Waris Kerajaan Terlupakan
ورثة الممالك المنسية: ديانات آفلة في الشرق الأوسط
Genre-genre
ماذا عن ملحمة «الأوديسة» لهوميروس؟ كان العصر الذهبي للعراق على وشك الانتهاء بحلول زمن هوميروس. القصص الملحمية العراقية باقية منذ نحو سنة 2000 قبل الميلاد. وتدور أحداث إحداها حول بطل يدعى جلجامش، وعلاقته برجل يدعى إنكيدو، واشتراكهما في قتل الوحش هومبابا. إنها تتعامل مع مواضيع خالدة مثل: الصداقة، والجنس، والموت. إنها حتى تحتوي على الكوميديا. تقول لعنة قذرة تستهدف عاهرة: «أتمنى أن ترابط كلاب برية في غرفة نومك ... أتمنى أن يغطيك قيء السكارى ... وأتمنى أن تقاضيك الزوجات الغاضبات!» ربما سمع أوديسيوس نفسه هذه القصيدة الملحمية وأدرك فيها بعض أوجه التشابه مع أسفاره؛ ولكن حتى في عصره، كانت بالفعل قديمة.
كانت بابل هي أشهر وربما أعظم مدن العراق القديم، لكن هذه المدينة التي كانت عظيمة يوما ما هي الآن رقعة متسعة من الطين الذي يكاد يكون خاليا من المعالم على ضفة نهر الفرات، خمسين ميلا جنوب بغداد. كل ما تبقى هو جدران منخفضة وأساسات بوابات. يوما ما كانت تلك جزءا من معابد شامخة لدرجة أن الناس ظنوا أنها كانت تبلغ الجنة ذاتها. وسط هذه الأطلال التي لا تثير الإعجاب، من المفترض أنه تم اختراع اللغة. يقول الكتاب المقدس: «لذلك دعي اسمها «بابل»؛ لأن الرب هناك بلبل لسان كل الأرض.»
في مواكبهم الدينية الاحتفالية، حمل البابليون تماثيل الأسد، الصورة الحيوانية لإله الشمس شماش، والتنين، هيئة إله القمر سين. أما عشتار، إلهة الحب (التي بقيت حتى اليوم باسم إستر)، فكان يرمز لها بالحمامة. كرسي معبد، يكاد يضاهي في ضخامته كاتدرائية القديس بولس، لكبير آلهة المدينة، مردوخ؛ وزينت أبوابه بزخارف تنانين، ومخلوقات أسطورية كانت في هيئة نصف عنزة ونصف سمكة، وكلاب. تشتهر المدينة بأنها موطن الحدائق المعلقة، إحدى عجائب الدنيا السبع في العالم القديم. هنا هرب دانيال ورفاقه من أتون النار المتقدة، ووزن بيلشاصر في الموازين فوجد ناقصا، ومات الإسكندر الأكبر في قصر نبوخذ نصر، بعدما أحبط طموحه في غزو العالم.
لقد انقضت الآن أربعة آلاف سنة منذ تأسيس بابل، وطوال أكثر من نصف ذلك الوقت ظلت مهجورة ومعرضة للمطر، والفيضانات، ونهب الأجيال اللاحقة. وبعد وفاة الإسكندر سنة 323 قبل الميلاد، انقسمت إمبراطوريته الضخمة بين مساعديه المتنازعين. ودمرت حربهم الأهلية اقتصاد بابل، ودخلت المدينة مرحلة من التدهور. وباستثناء تضحيات متفرقة، لم نعد نسمع بمعابدها العظيمة. واختفت حدائق بابل المعلقة، ولا يوجد أي أثر لها اليوم. يوجد مشروع مهيب بين الأنقاض؛ لكنه جديد وليس قديما. إنه أحد قصور المدينة القديمة، التي أعيد بناؤها. تحمل أحجاره نقشا يقول: «في عهد الرئيس صدام حسين، أعيد بناء بابل كلها في ثلاث مراحل. من نبوخذ نصر إلى صدام حسين، بابل تنهض من جديد.»
في جميع الأنحاء، على نحو يشبه التصوير الوارد في قصيدة «أوزيماندياس»، كانت توجد رقعة ممتدة من طوب لبن متحلل. كانت عملية إعادة إعمار بابل التي قام بها صدام عبارة عن تشكيلة متنوعة من مختلف الأنماط، وسخر منها علماء الآثار الجادون واستهجنوها. واستعمل معظم ما تبقى من بابل الفعلية منذ مدة طويلة مواد بناء لمدينة بغداد، أو نهب أو بيع بثمن بخس لعلماء آثار أجانب وشحن إلى متاحف في لندن، وبرلين، وباريس. ومع ذلك لم يبن قصر صدام الجديد، وهو ما أسعد علماء الآثار. فبناؤه كان يعني استيلاء صدام على ماضي العراق القديم، وهو ما كان يمكن أن يساعد على إضفاء الشرعية على وجود العراق كدولة وسيادته عليها. فبدلا من أن يكون العراق مجموعة من المقاطعات التركية المنتزعة من حكامها العثمانيين في أعقاب الحرب العالمية الأولى، لا يوحدها دين، أو لغة، أو عرق، كان يمكنه أن يقدم دولته البوليسية القمعية بوصفها وريثة الإمبراطوريتين البابلية والآشورية. ومن التوافق، أن العراق لم يحكم، في ذلك الماضي المجيد، على يد رجال الدين المسلمين، الذين كان صدام يكرههم ويخافهم، ولكن حكمه ملوك مستبدون وقساة؛ تماما مثل صدام.
وبحلول عام 2006، كان صدام تحت الحراسة الأمريكية وكان العراق في حالة من الفوضى. وبدا الزمن الذي كان فيه العراق عاصمة لحضارة العالم بعيدا للغاية. فيما مضى كان البطاركة المسيحيون في العراق يوقعون رسائلهم هكذا: «من صومعتي على نهر جنة عدن»؛ لأنهم كانوا يعتقدون أنها كانت موقع الجنة الأصلية التي عاش فيها آدم وحواء. أما في وقتنا الحالي فالنهر ذاته كان يحمل جثث الموتى نحو البحر، مرورا بشارع أبو نواس، حيث اعتاد البغداديون الجلوس في الأيام السعيدة الماضية، وأكل السمك، وتدخين النرجيلة. كان معظم العراقيين يحاولون البقاء بأمان فحسب، فكانوا يتوجهون إلى منازلهم بأسرع ما يمكن بعد العمل ثم يمكثون بها. وإذا أرادوا محاولة العيش كما كانوا قبل الحرب، والجلوس في أحد مقاهي المدينة، فكان يتعين عليهم إعداد أنفسهم لمواجهة مواقف صعبة. أخبرتني إحدى النساء أنها كانت هي وإحدى صديقاتها تشربان الشاي في أكوابه الأنيقة التي يسميها العراقيون «الاستكانة» - عريضة عند الحافة، ورقيقة من المنتصف، وما زالت توجد أكواب مماثلة منذ القرن الخامس عشر - عندما سمعتا رجلا يفجر نفسه في الشارع. نظرتا حولهما هنيهة، وعندما أدركتا أنه لم يكن ثمة خطر محدق، عادتا إلى «استكانتيهما» واستأنفتا احتساء الشاي. فقد كانت التفجيرات الانتحارية من الأمور اليومية المعتادة.
في الأشهر التي قضيتها في بغداد بصفتي دبلوماسيا، أمضي بسرعة على طرق المدينة السريعة في سيارة مصفحة أو أطل من طائرة مروحية تحلق فوق أراضي العراق الزراعية بمدفع رشاش معلق على جانبها، لم أكن قد رأيت أي أثر لتاريخ البلاد. فقد دمرت قصورها القديمة ومساجدها وكنائسها في العديد من الحروب، وعمليات الغزو، ومخططات إعادة البناء غير المدروسة؛ حيث كانت البيوت المبنية بالطوب اللبن قد تحللت بفعل قرون من المطر. وساعد كل من الحروب، والإهمال، والفساد، وطفرة البناء في القرن العشرين المدعومة بالنفط على تحديث بغداد، التي أصبحت الآن مطوقة بضواح شاسعة من منازل صغيرة مكونة من طابقين ومزودة بساحات ضئيلة المساحة.
أوصى كتيب إرشادي كتب بشجاعة في وقت قريب من حرب عام 2003 للسياح القلائل الذين قد يرغبون في الزيارة (حيث كتب تحت قسم «الترفيه»: «الأخبار سيئة») ببضعة مساجد وقصر واحد بقي من المدينة التي ذكرت في كتاب «ألف ليلة وليلة»، حيث كان الخليفة هارون الرشيد يتجول ليلا بصحبة خادمه المخلص جعفر. فقصة «ألف ليلة وليلة» كانت خيالية، لكن المدينة الحقيقية كانت رائعة جدا؛ إذ بناها الخليفة العربي المنصور سنة 734 ميلادية، وصممها الفرس، وفي وقت من الأوقات كان يعمل بها علماء فلك هندوس أحضرهم مبعوث يهودي من الهند. كان هذا النصب التذكاري للروابط الخصبة بين الثقافات والأديان مدفونا الآن في الخرسانة في مكان ما تحت محطة السكك الحديدية الرئيسية. لم يتعامل العراق بلطف مع تاريخه. •••
ومع ذلك، كان المندائيون تاريخا حيا. تعود نصوصهم الدينية إلى القرن الثالث الميلادي على الأقل، وقد حافظوا على العادات والتقاليد التي كانت أقدم من ذلك بكثير؛ فربما يعود تاريخها إلى بابل ذاتها. وذلك لأن الحقيقة المدهشة هي أنه لا المسيحية ولا الإسلام قمعا بشكل كامل ديانات العراق القديمة. ظل عدد الوثنيين يفوق عدد الموحدين في العراق بعد الفتح الإسلامي. وصف كتاب بعنوان «الفلاحة النبطية»، كتبه عراقي يدعى ابن وحشية نحو سنة 904 ميلادية، الثقافة المعاصرة التي لم تتغير إلا قليلا عن العصور القديمة لدرجة أن علماء العصر الفيكتوري ظنوا مدة من الوقت أن الكتاب يعود إلى بابل القديمة، وأنه من ثم كان أقدم كتاب على الإطلاق. فهو يصف لقاءات مع متعبدين في معابد للشمس والقمر، وفواكه وخضروات وأشجارا، بفضل قوة الآلهة، قادرة على الكلام، وحشرات أتت بها إلى الوجود آثام البشر، وعرافين، ومخلوقات جولم تشكلت بعلوم الإغريق من طين صيني، وجماعات زاهدة مكرسة للآلهة القديمة، ولكنها تشبه الرهبان المسيحيين أو الصوفيين، بشعر مصبوغ بالحناء ولحى طويلة، وتكهنات فلسفية حول أصل العالم. وفي ظل هذه الخلفية، كان من الممكن أن تنجو الثقافة البابلية بسهولة؛ وبالفعل، كتب الكاتب المسلم المسعودي في القرن العاشر الميلادي أن «البقية الباقية من البابليين» لا تزال تعيش في الأهوار العراقية، التي كانت في وقت من الأوقات تغطي ما يزيد عن 7000 ميل مربع من جنوب العراق.
والسؤال هو: لماذا لم يقمع المسلمون، الذين حكموا العراق أكثر من قرنين من الزمان، هذه الثقافات غير الإسلامية؟ كان أحد الأسباب هو أن الجيل الأول من الفاتحين العرب، الذين دحروا في العقود التي تلت عام 632 ميلادية قوات بيزنطة، وحطموا الإمبراطورية الفارسية، لم يعملوا بجد شديد على فرض الإسلام على رعاياهم الجدد؛ لأنهم رأوا أنه في الأساس دين عربي. وقيل إن الخليفة عمر بكى عندما علم أن رعاياه من غير العرب كانوا يعتنقون الإسلام. فمن الناحية العملية، كان غير المسلمين يدفعون أيضا ضرائب أكثر؛ لذلك خسرت الدولة دخلا عندما اعتنق رعاياها الإسلام.
Halaman tidak diketahui