47

ولما فرغ الشيخ من حديثه نظر إلى سيف عاطفا، كأن تلك الصور القديمة قد أشاعت في نفسه أنسا بعد وحشة، وتنفس عميقا وهو يقول: لقد نسيت نفسي فأطلت الحديث عن هذه الأشياء التافهة التي لا تمثل لك شيئا. إنها أزمان مضت يا سيدي الأمير، ولم يبق منها إلا شيخ محطم تراه، مثل النخلة التي جف ماؤها وذوى أعلاها ونخر أسفلها.

فقال سيف في حماسة: بل هي أحاديث طلية، وما أشد أسفي إذ حرمت من مثلها هذه المدة الطويلة، ولعلها تتجدد يا سيدي الجليل.

فقال الشيخ هادئا: وكيف حال سيدتي؟

فقال سيف: هي في وحشة من غيبتك.

فنظر إليه الشيخ مترددا، وتحرك وجهه المجعد حركة خفيفة. وقال سيف ماضيا في الحديث: بل إن صنعاء كلها في وحشة من غيبتك، وما أكثر ما أسمع من سؤال أهلها عنك!

فقال الشيخ وبسمة ضئيلة تنطلق على وجهه: صنعاء في وحشة من غيبتي؟ وما أنا في صنعاء؟ وهل أنا إلا بقية من ماض بعيد لا محل له اليوم في مكان؟

ونظر سيف إليه صامتا، ومضى الشيخ قائلا: إنه لمنظر حزين عندما يجف البستان وتيبس أشجاره، وتتساقط الأوراق الصفراء عنها فتذروها الرياح، ولا تبقى منها سوى نخلة وحيدة يضطرب سعفها في عنف أمام عاصفة هوجاء. ما أشد شقاء النخلة الوحيدة والرمال السافية الكالحة تغطي الأحواض التي حولها، بعد أن كانت منابت لخمائل الزهر.

وصمت لحظة ثم قال: عفوا يا سيف، فإني أكاد أعجب من نفسي إذ أقول لك هذا، فكأنني نسيت أنك أمامي، إنما هو مثل أضربه، وما أكثر الخطأ الذي تطويه الأمثال في زخارفها!

فقال سيف: ولكن النخلة الوحيدة لا تبخل بظلها أبدا. ها أنا ذا أمضي مع المثل، وما أحسبه إلا صادقا.

فقال الشيخ باسما: ومن ذا يعبأ بظل نخلة ذاوية؟ إنه لا يغني شيئا إذا اشتد الحر في الظهيرة، ولا يقدم للناس عذرا بثمرة ترجى منه. ما أنا إلا رجل تخلف عن عالمه خطأ، ذهب لداتي الذين عرفتهم وعرفوني، وزالت معالم الحياة التي أنست إليها، فأنا لا أرى حولي إلا أغرابا، أجهل عنهم كل شيء ويجهلون كل شيء عني.

Halaman tidak diketahui