجح وإما أن أختصر انتظاري. أأبقى على باب كسرى حتى ألحق بأبي؟
فقال الشيخ مترددا: لا أظنك تستطيع أن تقترب منه يا ولدي.
فقال سيف: وماذا أبالي؟ سوف ألقي بنفسي نحوه وأقتحم هذه الجموع.
فأمسك الشيخ بذراعه قائلا: أما تحاول مرة أخرى؟ إما تنتظر عودة عمرو بن هند؟
فقال سيف: هذا آخر طوافي. أيقتلونني؟ إنه أحب إلي ...
وظهرت طلائع الموكب فقطع سيف قوله وتطاول بعنقه. وكانت الفيلة تسير في الصدر عليها سروج حمر منقوشة وحلية من الفضة فوق رءوسها وحول أعناقها. ثم أتت بعدها فرقة من الفرسان على جياد رشيقة تسير صفوفا كل منها في لون من الملابس، وكانوا جميعا في سلاح كامل: درع، وجوشن، وساقان من النحاس، وسيف، ورمح، وترس، ومنطقة، وطبرزين، وعمود، وجعبة فيها قوسان بوتريهما، وثلاثون نشابة، ووتران مضفوران معلقان في المغفر من وراء.
وكان كسرى على جواد أبيض له سرج من الحرير الأحمر، وعليه حلية من الذهب والجواهر، وكان في لباس الجنود له سلاح مثل سلاحهم. وكان الناس يخشعون له إذا مر بهم، وينحنون إجلالا فيما يشبه السجود، وغشي الميدان صمت رهيب.
وصاح المنادي قائلا: سيد الكماة كسرى!
وتقدم كسرى نحو المنصة بجواده فاستعرض للقائد الأكبر الذي كان متكئا على الأريكة، وعلا صوت بابك قائلا: إنك أيها الملك مثال لرعيتك في تقدير العدل الذي لا محاباة فيه ولا هوادة، فهلم إلى كل ما يلزم الجندي من صنوف الأسلحة فاعرضها علي واحدا فواحدا.
وأشار كسرى إليها على ترتيبها، فقال الشيخ القائد: أين الوتران من وراء المغفر؟
فبادر كسرى فتناول وترين وعلقهما وراء مغفره .
وصاح المنادي: الكمي سيد الكماة كسرى! أربعة آلاف درهم عطاء ممتازا.
وعلت صيحة إعجاب من الجموع عندما اتجه كسرى يشق الميدان.
وهمس سيف عندما اقترب الملك في موضعه: «انظر يا أبا عدي إلى وجهه»، وكانت لحيته البيضاء تحيط بوجه ينطق جلالا وقوة وهدوءا.
واستمر سيف: إن وجهه ينم عن نبل.
وهمس الشيخ: انحن يا ولدي حتى لا تثور الشكوك فينا.
فقال سيف: إنه يقترب.
وكان أول الموكب يمر ولم يبق بين الملك وبين سيف إلا خطوات، فاندفع فجأة واخترق الصفوف حتى وقف في صدر الجمع وصاح قائلا: أيها الملك العظيم!
ورن صوته في الصمت العميق، فالتفت الناس إليه، وعقدت الدهشة الألسنة، وخفق قلب الشيخ وهو يرى الحراس يبادرون إليه بسيوفهم، وجذب الملك عنان فرسه وقال بصوت جهوري: دعوه فليقترب مني.
وانفرجت حلقة الحراس وأخذ رئيسهم بذراع الشاب متقدما نحو الملك، وانحنى إجلالا.
وقال الملك: سلوه ماذا يريد.
ولم يفهم سيف ما قال، ولكنه أدرك من هيئته أنه غير غاضب.
فقال في خشوع: لي عند الملك مظلمة، لي عندك دين.
فقال الملك: أما من يفهم لسان هذا؟
فتقدم أبو عدي يصيح من بين الجمع بالفارسية: عبدك يا مولاي يعرف لسانه.
وانفرجت له الصفوف حتى انحنى أمام الملك قائلا: إنه يقول قولا جريئا يا صاحب العرش.
فقال الملك في دفعة: قله حرفا حرفا.
فقال الشيخ: يقول إن له عندك مظلمة، له عندك دين.
فلاحت بسمة هادئة على وجه الملك الشيخ وقال: إنه مضطر يخاطر بنفسه. سله عن دينه أيها الشيخ وله عندي الوفاء إن صدق.
فقال أبو عدي لسيف متظاهرا بالجفاء: الملك العظيم يسألك عن دينك؟
فقال سيف: أفي هذا الجمع؟ ما ينبغي أن يسمعني غير كسرى العظيم.
ونقل الشيخ قوله، فقال الملك: ما اسم الفتى؟
ولما سمع اسمه قال في صوت خافت: ذو يزن! ذو يزن! كأنني أذكر هذا.
وبسط سيف ذراعيه قائلا: أنت مثل قطر السماء أيها الملك تروي الجبال والسهول، ويعم فضلك القريب والبعيد. لا تصرف وجهك عني وافتح لي بابك حتى أطالبك بديني. بوعدك لأبي.
ولما نقل الشيخ قوله اتسعت بسمة الملك وقال: إنها حيلة أريب. إن له شأنا.
والتفت إلى كبير حراسه قائلا: خذه بالرفق حتى أراه إذا عدت. وسار الموكب بين ضجيج الجموع بالدعاء للملك العظيم الذي يقف للأجنبي الضعيف ويستمع إلى شكواه، ويأذن له في المثول بين يديه. •••
ولما صار سيف أمام الملك اتجه إليه باسما، وقال على لسان ترجمانه: إذن جئت تطلب دينك.
فقال سيف: عفوا أيها الملك، فإن الناس يتحدثون في كل مكان عن كرمك وعدلك ورحمتك. والمضطر يركب الصعب وهو عالم بركوبه.
فقال كسرى: أأمنت أن يقتلك جندي؟
فقال سيف: الهلاك أهون ما يخاطر به مثلي.
فقال كسرى: كأنني أسمع صوتا أعرفه. أعد علي اسمك يا فتى.
فقال سيف: ابن أبي مرة ذي يزن.
فصمت كسرى لحظة ثم قال لترجمانه: ألا تذكر اسمه يا وهرز؟
فقال الترجمان الشيخ: أظنه صاحب القصيدة يا مولاي.
فعاد كسرى إلى الصمت لحظة ثم قال فجأة: ذكرته يا وهرز، لقد صدقت يا فتى. كان لأبيك دين في عنقي، قل له إنني منجز وعدي.
وأشار بيده فأخذ كبير الحراس بيد سيف مترفقا حتى خرج به من الإيوان، وسيف يحس أنه لم يبلغ بعد مما أراد شيئا. كانت كلمة قصيرة ثم صرف من حضرة الملك ولم يسمع منه قولا، وخرج وهو يحس كأن الأرض تنهار من تحت قدميه، حتى وقف بالباب مع مئات من طلاب الإذن وأصحاب الحاجات. وخيل إليه أن قلبه يدمى. أهذا كل مبلغ أبيه عند كسرى؟ رجل أرسل إليه قصيدة؟ وضحك في نفسه ضحكة مرة وهو ينظر إلى الجموع الأنيقة التي تنتظر بالباب. أهكذا كان أبوه يقف كل يوم طوال السنين؟ وكان الناس يتحدث بعضهم إلى بعض وعيونهم تنزلق نحو حجاب الباب الذين يدخلون إلى الإيوان ويخرجون منه. كان كل منهم يتربص بفرصة يفوز فيها من أحدهم بكلمة، ثم يطأطئ رأسه احتراما وينصرف بغير أن ينظر الحاجب إليه. أهكذا كان أبو مرة ينحني؟ ألا شد ما لقي! وبدت له حياته كلها باطلة تافهة، وإن ميتة في معركة مجهولة في بطن فلاة لا يعرف أحد من أسرارها شيئا خير من أن تمتد به الأيام على مثل هذا. وسمع صوتا كأنه ينادي باسمه، فإذا حاجب يقلب نظرة هائمة في الوجوه ويقول: «ذو يزن.» فقام سيف من مجلسه وذهب إليه متلهفا. أيكون كسرى قد بعث إليه ليستمع إلى بقية حديثه؟ وذهب به الحاجب إلى حجرة فسيحة ذات نقوش بديعة على جدرانها وسقفها، وعلى جوانبها قطع من سلاح وتحف شتى، وكان في صدرها مجلس أنيق عليه بسط ووسائد، والشيخ وهرز يستقبله باسما. ونسي سيف في دهشته أن يحيي حتى انحنى الحاجب نحو الأرض، فأومأ سيف بانحناءة. وكان وجه وهرز مجعدا تعترضه أسارير عميقة تتخللها جراح، وشعره الأبيض يتوج رأسه ويطل من حاجبيه البارزين فوق عينيه. ونظر إليه سيف في إعجاب صامتا. وقال وهرز: لقد أعجبت الملك العظيم يا فتى، وها هو ذا دينك.
ثم أشار إلى الحاجب فحمل كيسا ضخما كان على الأريكة فقدمه إلى سيف، وفتح الشاب عينيه في دهشة ونظر إلى الحاجب ثم إلى الشيخ قائلا: أي دين هذا؟
فقال وهرز في ارتياح: هذه جائزة أبيك.
ومد سيف يده إلى الحاجب فحمل الصرة الثقيلة في شيء من العنف، ولم يقف لحظة ليقول كلمة، وكان يحس في صدره مرجلا يوشك أن ينفجر. ألهذا جاء إلى كسرى؟
وخرج من الباب حتى صار بين الجمع الذي ما زال يتهامس في البهو، ثم ألقى بالحمل الثقيل على الأرض، وأكب عليه يفتحه في حنق، ثم ضحك ضحكة جشاء وهو يدس يده في الكيس ويقبض قبضة ثم يصبها فيه ثانية. وصاح: إنه ذهب! إنه ذهب يبهر الأنظار المتطلعة.
وتعالت منه صيحات مجنونة قائلا: أيها الناس المتزاحمون هنا، إنه ذهب، فخذوا!
وأخذ يقبض القبضة منه وينثرها لا يبالي أين تتساقط. ومضى في صيحاته: أيها الأنذال البواسل الذين يتطاحنون من أجل الذهب، خذوا! إنه ذهب أيها العظماء الأذلاء، خذوا! أيها العبيد السادة، أيها السادة العبيد خذوا ! إنه ذهب. أيها الذين تبيعون أنفسكم، خذوا! إنه ذهب. ها هو ذا الذهب أيها الحكماء الحمقى، وأيها الجشعون المهذبون، وأيها الأوغال الظرفاء، خذوا جميعا، هذا هو الذهب فاملئوا به عيونكم وأسعدوا به عبوديتكم.
ووقف الناس يستمعون إليه ولا يفهمون ما يقول، وتزاحم كثير منهم على الذهب المنثور في دفعة شرهة، وجعلوا يلتقطون ما يتساقط منه في ضجيج وعنف، حتى أفرغ سيف ما في الصرة ووقف يتأمل الصراع العنيف من أجله، وضحكته المضطربة ترن فوق ضجتهم العالية.
وخرج من البهو كالأعمى يتصادم بالأقدام والصدور، حتى صار خارج القصر، ثم وقف يتأمل الطريق لا يدري أين يتجه. وإذا صيحة تعلو من ورائه في أصوات مختلطة وألفاظ لم يفهم منها شيئا سوى أنها حانقة، وامتدت إليه أيدي حراس القصر تعود به في غلظة نحو الإيوان، حتى وجد نفسه أمام كسرى، وكان ينظر إليه عابسا، وقال له على لسان وهرز: ماذا فعلت أيها البائس بجائزة الملك؟
وأحس سيف كأنه خرج من مأزق، واستعاد الأمل بعد أن كاد ييأس. فماذا يفعل به كسرى؟ أيقتله؟
وقال هادئا: وماذا أصنع بها أيها الملك؟
فقال الملك في دهشة: ألم يكن ذهبا؟
فاندفع سيف قائلا: كم من فقير يتلوى في هذه الساعة من الجوع أيها الملك، ولو وقعت في يده منه قطعة لطلعت عليه السعادة. ولكم تزاحم الواقفون عند بابك عندما نثرته عليهم وامتلئوا به غبطة.
فقال الملك غاضبا: أتسخر أيها الأعرابي؟
فقال سيف: عفوا أيها الملك، إنك تملأ الأرض بعظمتك وحكمتك، ولا يمكن أن تسمو إليك سخرية، ولكني لم أقصد بابك من أجل الذهب. فلو شئت ذهبا لوجدته في معادن الأرض ترابا خسيسا، تطؤه الإبل في سيرها في الصحراء، فقطعة من الحديد خير عندي من هذا الذهب، أتخذ منها سيفا أضرب به عدوي، أو درعا تحمي صدري، أو لجاما أمسك به جوادي، أو مسمارا يدق في سفينة.
فقال الملك: أنت تحرج صدري بثرثرتك. فيم جئت إذا لم تكن طالب جائزة؟ فيم جاء أبوك هنا؟
فقال سيف: لم يجئ أبي من بلاده يطلب جائزة أيها الملك العظيم، ولست أعرف أنه يقول الشعر، ولكنه إذا قال شعرا فذلك لكي يستعطف قلبك على غاية أسمى.
فقال الملك في جفاء: كان ذلك من سنين طويلة، وأظن أمك لن تخبرك بهذا أيها الفتى.
وتحرك قلقا.
فقال سيف: أمي ريحانة بنت ذي جدن، سليلة بيت تبع ملوك اليمن، ولم يكن أبي شاعرا بل أميرا يطلب ملكا، جاء إليك لأن الأحباش غلبوا على بلاده ونزع أبرهة زوجته، جاء إليك يطلب نصرك على الظلم وعونك على من يستعبدون الأحرار، وقد جئت لأجده فوجدته هلك عند بابك وهو ينتظر وعدك! أليس هذا دينا؟ جئت إليك أطلب النصر لا الذهب، وألتمس الشرف لا الغنى. إن فارسا واحدا من ذوي النجدة أسند إليه ظهري في القتال أحب إلي من كل ذهب الدنيا.
وكان سيف يتبع حركة وجه الملك وهو ينفرج من عبسته حتى بدا عليه الارتياح والسماح، وقال له: تقرب أيها الفتى وقل ممن أنت.
فقال سيف: أنا ابن ذي يزن الحميري، ليس لي مال، ولكن قومي يعرفونني. ولولا بطش الأغربة بالناس وإيقاع الفرقة بين السادة بالرشا والإفساد لوقف الجميع ورائي.
فقال الملك: الأغربة؟
فأجاب سيف: نعم الأغربة، هؤلاء الأحباش الذين أذلوا عز اليمن وأزالوا مجدها. فهلا نصرتني أيها الملك فتكون إحدى حسناتك عند أمة تعرف الجميل؟ إن كرمك وفضلك وعدلك تحملك على أن تنصر المظلوم وإن لم يستنصر بك، فكيف وقد جئت إليك أناديك باسم أمة؟
وسكت كسرى مفكرا، ثم التفت إلى وهرز فحادثه حينا قصيرا، ثم التفت وهرز إلى سيف قائلا: سينظر الملك في الأمر أيها الشاب فالزم بابه.
فقال سيف: ألم يفرغ الملك من النظر في الأمر منذ وعد أبي؟ لست أطلب نصره مبتدئا، بل أستنجز وعده، اليوم قبل الغد، فإن الحبشة تمهد هناك لقيصر. هناك مضيق البحرين الذي يفضي بالسفن إلى الهند وسواحل فارس، وهناك الأودية التي قد تمد جنود الروم بما تشاء من الخيرات. وهناك فرسان العرب الذين يكونون عليك إن لم يكونوا معك .
وكان الملك ينصت إلى سيف في دهشة وقال له: كم سنك يا سيف؟
فقال: سنوات طويلة من الفكر والهم والحزن والحنق، سنوات طويلة من المصادمة والمقاتلة والتشريد. عرفت الناس وما فيهم من ضعف وقوة، وعرفت بعض نفسي أيها الملك، وبعض ما أضمر من خير ومن شر. سنوات طويلة، وإن شئت فقل سنوات عريضة، تكشفت لي الحياة خلالها عن أصدق ما فيها، وأجمل ما فيها، وأبشع ما فيها. هذه هي سني أيها الملك الحكيم، زادك الله حكمة.
فتبسم كسرى بغير تحفظ، والتفت إلى وهرز فحادثه حديثا آخر أطول من حديثه الأول، وكان في نبرات صوته حرارة.
وقال الشيخ: يقول لك الملك لا تبرح بابي حتى يتخذ في أمرك عزما، لا تغب عن الباب غدا وبعد غد، وما يلي ذلك حتى يوفي لك دين أبيك.
وحيا سيف تحية شكر صادقة وخرج من الإيوان كأنه يسبح في الهواء، وأسرع إلى داره الصغير في أرباض المدائن بجوار بيت الشيخ أبي عدي.
الفصل التاسع عشر
قال الراوي:
كان القمر يضيء الليلة التي تسبق المعركة بعد أن مضت أيام الهدنة العشر، التي جاد بها مسروق على الكتيبة الضئيلة التي جاءت من فارس تغرر بنفسها إلى شاطئ اليمن وتتحدى جيشه العظيم.
وكان الشط الممتد على الساحل لا يزيد على شريط ضيق نزلت الكتيبة الصغيرة على لسان منه يحيط به البحر من جوانبه، وتطل عليه الهضبة الفسيحة منحدرة نحوه في سفح صخري تشقه أودية صغيرة. وكانت جوانب الأودية تبدو أمام صفحة السماء ضروسا مسنمة، مثل أمواج تتلاطم عند شاطئ وعر.
وكان وهرز القائد الفارسي في خيمته على ربوة في الطرف الأقصى من المعسكر على الشط، ينتظر الغد في هدوء، ولا يبدي شيئا من القلق الذي كان يثقل قلوب جنوده. كان وجهه المجعد لا ينم عن حركة من جزع أو رجاء، كأنه لم يفجع منذ يومين في أعز أبنائه عليه (نوزاذ). وكان جسمه الضخم، ومنكباه العريضان، وذراعاه اللتان يغطيهما الشعر الكثيف، وصوته الجهوري العميق تجعل حوله هالة أسطورية، كأنما هو أحد أبطال قصص رستم وأسفنديار التي كان الناس يستمعون إلى إنشادها في مواسم عدن وصنعاء وفرسان. وكان جبينه العريض تشقه خطوط من أخاديد وندوب جراح عميقة، وشعره الأبيض يكلل ويصبغ شاربه الغزير وحاجبيه البارزين اللذين يتدليان على عينيه.
وكان سيف يقبع وحده في خيمته، والهواجس على عادتها تتزاحم عليه كما لم يزدحم حوله جمع صاخب. وكلما هم بالذهاب إلى الشيخ ليحدثه عن معركة الغد تردد ولم يجد في نفسه جرأة، فماذا يقول له والمعركة تبدأ إذا طلع الصبح، وليس معهما إلا ستمائة جندي من الديلم، هم بقية الجيش الصغير الذي بعث به كسرى لينصر أهل اليمن على الأحباش؟ وكان يحسب أن قومه يسارعون إليه إذا ما سمعوا بمقدمه، ولكن رسله الذين بعثهم إلى أودية حمير لم يعودوا إليه، وقد مضت الهدنة وستبدأ المعركة في الصباح. فكان في خيمته الصغيرة يجادل نفسه في حنق وضيق يكادان يقذفان به إلى اليأس. أمن أجل هؤلاء الذين كانوا يدعونه ويستفزونه في حماستهم الجوفاء خرج يضرب في الآفاق كل تلك السنين؟ وهل من أجلهم قاسى ما قاسى من مخاطر البر والبحر؟ فلما عاد يدعوهم كان جنود الحبشة أسرع منهم إليه؟ وكان كلما رفع بصره إلى الهضبة الواسعة أحس قلبه يغوص في جوفه؛ إذ كانت عيناه لا تكادان تبلغان طرفي المعسكر الحبشي العظيم. وكانت حسرته تشتد كلما تذكر أن ذلك الجيش الذي جاء يحاربه، كان يضم جموعا من فرسان القبائل التي جاء يخلصها من الأحباش، وكلما تمثل معركة الصباح امتلأ قلبه غيظا؛ لأنه سيقف مع حفنة من جنود الديلم في وجه هؤلاء الفرسان الذين كان يدعوهم قومه، وقد جاءوا ليضربوا وجهه وليرجعوه بالخيبة، فلم يبق له إلا أن يقتحم صفوفهم حتى يشيط في رماحهم، ويختم حياة ضل بها الخيال.
وتذكر حديث كهف ينور وصاحبه الشيخ، وعزيف الريح العاصفة التي كانت تدوي بين الجدران، كأنها تعيد عليه نبوءة الساحرة، وخيل إليه أن الهضبة التي تمتد من فوقه تثور بزوبعة ذات برق ورعد وسيل، وأن من تحتها حشدا عظيما من العقارب والأفاعي. أهذا كل ما تحقق له من النبوءة؟ أهكذا غررت به الأوهام حتى عاد إلى أرض اليمن بعد تلك السنين المضطربة؛ ليستمع إلى سخرية الحقائق؟ وكان الحنق على نفسه يتزايد كلما أوغل في الفكر، بل لقد أحس لأول مرة بشيء يشبه الحقد على صديقه الحكيم أبي عاصم، وخيل إليه أنه شارك في تضليله بتلك الأحاديث التي كان يحشوها بأوهام الشمس المشرقة، وحكمة المقادير وكرامة الحياة. وتمثلت له اللعنة التي حادثته أمه عنها يوما، فها هو ذا مرة أخرى يهيم في الخيال، ثم تجرفه الحقائق إلى حيث لا يدري. وطن في نفسه شيء يشبه وقع حوافر خيل على الأرض الصلبة، أتكون هذه رسله عادت إليه بالبشرى؟ أم تكون طلائع قومه جاءوا يعتذرون عن تأخر أصحابهم؟ وقام خارجا يتطلع إلى السفوح المضرسة التي كانت تبدو أمامه بعيدة راكدة موحشة، ولكنه لم يجد عليها شيئا سوى الصخور الوعرة الناعسة.
وذهب وهو متردد إلى خيمة الشيخ (وهرز)، يريد أن يهرب من الخلوة المزدحمة التي يضيق بها، وكانت قبضة صدره تتزايد مع كل خطوة، ويحس كأنه ارتكب جرما مع الشيخ الباسل. ألم يقل له في ثقة رعناء إنه سيبعث إلى قومه، ولا يشك في أنهم يأتون إليه سراعا؟ وكان وهرز وحده يضفر بيده أوتارا من معى الوعول، وقوسه إلى جنبه تعترض الخيمة من مداخلها إلى أقصاها، وكانت من عود غليظ لم تقع عينه من قبل على مثلها.
ونظر إليه الشيخ من تحت حاجبيه المتهدلين، وقال بصوته العميق: لم أرم بهذه القوس منذ سنوات.
وكان في صوته هزة من يترقب نشوة مطربة.
وكاد سيف يقول له: «أحقا نحارب غدا؟» لولا أن الشيخ وضع الوتر وقال في شبه مرح: غدا أنتقم لولدي.
وتناول القوس وأخذ يفحصها بيديه الضخمتين ليستوثق من سلامتها، ثم شد عليها الوتر وجعل يجذبه ويرسله، فيصدر عنه هزيم عال متجاوب.
وقال سيف في نفسه: أهكذا تحزن الآلهة على وحيدها؟
ونظر إليه معجبا. ذلك الرجل الذي لم يتردد أن يسير في مثل سنه في جيش عدته ثمانمائة من الديلم، ثم لم يجزع عندما غرقت منه سفينتان في الرحلة عليهما مائتان من رجاله، فلما نزل على الساحل القفر أحرق سفنه بما عليها من الأحمال حتى لا يترك في قلب أحد من جنوده ظلا من الأمل في الارتداد، ثم قال لرجاله: «ليس أمامنا سوى الانتصار أو الهلاك.» لم يسمعه سيف مرة يتأوه حزنا، ولم يقل عندما عرف أن الأحباش قتلوا ولده إلا أنه لقي جزاء من يتعرض للأعداء في مدة الهدنة.
وكان الشيخ منصرفا إلى سهامه يسوي الريش عليها، عندما هم سيف أن يقول له: «ألا نتستر بالظلام ونتسلل بين الأودية حتى يجتمع الناس إلينا؟» ولكنه لم ينطق بكلمة. ووضع الشيخ سهما أمام عينه مبسوطا ليرى صحة اعتداله، ثم قال: إنما هي جذبة واحدة أضع بها هذا السهم حيث أريد.
ثم لمس حاجبه قائلا: ليس يقلقني إلا هذا الحاجب المتهدل يا سيف، فإنه ينطبق على عيني، فلا أستطيع أن أثبت نظري كما أحب. أرني هذه العمامة يا ولدي.
وحل سيف عمامته وذهب إليه باسما، وقال: هذا تاجي.
وتبسم الشيخ قائلا: سأثبته على حاجبي يا سيف لكي يثبت من بعد على جبينك. أراك تحسن لف العمامة، فاعصب بها جبيني وحاجبي.
وكأنه عاد فتيا عندما أخفت العمامة تجاعيد جبينه، وتحسسها بيده قائلا: هكذا أحارب غدا.
ووضع السهم في كبد القوس وجذب الوتر، فطاوعته في بطء حين ملأ يده منها، وسدد سهمه وسوى نظره عليه لحظة، ثم قال: ليته الساعة تحت بصري! سأثأر غدا لولدي.
ثم أعاد القوس إلى استوائها وعضلات ذراعه تتقلص، كمن يضع حملا ثقيلا، ثم أقبل على سهامه يسوي الريش عليها في اهتمام.
وخيل إلى سيف مرة أخرى أنه يسمع وقع حوافر على سفح الهضبة، فذهب يشتاف الفضاء، وكانت السفوح الصخرية ما تزال هادئة تحت ضوء القمر، إلا من جوادين يركضان في عنف في مسيل واد ضيق، فأسرع نحوهما في لهفة. ولما رآه الفارسان وثبا نازلين، فقال أولهما: الأودية تسيل برجالك وراء الهضبة .
فوثب قلب سيف، وأسرع إلى وهرز كأنه يدخل صنعاء منتصرا، ورفع الشيخ بصره قائلا: ها قد فرغت يا سيف، ولم يزل في الليلة بقية.
فقال سيف في هزة: عاد رسلي!
وكان صوته ينم عن هزته.
فقال الشيخ هادئا: لن يحول شيء بيني وبين ثأري. أجاء قومك؟
فقال سيف: هم وراء هذه الهضبة.
فقال الشيخ: هم هناك حيث ينبغي أن يكونوا. اذهب الساعة إليهم يا ولدي وتريث بهم إلى الصباح.
فقال سيف في دهشة: أما كنت أتلهف في انتظارهم؟
فقال الشيخ: بل هم هناك أنفع لنا. سأبدأ الحرب وحدي، لا تفوت علي ثأر ولدي. سأرمي أول نشابة لأبرد بها كبدي، وسيرمي جنودي هؤلاء سهامهم من بعدي، فهذه السهام لا يعرفها أحد من هذه الألوف الكثيرة التي وراء مسروق. سيرون سلاحا يصيبهم بأيد لا يرونها، كأن الشياطين تبعثها، فإذا ما وقع الرعب في قلوبهم كان ذلك نصف النصر، وسأبدأ الزحف بعد ذلك بجنودي، فإذا ما بدأت المعركة صعدت أنت بأصحابك من وراء الهضبة، فتأخذونهم من خلفهم، وتكون مفاجأة قاصمة.
وهكذا فرغ الشيخ من خطة القتال في لحظة.
فقال سيف: أنحارب معا والهضبة بيننا يا أبا نوزاذ؟
فقال الشيخ: تلك خطة أخذتها عنكم يا سيف. ما كنت أخشى في حروبي إلا كمين العرب. ترقب من هنا صيحة تشبه عواء الذئب.
ولما ركب سيف ذاهبا إلى قومه صافح الشيخ في تأثر، وكان يسأل نفسه وهو سائر: كيف يشهد الشمس إذا أشرقت؟ •••
وطلع الفجر وكان البحر هادئا وأمواجه تتقلب ناعسة، وكان جيش الحبشة يطل من فوق الهضبة على الساحل الضيق الذي تعسكر عليه الكتيبة الصغيرة، وبدأ يستعد للهبوط عليها كأنه الصخرة العاتية تتقلقل للهبوط.
وقال وهرز وهو قابض على قوسه: أعيدوا لف عمامتي، فإن حاجبي يتهدلان ثانية.
ولما سويت العصابة على جبينه رفع رأسه قائلا: هكذا أبصر سهمي. فانظروا أين مسروق إذا بدأ زحفه.
وطلعت الشمس من وراء البحر فاترة، وكان مسروق يسير في طليعة الجيش على فيله الضخم وعليه حليته الثمينة، وكانت الخيول تتواثب رشيقة من حوله في نصف دائرة، وتمتد من ورائه الصفوف إلى غير نهاية.
ووقفت كتيبة الديلم في صف قصير تنتظر قائدها أن يرمي سهمه، وتردد جيش الحبشة حينا حتى نزل الملك عن فيله واعتلى فرسا أدهم، وكان على رأسه تاج يلمع بياقوتة حمراء في شعاع شمس الصباح. فلما صار عند أول السفح جذب وهرز قوسه قسرا، وسوى سهمه حتى أحكم تسديده، ثم أرسله يسبح في الفضاء كأنه يمد حبلا، فما هي إلا لحظة حتى اضطرب صف الفرسان والتف حول مسروق.
فصاح الشيخ صيحة يكاد من يسمعها يحسب أنه ذئب جائع، وعلت من ورائه صيحة من صف جنوده كأنها عواء قطيع من ذئاب، ثم رموا سهامهم في الجمع الكثيف الذي أمامهم بغير حاجة إلى تسديد؛ فتزعزعت صفوف الحبشة وتصدعت جموع الأعراب، حتى خيل إلى الشيخ أن العدو يتردد في زحفه ويوشك أن يرتد! ولكنها لم تكن سوى هزة، واستأنف الجيش الضخم سيره على السفح كما يتهاوى سيل من الحمم على جانب بركان.
وصاح وهرز صيحة أخرى مثل ذئب يعرس في فريسته، وعلت من ورائها صيحة جنده، ووقعت السهام مرة ثانية كدفعة من المطر الدافق، فتزعزعت الصفوف وتصدعت، ولكن الجيش لم يلبث أن استجمع وبدأ ينحدر سريعا.
وفي تلك اللحظة علت صيحة من وراء الهضبة، وتدفقت جموع من الفرسان خلف صفوف الحبشة، فتوقف انحدار السيل الجارف وتردد، ثم استدار في اضطراب ليلقى المفاجأة المفزعة.
وكان سيف في درعه المعلمة يتقدم الفرسان، ويضرب في عنف كأنه يصدع جانبا من صخرة، وأصحابه من ورائه ومن حوله يطحنون الصفوف المضطربة بسيوفهم ورماحهم وحوافر خيولهم؛ فلم يلبث الجيش العظيم أن تصدع، فذهبت قطع منه إلى اليمين وقطع أخرى إلى اليسار، ثم اختلطت الخيول العربية بالفلول الحائرة، وجعلت تحطم كل كتلة منها قطعا، ومرت ساعة طويلة في فوضى يحجبها غبار كثيف. •••
وعاد المطاردون آخر النهار ومعهم جموع من الأسرى وأكداس من الغنائم، ولم يبق من أثر المعركة سوى حطام يغطي السفح! أشلاء جنود وخيل، وقطع من سلاح ، ودماء متجمدة، وخدوش في الأرض، وحجارة مبعثرة. وكان مسروق مسجى بثيابه النفيسة المجوهرة، تلوثها بقعة من دماء داكنة اللون. ومالت الشمس إلى رءوس الجبال الجرداء، والبحر ما يزال هادئا كأنه بساط زبرجدي، تتواثب أشعة الأصيل على رءوس أمواجه الفاترة، كأن لم تهلك دولة في أثناء ذلك النهار.
واعتزل سيف على صخرة من الساحل، يحس في صدره قبضه كأن الملك لم يصبح بين يديه. لقد قتل حتى مل من القتل، وأسال دماء أعدائه حتى كره منظر الدماء، ورأى جثة أخيه معفرة في الرمال، وصدقت نبوءة الساحرة عليه. كأن هزيم الرياح كان يتنبأ له بها في كهف ينور، وها هو ذا جيشه المنتصر يضرب خيامه فوق الهضبة التي كان عليها جيش مسروق في الصباح، ولم يبق شيء يحول بينه وبين غمدان، ولكن صدره بقي ضيقا ثقيلا لا ينعشه نسيم البحر ولا تستفزه نشوة الانتصار.
وقال في نفسه: مسكينة ريحانة! فلعلها في تلك الساعة تجلس مطرقة في شرفتها تنظر إلى الفضاء وتحدث نفسها كما كانت تحدثها دائما عن قسوة الأمس والغد، وهي تفكر في ولديها الذين يقفان وجها لوجه في المعركة الصارمة، ولعلها في تلك الساعة تسأل نفسها أي ولديها هلك وهي مفجوعة في الحالين. أكانت تحسب عندما قالت له: «اذهب في الأرض» أنه سيعود يوما ليقاتل أخاه؟ أكانت تتوقع أن يكسوم يهلك، ويخلي بينها وبين المقادير لتسخر منها؟
وهل يلقى خيلاء؟ أهي هناك في تلك الساعة في دير نجران؟ أيستطيع أن يعود إليها ويحدثها عن مغامراته ومصادفاته، والمآزق التي وقف فيها حتى استطاع أن يظفر بالملك آخر الأمر؟ وهل يقوى أن ينظر في عينيها الصافيتين وصورة طليبة تتخايل أمامه دونها؟ طليبة التي قتلت نفيل بن حبيب من أجله، والتي كانت تستغرق في ضحكها وهي تعزم على العودة إلى الحانة؛ لترقص حتى تعيا وتشرب حتى لا تعي ثم تنتظر قضاءها الفظيع؟ أكان يجرؤ أن يطرد من حياته تلك الهرة الوحشية، ويعود إلى خيلاء يسألها أن تعود إليه؛ ليتنسم السلام من عندها، ويعيش معها سائر حياته في كذبة متصلة؟
وأفاق من غمرة أفكاره على صوت الأبواق ودق الطبول مؤذنة بالسير إلى صنعاء.
الفصل العشرون
قال الراوي:
وجد سيف غمدان كما تركه منذ أربع سنوات، بستانه اليانع الذي لا يبخل بزهره لا يبالي أي عين تنظر إليه، ولا يضن بعطره الزكي لا يبالي أي صدر يمتلئ منه. وكانت طبقاته السبع ما تزال شامخة بقبتها المرمرية التي تلمع في ضوء الشمس، مثل منارة على رأس جبل. وكانت أبهاؤه على عهدها، فسيحة أنيقة بأعمدتها الوردية، وسقوفها المذهبة، ونقوشها البديعة، وآنيتها الفضية، وتماثيلها الرائعة، والأسود النحاسية الأربعة التي تزأر كلما هب الهواء في أجوافها، وعناقيد المصابيح المتدلية من السقوف كأنها قطع من زخارفها. كان كل ذلك كما تركه سيف، ولم يتبدل في القصر شيء سوى سيده، وكان الوعاء المرمري ما يزال على قاعدته الرشيقة الأبنوسية، في الركن الذي طالما كتم همسات نجواه مع خيلاء.
ولكن خيلاء لم تكن تنتظره أو تحييه ببسمتها، أو تعتب عليه بنظرتها، أو تبادره قائلة في دهشة: «أنت هنا؟» ووقف سيف حينا إلى جانب الوعاء المرمري وهو متجه إلى جناح أمه ريحانة.
وعادت إليه حرقته كيوم رآها تخرج من صنعاء في هودجها على طريق نجران. هي خيلاء التي لا يهتز قلبه إلى امرأة كما يهتز إليها أو إلى صورتها. كانت هي أمنيته الكبرى قبل أن يلقي به اليأس منها إلى أمنيته الأخرى؛ تحرير أمته. وها هو ذا قد عاد إلى غمدان ملكا، وها هو ذا شعب صنعاء يهتف باسمه عند أبواب المدينة وعلى جانبي الطريق، حتى تبعه إلى فناء القصر، ولكنها لم تكن فرحته الكبرى. أما تجتمع له الأمنيتان معا؟
أما تعود خيلاء إليه وقد عصمها الدير من العبودية كما عصمه الجهاد من العبودية؟ حرة تعود إلى حر. فأي ملك يصنعان معا؟
والشيخ المسكين أبو عاصم، أيجدونه حيا في طباق القصر التي أمر بإخراج نازليها التعساء؟ وريحانة؟ كيف يجدها بعد أن غاب عنها كل تلك السنوات؟ وأسرع خطاه وقلبه يخفق، وسأل نفسه كيف يكون لقاؤها؟ أيأخذها بين ذراعيه ويقول لها: «ها أنا ذا قد حققت لك خيالي، وصدقت لك وعدي وأعدت إلى قومي عزتهم وحريتهم، وثأرت لك ولأبي؟» أم يعزيها عن ولدها الذي تركه معفرا في الرمال عند شاطئ البحر مسجى بثوبه؟ وخطرت له نبوءة الكهف كأنها كانت تتجه إليه خاصة: «إن لم تقتله قتلك.»
وكان لقاؤهما كما يجتمع وحيدان نجوا من حريق، يتناظران في صمت وصدراهما يجيشان. وكانت تلك السنوات الأربع كأنها أربعون عاما مرت على الأم الواجمة، فأحنت عودها وعصفت بمحاسنها وأنحلت جسمها. كان وجهها ذابلا تعترضه خطوط قاتمة، وكانت عيناها الواسعتان تغوصان في محجريهما وتلمعان كجمرتين خابيتين، وكان صوتها خافتا كسيرا عندما قالت: ليهنك ملك آبائك يا سيف.
ثم تهالكت على أريكتها قائلة: اجلس يا ولدي إلى جنبي، فإن قدمي تختلجان وعيني تظلمان ورأسي يدور بي.
فقال سيف: عداك الأذى يا أماه. ما أشد شوقي إليك!
فقالت: الآن عرفت ما كان يحمله لي الغد يا ولدي، وأقدر أن أستقبل نهايتي مطمئنة.
فقال سيف في مواساة: كنت أود لو لم يكن أخي الذي ذهب إلى لقائي، ولكنها المقادير التي أوقفتنا.
فقالت في هدوء: فيك الغناء يا سيف.
فقال: تجلدي يا أماه، فلو استطعت دفع الموت عنه لدفعته، ولكن لا بد مما ليس منه بد، وكان لا مفر من هلاك أحدنا.
فقالت: علمتني الأيام هذا يا ولدي، علمتني أنه لا بد من أشياء كثيرة علينا أن نتحملها. وعلمتني أن أرضى بالأمر الذي يقع إذا لم يقع الأمر الذي أرضاه. وعلمتني بعد هذا أن مخاوف الخيال أشد وقعا من مخاوف الحقائق. أتحسبه الحزن على مسروق؟
فقال في مواساة: عرفت قلبك نبيلا.
فقالت: لست أحب أن أكذبك يا سيف في أول لقاء، فقد كفاني ما كذبت عليك في حياتي. أحس كأن قلبي مات في صدري، فلا أطرب ولا أرجو ولا أجزع، وأستقبل البشير كما أستقبل النذير. وأطرقت لحظة تعبث بحجر أحمر براق معلق في سلسلة ذهبية بعنقها.
ثم قالت: أتعجب إذ تسمع هذا مني؟ اعجب يا سيف ولا تحمل لي رحمة، فإني لا أحب أن يرحمني أحد وإن كان ولدي. لست أحس حزنا.
فتحرك سيف قلقا، ومضت ريحانة قائلة: الحياة والموت، والبؤس والشقاء، واليأس والأمل؛ كلها ألفاظ لست أعرف معناها. وأبو مرة وأبرهة ويكسوم ومسروق؛ كلها صور في الوهم، كأني لا أعرف حقيقتها، أو كأنني لم أرها في يوم من الأيام. لقد سلبتني الأيام كل ما وهبت، حتى اللعنة التي كنت أشكو منها، فلست اليوم أفزع من أوهام أو هواجس. دعني يا سيف فإني أحس ضعفا.
فوضع سيف يده على شعرها المبيض الخشن، كما كان يفعل عندما كان أسود غزيرا. وقال في رحمة: دعي هذه الهموم تنقشع عن صدرك يا أمي، فقد قاسيت طويلا.
فأجابت وفي صوتها هزة: ليتني أحس هما يملأ صدري. نعم، أتمنى لو امتلأ قلبي بشيء وإن كان هما، فإن هذا أرفق بي من الخلاء الموحش الذي يفزعني، كأنني شبح في مقبرة! مقبرة!
وعلا صوتها وسمعه سيف أجش مرتعدا، حتى اعترته على رغمه قشعريرة. ومضت قائلة: عفوا يا ولدي، فإني أراك تفزع مني، ولست ألومك على هذا، فإنني أفزع من نفسي. دعني أنطق فهذه أول مرة أجد فيها من يستمع إلي منذ تركتني. سأذهب إلى بيت ذي جدن حيث كانت أول كوارثي، لعل صور حياتي تجتمع إلي وتثير الأحزان في قلبي. وارتمت على الأريكة مكبة بوجهها على ذراعها تبكي بكاء حارا. وجثا سيف إلى جنبها يطوق كتفيها الهزيلتين بذراعه، وقال في همس متقطع: تجلدي وقاومي هذه الأشجان التي تعذبك. أأعيد عليك كلماتك التي حفظتها منك؟ انظري إلى أعماق نفسك واكشفي عن الهواجس التي تعذبك، واطرديها في هذه الدموع التي تذرفينها، ولا تكوني عونا لها على إفساد حياتك. أما تتذكرين يوم جئت إلى هنا لأودعك؟ كنت في ذلك اليوم تنطقين كما تنطق أم بطل، وكانت كلماتك تصاحبني وتشد أزري وتؤنسني كلما أحسست ضعفا. وذهبت في الأرض كما قلت لي لأنشد حريتي وحرية قومي، وها أنا ذا أعود إليك لأزف إليك البشرى والعزاء معا . قولي لي إنك سعيدة، أو إنك حزينة، أو إنك لا تدرين أيهما أقوى عندك؟ قولي إنك الآن في ساعة فاجأك لقائي مع ذكرى ولدك المسكين، ودعيني أحدثك وأقول لك إنه كان في صدر المعركة، وقتل كما يقتل ملك؛ فلعل هذا يبعث إلى قلبك السلام.
فرفعت ريحانة رأسها وجففت عينيها الحمراوين، وتنفست قائلة: لا تؤاخذ ضعفي يا ولدي. هذه أول مرة بكيت فيها منذ فارقتني. كنت في كل صباح وكل مساء أمسك نفسي بقيد من حديد حتى لا أظهر جزعي ولا حنقي، حتى جمدت عيني وجمدت مشاعري.
ووقفت لحظة تتهانف بالبكاء، ثم مضت قائلة: لست أحب أن أعود إلى البكاء في هذه الساعة، وإن كان البكاء يفرج عني. أحس كأنه يحل عقدة صلبة تتوسط بين عيني وتفرج عن قلبي. كنت لا أسمح لنفسي بالبكاء ويكسوم يسومني العذاب والذل، وفي نفسي مراجل تغلي. وكنت لا أسمح لنفسي بالبكاء كلما ذكرت غيبتك عني، وأنا لا أعرف أين تمضي لياليك ولا كيف تستقبل أيامك. كنت أسأل نفسي أأنت حي ترجى، وهل ألقاك يوما هنا أو في أرض أخرى؟ بل لقد كنت أسأل نفسي هل يعود أبو مرة؟ نعم، كنت أسأل نفسي عنه والفزع يكاد يذهب بعقلي. ولكم تمنيت الموت وإن كنت أخشاه، بل لقد رفعت يدي بالسم إلى فمي، ثم قذفته في رعب لأنني لم أجرؤ على الخطوة التي تفضي إلى العالم المجهول. ولكني كنت دائما لا أبكي، حتى إنني لم أبك عندما سمعت أنك عدت وانتصرت، وأن أخاك خلف جثته في المعركة. أترى هذه يا سيف؟
وفتحت الحجر الأحمر اللامع المعلق في سلسلتها، فإذا هو حق صغير يحوي قطعة صغيرة من مادة صفراء. واستأنفت قائلة: ادخرت هذا السم للساعة الأخيرة لو رأيت أبا مرة. كانت هذه الساعة وحدها لو جاءت تجعلني أجرؤ على اقتحام الخطوة الحاسمة.
ثم نفضت القطعة الصفراء وداستها، فلونت الطنفسة الثمينة التي تحتها ببقعة صفراء. ورنت في سمعيهما في تلك اللحظة صيحات الناس في الفناء واسم ذي يزن يتردد فيها . فقالت ريحانة: اذهب إليهم يا سيف. اذهب يا ولدي إلى شعبك الذي يدين لك بالكرامة. ودعني لأفرج عن نفسي وأطلق دمعي. إن هذه الصيحات تثير الدموع في دمائي فدعني أرسلها.
واستلقت بوجهها مرة أخرى على يدها، وأشارت إلى ولدها باليد الأخرى ليتركها.
ونزل سيف كئيبا إلى الإيوان، وكانت صيحة الهتاف ترن في كل مشاعره، كأنه لم يدرك إلا في تلك اللحظة أنه أصبح ملك اليمن. وأطل من طنف الإيوان على الجموع الزاخرة التي تهتف باسمه وتلوح إليه بأيديها وتنطق له بوجوهها.
ومرت به لحظات وهو واقف يحيي شعبه كأنه في حلم، لا يدري أهي الحقيقة تصدمه وتجرفه مرة أخرى؟ أم هي بعض صور أوهامه التي كانت تلازمه وتجعله يعيش معها قسرا في عزلة عن الحياة؟
وتنبه إلى نفسه وهو يخطب في الناس متدفقا تتسابق المعاني إلى لسانه، حتى انتهى إلى قوله: «إن الأمة التي ترضى بالعبودية تنكر إنسانيتها وتبرأ من أصولها، وتعيش محطمة يتبرأ بعض أبنائها من بعض، ويمص بعضهم دماء بعض. هي مثل شجرة خبيثة لا أصل لها في الأرض ولا تحمل زهرا، ولا تجري في أعوادها إلا السموم والدنس؛ فارفعوا الرءوس يا أهل اليمن كما كنتم ترفعونها دائما، وأطيعوا حكمة المقادير التي لا ترضى إلا عن أمة تتعلق بالمثل العليا، وافتحوا قلوبكم يا أهل اليمن للعدالة، وأطيعوا حكمة المقادير التي لا تبقي على أمة إلا إذا كان العدل الصحيح أساسها، والرحمة الصحيحة لواءها.» وعاد بين الهتاف إلى الإيوان يحس أنه حقيقة، وأن قومه حقيقة، وأن قصره حقيقة، وأن صور الخيال التي كانت تحدثه وتدعوه وتشير إليه ليسير وراءها قد صدقته وعدها، فانتهت به آخر الأمر إلى الغاية التي بدت له في أول أمرها أبعد من أوهام الخيال.
وسأل عن السجناء الذين كانوا في جباب القصر، وكان ما يزال به أمل متلهف أن يجد فيهم الشيخ أبا عاصم، ولكن الأقدار كانت رحيمة بالشيخ، فإن يكسوم قتله يوم خرج من عنده.
ولما خلا إلى نفسه عادت إليه خيلاء في آخر صورة رآها. أيجرؤ أن يذهب إليها ويطوي عنها ذكر طليبة، في كذبة كبرى مثل الكذبة التي طوتها عنه أمه أعواما طويلة؟ ولكنه كان يعرف أن طليبة هي الأخرى حقيقة من حقائق حياته التي جرفته في تيارها. لم يخطر له وهو يودع خيلاء عند باب صنعاء أنه سيأنس يوما إلى امرأة، كان يحسب أنه سيقنع في كل حياته بصورها وأصداء أحاديثها. كانت صورها عنده ذات أحاديث شتى؛ في بستان القصر، وفي أبهائه، وفي درس الشيخ، وفي مخدعها يوم جثا إلى جنبها يستعطفها لتخرج معه، ثم عند باب صنعاء وهي مطرقة في هودجها تصلي. وكانت تلك الصور وأحاديثها كفيلة بأن تملأ فراغ فليه سعادة وشقاء. ولكن طليبة اصطدمت به يوما، ثم سارت إلى جنبه في الصحراء، وصارت له سكنا في أيام تشريده وبأسه. وكانت هي الأخرى تودعه صورا شتى لكل منها حديث؛ كانت بجسمها وروحها تؤنسه، وكانت بطبيعتها الدافقة الثائرة تحركه وتشعل فيه جذوة الجهاد كلما أوشكت أن تخبو. وقد أبى أن يدعها لقضائها في عكاظ، ولم يبال أن يتهمه الناس بقتل رجل غيلة في الشهر الحرام، وما زال يتمسك بها، حتى أودعها عند صاحبه الشيخ أبي عدي بمدائن كسرى ريثما يفرغ من حربه. فهل كان يستطيع أن يفارقها وإن كان ذلك من أجل خيلاء؟ أكان عليه أن يختار إحداهما؟ أم يجمع بينهما؟ أهما أمتان؟
لم يكن بين الحرائر من هن أعنف منهما حرية. خيلاء التي هربت من أن تكون ملكة لتحفظ على نفسها اختيار المرأة الحرة، وطليبة التي وقفت وحدها أمام العالم كله منذ كانت طفلة، تتحدى وتحقد وتعنف وتدافع وتسخر، والتي طعنت بالخنجر ولم ترتجف من هول فعلتها، بل ضحكت قائلة إنها ستقضي ليلتها راقصة حتى تعيا، وشاربة حتى لا تعي، ثم تستقبل قضاءها هازئة. أهاتان أمتان، يسأل نفسه، هل يجمع بينهما؟
ووجد سيف نفسه آخر المرحلة عند باب الدير في نجران يرجو أن يقابل خيلاء. وكانت أسوار الدير العالية وأبراجه الضخمة تجعله مثل قلعة حصينة، وكان الباب يفضي إلى فناء مغلق تحيط به جدران أربعة لا منفذ فيها، فوقف سيف هناك في قلق، لا يدري هل يؤذن له. ولم يخل قلبه من شعور يشبه الإهانة؛ إذ يقف هناك منتظرا كأنه لم يكن ملكا. ومضت لحظات، كانت عنده مثل ساعة طويلة. أتأبى خيلاء أن تراه؟ ثم رأى سقف الفناء المغلق ينفرج عن طاقة مربعة، ويتدلى منها سفط كبير معلق في حبال غليظة، وسمع صوتا يناديه: «تفضل باسم المسيح أيها الضيف الكريم.» وبقي لحظة مترددا، وهبطت بصدره قبضة، ولكنه اعتلى السفط وصعد فيه، حتى دخل في الثغرة ورأى الراهبات يجاهدن في تدوير آلة كالعجلة، تلف الحبال به كيما يصعد. واستقبلته رئيسة الدير واضعة يديها قائمتين متقابلتين على صدرها كأنها في صلاة، ثم تمتمت ببعض ألفاظ، وسارت به إلى غرفتها قائلة: أنت يا مولاي أول رجل يدخل إلى هذا الدير، ولعلك تكون آخر رجل، فإن خيلاء القديسة أبت إلا أن تراك.
وما فرغت الرئيسة من قولها حتى أقبلت ... من؟ خيلاء؟ وتقدم سيف نحوها في لهفة بغير أن يعي ما يفعل، ولكن خيلاء كانت أهدأ جأشا، ووقفت تنظر إليه في خشوع صامتة، وكانت في ملابسها البيض الفضفاضة التي تغطي رأسها وجانبي وجهها ويديها إلى أطراف أصابعها، مثل زنبقة بيضاء في كمها. ووضعت يديها كما وضعت الرئيسة يديها، وتمتمت قائلة: يباركك السيد المسيح يا مولاي!
فنظر إليها سيف ذاهلا، ثم إلى الرئيسة نظرة حائرة، وكان قلبه يفيض قولا ولا يجرؤ أن ينطق بكلمة. ثم اندفع قائلا: خيلاء! أما أستطيع أن أتكلم؟ أما تقولين يا سيف؟
فقالت في صوت خافت وأسبلت جفنيها: كنت دائما أصلي لك يا سيف، وسأصلي لك في الصباح والمساء.
فقال في لفظ متقطع: ولكن ماذا تقولين؟ أما تعودين معي؟
فقالت: تصاحبك صلواتي!
وتحركت في ارتباك واضطربت أهدابها، فقالت الرئيسة: يا خيلاء القديسة! في صحبة السيد المسيح اذهبي.
ورفعت خيلاء بصرها في نظرة جائشة، ثم وضعت يديها على صدرها وتمتمت بصلاة خافتة، ثم انصرفت بخطا متقاربة خفيفة. ونظر سيف وراءها كأنه يريد أن يلحق بها، فقالت الرئيسة: تجلد أيها الملك! لقد عرفت قصتكما في اعترافها، ولا أشك في أنها الليلة ستعترف اعترافا طويلا. إن قلبها ما يزال يتعلق بالفناء الزائل، وما تزال تضمر لك الحب الذي وصفته أنه أبقى من الحياة وأقوى من الموت، إنه ما زال ينازعها في قدسية صلواتها. ترفق بها يا ولدي وترفق بنفسك، ولا تحاول أن تراها، فقد وهبت نفسها للمسيح، ولن تستطيع أن تسترد ما وهبت.
فقال سيف وهو يخفي حنقه: ولكنها لي أيتها الأم الطيبة.
فقالت: لن تكون خيلاء لبشر.
وكان صوتها الهادئ صارما، ونظرتها الوديعة نافذة.
وبقي سيف لحظة ينظر إليها صامتا واليأس يدب إليه كما كان الظلام يدب في الأصيل الخافت. واستأنفت رئيسة الدير قولها: ترفق بالقديسة يا ولدي، فإنها لا تمتنع عن لقائك إذا شئت، ولكن ذلك يجهدها ويشرد بها عن وصولها.
وانصرف من الدير ينزع نفسه؛ فما كاد يخرج إلى الفضاء حتى همز جواده؛ فاندفع في الليل عنيفا على الطريق كأنه يطارد عدوا.
وكان أول همه عندما عاد إلى غمدان أن يذهب إلى الوعاء المرمري، لعله يجد فيه الصورة التي تعزيه عن خيلاء، وكان الوعاء على عهده يقف مزهوا على قاعدته الرشيقة، والنقش الخالد يبدو عليه عبقريا. وكان سفر أربع ليال متوالية قد أجهده، واليأس من خيلاء يثقل صدره. وأمسك بالوعاء الثمين بين يديه وخطر له أن يحطمه. لم يجده إلا حجرا صامتا عليه نقش خافت لصورتين جامدتين لا حياة فيهما، ينظران إلى القمر نظرة مملة، ويبتسمان له ابتسامة بلهاء. وخيل إليه أنه كلما نظر إليه من بعد ثار حنقه، وعاد إليه بأسه وهوانه عند خيلاء. أهي تؤثر عليه صورة، وتفسد على نفسها وعليه سعادة كانت محققة؟
ولكنه لم يقذف بالوعاء على الجدار ليحطمه، بل أعاده إلى موضعه في شيء يشبه الترفق. وذهب ليطيع حاجة جسده المضنى.
واجتمع إليه في ضحوة صباح بعد أسابيع جمع حاشد من الوفود التي كانت لا تنقطع عن غمدان منذ عاد إليه، كان فيهم وفود من القبائل البعيدة في سرو وحمير وفي شواطئ البحر وفي سهول تهامة، وكان فيهم من شيوخ زبيد والطائف ومكة، وعبد المطلب بن هاشم مع جماعة من قومه، جاءوا يؤدون إليه تحية قريش الظافرة.
ودخل معهم الشعراء ينشدونه المدائح ويزجون إليه التهنئة، وكان فيمن جاء إليه الشيخ أبو عدي، يحمل إليه نبأ من طليبة التي تركها عنده.
وسأله في لهفة: أجاءت معك؟
فقال الشيخ واجما: بعثت معي رسالتها.
فقال سيف: رسالتها؟
فقال الشيخ: تقول إنها صاحبتك عندما كنت تضرب هائما في الصحراء؛ لأنها خلقت لتهيم في الحياة، وبقيت معك وأنت تضرب في يأسك على باب كسرى لأنها خلقت لتضطرب وتيأس وتتحدى. ولكنها لا تطيق أن تكون ملكة.
فقال سيف في صيحة مكتومة: الحمقاء! سأبعث إليها وأحملها قسرا.
فقال الشيخ: كدت أفعل ذلك، ولكني لم أجدها. أصبحت يوما فلم أجدها، ولم أستطع أن أجد لها أثرا.
وأطرق سيف في خيبة أشد من خيبته عندما خرج من دير نجران، وأحس الوحشة تحيط بالبهو المزدحم.
وتقدم أبو الصلت الشاعر الثقفي مع وفد الطائف، فقال يهنئه:
ليطلب الثأر أمثال ابن ذي يزن
في البحر ريم للأعداء أحوالا
ولكن الملك كان ذاهلا عنه يفكر في طليبة الهرة الوحشية، امرأة أخرى تأبى أن تكون ملكة!
وكان كذلك يفكر في غمدان الذي صار أشد وحشة مما كان عندما خرج منه، حتى ريحانة هاجرت منه إلى بيت أبيها!
وانتهى الشاعر إلى آخر قصيدته قائلا:
فاشرب هنيئا عليك التاج متكئا
في رأس غمدان دارا منك محلالا
وقدم إليه الساقي كأسا ذهبية، فتناولها وجرع ما فيها لعلها تذهب عنه ضيقه. ولما انصرف الجميع قام سيف فاترا تقوده قدماه إلى البهو حيث كان الوعاء المرمري.
وجلس هناك ينظر إليه وهو لا يدري أيحطمه أم يبقي عليه؟ أيبقي عليه ليذكره كلما وقعت عينه عليه بالخيبة الكبرى في حياته؟ ولكنه عندما وقعت عينه على الصورة وجدها تتحرك وتتحدث وتذكره باللحظة المسحورة، عندما وقفت خيلاء إلى جنبه هناك تحدثه وهو يقول لها: «لو كنت فنانا لخلدت موقفنا هذا في صورة مثل هذه.» وعادت إليه ذكريات كل حياته الأولى منذ كان طفلا، إلى أن ترك خيلاء في دير نجران، وأحس نسيما من السلام يدب إليه شيئا فشيئا من خلال أشجانه الثائرة. لقد سمت به خيلاء إلى آفاق الحب الأعلى الذي يسمو فوق حب الأجساد، وذاق في ذلك سعادة تغذي روحه بما لا تغذيه المتعة أو الطرب أو الجهاد في سبيل الثأر أو الحرية. وإن كانت خيلاء لم تعد معه إلى غمدان فإن صورتها هناك دائما تصاحبه، وهي هناك في ديرها تذكره وتصلي من أجله. ورف قلبه في رفق ورحمة، وأعاد نظره إلى الوعاء المرمري يتأمل صورته. كانت صورة حية سعيدة خالدة على الدهر، لا يعتريها تبدل ولا فناء، وهكذا كانت صورة خيلاء. ستبقى تلك الصورة في قلبه ما عاش، وسيراها في كل مرة مثل الزنبقة البيضاء، لا تدب إليها شيخوخة، ولا تمتد يد الأيام إلى محاسنها، ولا إلى السلام المنبعث من نظرتها.
واستيقظ من سبحه على صوت الحاجب الذي جاء يستأذنه في استقبال الشيخ وهرز، وقد جاء مستأذنا في العودة بجنوده إلى مدائن كسرى.
Halaman tidak diketahui