44

وقالت في سرها مرة أخرى: أهذه أول مرة يرفع سيف يد خيلاء إلى شفتيه؟

ثم قالت لهما: ألا نقضي ساعة في البستان؟ هلما فإن الليلة مقمرة.

وقضوا ثلاثتهم ساعة طويلة، حتى سطع القمر وراء الظلال ولف الليل بأشعته الهامسة، وكانوا يتناجون بحديث ذي شجون.

ولما عادت خيلاء إلى وحدتها كانت تحس أن الهواء يتنفس عطرا، وأن الحياة يغشاها جمال باهر، وأن الفضاء يردد أنغاما سعيدة. وبقيت صورة سيف مائلة أمام عينيها مع صورة الوعاء المرمري، وكانت حرارة شفتيه ما تزال مطبوعة على أناملها، ورفعت يدها إلى شفتيها في رفق كأنها تريد أن تستوثق من تلك الحرارة الرفيقة. وتمنت لو كانت مع سيف صورة كصورة الوعاء المرمري، لا تبلى ولا يدركها ما يدرك الأجساد من الفناء، ولا يعتريها ما يعتري قلوب البشر من تقلب أو هموم أو شكوك.

الفصل السابع

قال الراوي:

انصرف الزائران اللذان كانا مع الشيخ أبي عاصم في الصباح، وبقي هو في مجلسه مائلا بظهره على الوسادة التي وراءه، شاخصا ببصره في الفضاء الذي وراء باب الحجرة الفسيحة. وكانت ضبابة خفيفة تنعقد في الجو تضل فيها أشعة الشمس القليلة التي تنفذ من الباب، وتحجب عن النظر زرقة السماء، فكانت نظرته لا تستقر عند غاية، كما كانت أفكاره لا تستقر عند غاية. وبدت له الحياة مثل الفراغ الأغبش الذي لا معالم فيه، عماء من فوقه هواء ومن تحته هباء، لا تلوح فيه بارقة تتطلع فيها العين إلى ما وراءها. ماذا كان بالأمس وماذا يكون غدا؟ تذكر الأمس فوجد فيه كوارث تنبعث منها كوارث، مثل أمواج البحر المضطرب، كل منها يسوق ما أمامه، وهي جميعا تصدع الساحل في عنف، ولو بقيت من بعد تلك الكوارث المتلاحقة بقية من الأمل لكانت الحياة تبدو أقل جهامة؛ لأن الأمل يبعث في الشقاء شيئا من الرفاهة. ولكن أين يلوح وميض ذلك الأمل الخابي؟ لم يجده الشيخ في نفسه، فإنه كان في حياته وحيدا كأنه غصن اهتصر عن شجرته، فلماذا حرص على البقاء ولم يلحق بأصحابه الذين كانوا إلى جنبه وسقطوا في المعركة، ووجدوا الراحة في النسيان؟ ذهبوا جميعا وخلفوه بين هؤلاء الذين لا يعبئون إلا بأنفسهم وبما يعود عليهم من النفع في المال أو الجاه، ولا يغضبون إلا بمقدار ما يصيبون أو ما يصيبهم. وهل في مثل نفيل بن حبيب بقية؟ ذلك الذي كان يحدثه منذ ساعة قصيرة ويدعوه إلى العودة معه إلى أودية الصحراء ليثيرا معا ثورة القبائل على أبرهة، أليس هو الرجل الذي خان قومه من قبل عندما وقفوا لأبرهة منذ عشرين عاما؟ كان أبرهة عند ذلك يستميله بالوعود ويبعث إليه الهدايا، ويلوح له بالسيادة في قومه إذا هو تخلى عن المعركة، لم يتردد عند ذلك في شيء، وانقلب على أصحابه ففر من المعركة بلا خجل وأوقع الفشل في أصحابه، ولم يكن ذلك كله إلا من أجل السيادة والمال، ومن أجل الحقد الذي كان يضمره لمنافسه الشاب ذي يزن أبي مرة. وذلك الشيخ ذو نفر الذي جاء مع نفيل ليذكره بمجد حمير الزائل، ويقول له بصوته المتهدج المرتعش: لقد ذللنا. أذللنا لأن أبرهة ذاهب إلى قريش ليهدم كعبتهم؟ ألا يغضب إلا لأن أبرهة يصلي في القليس ولا يعرف آلهة قريش؟ ألا يعبأ بشيء سوى اللات والعزى ومناة؟ أما ذلك الذل الذي استعبد فيه الأحرار وأهدرت فيه الكرامة، والحرمان الذي يعيش فيه أهل المدن والقرى والبوادي؛ لكي يوفروا للسادة السفلة ما يتنعمون فيه من ترف، وذلك الظلم الذي يخبط الناس خبط عشواء ليمهد للطغاة أسباب السرقة، أما هذا كله فلا يعبأ به ذو نفر. أين ذو جدن؟ وأين ذو يزن؟ وأين الآخرون الذين سقطوا وقوائم السيوف في أيديهم، أو هاموا على وجوههم في الأرض ليستأنفوا الجهاد إذا ما سنحت الفرصة؟ وتذكر صورة الشاب الفارس أبي مرة الذي كان يحارب إلى جنبه حتى أثخنته الجراح، وتمثل صورته وهو يتسلل في الظلام إلى ظهر فرسه، ويناديه باسمه هامسا بصوته الضعيف قائلا: «إذا كتبت لك الحياة فانظر إلى زوجتي وولدي.» إنها لبقية ضئيلة تلك التي بقيت بعد هؤلاء. أما هو ففيم امتدت به الأيام؟ وتمنى الشيخ لو كانت الجراح التي أصابته في ذلك اليوم قد ذهبت به مع صديقه وابن عمه ذي جدن، أو لو استطاع أن يقوم على قدميه مترنحا من بين جثث القتلى كما فعل ذو يزن، ثم يلتمس فرسا من بقايا المعركة ويتسلل معه في الظلام ضاربا في الأرض، ولكنه أفاق من غشيته فوجد نفسه في خيمة، ووجه أسود يطل من فوقه، وتذكر إذ صاح به: «نح وجهك الكريه عني.» ولكن أبرهة ضحك مقهقها وقال: «إنها فكاهة ظريفة.» ثم التفت إلى أصحابه قائلا: «اعنوا بجراحه من أجلها.» ثم تذكر اليوم الذي رأى فيه أبرهة مرة أخرى بعد ذلك، وكان أول ما قاله له: «أما زلت تكره النظر إلى وجهي؟»

وكانت لحظة ضعف غلب عليه حب الحياة فيها، فقال له: «بل أنت أكرم الناس نفسا أيها الملك.»

فما باله يلوم الناس على خضوعهم لأبرهة، وقد كان من أولهم خضوعا. وأحس الشيخ أن الجو يزداد ظلاما، فقد مرت به هذه الأعوام العشرون وهو يحاول أن يصرف نفسه عن التفكير في الحياة، منقطعا إلى الكتاب. وسافر في أنحاء الأرض يلتمس ما يسميه الحكمة، حتى أصبح الناس يقولون عنه: حكيم اليمن وعالمها. فماذا أجدى عليه ذلك العلم أو تلك الحكمة؟ هل رعى أبرهة علمه وحكمته؟ هل رعى أذناب حاشيته أنه حكيم اليمن؟ لم يكن عندهم إلا رجلا تافها يتقرب إلى القصر بأن يكون معلما للصبية، ولو كان قد خرج ليفسد في الأرض أو يقطع الطريق ويسلب الناس، أو لو رضي أن يتذلل لأبرهة ويأخذ أجره على ذلك بسيادة مزيفة يستطيع بها أن يعسف ويملأ خزائنه من ضرائب العسف، لو أنه فعل ذلك لكان أكرم عند الناس وأسمى قدرا. وها هي ذي الأيام تتقاضى حقها منه إلى آخر ذرة، ولم يبق له إلا أن يشرب الكأس حتى ثمالتها. لم يبق له إلا أن ينتظر انقضاء آخر أيامه وحيدا محروما معدما.

وسمع الشيخ في وسط عاصفته كأن صوتا يناديه باسمه، ومن ذا الذي يأتي إليه في تلك الساعة في بيته المنعزل المهدم؟ أهو نفيل يعود إليه؟ أيجرؤ؟

Halaman tidak diketahui