وفتح له ذراعيه، وانقشعت هموم الليلة فجأة عن سيف كما تنقشع السحب السوداء في أعقاب زوبعة.
الفصل الخامس عشر
قال الراوي:
كانت المياه الصافية الزرقاء تتموج في رفق تحت الصخور السمراء العالية المحيطة بالخليج، وجلس على الشط رجال يتحلقون في حلقات، يتناقلون الأحاديث على الرمال، والنسيم يرف رهوا دفيئا من قبل البحر الهادئ. وكانت الشمس تبعث أشعتها المائلة تتواثب على ظهور الموج في عرض البحر، وتنبعث منها خيوط من بين فرجات الصخور، فتقع لامعة على قطع من الخليج الظليل، وترسل بسمة مؤنسة في وحشته. وكان سطح البحر يشف عن شعاب المرجان تتلألأ في ألون شتى، بعضها أبيض ناصع وبعضها أحمر قرمزي أو أزرق بنفسجي، كأن عرائس البحر قد تأنقت في ذلك الركن المنعزل من شاطئ السودان وأعدته ليكون لها مراحا. وعلى صخرة ناتئة في البحر في الطرف الأقصى من الشاطئ، جلس سيف بن ذي يزن في ثوب من الزرد وسيفه يتدلى من منطقته، يمد عينيه إلى الأفق ساهما، وفي نظرته العابسة ما ينم عن صرامة تكاد تبلغ القسوة. وكان وجهه المعروق تعلوه سمرة، والنسيم الهفاف يعبث بأطراف شعره المرسل إلى كتفيه، لا يكاد الناظر إليه يتبين ملامح الفتى الذي ترك غمدان منذ ثلاث سنوات. لشد ما تبدل سيف في هذه السنوات التي قضاها في اضطراب بين أودية اليمن وشواطئها، لا يستقر به المقام في مكان حتى تلاحقه جنود يكسوم قبل أن يجتمع إليه جمع يستطيع أن يثبت به في قتال، فما زالت شعاب اليمن وشواطئها تتقاذف به حتى انتهى به الوثوب إلى ذلك الملجأ المنعزل من الشاطئ المقفر عبر البحر. وكان معه فتيان من قومه أبوا أن يتخلوا عنه، وساروا معه يشاركونه حياة لا استقرار فيها. فكانوا يهبطون معه على سفن الأحباش العابرة بين شاطئ البحر، فيغنمون ما فيها من بضاعة ويوقعون بمن قد يكون فيها من جنود يكسوم، ثم يعودون إلى مخبئهم الخفي. ونسي سيف في تلك الحياة الجديدة - أو كاد ينسى - كل ما مر به في حياته الأولى، إلا خطرات كانت تعتاده حينا بعد حين. لم يبق في قلبه إلا شيء واحد؛ أصبح كل همه في حياته أن يصدم أعداءه أينما استطاع، وأن يوقع بهم كلما استطاع. وكان في جلسته على الصخرة ينظر إلى البحر الواسع الممتد تحت عينيه، كما ينظر الفهد الذي يتربص بأعداء يطاردونه من حواليه. هذا البحر الفسيح يفتح له آفاقا، باسما حينا وعابسا أحيانا، وهو في كل أحواله صديق جبار يعجز يد يكسوم أن تمتد إليه.
وبرقت أمامه هنة ضئيلة تتحرك عند أفق الجنوب، فمد بصره إليها، وتقلصت عضلة ساعده وأسرعت أنفاسه، وعلق بصره بها كما يعلق الفهد بصره بفريسة مقبلة. لقد مضت أيام ولم يجد فرصة يشفي بها غليل قلبه. ولكن الهنة الضئيلة كانت ثابتة عند الأفق لا تكاد تتحرك، فنزل إلى الشاطئ الرملي يسير بخطوات واسعة حتى بلغ آخر منحناه، ورأى أصحابه في حلقاتهم الصغيرة يتحدثون، ما لهم يتضاحكون هكذا كأن قلوبهم خالية؟ وعاد نحو صخرته مسرعا في خطاه مؤثرا أن يخلو إلى خطراته الحانقة. وسأل نفسه: ما جدوى تلك الصدمات الصغيرة التي لا تصيب يكسوم إلا بأيسر الأذى؟ إنه هناك في غمدان تبلغه الأنباء أحيانا أو تخفى عنه، وما يزعجه من سفينة أغار عليها لصوص البحر، فاقتطعوا من بضاعتها غنيمة أو قتلوا ممن عليها بعض الجنود؟ أهذا كل ما يستطيع من جهاد يكسوم؟ وتمنى لو رآه أمامه في جمع من أحباشه فيقذف نفسه عليه، حتى إذا لم يبق له من الحياة إلا ما يمكنه من أن يتعثر إليه حتى يغمد سيفه في قلبه لمات سعيدا.
وهجمت عليه صور من الذكريات كأنها كانت حبيسة، ثم انطلقت جافلة. كيف أمست خيلاء بعد هذه السنوات؟ أهي مثله تعاودها ذكرياتها بين حين وحين؟ ألا تذكره في ساعة من ليل أو نهار؟ أم هي لا تفكر إلا في المسيح الذي انقطعت له؟ لحظات مسحورة! ألا ما أقساها وقعا إذا ذكرها المحروم منها. إنما يسعد بذكرياتها أولئك الذين تغمرهم السعادة دائما، وأما المحرومون فإنها تزيدهم شقاء. أيعود يوما إلى نجران حتى إذا وقعت عينها عليه ألقت بنفسها بين ذراعيه باكية من فرط السعادة؟ هيهات هيهات! وعاد ببصره إلى الأفق، فرأى الهنة الصغيرة قد تبينت صورتها، إنها سفينة حقا؟ وكان الموج الهادئ يتدافع تحت قدميه كأنه دلافين تتلاعب في مرح. وود لو ثارت عاصفة فقذفت على الشاطئ بموج فائر، يصطدم في الصخور صاخبا ويتطاير عنه الرشاش الأبيض مدويا عنيفا، فإن ذلك أكثر اتساقا مع خواطره الثائرة.
وشق السكون الشامل صوت منبعث من أعلى الشاطئ الصخري، يشبه صيحة أنثى العقاب إذا آوت إلى وكرها في قمة الجبل بعد طول غيبتها؛ لتدعو فراخها حاملة إليهم بشرى عودتها إليهم بالفريسة. فاستجمع سيف نفسه ووثب من مجلسه خفيفا وقد شردت عنه ذكرياته، كأنها سرب من الخفافيش أزعجتها المطاردة في الظلام؛ فتفرقت تطلب ملجأ في الزوايا البعيدة. وكانت الصيحة معروفة له ولأصحابه؛ صيحة الربيئة الواقف في أعلى الصخور يرقب البحر في انتظار السفن العابرة.
وتسابق الفتيان إلى سفينة قابعة في ركن من الخليج، تترجح فوق الماء الصافي، وما هي إلا لحظات حتى استقروا في مواقفهم، وقال سيف: الجميع هنا؟
فأجابته أصوات بعضها جاد، بعضها ضاحك معابث، واندفعت السفينة الصغيرة منسابة في الخليج، والمجاديف تضرب في الماء معا ثم تعلو معا، كأن يدا واحدة تحركها. ووقف سيف عند صدر السفينة يقلب بصره في عرض البحر، واضعا يسراه فوق حاجبيه. وصاح قائلا: الشمس تميل إلى الغرب، فاجعلوه سباقا معها.
وتقاربت ضربات المجاديف واندفعت السفينة تشق الماء رشيقة، وأمسك الفتيان عن النطق إلا همسات، كأنهم يجمعون جهودهم للمعركة المنتظرة. واقتربت السفينة الضخمة بعد ساعة، وكانت تجاهد بطيئة في سيرها، والنسيم الفاتر لا يكاد يملأ أشرعتها الثلاثة. ونظر سيف إلى سطحها يتأمل من عليه وما عليه، وأحس بشيء يشبه خيبة الأمل. لم تكن من تلك السفن الأنيقة التي تحمل تجارة الحبشة من زبيد أو جزيرة فرسان، ولم تكن من السفن السريعة التي تقصد شواطئ مصر، عيذاب أو القلزم أو أيلة، وتحمل رسل يكسوم وهداياه إلى قيصر. كان يود لو كانت تلك إحدى السفن التي يجد فيها فرصة لشفاء غليله، ويرى دماء أعدائه تسيل تحت قدميه، ويستمع إلى أنينهم وهم يعالجون سكرات الموت.
Halaman tidak diketahui