Waris Kerajaan Terlupakan
ورثة الممالك المنسية: ديانات آفلة في الشرق الأوسط
Genre-genre
التسلسل الزمني
مقدمة
1 - المندائيون
2 - الإيزيديون
3 - الزرادشتيون
4 - الدروز
5 - السامريون
6 - الأقباط
7 - الكلاشا
الخاتمة
Halaman tidak diketahui
مصادر وقراءات إضافية
التسلسل الزمني
مقدمة
1 - المندائيون
2 - الإيزيديون
3 - الزرادشتيون
4 - الدروز
5 - السامريون
6 - الأقباط
7 - الكلاشا
Halaman tidak diketahui
الخاتمة
مصادر وقراءات إضافية
ورثة الممالك المنسية
ورثة الممالك المنسية
ديانات آفلة في الشرق الأوسط
تأليف
جيرارد راسل
ترجمة
أسماء عزب
مراجعة
Halaman tidak diketahui
محمد حامد درويش
إلى والدي
وإلى ليندا نورجروف، وفاديم نزاروف، وآخرين ممن شاركوني رحلاتي لكنهم لم يعودوا موجودين بيننا ليقرءوا هذا الكتاب.
تمهيد
بقلم روري ستيوارت
بحلول أوائل القرن الثامن، سيطر الحكام المسلمون على معظم الأراضي الواقعة بين أفغانستان وحدود شمال أفريقيا. لكن الدول الإسلامية - التي اشتهرت في أوروبا بشراستها ووحدتها - أثبتت في نهاية المطاف أنها أكثر تسامحا مع الديانات الأخرى من المسيحية الغربية. ففي أوروبا، أبيد «الوثنيون» بشكل كامل وسريع، لدرجة أنه لا يكاد يمكن استعادة تفاصيل ديانات ما قبل المسيحية في مكان مثل بريطانيا. بينما في العالم الإسلامي، سمح لديانات «وثنية» كاملة بالبقاء على حالها حتى القرن الحادي والعشرين، ولا يزال من الممكن إجراء مقابلات مع أتباعها.
فلدينا الإيزيديون في شمال العراق، الذين تشتمل معابدهم على تمثال لطاووس، وهو مرتبط بطريقة ما بالشيطان. وعندنا قبيلة الكلاشا على الحدود الأفغانية الباكستانية، التي يشتمل إيمانها على تماثيل خشبية للأسلاف-الأبطال. ومن لبنان إلى إيران بقيت ديانات موجودة؛ بعضها له علاقة خاصة بالنار، والبعض الآخر يركز على الغمر في الماء، والبعض الآخر يركز على الشمس والقمر. وبعض هذه المعتقدات يسبق ولادة المسيح بزمن طويل.
إن الموضوع رائع. فهذه المجموعات ليست مجرد رموز لأحاسيس واحتمالات دينية تلاشت الآن. فهي توحي بالكثير حول أصول ديانات العالم الرئيسية وتطورها. وتمثل للعالم الحديث مكونات صعبة: فهي هويات مضغوطة معقدة، متجذرة في التاريخ والطبيعة، ولكنها أيضا أنظمة عقائدية تغيرت تغيرا كبيرا بمرور الزمن، وأدمجت معها ديانات منافسة، وصدرت إلى أراض جديدة.
لكن الموضوع يكاد يكون مستحيلا. فالوصول إلى هذه الديانات أو فهمها أو وصفها أمر صعب للغاية. لقد نجت جزئيا لأنها وجدت في بعض من المناطق النائية والجبلية والخطرة جدا في الشرق الأوسط. وأحيانا يتحدث معتنقوها بلغات غامضة قديمة. ستشعرك المحفوظات والسجلات العلمية الخاصة بهذه المعتقدات بالخوف. ففي بعض الحالات تكون الديانات باطنية: إذ يحرم تسجيل معتقداتها، أو مناقشتها، أو الكشف عنها. وفي حالات أخرى، تتعرض الديانات للاضطهاد، وتعين على معتنقيها أن يتعلموا إخفاء تفاصيل عقيدتهم لتجنب التعرض للقتل. ونادرا ما يمكنهم التحدث إلى الغرباء، ونادرا ما يتحدثون إليهم. لذلك، من الصعب جدا تخيل شخص مؤهل لتناول الموضوع.
يعد جيرارد راسل واحدا من القلائل القادرين على تأليف كتاب من هذا النوع. ولد جيرارد راسل عام 1973 في أمريكا لأبوين بريطانيين، ودرس الفلسفة واللغات الكلاسيكية في كلية باليول بأكسفورد. ثم التحق بالسلك الدبلوماسي البريطاني، الذي أرسله إلى القاهرة لتعلم اللغة العربية. أصبحت لغته العربية فصيحة بما يكفي ليصبح المتحدث الرسمي العام للمملكة المتحدة في القنوات الإخبارية العربية. أرسل إلى العراق بعد الغزو الأمريكي، وأصبح القنصل العام في جدة، ثم مستشارا سياسيا في السفارة في كابول. في تلك المناصب، وفي الوقت الذي ظل فيه العديد من الدبلوماسيين منعزلين عن السكان المحليين، عقد هو صداقات قوية مع العرب والأفغان خارج السفارة، بمساعدة مهاراته اللغوية، وأصبح خبيرا أكثر مما مضى بالبلدان والأشخاص الذين يعيش معهم. وفي عام 2009، انضم إلى مجموعة من المتخصصين الأفغان في مركز كار لسياسة حقوق الإنسان، في كلية كينيدي بجامعة هارفارد.
Halaman tidak diketahui
إنه متواضع للغاية، لدرجة أنه قد يكون من الشاق تذكر مدى صعوبة تأليف هذا الكتاب. ويقدم نفسه مرارا وتكرارا على أنه مجرد سائح مرتبك، يتجول بصخب في الحافلات الريفية. لكنه عالم مثقف يتمتع بالصبر وعقل ذكي للغاية. ويتمتع بقدرة استثنائية على تجميع المعلومات المعقدة وتقديمها. ولديه موهبة كبيرة في كسب ثقة من يجري المقابلات معهم. فعندما يجري مقابلات مع أشخاص في إيران أو لبنان، فإنه يفعل ذلك بطلاقة باللغة العربية أو الفارسية. وعندما يتتبع العوامل المؤثرة على الإيزيديين أو المندائيين، فإنه يفعل ذلك بمعرفة عميقة بالتاريخ الإسلامي والعقيدة المسيحية. وعندما يكتب عن القنابل والهجمات في العراق وأفغانستان، يكتب بوصفه شخصا تعامل وتعايش مع سياسات وعنف حركات التمرد تلك. لقد تطورت على مر السنين شبكة الأصدقاء التي يعتمد عليها في التنقل عبر المناطق الخطرة أو في الوصول إلى الزعماء الدينيين. إن هذا الكتاب، كتابه الأول، هو ثمرة عقدين من الخبرة والتفكير العميق.
شكلت كل من هذه الديانات من عدة ديانات أخرى، حية، ومتطورة، ومتلاشية. فعلم اللاهوت نظام دقيق وقاس، حيث يكون للخلافات التي تبدو «تافهة» عواقب كبيرة، وفي كثير من الأحيان خطيرة، وكثيرا ما تؤدي إلى جرائم قتل على خلفيات طائفية. ولا يزال العديد من الحقائق الأساسية حول هذه المعتقدات موضع جدل حاد، بعضه نابع من ظهور بيانات جديدة، والبعض الآخر تدفعه ببساطة سياسات وأساليب جديدة في الأنثروبولوجيا أو ديانات العالم. لذا يتطلب الأمر قراءة آلاف من الكتب والمقالات. ويتعين الرجوع إلى مخطوطات غير منشورة مكتوبة بلغات قديمة. فبعض أفضل السجلات يعود عمره إلى قرن من الزمان، ولكنها تحتاج إلى تخليصه من تحيزات مؤلفيه. فالكثير من هذه المعلومات وثيق الصلة بالموضوع وجيد، على نحو غير مريح.
وموضوعات «الحداثة»، والصراع، و«الغرب» تلقي بظلالها على كل شيء. والعديد من الأوطان الدينية لهذه المعتقدات موجودة اليوم في مناطق تشهد نزاعات نشطة - العراق، أفغانستان، أطراف سوريا - اكتسحت في غمار أنظمة دعمتها أو أطاحت بها الولايات المتحدة، وإيران، والمملكة العربية السعودية، وروسيا، وقطر. وقد عانت العائلات «الوثنية» من الاحتلال، والحروب بالوكالة، وجرائم الشرف، والاختطاف، والشاحنات الضخمة المفخخة. وأصبح «الوثنيون» الآن رجالا حليقي الذقن يرتدون السترات، أو شابات عاملات. وفي العقود الثلاثة الماضية، غادرت أعداد لم يسبق لها مثيل منهم منازلها الريفية، وفقدت صلاتها بطبيعتها الأصلية وعائلاتها الكبيرة، وبدأت في الزواج من مجموعات مختلفة ونسيان ديانتهم القديمة. وربما فر غالبية المعتنقين الآن بوصفهم لاجئين إلى الغرب. لذا فإن الصورة الصادقة للإيمان المعاصر لا تتطلب فحسب وصفا لمعبد عمره ثلاثة آلاف عام وكاهنه القديم، وإنما أيضا لسينما في لندن أو مركز مجتمعي في ديترويت لأشخاص غيروا دينهم، محاطين جميعا بالأوهام المضطربة وضغوط الثقافة الغربية المعاصرة.
يتنقل راسل بين كل هذا، ساردا الأحداث بمنتهى السلاسة، تاركا بقدر كبير جدا في الخلفية عشرين عاما من التفاني، والدراسة، والخيال، والاهتمام. من المغري أحيانا أن نأمل في الحصول على سرد أكثر رومانسية، أو على مزيد من التركيز على ردود أفعاله العاطفية، أو لمحة أوضح عن إيمانه أو آرائه عن الله. فقد كان يمكن أن يتاح مجال لذكر انبهار وردزورث بالوثنية بوصفها طاقة أو إمكانية أخرى:
إلهي العظيم! أفضل أن أكون
وثنيا ينهل من عقيدة عفى عليها الزمن؛
لذا هل لي، وأنا أقف على هذه المرجة اللطيفة،
أن أحظى بلمحات من شأنها أن تجعلني أقل بؤسا؛
وأن ألقي نظرة على بروتيوس وهو يرتفع من البحر؛
أو أسمع تريتون العجوز ينفخ بوقه المجدول.
Halaman tidak diketahui
لكن راسل يقاوم هذا، مثلما يقاوم إغراء التباهي باكتشافاته أو تحويل قصة أفول هذه الديانات، واضطهادها، وتشتتها إلى رثاء مطول.
عوضا عن ذلك، يحقق شيئا ربما يكون في نهاية المطاف أكثر قيمة وديمومة؛ ألا وهو التأريخ الدقيق. فقد سجل بأمانة ودقة مقابلات مع أتباع هذه الديانات في القرن الحادي والعشرين. وهو يقدم لنا بالتفصيل من يزودونه بالمعلومات، ويعطينا السياق الخاص بهم، ويلمح إلى تحيزاتهم. ولا يخشى أبدا الاعتراف بالجهل، أو عدم اليقين، أو التناقض. ويلمح إلى مشكلة عميقة مفادها أن الأصول العقائدية لبعض هذه الديانات لم تعد موجودة، هذا إن كان لها وجود يوما ما. ويبدو أن بعض معتنقي هذه الديانات يواصلون ممارسة طقوسهم دون عقائد واضحة عن الخطيئة أو الخلاص، ودون وضوح معنى الكلمات، أو الأشياء والرموز في معابدهم، ودون أي ذكريات متبقية من قصص آلهتهم. وهو يربط جميع اكتشافاته بالسياقات البيئية المعاصرة.
هذا المزيج من المهارة اللغوية، والفهم الثقافي العميق، والشجاعة، والفكر الكلاسيكي، والحب العميق للثقافات الأجنبية كان يوما ما أكثر شيوعا. فراسل ينتمي انتماء مباشرا إلى التقليد الذي اتبعه علماء/ضباط إمبراطوريون بريطانيون أمثال ماونتستيوارت إلفينستون، أو ماكولاي، أو حتى تي إي لورانس. لكنه نادر جدا حاليا. وليس من قبيل الصدفة أن راسل قد ترك حاليا السلك الدبلوماسي البريطاني وجامعة هارفارد. يبدو الأكاديميون مستغرقين في خلافات داخلية أكثر تعقيدا، مما لا يترك إلا حيزا محدودا أو إمكانية محدودة لمشروع بهذا الطموح والنطاق. فالسلك الدبلوماسي وواضعو السياسات يريدون الآن «كفاءة إدارية»؛ خططا بارعة وواضحة، دون أي فروق دقيقة، أو معرفة عميقة، أو تعقيد.
وبدلا من ذلك، يطبق راسل فضائل أقدم وأقل مؤسسية. وهذا الكتاب هو تحد صبور ودقيق لنظريات كبرى وطموحات مجردة. فهو صارم في تركيزه على تفاصيل الثقافة والتاريخ. ويكشف ويساعد في الحفاظ على التنوع والهويات والالتزامات المحيرة تحت سطح «عالم متسم بالعولمة». ويوضح كيف أن استقلالية الثقافات الأجنبية، وكرامتها، وقدرتها يمكن أن تتحدى أوجه الغرور الغربي والأفكار المسبقة. وفوق كل شيء، ينجح في ربط حبه وعلمه بالنظم الإيكولوجية الحية والأشخاص الأحياء. إن هذا الكتاب يحتوي على الكثير مما يمكن أن نتعلمه.
التسلسل الزمني
نحو 2560ق.م.
بناء الهرم الأكبر في مصر
نحو 1900
وصول الهنود الأوروبيين إلى الهند، ربما كان من ضمنهم أسلاف قبيلة الكلاشا
1842
Halaman tidak diketahui
بزوغ بابل بوصفها دولة-مدينة مستقلة
نحو 1000
تاريخ تأليف الكتب المقدسة الزرادشتية، الأفيستا
740-722
هجوم الآشوريين على إسرائيل، وأسر الأسباط العشرة
597
نهب نبوخذ نصر للقدس، وترحيل كبار اليهود إلى بابل
331
غزو الإسكندر الأكبر لبلاد فارس؛ بعدها بمدة وجيزة، يعبر سلسلة جبال الهندوكوش
70 ميلادية
Halaman tidak diketahui
نهب الرومان للقدس وتدمير الهيكل الثاني
274
موت ماني، مؤسس المانوية؛ المندائيون موجودون بالفعل في أهوار العراق
313
إصدار قسطنطين مرسوم ميلانو، الذي يقر فيه بالديانة المسيحية
529
غلق الإمبراطور البيزنطي جستينيان لأكاديمية أفلاطون
634-654
غزو العرب المسلمين لجميع البلاد من المغرب إلى إيران
635
Halaman tidak diketahui
وصول أول مبشر مسيحي إلى الصين من الشرق الأوسط
1017
تدريس الديانة الدرزية لأول مرة علانية في القاهرة
1095
دعوة البابا أوربان الثاني للحملة الصليبية الأولى
1160
وفاة الشيخ عدي، شخصية رئيسية في الديانة الإيزيدية في شمال العراق
1258
نهب جنكيز خان بغداد
1263
Halaman tidak diketahui
ولادة ابن تيمية، ناقد محافظ للدروز وغيرهم من المسلمين المبتدعين
1501
بداية عهد الشاه إسماعيل الأول شاه إيران، الذي حول البلاد إلى الإسلام الشيعي
مقدمة
تخيل لو أن عبادة الإلهة أفروديت كانت لا تزال مستمرة في جزيرة يونانية نائية، أو أن عبدة أودين وثور قد تخلوا للتو عن بناء الزوارق الطويلة على سواحل الدول الإسكندنافية، أو أن أتباع الإله ميثرا كانوا لا يزالون يتبادلون المصافحة الشعائرية في الكنائس الرومانية المبنية تحت سطح الأرض. في الشرق الأوسط، على عكس أوروبا، نجت ديانات قديمة مماثلة؛ غالبا في الأهوار، والبراري، والجبال، وغيرها من الأماكن النائية أو التي يتعذر الوصول إليها، وأحيانا تحت ستار نظام سري صارم.
ربما كانت هذه الديانات ستهيمن على العالم الحديث لو كان التاريخ قد اتخذ منعطفات مختلفة. وكاد أحد أتباع الواعظ النباتي الصارم المسمى ماني أن يصبح إمبراطورا لروما. ولو كان قد فعل ذلك، فربما كانت الإمبراطورية الرومانية ستنشر تعاليم ماني، وليس المسيحية، في جميع أنحاء أوروبا؛ وبدلا من الذهاب إلى بيت لحم، قد يتوجه الحجاج الأوروبيون إلى أهوار العراق، حيث أول مكان وعظ فيه ماني. عوضا عن ذلك، انقرض المانويون، لكن أقرب أقربائهم، المندائيين، ما زالوا يعيشون في العراق. ولولا غزوات المغول وتيمورلنك، لربما ظلت بغداد مركزا عالميا للمسيحية؛ لأنه أتى عليها حين من الدهر كان فيه لكنيسة المشرق، التي تتخذ من العراق مقرا لها، أساقفة وأديرة في أقصى الشرق في بكين.
خلال أربعة عشر عاما كنت فيها دبلوماسيا يتحدث العربية والفارسية، يعمل ويسافر في العراق، وإيران، ولبنان، صادفت معتقدات دينية لم أكن أعرفها من قبل: تحريم ارتداء اللون الأزرق، والشوارب الإلزامية، وتبجيل الطاووس. وقابلت أشخاصا يؤمنون بكائنات خارقة للطبيعة تتخذ شكلا بشريا، وبقدرة الكواكب والنجوم على تسيير شئون البشر، وبتناسخ الأرواح. كانت هذه الديانات من بقايا ثقافة ما قبل المسيحية في بلاد الرافدين، لكنها استقت أيضا من التقاليد الهندية التي انتقلت إلى الشرق الأوسط عبر الإمبراطورية الفارسية، ومن الفلسفة اليونانية. وقد حافظت هذه الديانات أيضا على عادات الحضارات القديمة التي كان أتباعها آخر سلالتها الضعفاء. يلقي هذا الكتاب الضوء على بعض، فقط بعض، من هذه المجموعات.
عندما التقيت بهذه المجموعات الدينية المختلفة، شعرت بالإلهام والدهشة من ثباتهم على إيمانهم. فقد تمسكوا بالممارسات والتقاليد دون تغيير أكثر من ألف عام، وأحيانا حافظوا عليها آلاف السنين. ومع ذلك، فإن معظم هذه المجموعات الآن أكثر ضعفا من أي وقت مضى، ويهدف هذا الكتاب إلى منحهم صوتا. وهم يستحقون الإصغاء إليهم لأسباب أخرى أيضا؛ فهم يربطون الحاضر بالماضي، مما يقربنا من ثقافات اندثرت منذ زمن طويل. فهم يربطون الشرق الأوسط بالثقافة الأوروبية من خلال إظهار كيفية انبثاق الاثنين من جذور مشتركة. ويتبعون دياناتهم بشكل مختلف عن الأوروبيين والأمريكيين؛ فالأقباط، على سبيل المثال، يتحملون عبء صلاة وصوم يفوق حتى ما يتحمله الرهبان في الغرب؛ والدروز لديهم دين لا يطالبهم بشيء على الإطلاق، باستثناء عدم الزواج من خارجه. وهكذا يبدو لي أن المجموعات الواردة في هذا الكتاب تعالج ثلاثة أمور أزعجتني خلال مدة وجودي في الشرق الأوسط؛ وهي الجهل الجماعي للبشرية بماضيها، والتنافر المتزايد بين المسيحية والإسلام، والطريقة التي تزايد بها اقتصار الجدل حول الدين على المتمسكين بالمعنى الحرفي والملحدين ضيقي الأفق. •••
لدينا أقرباء فكريون في أماكن غير متوقعة. فالفلسفة اليونانية، على سبيل المثال، ليست ظاهرة أوروبية، لكنها بحر متوسطية، وقد أثرت في الشرق الأوسط بقدر تأثيرها في أوروبا. ومثال آخر على ذلك، هو أنه عندما قاد الإسكندر الأكبر جيشه عبر ما نسميه الآن أفغانستان وباكستان، شعر أنه يمكن أن يرى أصداء ثقافته، وكان على حق؛ لأن أوروبا وشمال الهند تتقاسمان تراثا هنديا-أوروبيا مشتركا. تلك الروابط موجودة لدى أشخاص يعيشون في أقصى الشرق. فقبل ألف سنة، شارك مسيحيو العراق كنيستهم مع المغول، وكان لديهم بطريرك صيني وأسقف من التبت، وقد أحدثوا تأثيرا في الأبجدية المغولية والتبتية الحديثة. وفي كل مكان في العالم القديم، يمكن، على الأقل، لاختلافات واضحة أن تخفي روابط وقواسم مشتركة غير متوقعة. وأثناء كتابتي هذا الكتاب، كان دائما ما يسعدني العثور على هذه القواسم؛ فهي تدحض نظريات ومعتقدات أولئك الذين يريدون حصر الناس في ثقافات وحضارات منفصلة، وجعلهم في حالة حرب بعضهم مع بعض.
في الوقت نفسه، استمتعت، أيضا، بالعثور على اختلافات ؛ أفكار كانت تختلف عن أفكاري وتدفعني إلى التفكير مليا فيما كنت أومن به والسبب في إيماني به. دعا الكاتب اللبناني-الفرنسي أمين معلوف في كتاب بعنوان «عن الهوية» إلى الكفاح «من أجل عالمية القيم»، ولكنه أيضا دعا إلى مواجهة «الانصياع الأحمق ... ضد كل ما يجعل العالم رتيبا وصبيانيا». وأنا أتفق معه، مع أنني لم أستطع أبدا أن أقرر ما إذا كان ينبغي تقدير التنوع الثقافي مهما كان الثمن. هل ينبغي أن نشعر بالحزن إذا ازداد ثراء المجتمع وتخلى عن أعرافه، أو إذا هزم معتقد ديني في جدال؟ لا أدعي معرفة الجواب: أعتقد فقط أننا كنا محظوظين بنجاة هذه الديانات، وأن الديانات المعاصرة التي أقيمت شعائرها بإخلاص أجيالا عديدة قادرة بعضها على دراسة أفكار بعض والتعلم منها.
Halaman tidak diketahui
لكن السؤال هو: كيف عاشت كل هذه المدة في ظل حكم المسلمين؟ في أغلب الأحيان يقدم الإسلام على أنه دين غير متسامح، ويريد بعض أتباعه للأسف أن يكون كذلك. إن وجود ديانات الأقليات الواردة في هذا الكتاب يدل على أن صورة التعصب غير صحيحة؛ لأنها نجت في ظل الإسلام، بينما لم تنج أي عقيدة مماثلة في أوروبا المسيحية. ومع ذلك، فإن أسباب هذا معقدة. لذا اسمحوا لي أن أحاول تلخيصها في بقية هذه المقدمة.
يعود أحد الأسباب إلى ما قبل الإسلام أو المسيحية. فقد كانت هناك ديانات في الشرق الأوسط أكثر تطورا من ديانات ما قبل المسيحية في أوروبا، وكانت لها جذور مشتركة مع المسيحية والإسلام. لذلك رغم عدم تردد المسيحيين في القضاء على الديانات الإسكندنافية أو السلتية، ونجاحهم السريع نسبيا في فعل ذلك، فإن بعض الوثنيين في الشرق الأوسط - الذين تعمقوا في الفلسفة اليونانية وعلم الفلك البابلي، وامتلكوا لاهوتا معقدا - استمروا زمنا أطول كثيرا.
أيضا، على الرغم من أن النبي محمدا أراد بالتأكيد وضع حد للممارسات الدينية التراثية للعرب، التي انطوت على عبادة آلهة متعددة، كان القرآن على النقيض معتدلا نسبيا تجاه أتباع الأديان التي كانت تدعو إلى التوحيد ولها نصوص دينية، مثل اليهود ، والمسيحيين، والزرادشتيين. ولقب أتباع هذه الديانات باسم «أهل الكتاب». ونجا العديد من المجموعات المذكورة هنا لأنها تمكنت، بطريقة أو بأخرى، من الحصول على هذه التسمية.
لم يكن المسلمون الأوائل منهجيين في قمع حتى الممارسات الوثنية العلنية في القرون الثلاثة أو الأربعة الأولى من الإسلام، عندما ظل المسلمون أقلية في أنحاء كثيرة من الشرق الأوسط. وعندما سعى الدعاة المسلمون إلى تحويل الناس إلى الإسلام بنشاط أكبر، كان بعضهم على استعداد لقبول مجموعة واسعة من المعتقدات والممارسات التي تجاهلت الفرق بين الإسلام والديانات القديمة التي كان يحل محلها. فقد تقول مجموعة من الذين اعتنقوا الإسلام حديثا، على سبيل المثال، إن طقوس تبجيلهم للنجوم كانت إسلامية شرعا؛ لأن النجوم كانت ملائكة؛ ومن ثم يمكنها الحفاظ على بعض أجزاء من التراث الوثني القديم الذي كانت قد تخلت عنه باعتناقها الإسلام.
لا يعني أي من هذا أن معتقدات الأقليات عوملت بشكل جيد. فقد كان هذا في زمن كان فيه الاختلاف مع الحاكم في أمور لاهوتية يمكن أيضا أن يكون تحديا لحقه في الحكم. وكان مفهوما، في كل من الإمبراطوريتين البيزنطية والعربية، أن أولئك الذين يرفضون دين الحاكم سيكونون من الفئات الأقل حظا. كان «أهل الكتاب» أقل شأنا من المسلمين من الناحية الشرعية، ويدفعون ضريبة إضافية. وعندما كانوا يتمردون على فرض الضرائب، كما فعل الأقباط في القرن التاسع الميلادي، قد تبدأ الدولة في اعتبار دينهم قوة هدامة وتتخذ إجراءات لتقويضه.
في القرنين العاشر والحادي عشر، عندما أصبح الإسلام دين الأغلبية، تعرضت الطوائف التي لم تكن من «أهل الكتاب» لمزيد من الضغوط. وشهد القرن العاشر اضطهادا جماعيا وانقراضا فعليا للمانويين. وفي القرن الحادي عشر، هدم معبد إله الشمس، شماش، في حران، الذي كان قائما منذ العصر البابلي، وحث العلامة الغزالي المسلمين على التخلي عن افتتانهم بفلاسفة ما قبل الإسلام. وحتى حينئذ، كان علماء مثل البيروني وابن النديم يكتبون عن الديانات غير المسلمة بموضوعية لا تزال تثير إعجاب القراء المعاصرين.
أدى الصراع بين المسلمين وأتباع الديانات الأخرى - الصليبيين في الغرب والغزاة المغول في الشرق - إلى مزيد من التقويض للتسامح، حيث بحث العرب عن العدو بينهم. وبحلول القرن الثالث عشر، كان رجل الدين الأصولي ابن تيمية ينشر كل ما بوسعه من كراهية تجاه طوائف مثل الدروز والعلويين، ويشجع على العنف ضدهم. ومع ذلك، بحلول ذلك الوقت، كانت بعض ديانات الأقليات في الشرق الأوسط قد لجأت إلى أماكن لم تتمكن السلطات من الوصول إليها فيها، مثل الجبال والأهوار. ولم تصبح الحكومة المركزية قوية في الشرق الأوسط كما كانت في أوروبا، وعادة ما كانت تستخدم القوة العسكرية في مواجهة المتمردين أو الفتوحات الخارجية، وليس في قمع الانقسامات الدينية في الداخل. ولم تواجه هذه المجتمعات الدينية النائية، في معظم الأحيان، تدخلا واسع النطاق من الدولة إلا في القرن التاسع عشر، وبحلول منتصف ذلك القرن، كانت حكومات الشرق الأوسط قد بدأت في تغيير نهجها تجاه الأقليات، و(أحيانا تحت ضغط غربي، أحيانا مستوحى فقط من مثل عليا تقدمية) توفير شيء يشبه المساواة. ومنحت الإمبراطورية العثمانية رعاياها غير المسلمين تدريجيا ما يشبه المساواة في القرن التاسع عشر. وفي الخمسين عاما من 1860 إلى 1910 حدثت ثورة في مكانة الأقباط في مصر. وقدمت الثورة الإيرانية عام 1906 للزرادشتيين مقعدا في برلمان البلاد. كل هذا يثبت أن المسلمين في الشرق الأوسط كانوا قادرين تماما على تقدير التنوع. وفي الواقع، في بعض الأحيان كان الأوروبيون هم من لم يفعلوا ذلك. وعندما سأل المسيحيون اللبنانيون القيصر الألماني عما يمكن أن تفعل بلاده لمساعدتهم، أجاب: «أنتم ثلاثمائة ألف مسيحي وسط ثلاثمائة مليون مسلم. لماذا لا تتحولون إلى الإسلام؟»
إذن لماذا تنطوي أقليات الشرق الأوسط اليوم على نفسها؟ لماذا أصبحت الهجمات على الكنائس المسيحية في مصر أو بغداد، أو على الإيزيديين في شمال العراق، أكثر شيوعا الآن مما كانت عليه طيلة 150 عاما؟ (مع عدم إغفال الأقليات داخل الإسلام؛ فحتى أتباع أكبر جماعة إسلامية، وهي السنة، يمكن أن يجدوا أنفسهم أقلية تحت وطأة الضغط في إيران والعراق، في حين أن مذابح المسلمين الشيعة شائعة في باكستان.) تلعب عدة عوامل دورا في هذا الشأن.
أولا: يرجع التنوع في الشرق الأوسط جزئيا إلى أن حكوماته كانت أضعف من أن تفرض دينها. لكن حكومات اليوم تتمتع بنفوذ أكبر، وعندما تختار طرد أقلية دينية أو فرض معتقد أصولي، يمكنها فعل ذلك بشكل أكثر فاعلية من أي وقت مضى. ففي المدة بين عامي 1915 و1917، تمكنت الإمبراطورية العثمانية من القتل المنظم لأكثر من مليون من رعاياها الأرمن عندما أدركت أن الأرمن يقفون إلى جانب روسيا؛ «أصدرت أمرا بالإعدام لعرق كامل» مثلما كتب لاحقا السفير الأمريكي للإمبراطورية. يمكن للحروب الأهلية أيضا أن تصل إلى أعماق أراضي جماعة دينية قد لا ترغب في شيء سوى أن تكون محايدة؛ مثلما حدث مع الإيزيديين في شمال العراق في عام 2007، عندما أصبحوا ضحايا لواحدة من أكثر الهجمات الإرهابية فتكا في العالم. لا توجد أماكن آمنة بعد الآن.
تتمتع الجماعات الدينية في الشرق الأوسط بدرجة عالية من الترابط الداخلي. وعادة ما يقابل الزواج من دخيل بالرفض؛ وقد يفضل الأشخاص داخل الجماعة توظيف أعضاء آخرين من الجماعة نفسها، واعتناق دين آخر ليس خيارا فكريا ولكنه تغيير أكثر عمقا؛ لأنه يعني عادة مغادرة المرء لطائفته والانضمام إلى طائفة جديدة. تمتعت بعض الجماعات الدينية (مثل الإيزيديين والآشوريين، على سبيل المثال) بدرجة عالية من الاستقلال الذاتي قرونا عديدة، بعيدا عن سيطرة الحكومات، وما زال قلة منهم يتحدثون لغتهم الخاصة. هذا الترابط الداخلي يعني أن ثمة ميلا إلى تحميل مثل هذه الجماعات كامل المسئولية عن أفعال أي شخص يعتنق دينها. ومن ثم كانت الاعتداءات السابقة على الأرمن واليهود، والحالية على الشيعة والمسيحيين. وهذا، في حد ذاته، ليس بجديد. ومع ذلك، ففي المشهد السياسي المعقد ودائم التغير في الشرق الأوسط المعاصر، من السهل أن ينتهي الأمر بالولاء للأشخاص الخطأ. فالسامريون، الذين يعيشون على جبل في الضفة الغربية، يحاولون جاهدين تجنب استعداء الإسرائيليين أو الفلسطينيين، والإيزيديون في شمال العراق يتعرضون للضغط للاختيار بين العرب والأكراد، وكان على الكنيسة القبطية المصرية أن تقرر ما إذا كانت ستدعم الحكم العسكري أو الإسلامي. كل خيار يصنع أعداء للطائفة بأسرها، وليس لقادتها فقط.
Halaman tidak diketahui
وعلى الرغم من أن الحكومات أصبحت قوية بما يكفي لسحق الأقليات المزعجة، يتردد بعضها في إنفاق رأس المال السياسي والمجازفة بمواجهة أوسع نطاقا جراء حماية الطوائف الصغيرة من الاعتداءات. ففي جنوب مصر، إذا واجهت عائلة قبطية قبيلة مسلمة، فستخسر المواجهة؛ سواء كانت على المال، أو الأرض، أو «الشرف» (فعلاقات الحب، كما هو موضح في الفصل السادس، هي بخاصة سبب متكرر للصدام). وبعض الطوائف القبطية كبيرة وصعبة المراس بما يكفي لقلب الأمور رأسا على عقب. وتلك هي الطوائف التي لا تعتمد على الشرطة والقضاء لحمايتها؛ ولكن حتى تلك المؤسسات، التي غالبا ما تفتقر إلى السلطة الأخلاقية، قد تخشى القبيلة المختصمة، وتفضل عدم معاقبتها. هذه ليست مسألة دينية فحسب. وغالبا ما تعاني الأقليات العرقية من المشكلة ذاتها. ومع ذلك، فقد أصبحت الأقليات الدينية في الشرق الأوسط في القرن العشرين لا تنتمي لمجتمع قبلي، وحضرية، ومن الطبقة الوسطى، مما يعني أنها الآن في وضع جيد للاستفادة من الاستقرار والنمو الاقتصادي، ولكنها عادة أيضا ليست منظمة تنظيما كافيا للدفاع عن نفسها، ومن ثم تصبح مستضعفة، وبخاصة في أوقات الصراع.
أخيرا، أحدثت العقود القليلة الماضية تغييرا في سلوك بعض المسلمين في الشرق الأوسط تجاه الديانات الأخرى، وتجاه التفسيرات المنافسة للإسلام ذاته. ففي مصر، شهدت السنوات الخمسون الماضية عنفا ضد الأقباط أكثر بكثير من الخمسين عاما التي سبقتها. وفي باكستان، الدولة التي أسسها مسلم شيعي، أصبح العنف ضد الشيعة شائعا. والعراق، البلد الذي حكمه في خمسينيات القرن الماضي رجل من أسلاف مختلطين، من الشيعة والسنة، أصبح الآن في دوامة من العنف الطائفي. ويؤدي الضعف وقابلية التعرض للهجوم إلى الانغلاق الذهني؛ الذي، بدوره، يعوق المجتمعات. فالغضب والكراهية تجاه الدخلاء يقويان الهوية الطائفية للجماعة، وربما يرضيان حاجة بشرية فطرية في رفقة لمواجهة أي تهديد خارجي، وقد يغرسهما قادة الجماعة باعتبارهما وسيلة لتقوية شعور الجماعة بالهوية والولاء المتبادل. لا توجد طريقة أسرع لتعزيز الشعور بهوية الجماعة من الإشارة إلى عدو مشترك شرير وقوي، ومع ذلك يمكن هزيمته؛ ليصبح الأمر مثل داود الذي يهزم جالوت. وفي الشرق الأوسط، مثل هذا الغضب والكراهية - اللذين يتصاعدان أحيانا ويتحولان إلى عنف وفي أحيان أخرى يضطرمان دون أن يلاحظهما أحد، ويستمران في الوجود من خلال الدعاية الخبيثة - يكونان أيضا نتاج ظروف معينة. لقد تراجع المنافسان العلمانيان للإسلام السياسي من القرن العشرين، الشيوعية، والقومية. وفي زمان هذه الأيديولوجيات، بدت جميعها وكأنها تتيح فرصا للشعوب في الشرق الأوسط لاستعادة الكرامة والقوة اللتين شعرت أنها تستحقهما، واللتين شعرت أن عوامل مثل الاستعمار الأوروبي، والهيمنة الأمريكية، والقوة العسكرية الإسرائيلية، وضعف الحكومات العربية وفسادها كانت تحرمها منهما. توقفت دعوة الشيوعية وتمويلها الخارجي عندما انهار الاتحاد السوفييتي؛ وتراجعت شعبية القومية منذ نهاية الكفاح المقاوم للاستعمار في أوائل القرن العشرين. وقدمت كلتا الحركتين للأقليات قضية يمكنها من خلالها الوقوف جنبا إلى جنب مع المسلمين. ومع اضمحلال الحركات القومية إلى مرحلة ما بعد الاستعمار، أصبح استغلال الانقسامات الدينية أسهل. وتراجعت فكرة أن العراق، أو مصر، دولة لجميع مواطنيها، لدى بعض المسلمين، وحلت محلها الفكرة القديمة القائلة بأن المجتمع الطبيعي هو المجتمع القائم على الدين. كما كتبت سها رسام في كتابها «المسيحية في العراق»: «كل الأقليات ... أصبحت هشة في ظل غياب هوية عراقية موحدة للناس تحت رايتها.»
عززت محاولات خارجية من قبل الغرب المسيحي، الذي جرت علمنته، للتدخل في الشرق الأوسط، من هذا التوتر الديني؛ لا سيما عندما لم يخدم ذلك التدخل بشكل واضح جدا مصالح شعوب الشرق الأوسط. كتب آرثر بلفور في عام 1919 عن المخطط البريطاني لتأسيس وطن قومي لليهود فيما كان يعرف آنذاك باسم فلسطين: «نحن لا نقترح حتى إجراء أي شكل من أشكال التشاور مع رغبات السكان الحاليين للبلاد.» لم يتغير هذا الموقف تغيرا كبيرا، كما أظهرت خطط التحالف غير المدروسة بعناية لعراق ما بعد الحرب (بما في ذلك الإخفاق في حماية التراث الأثري الثمين للبلاد) في عام 2003.
وكذلك لا تتمتع مؤسسات الدولة في كثير من الأحيان بالسلطة الأخلاقية التي قد تساعدها في مواجهة المتطرفين دون اللجوء إلى استخدام القوة. فالمؤسسات الدينية ورجال الدين المدعومون من الدولة قد فقدوا مصداقيتهم في أعين بعض المسلمين؛ بسبب افتراض أنهم نالوا الحظوة والمال مقابل الانصياع للحكومة. ويمكن للمتطرفين استغلال ذلك بتقديم أنفسهم باعتبارهم بدائل أكثر جرأة وأقل فسادا. وتفضل الحكومات غالبا، عند مواجهة المتطرفين الدينيين الأكثر شعبية منها، أن تشتري صمت المتطرفين بدلا من أن تواجههم.
عادة ما كانت العملة التي يشترى بها صمت المتطرفين الدينيين هي فرصة جعل الأجيال القادمة متطرفة من خلال نظام التعليم. وقد نجح الإسلاميون في تحقيق ذلك في سبعينيات القرن الماضي، عندما كان ينظر إليهم (بما في ذلك من قبل إسرائيل والغرب) على أنهم ترياق قيم لسموم الشيوعية والقومية المتطرفة، وقد استفادوا في ذلك الوقت من حقيقة أن ثروة النفط والغاز قد أثرت مجتمعات الشرق الأوسط الأشد تحفظا. ففي مصر، استخدموا نفوذهم على مدى السنوات الأربعين الماضية لجعل قوانين البلاد إسلامية بصورة أكثر صراحة. خلق هذا بيئة تشعر فيها الأقليات بأنها غير مرغوب فيها؛ كما قال لي مسيحي مصري: «إذا كان الدستور يجعل الشريعة الإسلامية «مصدر التشريع»، فإنني أشعر بالتهميش.» تستخدم بعض الجماعات الإسلامية العنف، أيضا؛ عادة لدوافع سياسية، وليس فقط من أجل الحث على الاهتداء إلى الإسلام. ففي الثمانينيات استهدف الإسلاميون المصريون المسيحيين ليس فقط كوسيلة لفرض عمليات التحول إلى الإسلام وإزالة إحدى العقبات في طريق التجانس الديني، ولكن أيضا كوسيلة للضغط على الحكومة. وبعد سقوط حكومة الإخوان المسلمين في مصر عام 2013، وانتقاما لذلك، أحرقت مجموعات متطرفة من الشباب عشرات الكنائس.
في الوقت ذاته، من المهم عدم المبالغة. فيوجد الكثير من حالات حماية المسلمين للمسيحيين في مصر، وفي لبنان - حيث انتهت حرب أهلية مروعة قبل نحو عشرين عاما فقط - تشير استطلاعات الرأي إلى أن التسامح الديني أعلى مما هو عليه في العديد من البلدان الأوروبية. والتقدم الذي جلبه القرن العشرون صوب المساواة الدينية في الشرق الأوسط لم يحدث التراجع عنه كليا؛ فحتى آية الله الخميني لم يتماد إلى حد استعادة قوانين العقوبات القديمة التي اضطهدت غير المسلمين في إيران في القرن التاسع عشر. لكن شعور الأقليات بعدم المحبة يتفاقم. والهجرة من الشرق الأوسط أسهل على الأقليات من أي وقت مضى؛ لأنها استخدمت القرن الماضي أو نحو ذلك لتثقيف وإثراء نفسها، وتجد عموما أن الهجرة إلى أستراليا، أو كندا، أو الولايات المتحدة، أو أوروبا أمرا ميسورا. لذا فإن احتمالية أن بعض هذه الديانات سوف يتضاءل أو حتى يختفي من أوطانه هو احتمال خطير. لن يخسر أحد من هذا أكثر من مسلمي الشرق الأوسط، الذين آمل لذلك أن يرحبوا بهذا الكتاب، الذي يحاول إحياء ذكرى المعتقدات المتنوعة التي جلبها أسلافهم إلى العالم.
تبقى قول شيء واحد، وهو حول الإيمان. فقد رفضت الطوائف الوارد ذكرها في هذا الكتاب كل تحريض للتخلي عن معتقداتها وعاداتها الدينية، وكثيرا ما تحملت الإهانة أو العنف من أجل الحفاظ عليها. وفي بعض الحالات، تكون هذه العادات الدينية في حد ذاتها صعبة للغاية، كما في حالة الأقباط الذين يصومون معظم أيام السنة، أو بالتأكيد في حالة المسلمين خلال شهر رمضان. إذا كان الناس في الشرق الأوسط يتقاتلون حول معتقداتهم أكثر مما يفعل الأوروبيون والأمريكيون، فذلك يرجع جزئيا إلى أن هذه المعتقدات عزيزة جدا عليهم. وفي حين أن التقاتل أمر يجب وقفه، فإن الروح الدينية التي تحفزه قد تملك شيئا أكثر جاذبية لتقدمه. لذا ربما تحثنا الفصول التالية على التفكير في الآتي: إلى جانب جميع الدروس التي يريد الغرب تدريسها لشعوب الشرق الأوسط، هل يوجد ما نتعلمه منهم؟ •••
لقد اخترت في الكتاب أن أستخدم الأسماء الحديثة لدول الشرق الأوسط، حتى عند الإشارة إلى الماضي البعيد. لذلك عندما أقول إن شيئا ما حدث في «لبنان» منذ ألف عام - في وقت لم يكن فيه وجود لهذا البلد - فأنا ببساطة أعني أنه حدث في مكان داخل ما يسمى حاليا بلبنان. وهذا لمجرد سهولة التناول. واستخدمت أيضا «ميلادية» و«قبل الميلاد» بدلا من «الحقبة العامة» و «ما قبل الحقبة العامة» لأنه، في منطقة لكل طائفة فيها تقويمها الخاص، لا يوجد حتى الآن شيء يسمى «الحقبة العامة». على سبيل المثال، هذه السنة هي 2014 ميلادية. وفي التقويم السامري هي 3652، محسوبة من يوم دخول بني إسرائيل أرض الميعاد، وفي التقويم الهجري الإسلامي هي 1435، محسوبة من هجرة محمد إلى المدينة المنورة، وفي التقويم الزرادشتي هي 1383، محسوبة من يوم تتويج آخر ملك زرادشتي. وبالنظر إلى هذا العدد الكبير من أنظمة التأريخ المختلفة، يبدو أكثر صدقا قول إن سنة 2014 هي سنة محسوبة وفقا للنظام المسيحي الأوروبي.
ومن هذا المنطلق، أود أن أوضح أن هذا الكتاب هو سلسلة من التحقيقات الشخصية وغير الرسمية. وهي بالضرورة غير موضوعية وانتقائية، مصطبغة بصبغة اهتماماتي الخاصة وبالمواجهات والمشاهد التي اخترت تصويرها. فمنظوري الخاص هو منظور شخص أمريكي-بريطاني من الروم الكاثوليك يتحدث اللغة العربية والفارسية. ومثل أعضاء الديانات الأخرى الموصوفة هنا، فإنني أنتمي أيضا إلى ثقافة في طور التحول، والمنتمون إليها آخذون في التخلي عن عاداتها وتقاليدها القديمة. توجد طرق أخرى للنظر إلى هذه الطوائف، وقصص أخرى قد تلقي ضوءا مختلفا عليها، وتفسيرات أخرى لتاريخها. ويجب على أي شخص يريد إلقاء نظرة أكثر شمولا على أي من هذه الطوائف قراءة كتب معينة مدرجة في قسم «المصادر والقراءات الإضافية». وفي محاولتي لتأليف هذا الكتاب اعتمادا على أربع سنوات فقط من البحث وعشر سنوات من الترحال في الشرق الأوسط، أبهرني تفاني شخصية مثل إي إس دراور، التي قضت حياتها كلها في دراسة المندائيين. لا يمكنني أبدا أن أباريها في معرفتها أو معرفة العديد من الخبراء الذين كانوا لطفاء بما يكفي لمساعدتي في هذا الكتاب. لقد ذكرت أسماءهم وشكرتهم في قسم «المصادر والقراءات الإضافية».
وعلى ذكر دراور، وكذلك البيروني ومعاصريه في العصور الوسطى، يحضرني الثناء الذي حظي به السير ويليام جونز، مقترح فكرة أن اللغات الأوروبية والهندية لها مصدر مشترك واحد. وقد علق الخبير الاقتصادي السياسي جيمس أندرسون على هذا الأمر بما يلي: «طوبى لصانعي السلام، الذين ينحون من خلال أبحاث مضنية إلى إزالة تلك الأقنعة المدمرة التي أخفت الجنس البشري بعضه عن بعض مدة طويلة.» لا يمكنني نسب أي فضل لنفسي على إنجاز أي شيء مهم جدا؛ ولكن على الأقل هذا الكتاب يمكن أن يذكر الناس بجهد أولئك الذين أنجزوا أشياء بالغة الأهمية. •••
Halaman tidak diketahui
وعودة إلى التكهن الذي بدأت به المقدمة: كيف كان يمكن أن يختلف العالم لو (مثلا) لم يصبح الإمبراطور قسطنطين مسيحيا سنة 312، وهو الحدث الذي أدى إلى اعتناق الإمبراطورية للمسيحية بوصفها دينا رسميا؟ كان سيظل العديد من المسيحيين موجودين بالطبع، ولكن ربما كانت أعدادهم تضاءلت بسبب الاضطهاد. وربما كانت اليهودية ستصبح ديانة عالمية رئيسية، مقرها العراق، وتتناحر من وقت لآخر مع السامريين (الذين كان عددهم سيصل إلى الملايين، ويسيطرون على ما يعرف الآن باسم إسرائيل، وربما جنوب سوريا أيضا). وما كان بعض الناس ليكتفوا بالقراءة للفلاسفة اليونانيين؛ بل كانوا سيعبدونهم أيضا. أما فيما يتعلق ببقيتنا، فربما كنا سنتبع ديانة غامضة، ديانة لا تعترف بحقائقها إلا لشيوخ مختارين. ما تقدمه تلك الديانة ليس علاقة شخصية مع الله بقدر ما هو فرصة للاستفادة من القوى التي يتمتع بها أولئك القلة من المسنين المتقشفين والمتدينين الذين يتمتعون بمثل هذه العلاقة. فقد كان العديد من هذه الديانات من بين المنافسين الأوائل للمسيحية، بما في ذلك المانوية. يقدم الفصل التالي فكرة عما يكون عليه الحال في وجود مثل هذه الديانة.
الفصل الأول
المندائيون
في المقهى المعتم لفندق الرشيد في بغداد، نظر إلي رئيس كهنة المندائيين، وشقيقه، وابن عمه طالبين مساعدتي. لم يكونوا يعرفون مدى شعوري بالفخر لمقابلتهم. هنا، أمامي، حضر ممثلو واحدة من أكثر الديانات غموضا في العالم. ولأنهم كانوا يعبدون إلها واحدا، ويمارسون التعميد، ويعتبرون يوم الأحد يوما مقدسا لهم، ويوقرون نبيا يدعى يوحنا، فقد أخطأ المبشرون الأوروبيون في القرن السادس عشر في اعتبار المندائيين مجرد طائفة أخرى من الطوائف المسيحية العديدة والمتنوعة في المنطقة. في الواقع، ديانتهم منفصلة تماما عن المسيحية. فهم يؤمنون بالجنة، لكنهم يسمونها «عالم النور »، وبوجود روح شريرة، لكنها مؤنثة، على عكس إبليس، وتدعى روها، وبالتعميد بوصفه شرطا ضروريا لدخول «عالم النور»، على الرغم من أنه عندهم يجب أن يكون في مياه جارية، بينما الأطفال الذين يموتون بلا تعميد يتعزون إلى الأبد بأشجار تحمل ثمارا على شكل أثداء أمهاتهم. ويوحنا الذي يتبعونه هو يوحنا المعمدان، وليس يوحنا الإنجيلي، وعلى الرغم من تقديم المعمدان في النصوص المسيحية على أنه تابع ليسوع، فالمندائيون يرونه نبيا أعظم شأنا. وبعد سماع الإنجيل المسيحي الذي يقول فيه يوحنا المعمدان إنه ليس أهلا لأن يحل سيور حذاء يسوع، أعرب أحد المندائيين، الذي عاش في القرن التاسع عشر واعتنق المسيحية، عن سخطه. وسأل الكاهن بعد القداس: «أليس عيسى ويحيى» - الأسماء العربية ليسوع ويوحنا - «ابني خالة، ومن ثم فهما متكافئان؟ أليسا في «عالم النور» معا؟»
تعميد مندائي في نهر دجلة. حقوق الطبع والنشر: أوليج نيكيشين/جيتي إيمدجز.
يزعم المندائيون أنهم من نسل شيث، ابن آدم، وأنهم تلقوا تعاليم سرية انتقلت من آدم في جنة عدن. وعندما يهمس كاهن مندائي في أذن أحد أتباع الديانة، في يوم أول تعميد لهذا الشخص، بالاسم المقدس لذلك الشخص، الاسم الذي يجب ألا يكشف عنه أبدا إلا لأقرب أفراد الأسرة، فإنه يقوله بلغة بابل القديمة. وعندما يلتقط من على رفه أحد الكتب المقدسة، الذي يحتوي على أساطير وحوارات كانت سرية جدا لدرجة أنها لم تدون مطلقا قرونا عديدة، فإنه يقرأ الكلمات التي ظل المندائيون يرددونها أكثر من خمسة عشر قرنا. وعندما يتناول وجبة مقدسة، مؤديا الطقوس بالترتيب الدقيق اللازم لخلاص الأرواح، فإنه يفعل كما فعل أسلافه على مدى أجيال. وتربط هذه الطقوس في وقتنا الحاضر بالماضي البعيد قبل المسيحية، وبالمأدبة الجنائزية للميثرائيين والمصريين، وبتعاليم المانوية، الديانة المنقرضة الآن التي كان لها فيما مضى أتباع حتى في أماكن بعيدة مثل الصين، وكانت تتنافس مع المسيحية على ولاء القديس أغسطينوس.
لقد صادفت هذه الديانة الاستثنائية في ظروف غير مواتية للغاية. ففي عام 2006، كنت أنصهر من حرارة بغداد المغبرة، أعاني، ليس من الخوف ولكن من الإحباط. كانت الأسلاك الشائكة تحاصر عالمي؛ في المنطقة الخضراء، وهي المدينة الفاسدة للقرن الحادي والعشرين، التي تبلغ مساحتها خمسة أميال مربعة مليئة بالحواجز الخرسانية والأسلاك الشائكة، وجسور الطرق السريعة التي تنتهي في الهواء حيث فجرتها قنبلة، وأنفاق مسدودة لاعتراض سبيل الدخلاء. في هذا المكان، الذي كان يوما ما ضاحية مبنية خصوصا للديكتاتور السابق صدام حسين وأتباعه المقربين، كانت حمامات السباحة وقتئذ مردومة تماما، وقسمت القصور المبهرجة، وأخليت حديقة حيوانات خاصة لإفساح المجال أمام فيلق دائم الزيادة من البيروقراطيين الغربيين الذين كانوا، عندما يشعرون بالإنهاك بسبب قضاء أيام طويلة أمام شاشات الكمبيوتر الخاصة بهم، يقوون أنفسهم أحيانا بوجبات سرطان البحر الذي نقل جوا من أمريكا أو بمشروبات كحولية تقدم في حانات لا تسمح بدخول العراقيين، حيث يترنح الزبائن الذكور الذين يشكلون أغلبية ساحقة في المكان وينصبون جميعا قاماتهم كلما دخلت امرأة.
كان لدي على الأقل مصدر إلهاء يتمثل في العمل في مكتب كل موظفيه من العراقيين. وخلال شهر رمضان، عندما لا يأكلون ولا يشربون أثناء النهار، كنت أحيانا أتسلل خلسة إلى المطبخ، حريصا على عدم جرح مشاعرهم، ولكنني بحاجة إلى المشروبات الغازية الغنية بالسكر لطرد النعاس. فيما عدا ذلك، حاولت أن أحذو حذوهم، وصولا إلى النقطة التي كانوا يضطرون فيها إلى مغادرة المنطقة الخضراء الآمنة. في أمسيات رمضان كنا نتناول طعام الإفطار معا، حيث كانت تتعاظم متعة التمر والحساء البسيط إن تمكنت من الصمود طوال اليوم دون تناول الطعام. حاولت تقليد اللهجة البغدادية المعقدة، ذات الحروف المتحركة العميقة، وتعلمت التنقل بين الأروقة المتهالكة لمختلف المصالح الحكومية، وأعددت نفسي للتعامل مع الأخبار المروعة التي كانت تأتي كل يوم من العالم خارج ذلك المكتب، حيث كانت عصابات المسلمين السنة والشيعة تتقاتل على السيطرة. كل يوم كانت ترد أنباء عن مآس جديدة: رأس فتاة مقطوع، مزروع بالمتفجرات بحيث أصبح فخا ملغوما لأفراد عائلتها عندما حاولوا استعادته؛ ورجال مخطوفون يطلق سراحهم مقابل فدية، ولكن بعد اقتلاع أعينهم وقطع أيديهم وأرجلهم.
كل هذا كان يحدث في المكان الذي بدأت فيه الحضارة منذ أكثر من سبعة آلاف عام. إذا قارنا التاريخ المسجل بالمناظر الطبيعية، فسيمثل العراق جبل إيفرست: مثلما تبدو الجبال الأخرى صغيرة أمام جبل إيفرست، فحتى التاريخ القديم يبدو حديثا مقارنة بتاريخ العراق. ماذا عن سفينة نوح؟ تتحدث الأساطير العراقية القديمة عن طوفان عظيم وعن رجل يدعى أوتنابيشتيم نجا منه في مركب عظيم. الأسطورة، التي انعكس أثرها على رواية نوح في الكتاب المقدس، كانت مستندة إلى حقيقة. فقد تعرضت مدن العراق المنخفضة لطوفان مدمر. واكتشف عالم الآثار ليونارد وولي أدلة على مثل هذا الطوفان عندما حفر فريقه في أنقاض مدينة أور في عشرينيات القرن الماضي ووجد ثمانية أقدام من التربة النظيفة بين طبقتين من الأدوات المصنوعة من الفخار والصوان. كما سجل بفتور، قائلا: «جاءت زوجتي ونظرت ... واستدارت معلقة بعدم اهتمام: «حسنا، بالطبع، إنه «الطوفان».» قد يكون من الأصدق أن نقول إنه كان «طوفانا»، لكن أساس القصة الإنجيلية هو بالتأكيد العراق، التي كانت حضارتها بالتبعية أقدم من الطوفان.»
ماذا عن الأهرامات؟ إنها يافعة بالمقارنة بمدن جنوب وسط العراق، التي ظهرت في وقت مبكر يعود إلى سنة 5300 قبل الميلاد - قبل ثلاثة آلاف سنة من بناء الفرعون خوفو للهرم الأكبر. كانت مدن العراق تكاد في قدمها بالنسبة إليه توازي قدم توت عنخ آمون بالنسبة إلينا. إن العادة العراقية في البناء بالطوب اللبن، في مناخ أقل جفافا بكثير من مناخ مصر، هي التي تسببت في انهيار آثارها العظيمة بينما بقيت الآثار المصرية.
Halaman tidak diketahui
ماذا عن ملحمة «الأوديسة» لهوميروس؟ كان العصر الذهبي للعراق على وشك الانتهاء بحلول زمن هوميروس. القصص الملحمية العراقية باقية منذ نحو سنة 2000 قبل الميلاد. وتدور أحداث إحداها حول بطل يدعى جلجامش، وعلاقته برجل يدعى إنكيدو، واشتراكهما في قتل الوحش هومبابا. إنها تتعامل مع مواضيع خالدة مثل: الصداقة، والجنس، والموت. إنها حتى تحتوي على الكوميديا. تقول لعنة قذرة تستهدف عاهرة: «أتمنى أن ترابط كلاب برية في غرفة نومك ... أتمنى أن يغطيك قيء السكارى ... وأتمنى أن تقاضيك الزوجات الغاضبات!» ربما سمع أوديسيوس نفسه هذه القصيدة الملحمية وأدرك فيها بعض أوجه التشابه مع أسفاره؛ ولكن حتى في عصره، كانت بالفعل قديمة.
كانت بابل هي أشهر وربما أعظم مدن العراق القديم، لكن هذه المدينة التي كانت عظيمة يوما ما هي الآن رقعة متسعة من الطين الذي يكاد يكون خاليا من المعالم على ضفة نهر الفرات، خمسين ميلا جنوب بغداد. كل ما تبقى هو جدران منخفضة وأساسات بوابات. يوما ما كانت تلك جزءا من معابد شامخة لدرجة أن الناس ظنوا أنها كانت تبلغ الجنة ذاتها. وسط هذه الأطلال التي لا تثير الإعجاب، من المفترض أنه تم اختراع اللغة. يقول الكتاب المقدس: «لذلك دعي اسمها «بابل»؛ لأن الرب هناك بلبل لسان كل الأرض.»
في مواكبهم الدينية الاحتفالية، حمل البابليون تماثيل الأسد، الصورة الحيوانية لإله الشمس شماش، والتنين، هيئة إله القمر سين. أما عشتار، إلهة الحب (التي بقيت حتى اليوم باسم إستر)، فكان يرمز لها بالحمامة. كرسي معبد، يكاد يضاهي في ضخامته كاتدرائية القديس بولس، لكبير آلهة المدينة، مردوخ؛ وزينت أبوابه بزخارف تنانين، ومخلوقات أسطورية كانت في هيئة نصف عنزة ونصف سمكة، وكلاب. تشتهر المدينة بأنها موطن الحدائق المعلقة، إحدى عجائب الدنيا السبع في العالم القديم. هنا هرب دانيال ورفاقه من أتون النار المتقدة، ووزن بيلشاصر في الموازين فوجد ناقصا، ومات الإسكندر الأكبر في قصر نبوخذ نصر، بعدما أحبط طموحه في غزو العالم.
لقد انقضت الآن أربعة آلاف سنة منذ تأسيس بابل، وطوال أكثر من نصف ذلك الوقت ظلت مهجورة ومعرضة للمطر، والفيضانات، ونهب الأجيال اللاحقة. وبعد وفاة الإسكندر سنة 323 قبل الميلاد، انقسمت إمبراطوريته الضخمة بين مساعديه المتنازعين. ودمرت حربهم الأهلية اقتصاد بابل، ودخلت المدينة مرحلة من التدهور. وباستثناء تضحيات متفرقة، لم نعد نسمع بمعابدها العظيمة. واختفت حدائق بابل المعلقة، ولا يوجد أي أثر لها اليوم. يوجد مشروع مهيب بين الأنقاض؛ لكنه جديد وليس قديما. إنه أحد قصور المدينة القديمة، التي أعيد بناؤها. تحمل أحجاره نقشا يقول: «في عهد الرئيس صدام حسين، أعيد بناء بابل كلها في ثلاث مراحل. من نبوخذ نصر إلى صدام حسين، بابل تنهض من جديد.»
في جميع الأنحاء، على نحو يشبه التصوير الوارد في قصيدة «أوزيماندياس»، كانت توجد رقعة ممتدة من طوب لبن متحلل. كانت عملية إعادة إعمار بابل التي قام بها صدام عبارة عن تشكيلة متنوعة من مختلف الأنماط، وسخر منها علماء الآثار الجادون واستهجنوها. واستعمل معظم ما تبقى من بابل الفعلية منذ مدة طويلة مواد بناء لمدينة بغداد، أو نهب أو بيع بثمن بخس لعلماء آثار أجانب وشحن إلى متاحف في لندن، وبرلين، وباريس. ومع ذلك لم يبن قصر صدام الجديد، وهو ما أسعد علماء الآثار. فبناؤه كان يعني استيلاء صدام على ماضي العراق القديم، وهو ما كان يمكن أن يساعد على إضفاء الشرعية على وجود العراق كدولة وسيادته عليها. فبدلا من أن يكون العراق مجموعة من المقاطعات التركية المنتزعة من حكامها العثمانيين في أعقاب الحرب العالمية الأولى، لا يوحدها دين، أو لغة، أو عرق، كان يمكنه أن يقدم دولته البوليسية القمعية بوصفها وريثة الإمبراطوريتين البابلية والآشورية. ومن التوافق، أن العراق لم يحكم، في ذلك الماضي المجيد، على يد رجال الدين المسلمين، الذين كان صدام يكرههم ويخافهم، ولكن حكمه ملوك مستبدون وقساة؛ تماما مثل صدام.
وبحلول عام 2006، كان صدام تحت الحراسة الأمريكية وكان العراق في حالة من الفوضى. وبدا الزمن الذي كان فيه العراق عاصمة لحضارة العالم بعيدا للغاية. فيما مضى كان البطاركة المسيحيون في العراق يوقعون رسائلهم هكذا: «من صومعتي على نهر جنة عدن»؛ لأنهم كانوا يعتقدون أنها كانت موقع الجنة الأصلية التي عاش فيها آدم وحواء. أما في وقتنا الحالي فالنهر ذاته كان يحمل جثث الموتى نحو البحر، مرورا بشارع أبو نواس، حيث اعتاد البغداديون الجلوس في الأيام السعيدة الماضية، وأكل السمك، وتدخين النرجيلة. كان معظم العراقيين يحاولون البقاء بأمان فحسب، فكانوا يتوجهون إلى منازلهم بأسرع ما يمكن بعد العمل ثم يمكثون بها. وإذا أرادوا محاولة العيش كما كانوا قبل الحرب، والجلوس في أحد مقاهي المدينة، فكان يتعين عليهم إعداد أنفسهم لمواجهة مواقف صعبة. أخبرتني إحدى النساء أنها كانت هي وإحدى صديقاتها تشربان الشاي في أكوابه الأنيقة التي يسميها العراقيون «الاستكانة» - عريضة عند الحافة، ورقيقة من المنتصف، وما زالت توجد أكواب مماثلة منذ القرن الخامس عشر - عندما سمعتا رجلا يفجر نفسه في الشارع. نظرتا حولهما هنيهة، وعندما أدركتا أنه لم يكن ثمة خطر محدق، عادتا إلى «استكانتيهما» واستأنفتا احتساء الشاي. فقد كانت التفجيرات الانتحارية من الأمور اليومية المعتادة.
في الأشهر التي قضيتها في بغداد بصفتي دبلوماسيا، أمضي بسرعة على طرق المدينة السريعة في سيارة مصفحة أو أطل من طائرة مروحية تحلق فوق أراضي العراق الزراعية بمدفع رشاش معلق على جانبها، لم أكن قد رأيت أي أثر لتاريخ البلاد. فقد دمرت قصورها القديمة ومساجدها وكنائسها في العديد من الحروب، وعمليات الغزو، ومخططات إعادة البناء غير المدروسة؛ حيث كانت البيوت المبنية بالطوب اللبن قد تحللت بفعل قرون من المطر. وساعد كل من الحروب، والإهمال، والفساد، وطفرة البناء في القرن العشرين المدعومة بالنفط على تحديث بغداد، التي أصبحت الآن مطوقة بضواح شاسعة من منازل صغيرة مكونة من طابقين ومزودة بساحات ضئيلة المساحة.
أوصى كتيب إرشادي كتب بشجاعة في وقت قريب من حرب عام 2003 للسياح القلائل الذين قد يرغبون في الزيارة (حيث كتب تحت قسم «الترفيه»: «الأخبار سيئة») ببضعة مساجد وقصر واحد بقي من المدينة التي ذكرت في كتاب «ألف ليلة وليلة»، حيث كان الخليفة هارون الرشيد يتجول ليلا بصحبة خادمه المخلص جعفر. فقصة «ألف ليلة وليلة» كانت خيالية، لكن المدينة الحقيقية كانت رائعة جدا؛ إذ بناها الخليفة العربي المنصور سنة 734 ميلادية، وصممها الفرس، وفي وقت من الأوقات كان يعمل بها علماء فلك هندوس أحضرهم مبعوث يهودي من الهند. كان هذا النصب التذكاري للروابط الخصبة بين الثقافات والأديان مدفونا الآن في الخرسانة في مكان ما تحت محطة السكك الحديدية الرئيسية. لم يتعامل العراق بلطف مع تاريخه. •••
ومع ذلك، كان المندائيون تاريخا حيا. تعود نصوصهم الدينية إلى القرن الثالث الميلادي على الأقل، وقد حافظوا على العادات والتقاليد التي كانت أقدم من ذلك بكثير؛ فربما يعود تاريخها إلى بابل ذاتها. وذلك لأن الحقيقة المدهشة هي أنه لا المسيحية ولا الإسلام قمعا بشكل كامل ديانات العراق القديمة. ظل عدد الوثنيين يفوق عدد الموحدين في العراق بعد الفتح الإسلامي. وصف كتاب بعنوان «الفلاحة النبطية»، كتبه عراقي يدعى ابن وحشية نحو سنة 904 ميلادية، الثقافة المعاصرة التي لم تتغير إلا قليلا عن العصور القديمة لدرجة أن علماء العصر الفيكتوري ظنوا مدة من الوقت أن الكتاب يعود إلى بابل القديمة، وأنه من ثم كان أقدم كتاب على الإطلاق. فهو يصف لقاءات مع متعبدين في معابد للشمس والقمر، وفواكه وخضروات وأشجارا، بفضل قوة الآلهة، قادرة على الكلام، وحشرات أتت بها إلى الوجود آثام البشر، وعرافين، ومخلوقات جولم تشكلت بعلوم الإغريق من طين صيني، وجماعات زاهدة مكرسة للآلهة القديمة، ولكنها تشبه الرهبان المسيحيين أو الصوفيين، بشعر مصبوغ بالحناء ولحى طويلة، وتكهنات فلسفية حول أصل العالم. وفي ظل هذه الخلفية، كان من الممكن أن تنجو الثقافة البابلية بسهولة؛ وبالفعل، كتب الكاتب المسلم المسعودي في القرن العاشر الميلادي أن «البقية الباقية من البابليين» لا تزال تعيش في الأهوار العراقية، التي كانت في وقت من الأوقات تغطي ما يزيد عن 7000 ميل مربع من جنوب العراق.
والسؤال هو: لماذا لم يقمع المسلمون، الذين حكموا العراق أكثر من قرنين من الزمان، هذه الثقافات غير الإسلامية؟ كان أحد الأسباب هو أن الجيل الأول من الفاتحين العرب، الذين دحروا في العقود التي تلت عام 632 ميلادية قوات بيزنطة، وحطموا الإمبراطورية الفارسية، لم يعملوا بجد شديد على فرض الإسلام على رعاياهم الجدد؛ لأنهم رأوا أنه في الأساس دين عربي. وقيل إن الخليفة عمر بكى عندما علم أن رعاياه من غير العرب كانوا يعتنقون الإسلام. فمن الناحية العملية، كان غير المسلمين يدفعون أيضا ضرائب أكثر؛ لذلك خسرت الدولة دخلا عندما اعتنق رعاياها الإسلام.
Halaman tidak diketahui
قرية في الأهوار العراقية تعزل أنهارها الصغيرة المتداخلة سكانها عن العالم الخارجي. نشأت هناك ثلاث ديانات على الأقل. حقوق الطبع والنشر: نيك ويلر/كوربيس.
حتى عندما أراد العرب فرض إرادتهم على كل ميل مربع احتلوه، لم يتمكنوا من ذلك. فقد بدءوا بكونهم نسبة صغيرة من السكان، على أقصى تقدير عشرين بالمائة في العراق. أيضا وقفت الجغرافيا في طريقهم. وفي التسعينيات، على سبيل المثال، اضطر صدام إلى بناء سدود على الأنهار التي تغذي الأهوار قبل أن يتمكن من قمع الجماعات المتمردة التي كانت قد لجأت إلى هناك. وللحكام في الماضي، لم تكن حملة قمعية كتلك تستحق العناء.
علاوة على ذلك، كان التسامح تقليدا متبعا في الإسلام. وعلى الرغم من أن القرآن قبح فعلة عبدة الأوثان، فقد امتدح «أهل الكتاب» الذين كانوا موحدين ولديهم كتب مقدسة. تضمن هذا الوصف صراحة المسيحيين واليهود. وكان الزرادشتيون و«الصابئة» من الديانات الأخرى التي خصت بالذكر على نحو إيجابي في القرآن. وبعد عدة قرون من بداية الإسلام، كان التحديد الدقيق لهذه المجموعة الأخيرة غير واضح، مما وفر ثغرة نجت من خلالها العديد من ديانات الشرق الأوسط الأخرى من الاضطهاد، بما في ذلك المندائيين، الذين اعتبرهم من الصابئة العالم المسلم العظيم في القرن الحادي عشر، المتخصص في علم الإنسان، البيروني، في واحد من كتبه التي يصل عددها إلى 142 كتابا. وبالمناسبة، يعتبر البيروني، الذي وصفه جورج سارتون بأنه «أحد أعظم العلماء في تاريخ العالم» بسبب انفتاحه الفكري، مثالا جيدا على التسامح الذي أظهره بعض المثقفين المسلمين تجاه الأديان التي اكتشفوها وسطهم. ومن الأمثلة الأخرى المسعودي، الذي كان من رصد البابليين الذين يعيشون في الأهوار العراقية، والذي درس شعوبا بعيدة ومتنوعة مثل الروس والفرنسيين. وعلى الرغم من تحفظات المحافظين الدينيين، فإن هؤلاء المثقفين كانوا مستعدين للتعلم حتى من أولئك الذين لا يشاركونهم عقيدتهم، بناء على مقولة عربية هي: «الحكمة ضالة المؤمن: فحيث وجدها فهو أحق بها.» وعلى الرغم من أن روح التسامح هذه تضاءلت في القرون اللاحقة، وكثيرا ما تعرض المندائيون للمضايقة والاضطهاد في بعض الأحيان، إلا أنه نادرا ما بذلت السلطات الإسلامية جهدا كبيرا لإرغام رعاياها على اعتناق الإسلام بالقوة؛ وكان لدى المندائيين الأهوار ليحتموا بها، حتى القرن العشرين.
كان البابليون يعيشون في الأهوار العراقية؛ وكذلك المندائيون. هل يحتمل وجود صلة بينهم؟ لقد أحببت القراءة عن بابل في طفولتي، وكان من المشوق أن أظن أن المندائيين كانوا آخر البقايا الضعيفة للحضارة البابلية. لذلك عندما اتصل بي رئيس كهنة المندائيين وطلب إجراء لقاء، كان الأمر أشبه باستدعائي للقاء أحد فرسان المائدة المستديرة، أو اكتشاف أنه في قرية صغيرة في منطقة نائية من الريف الإنجليزي، لا تزال توجد طائفة تعبد أودين، وقد دعاني المنتمون إليها لتناول الشاي. لذلك وافقت؛ فقد وددت رؤية رئيس الكهنة.
لم يكن يوجد سوى مكان واحد في المنطقة الخضراء يمكن أن يدخله البغدادي العادي بسهولة. في أوج عظمته، كان فندق الرشيد، وهو مبنى خرساني مكون من ثمانية عشر طابقا من سبعينيات القرن الماضي، يضم مائة متنصت يجلسون في الطابق السفلي، متصلين بشبكة من الكاميرات والميكروفونات التي سجلت كل ما فعل وقيل في كل غرفة. بعد حرب عام 2003، على ما يبدو نزعت الكاميرات والميكروفونات، وغطيت لوحة جورج بوش الأب المصنوعة من الفسيفساء التي كانت ممسحة الأرجل الرسمية للفندق. ظل الفندق مكانا غريبا. وقف النوادل في المقهى، وهم يرتدون صدريات وأربطة عنق مزيفة، قريبين أكثر من اللازم من الطاولات وقتا أطول قليلا من اللازم، ينصتون باهتمام. كان هذا هو المكان الذي قابلت فيه رئيس الكهنة، الذي كان معروفا باسم الشيخ ستار («الشيخ» هو لقب عربي فخري، يستخدم على نطاق واسع في ديانات الشرق الأوسط وقبائله؛ للدلالة على الاحترام). كان يجلس على طاولة مع رجلين اتضح أنهما شقيقه وسكرتيره.
قال الشيخ ستار: «ديانتنا هي أقدم ديانة في العالم. فهي تعود إلى آدم.» تتبع تاريخها إلى بابل، على الرغم من قوله إنها قد تكون ذات صلة ما بيهود القدس. وقال إن المندائيين آمنوا بآدم، الذي كان أول البشر، وآمنوا ببعض الأنبياء الآخرين الذين وردت أسماؤهم في الكتاب المقدس العبراني، مثل شيث ونوح. والأهم من ذلك كله، أنهم كانوا يبجلون يوحنا المعمدان. لكنهم أنكروا إبراهيم وكان لديهم كتبهم المقدسة التي كانت منفصلة تماما عن الكتاب المقدس أو القرآن. وسلمني الشيخ أحد هذه الكتب، الذي قد نشر باللغة العربية مغلفا بغلاف أبيض.
كان اسم الكتاب كنزا ربا؛ والاسم يعني «الكنز العظيم». تصفحت الكتاب، من اليمين إلى اليسار، وأدركت أنه يمكن أيضا قلبه رأسا على عقب وقراءته من الخلف إلى الأمام، مما يكشف نصا آخر بالتوالي مع الأول. صيغت كلتا النسختين مثل القرآن، وقسمتا بدقة إلى آيات وفصول. في بداية كل فصل، حيث في القرآن عبارة «بسم الله الرحمن الرحيم!» جاء في كتاب كنزا ربا: «باسم الحي العظيم!» وكان على كل صفحة ما يبدو أنه صليب، متوج بغصن نبات الآس، ملفوف فوقه وشاح أبيض. أكد لي الشيخ ستار أن هذا لم يكن صليبا بل «درفش». وهو رمز للتغطيس في نهر دجلة، أي «التعميد» المندائي وأحد أقدس طقوس الديانة. وتمثل أذرعه الأربع جهات العالم الأربع. فهو نور الجنة المندائية على الأرض، حيث تتمتع أرواح الأخيار بالنعيم الأبدي. وضع على الأرض في اليوم الذي عمد فيه هيبل زيوا، ملاك النور، يوحنا، الذي أصبح بدوره يوحنا المعمدان وصنع معجزات مسجلة في أحد الكتب المندائية المقدسة، «إدراشا إد يهيا» (كتاب يحيى). ويقول الكتاب إن يوحنا المعمدان كان صانع معجزات أعظم بكثير من يسوع.
حظي التعميد بتركيز خاص لدى المندائيين. قال الشيخ: «إننا لا نمارس التعميد مرة واحدة في العمر فقط، مثل المسيحيين، ولكن قبل كل المناسبات الكبرى. على سبيل المثال، قبل الزفاف يعمد كل من العروس والعريس.» فالمعمودية هي أكثر من مجرد عملية تطهير. ينظر إليها على أنها تعطي طاقة ورضا روحيين، وتطهر من الخطيئة، وتشفي الجسد. وأضاف الشيخ ستار أن المندائيين فضلوا ارتداء ملابس بيضاء والعيش بالقرب من الأنهار؛ لأنه كان يجب أن تجرى المعمودية في مياه جارية نظيفة. وكانوا أيضا أشخاصا مسالمين. وأكد قائلا: «نحن لا نؤمن بالقتال حتى لو هوجمنا.» كانت محادثتنا باللغة العربية، لكنني علمت أن المندائيين لديهم لغتهم الخاصة، التي لا تستخدم اليوم إلا للأسماء والطقوس. جاء الاسم «مندائي» من كلمة «ماندا»، المرادف لكلمة حكمة في هذه اللغة. كانوا يؤمنون بإله واحد، «ماندا دهايي»، الحي العظيم. أطلقوا على الجنة اسم «عالم النور»، «مالكا دا نهورا».
لم تأت المجموعة لتحدثني عن دينها فحسب. جاءوا ليطلبوا شيئا مني. أخبرني السكرتير: «عائلتي تجار ذهب»، ولذا تعرضوا للهجوم ليس فقط بسبب ديانتهم، ولكن أيضا من أجل أموالهم. وأضاف أن جميع أفراد عائلته من الذكور قد قتلوا. قال رئيس الكهنة: «أرجوك، لم يتبق منا في العراق سوى بضع مئات. وكلنا يريد المغادرة. نريد أن يمنحنا بلدك حق اللجوء.» لم تمنحهم بريطانيا حق اللجوء بوصفهم طائفة، وهو ما كانوا يأملون فيه، لكنني علمت أنه لن يكون من الصعب عليهم التقدم كأفراد، في بريطانيا أو في أي مكان آخر، وأنهم سيغادرون العراق واحدا تلو الآخر. لقد صادفت رابطا للثقافة العراقية القديمة التي كنت أبحث عنها، وكانت تكاد تتلاشى أمام ناظري. •••
كما رأيت، يحافظ المندائيون على العادات البابلية، لكن ديانتهم تختلف عن ديانة البابليين القدماء: فهم، على سبيل المثال، لا يعبدون إله الشمس البابلي بيل أو إلهة الخصوبة أترعتا. ووفقا للمؤرخة يورون باكلي، تعود أقدم نصوصهم الدينية الباقية إلى أواخر القرن الثاني أو أوائل القرن الثالث الميلاديين. وذلك ينسبها إلى مرحلة ثورة فكرية غير مسبوقة في الشرق الأوسط، عندما اجتاحت طوائف وفلسفات جديدة الشرق الأوسط، فجلبت آلهة، وأفكار، وأساطير جديدة حلت محل نظائرها التقليدية. لكن لماذا حدثت هذه الثورة الفكرية في ذلك الوقت بالذات؟ كان السبب الرئيسي وراء ذلك هو السياسة والإمبراطورية. كان الشرق والغرب قد تقاربا بشكل وثيق أكثر من أي وقت مضى، وذلك بفضل توسع الإمبراطوريات الضخمة مثل إمبراطوريات فارس، والإسكندر، وروما. كانت الهند على الحدود الشرقية لبلاد فارس واليونان على حدودها الغربية؛ وجاورت روما بلاد فارس من الشرق وبريطانيا من الغرب. لذلك تمكنت الثقافات التي كانت معزولة في السابق بعضها عن بعض من أن تلتقي. حتى في حقبة سابقة، وصلت قصص الزهد الهندي إلى الفلاسفة اليونانيين الأوائل، وكانت مصدر إلهام لممارسات الكلبيين، الذين اعتقدوا أن الطريق الوحيد للسعادة الحقيقية يكمن في التخلي عن جميع الممتلكات والعيش في فقر كامل. وفي القرون اللاحقة (خاصة بعد أن صار السفر عبر البحر أسهل) أصبح هذا النوع من الاتصال أكثر شيوعا. وساعد التحضر أيضا في حدوث انصهار بين ديانات مختلفة. فلم يعد كافيا أن يتمسك شعب ما بالآلهة التي كانت لديه منذ آلاف السنين: فقد كان مطلوبا آلهة جديدة، وفلسفات جديدة لتسويغ عبادتها.
Halaman tidak diketahui
نتجت عن ذلك حقبة من الإيمان الديني المتشدد والجدل الفكري المتطرف الذي يجعل العالم الحديث، الذي يبلغ عمر أكبر خمس ديانات فيه الآن أكثر من ألف عام، يبدو بالمقارنة جامدا. دخلت الهندوسية والبوذية الإمبراطورية الفارسية. ووصلت معتقدات الشرق الأوسط إلى روما، مثل الطائفة العشائرية للإله ميثرا وعبادة الإلهة المصرية إيزيس (كانت الأخيرة سيئة السمعة لأنه كان يزعم أن طقوس اعتناقها كانت تتضمن ممارسة الجنس الشعائري). وأصبح رجل يدعى إيل جبل من مدينة حمص السورية إمبراطورا في القرن الثالث، وأحل عبادة إله الشمس الخاص ببلاد الشام محل عبادة الإله جوبيتر القديمة، وركب حجرا نيزكيا أسود من مسقط رأسه ليكون حجر الأساس لأكبر معبد في روما. في الاتجاه الآخر، انتشرت جماعة أتباع الفلاسفة اليونانيين في جميع أنحاء الشرق الأوسط. وكانت اليهودية من الديانات الأخرى التي انتقلت من الغرب إلى الشرق. ربما بقي بعض اليهود بالقرب من مياه بابل بعد نفيهم هناك في القرن السادس قبل الميلاد؛ وبالتأكيد كان يوجد مجتمع يهودي راسخ في العراق في أوائل القرن الأول الميلادي، عندما اعتنق ملك مقاطعة حدياب الشمالية، وزوجته، ووالدته الديانة اليهودية كل على حدة. سنة 70 ميلادية، انضم إلى يهود العراق يهود آخرون ممن كانوا يفرون شرقا من الجيوش الرومانية التي نهبت القدس وهدمت هيكلها. وأصبحت بابل (المنطقة التي كانت تقع فيها بابل يوما ما، والتي احتفظت باسمها: فالمدينة نفسها كانت مدمرة بحلول هذا الوقت) معقل الديانة اليهودية. وتصل تقديرات عدد السكان اليهود في العراق إلى مليوني نسمة في سنة 500 ميلادية؛ ربما نحو أربعين بالمائة من تعداد سكانها.
كتبت أقدم الكتب المندائية المقدسة الباقية بلغة قريبة جدا من تلك التي استخدمها العلماء اليهود الذين جمعوا التلمود البابلي، أحد أهم مجموعات الشريعة اليهودية، والذي جمع بين القرنين الثالث والخامس الميلاديين. تظهر الكتب المندائية اهتماما باليهودية ومعرفة وثيقة بممارساتها، ولكنها تظهر أيضا الكثير من العداء. فقد اتبع المندائيون يوحنا المعمدان لكنهم يكرهون إبراهيم. وهم يرفضون رفضا تاما ممارسة الختان؛ وهي ممارسة ميزت اليهود عن البابليين حتى أثناء النفي اليهودي في بابل. ويقدس المندائيون يوم الأحد، وليس السبت. وتدور أسطورة ميرياي حول امرأة يهودية تترك ملتها من أجل الزواج من رجل مندائي. كان اليهود والمندائيون يعرف بعضهم بعضا لكنهم كانوا غرماء.
لم تكن المندائية الديانة الوحيدة التي تأثرت بشدة باليهودية: فالعديد من ملل المسيحية تأثرت بها أيضا. وحاول البعض الالتزام بالشريعة اليهودية مع اتباع يسوع، بينما كان البعض الآخر أكثر عدائية. على سبيل المثال، قبلت جماعة مسيحية منشقة تسمى المرقيونية، تأسست في المنطقة التي هي حاليا شمال تركيا في نحو سنة 144 ميلادية، أن الأحداث المذكورة في الكتاب المقدس العبراني (الذي يطلق عليه المسيحيون العهد القديم) كانت صحيحة، ولكنها كانت صادمة لبعض منهم. لماذا، على سبيل المثال، ينهى الرب آدم عن أن يأكل من شجرة المعرفة في جنة عدن؟ لماذا يطلب من إبراهيم أن يقتل ابنه؟ لذلك اعتقدوا أن الرب المذكور في ذلك الكتاب هو في الواقع إله أدنى، لا يستحق العبادة. وكان العالم المادي الذي خلقه هذا الإله الأدنى شيئا يجب الهروب منه بما في ذلك جسد الإنسان وغرائزه؛ فقد كان نخبة المرقيونيين غير متزوجين وليس لديهم أطفال. لم تتضمن الكتب المرقيونية المقدسة سوى إنجيل لوقا ورسائل بولس، وحتى تلك جرى تغييرها نوعا ما. على سبيل المثال، حذف اسم إبراهيم في كل مكان كان يظهر فيه تقريبا؛ لأن إبراهيم لم يكن فقط على استعداد لقتل ابنه، بل أيضا عاشر خادمته وسمح لفرعون بمعاشرة زوجته.
في تلك البيئة - حيث كثر عدد اليهود ، وانتشرت الجماعات المسيحية، ونحيت الديانات القديمة لتحل محلها أيديولوجيات جديدة - استعد رجل يدعى باتيك لتقديم قربان لأحد الآلهة القديمة في معبد بإحدى المدن جنوب المكان الذي تقع فيه بغداد حاليا. كان يمكن أن يكون أمرا دمويا، مثل ذبح ماعز أو شاة ربما، وبعد ذلك قد يحصل على جزء من اللحم ليأكله. لكنه فجأة سمع صوتا خارقا للطبيعة يخبره ألا يأكل اللحم مرة أخرى. وألا يمارس الجنس. ولا يشرب الكحول. كان ذلك نحو سنة 215 ميلادية.
كان الزهد مسألة مشتركة في الأديان الجديدة في الشرق الأوسط. ربما كان هذا في جانب منه انعكاسا للتأثير الهندي أو رد فعل للانغماس في الملذات الذي اتسمت به الأديان القديمة (فسوريا، حيث كانت المعابد الوثنية يوما ما تئوي عاهرات مقدسات، كانت أيضا البلد الذي عاش فيه قديس مسيحي على قمة عمود لمدة ثلاثين سنة دون أن ينزل مرة واحدة). وكانت توجد فلسفة وراء إنكار الذات أيضا. فقد كان المجتمع متقدما تكنولوجيا؛ ففي القرن الثاني الميلادي، رسم بطليموس خريطة للعالم استخدمت بعد ذلك أكثر من ألف عام، وكتب جالينوس كتابا طبيا استخدم حتى القرن التاسع عشر. ومع ذلك، كان لا بد من تنظيف البالوعات يدويا، وكانت أمراض مثل التيفود شائعة، وقد تتطور الجروح بسهولة إلى غرغرينا. كان ضعف الجسد والقذارة في تناقض غريب مع الإنجازات الفكرية المدهشة. وحيث إنه في ذلك الوقت لم يكن مفهوما بشكل عام أن الفكر له أي صلة بالمخ (أدرك جالينوس ذلك، لكن أرسطو كان يظن أن المخ موجود فقط لتصريف الحرارة من الجسم)، كان من السهل افتراض أن العقل، أو الروح، يمكن أن تعيش دون فوضى الجسد.
غالبا ما كان يطلق على الديانات، التي كانت تأمر أتباعها بمعاقبة الجسد أو إخضاعه حتى يتحرر العقل، تسمية «الغنوصية»، وكان يوجد العديد من هذه الديانات في هذا الوقت. اكتشف باتيك أن طوائف متشددة كثيرة قد نشأت مؤخرا في الأهوار العراقية. وكان المندائيون إحدى تلك الطوائف، لكن ربما لم تكن قواعدهم صارمة بما يكفي لباتيك. (على الرغم من أنه ربما كان المندائيون نباتيين في مرحلة ما من تاريخهم، فلم يفضلوا الامتناع عن الزواج أبدا.) تلاءمت طائفة قريبة على نحو أفضل مع التعليمات التي أعطاه الصوت إياها. ولم يقتصر الأمر على الامتناع التام عن أكل اللحوم، أو ممارسة الجنس، أو شرب الكحول، بل كانوا أيضا يجتنبون الفن والموسيقى. وعلاوة على ذلك، حاولوا أن يتبعوا بصرامة كلا من الشريعة اليهودية والأناجيل المسيحية. كان يبدو أن كل عائلة كانت تمتلك قطعة أرض تزرع فيها الخضار والفاكهة ليأكلها أفرادها. فيما بعد أطلق عليهم الكتاب اسم المغتسلة، التي تعني في اللغة العربية «من يغتسلون»، بسبب ممارستهم للتعميد في أنهار الأهوار. كان المغتسلة هم من انضم إليهم بالفعل باتيك وزوجته الحامل، وبعد ذلك بوقت قصير ولد طفلهما الوحيد. وأطلقا عليه اسم ماني.
بينما كان ماني يكبر، كان يمر بمرحلة تمرد. لم يكن تمرده متعلقا بالجنس أو الكحول. وإنما غضب من القيود المفروضة على الفن. فقد كان فنانا موهوبا وكان يتوق إلى التعبير عن أفكاره بصورة مرئية وكذلك بالترانيم الموسيقية. كان المندائيون، الذين كانوا يعيشون بالجوار في الأهوار، مصدرا للإلهام؛ فعلى الرغم من رفضهم ليسوع، الذي أعجب به ماني، استحسن موسيقاهم واقتبس واحدة من ترانيمهم. ومع ذلك، فمن نواح أخرى، وجد أن قواعد طائفته مفرطة في التساهل. وقال إن الامتناع عن اللحوم لم يكن كافيا. فقد كان قتل الخضروات وأكلها قاسيا على النباتات، بل كان بإمكانه سماع شجرة التين تبكي على الثمار التي قطعت من أغصانها. واشتكت ينابيع المياه العذبة، على حد قوله، عند استحمام المغتسلة فيها؛ لأنهم كانوا يلوثون المياه. (على ما يبدو كان أتباعه في السنوات اللاحقة يغتسلون ببولهم بدلا من الماء.) في النهاية زعم ماني أنه تلقى وحيا جديدا؛ سردا لمعركة كونية بين النور والظلام.
رسم حديث لماني، مؤسس من القرن الثالث لديانة نافست المسيحية المبكرة، أدى تقسيمه للكون بين الخير والشر إلى ظهور مصطلح «المانوي». سبقه المندائيون وتأثر بهم.
فبحسب القديس أغسطينوس، الذي اتبع تعاليم ماني بعض الوقت قبل أن يصبح مسيحيا، قال ماني إن الكون يحتوي على «كتلتين متعارضتين، وكلتاهما غير محدودة»؛ إحداهما صالحة، والأخرى شريرة. «كان الشر ... نوعا من المادة، كتلة عديمة الشكل، بشعة ... نوعا من عقل شرير يتغلغل في المادة التي يسمونها الأرض.» وكان الشر مصدرا لكل الظلام في الكون، بما في ذلك كسوف الشمس وخسوف القمر وتعاقب الليل والنهار. وعند ماني، أن تعاقب الليل والنهار كان دلالة على معركة مستمرة بين النور والظلام. وحتى يومنا هذا، نتحدث عن «المنظور المانوي للعالم» بحيث يعني ذلك المنظور الذي يقسم العالم إلى قوى الخير وقوى الشر. («ماني تشاي» كانت العبارة التي يصرخ به أتباع ماني باللغة الآرامية: وهي تعني «ماني حي». لذلك صار يطلق على أتباعه اسم المانويين.)
كان المانويون المستنيرون دينيا يرون أن الدعوة الأسمى هي تحرير الروح من قيود المادة. أما عند الملتزمين حقا - «الشيوخ»، كما كان يطلق عليهم (تستخدم الكلمة ذاتها، «شيخ» باللغة العربية، مع الكهنة المندائيين) - فكان هذا يعني الامتناع نهائيا عن إنجاب الأطفال، وتناول الفاكهة فقط، والتكفير عن قطف تلك الفاكهة. كان إهدار الماء خطيئة. وكانت مسألة قتل الحيوانات مسألة لا يمكن تصورها. فالمانوي المتزمت لن يقتل ذبابة. وورد في إحدى الصلوات المانوية: «دع [البلد] ... الذي تنبعث منه رائحة الدماء يتحول إلى بلد يأكل فيه الناس الخضروات.» ومع ذلك كان الدين يقدم أيضا فرصة للخلاص للأشخاص الذين أرادوا اتباع ماني دون مراعاة جميع مبادئه؛ ففي نهاية الأمر، كان يتعين أن يرتكب شخص ما خطيئة قطف الثمار ليأكلها الشيوخ. وأبرأ الشيوخ أتباعهم من هذه الخطيئة بهضم طعامهم وفق طقس صارم، كان الهدف منه تحرير نتف الضوء المحتبسة داخل الطعام. كان هذا الهيكل المكون من الشيوخ والأتباع يعني أن للدين أشخاصا يتقشفون تقشفا مثاليا وقادرون على طلب الشفاعة من الله نيابة عن الطائفة بأسرها، مما يترك لأتباعهم حرية العيش حسب اختيارهم؛ بشرط أن يعتنوا بالشيوخ ويوقروهم. وكما سنرى، لا تزال بعض العقائد في الشرق الأوسط تستخدم هذا الهيكل حتى يومنا هذا.
Halaman tidak diketahui
في نحو سنة 240 غادر ماني الأهوار والمجتمع الذي نشأ فيه وسافر شرقا إلى عاصمة الإمبراطورية الفرثية. كان شخصية مميزة بمعطفه المتعدد الألوان، وبنطاله المقلم، وحذائه العالي الرقبة. وبمساعدة الروابط الأرستقراطية لعائلته والموقف العام للفرثيين تجاه الدين، القائم على عدم التدخل، كاد ينجح في أن يتبنى الإمبراطور قضيته؛ لكنه أعدم بسبب جهوده. ومع ذلك، استمرت ديانته في الانتشار. وعندما اتجه أتباعه شرقا من إيران، اعتمدوا على الرسومات البوذية لشرح رسالتهم. وصور ماني على أنه «بوذا النور». وأقيمت مملكة مانوية وسط الإيغور في آسيا الوسطى. وفي القرون اللاحقة، ازداد عدد المانويين في الصين، حيث اشتهروا برفضهم أكل اللحوم. وكانت عبارة «عبدة الشيطان النباتيين» هي الطريقة التي وصفتهم بها السلطات في مرسوم سنة 1141. وأدى الاضطهاد الرسمي إلى تشرذم أعدادهم، لكن ربما ظلوا باقين في جنوب الصين حتى مطلع القرن العشرين. في الواقع، يبدو أن ماني لا يزال يعبد، بمحض الصدفة، في مكان واحد في الصين اليوم: ففي معبد في شرق الصين، يعود تمثال بوذا ذو اللحية والشعر الأملس إلى الوقت الذي بنى فيه المانويون المعبد؛ والأرجح أنه كان في الأصل تمثالا لماني.
في الغرب، كان تبجيل يسوع من تعاليم المانوية وكانت منافسا جادا للمسيحية المبكرة. وكاد مانوي يدعى سيباستيانوس أن يصبح إمبراطورا لروما في منتصف القرن الرابع، ولو كان ذلك قد حدث، لكان تاريخ العالم سيختلف تماما. بدلا من ذلك، اختفت المانوية إلى حد كبير في أراضي الإمبراطورية، حيث أصبحت المسيحية دين الدولة في روما، وبدأت السلطات الرومانية في قمع العقائد المنافسة. صمدت المانوية وقتا أطول بين المسلمين، وتولى المانويون مناصب مركزية في الحكومة، حتى قرر الخليفة المهدي في القرن الثامن أن أتباعها أصبحوا أقوياء أكثر من اللازم، وصلب أعدادا كبيرة منهم. وعرف العالم المسلم ابن النديم، الذي ترك رواية حياة ماني التي يستند إليها ما ورد أعلاه، بعض المانويين في بغداد في القرن العاشر، لكن لا يبدو أنهم عاشوا أكثر من ذلك بكثير في ظل الحكم الإسلامي.
ومع ذلك، تركت المانوية أثرا ممتدا في الحضارة الأوروبية . إذ توجد بعض الأدلة على أن المسيحيين شعروا بالحاجة إلى محاكاة التقشف غير المسبوق لرجال ونساء ماني الورعين. واستلهاما من اعتقادهم أن الشر كان يتخلل المادة وأنها كانت سجنا للروح، حاولت النخبة المانوية تثبيط كل الدوافع الجسدية، وحذا حذوهم النساك المسيحيون، فحرموا أنفسهم من النوم، وأكلوا العشب والفاكهة فقط، وخصوا أنفسهم في بعض الأحيان. وكانت الرهبنة المسيحية قوية بوجه خاص في مصر، حيث كانت أديرة مانوية بالفعل قد أنشئت. وكان القديس أغسطينوس، الذي كان مؤمنا إيمانا قويا بالخطيئة الأصلية ومدافعا عن العفة، مانويا وشعر بالحاجة إلى مقاومة دعوتها. باختصار، قد لا يزال الزهد والرهبنة في المسيحية الحديثة مدينين لماني.
أما المندائيون فليسوا مانويين ولا مغتسلة. وعلى عكس هاتين المجموعتين، فإنهم يرفضون المسيح ويعتقدون أن الزواج وإنجاب الأطفال واجبات أخلاقية. لكن من نواح أخرى، لديهم العديد من الأشياء المشتركة مع المانويين. فهم يرفضون إبراهيم ويؤمنون أن الجسد سجن للروح. ويؤمنون بملاك من نور، هو هيبل زيوا، يصارع الظلام دائما. ويعتقد المندائيون أنهم شرارات من النور الكوني التي انفصلت عنه وأصبحت محاصرة في وطن مادي. وعندما تتحرر بالموت من سجونها الجسدية، يمكن لشرارات الضوء هذه أن ترتقي مرة أخرى إلى النور العظيم الذي أتت منه يوما ما. لذلك في الجنازات، قد يخاطب الكاهن المندائي روح رجل ميت على النحو التالي: «لقد تركت وراءك الفساد والجسد النتن الذي وجدت نفسك فيه، مسكن الأشرار، المكان الذي كله خطايا، عالم الظلام، والكراهية والحسد، والفتنة، المسكن الذي تعيش فيه الكواكب، جالبة الأحزان والأسقام.» ويعتقد المندائيون أن الطريقة التي يأكل بها الكاهن وجبة مقدسة في جنازة عضو متوفى من المؤمنين بعقيدتهم يمكن أن تحدث فرقا في مصير ذلك الشخص في الحياة الآخرة. هذه كلها أفكار وممارسات كانت مألوفة لأتباع الديانة العراقية الأخرى، المانوية. لذلك فإن المندائيين حلقة وصل ليس مع تاريخ الشرق الأوسط القديم فحسب، وإنما أيضا مع تاريخ المسيحية. •••
من المرجح أن عدد المندائيين أقل من مائة ألف في العالم كله، وحتى سنة 2003 كان معظمهم يعيش في العراق. ليس كلهم متدينين، كما اكتشفت عندما التقيت للمرة الثانية بأحد المندائيين، هذه المرة في مقهى في مانهاتن، سنة 2009. كانت نادية قطان في زيارة للولايات المتحدة قادمة من بريطانيا، التي منحتها حق اللجوء. وعلى الرغم من أنها قد غادرت العراق، بقيت، على حد تعبيرها، «عراقية متشددة. فنحن أناس عمليون، ولسنا مهتمين بالإبهار. وأنا عاطفية وانفعالية، ولست مثل الأوروبيين.» وبسبب نشأتها في عائلة يسارية في ضواحي بغداد، رأت نادية نفسها عراقية أولا ومندائية ثانيا. وكان لديها أصدقاء من ديانات مختلفة كثيرة، ولم يكن والداها شديدي الالتزام. تابعت قائلة: «لم يعلماني شيئا عن الدين، فقط القواعد الأخلاقية: ألا أكذب، وألا أسرق، وأن أتذكر دائما أنني امرأة.»
لم تكن الكتب المندائية المقدسة متاحة لنادية لتقرأها، حيث كان الكهان يحتفظون بها في معبد يسمى «مندي». ولم تكن عائلتها تصلي، وفي بيتهم في بغداد، الذي وصفته لي، كان من اللازم أن يتمتع المرء بعين ثاقبة ليلاحظ أي شيء يميزهم عن غيرهم من عائلات الطبقة الوسطى العلمانية العراقية. كان ما تلاحظه العين لأول وهلة هو غياب الأشياء، وليس وجودها. فالجدران لم تكن مزينة بآيات قرآنية، ولا بأي صورة للكعبة المشرفة في مكة مع آلاف الحجاج الذين يرتدون ملابس بيضاء وهم يطوفون بها، ولا بصورة مرسومة للإمام الحسين (التي يميل الشيعة إلى امتلاكها). وبنظرة فاحصة، قد يرى الزائر المميز المزيد من الأدلة على المندائية. إذ كانت صورة متوارية عن الأنظار «للدرفش» معلقة على حائط غرفة المعيشة. وكانت أردية وأحزمة التعميد البيضاء الخاصة بالعائلة، التي كانت تستخدم في عمليات التغطيس المقدسة في مياه نهر دجلة، مخزنة في خزانة مطهرة من كل دنس، جاهزة للمناسبات النادرة عندما يحتاجون فيها إليها.
نشأت نادية في بغداد، لكن عائلتها لم تنتقل إلى هناك إلا في سبعينيات القرن الماضي. قبل ذلك كانوا يعيشون في بلدة صغيرة في جنوب العراق تسمى «سوق الشيوخ». وكان والد نادية مدرسا هناك، وكان لديه متجر ذهب صغير كعمل جانبي. وعندما عادت العائلة إلى هناك لحضور الأعياد المندائية ، عاشت نادية تجربة ممارسة دينها حقا كما ينبغي، وقضت الوقت مع جديها المتدينين. وفي صورة قديمة أرتنيها نادية، رأيت جدها: محاطا بأطفال يرتدون ملابس غربية، كان رجلا مسنا ذا لحية طويلة ويرتدي كوفية باللونين الأحمر والأبيض. ولم يكن يأكل اللحم إلا إذا كان مأخوذا من حيوان ذكر لا تشوبه شائبة، ذبح موليا وجهه إلى الشمال ثم نزف دمه حتى جف، ولم يسمح إلا لزوجته بإعداده. كانت بجواره في الصورة: امرأة متدينة بالقدر ذاته، ترتدي ملابس سوداء بالكامل وتضع حجابا على شعرها. كان حدادا ومارست هي الطب الشعبي، حيث كانت تعالج أمراض العيون التي قد يصاب بها المزارعون المحليون خلال موسم حصاد الأرز. عندما زارت نادية هذين الجدين، قيل لها إنها إذا كانت في فترة الحيض، فعليها الجلوس على طاولة منفصلة. كان هذا تطبيقا صارما لقاعدة مشتركة بين كل من البابليين القدماء واليهود (في بابل كان الرجل الذي يمس امرأة حائضا يصبح نجسا لمدة ستة أيام). لكن مع نادية انتهى هذا الأمر. فقد رفضت، وفي النهاية توقف جداها عن الشكوى من انتهاكها للقواعد.
كان هذان الزوجان قد وصلا إلى سوق الشيوخ سنة 1949. قبل ذلك كانا يعيشان في الأهوار العراقية، تلك المتاهة الشاسعة من الجزر الصغيرة، وأحواض القصب، والجداول الضحلة التي تحد البلدة من جانبها الشرقي. يتألف غالبية السكان من قبائل مسلمة مستقلة بشدة. وقد عاش هناك الرحالة البريطاني ويلفريد ثيسيجر في خمسينيات القرن الماضي ووصفها بأنها «عالم مكتمل بذاته»، مع أدنى حد من التدخل من الخارج. كان مفتونا بالقبائل، التي وجد بينها مزيجا غريبا من التسامح (على سبيل المثال، تقبل النساء المسترجلات اللائي كن يعاشرن نساء أخريات) والصلابة (كانت القوانين المنظمة للطهارة صارمة لدرجة أن الرجل قد يرى ابنه ينزف حتى الموت ولا يلمسه خشية أن يتنجس عقائديا).
يذكر ثيسيجر بإيجاز المندائيين الذين عاشوا جنبا إلى جنب مع المسلمين في الأهوار. ويعلق على لحاهم الطويلة، وأغطية الرأس ذات المربعات باللونين الأحمر والأبيض، والمشغولات الفضية، وعادة تربية البط، التي كان المسلمون المحليون يعتبرونها حيوانات نجسة. من يعرف: ربما التقى ثيسيجر بجد نادية من الأم، الذي عمل لحساب زعماء القبائل في تصليح الأسلحة من أجل رحلات صيدهم. أخبرتني نادية: «كان يمكنه فك بندقية وإعادة تجميعها.» كان جدها من جهة والدها يصنع قوارب صغيرة وبسيطة يستخدمها السكان المحليون للتنقل، إذ كان التنقل في أنحاء الأهوار في الماء أيسر منه على الأرض. كانت هذه القوارب تسمى «بيليم»، وهي كلمة ذات جذور سومرية.
التقط ويلفريد ثيسيجر هذه الصورة سنة 1950 لعرب من الأهوار العراقية يستخدمون «البيليم»، وهو نوع من القوارب التي يعود تاريخها إلى العصر السومري، للتنقل عبر الأهوار، التي كانت معزولة للغاية لدرجة أنه أطلق عليها «عالم مكتمل بذاته». الصورة مهداة من متحف بيت ريفرز.
Halaman tidak diketahui
يطلق على أحد الأعياد المندائية اسم «الأيام البيضاء» وهو إحياء لذكرى الأيام الخمسة التي يعتقد المندائيون أن العالم قد خلق فيها. أثناء طفولة نادية، كان هذا العيد في شهر أبريل (لا يحتوي التقويم الديني المندائي على سنوات كبيسة؛ لذلك تنتقل تواريخ أعياده بشكل طفيف جدا من سنة شمسية إلى أخرى)، وأخذها والداها هي وشقيقها عائدين إلى مسقط رأسهما للاحتفال مع العائلة الكبيرة. وصفت لي نادية منازل البلدة الصغيرة، التي كان بعضها يتمتع باللون البني ذاته الذي تتسم به الحقول والأنهار، وكان البعض الآخر مصنوعا من البوص. عاش مندائيو البلدة معا في منطقة واحدة. كان الأطفال يلعبون في الطريق ويتنقلون من منزل إلى آخر طلبا للطعام أو الحلوى. ولو حالفهم الحظ، فربما كانوا يتحصلون على ما يختص به المندائيون، وهو بط المالارد البري المحشو بالقرفة والحبهان، والبصل المفروم، والمكسرات، والزبيب، المسلوق بالليمون المجفف والكركم. وللسيطرة على الأطفال، كان الكبار يحذرونهم من أنهم إذا أساءوا التصرف، فإن فرسان الصحراء المتوحشين سيمسكونهم ويخطفونهم.
رجل مندائي صوره ويلفريد ثيسيجر في الأهوار العراقية، وهو يضع القار على قارب، مثلما كان جد نادية يفعل يوما ما. الصورة مهداة من متحف بيت ريفرز.
تعد الأيام البيضاء عيدا بهيجا، لكن رأس السنة المندائية عيد ديني يتسم بجانب أكثر رعبا . إذ يقال إن الشر يجوب الأرض مدة ست وثلاثين ساعة في هيئة روح أنثى تسمى روها. وتماشيا مع التقاليد، حاول والدا نادية إجبارها على البقاء في المنزل في هذا الوقت، ولكن دون جدوى. قالت لي: «لم آخذ الأمر على محمل الجد. لكن قيل لي إن روها قد تتمثل في هيئة دبور، أو نحلة، أو شجرة، أو طائر وتحاول إيذائي. أو قد تصدمني سيارة. لقد كان الخروج من المنزل في ذلك الوقت نذير شؤم.» حتى في منزلها العلماني، لا يزال هذا المقدس/المحرم تحديدا يتمتع ببعض القوة.
وبالإضافة إلى العيد السعيد والعيد المخيف، لدى المندائيين عيد حزين أيضا. ففي اليوم ذاته الذي يحيي فيه المسلمون الشيعة ذكرى عاشوراء - يوم الحداد على وفاة الحسين، حفيد النبي، وإخفاقهم في مساعدته - يندب المندائيون أيضا، ويحضرون وجبة خاصة من حساء الشعير المقشور، يطلق عليها اسم «أبو الحارث». بل إنهم ينضمون أحيانا إلى مواكب الشيعة. لديهم تفسيرات مختلفة لما يحيون ذكراه بالضبط في ذلك اليوم - كان كل ما تعرفه نادية «أنه إحياء لذكرى وقت مفعم بالتوتر» - لكن بعض المندائيين يعتقدون أنه إحياء لذكرى غرق جنود فرعون في البحر الأحمر. وبينما يعتبر اليهود هذه الحادثة سببا للاحتفال، فإن المندائيين - لسبب لا يعرفونه هم أنفسهم - أصبحوا يتعاطفون مع المصريين. (كانت أيام حداد كتلك شائعة سابقا في جميع أنحاء الشرق الأوسط. فقد اعتاد البابليون على تعنيف أنفسهم مرة كل عام بسبب تخليهم عن جسد نبي وثني، وهي فعلة اعتقدوا أنها تسببت في الطوفان العظيم.)
حضرت نادية وعائلتها أيضا مع بقية الطائفة لتقديم الدعم المعنوي للرجال المندائيين الذين كانوا يحاولون دخول الكهنوت. كانت مراسم الانضمام عملية شاقة. فمن يطمح لهذا الأمر يتعين عليه أن يقضي سبعة أيام في كوخ من القصب دون طعام أو نوم. حينها يحتاج إلى دعم أفراد الطائفة: حيث يقف بعضهم خارج الكوخ يقرعون الطبول ويهتفون للتأكد من بقائه مستيقظا، وتزغرد النساء. ويبقى «الجنزيبرا»، وهو ما يعادل أسقفا مندائيا، مع الشخص المتطلع للانضمام إلى الكهنوت وينقش إحدى وعشرين كلمة مؤثرة بعصاه المصنوعة من خشب شجر الزيتون على أرض الكوخ الترابية: فهي سرية للغاية بحيث لا يمكن الجهر بها، وعندما يتعلمها يكنس الجنزيبرا الغبار لضمان عدم تمكن أي شخص آخر من قراءتها. ولإكمال التلقين يجب على الشخص المتطلع لذلك أن يأكل وجبة شعائرية، متبعا مجموعة معقدة ودقيقة من التعليمات. ومنذ ذلك الوقت فصاعدا، يجب أن يطلق لحيته وأن يلتزم بقواعد الطهارة الصارمة.
لكن يوجد مستوى أعلى من القداسة والمعرفة، متاح فقط لأولئك الذين عينوا في رتبة الجنزيبرا، مثل الشيخ ستار. وهذا منصب لا يستطيع أي رجل حي منحه في التقاليد المندائية. ويجب إرسال رسول إلى الحياة الآخرة لطلب الإذن بذلك. حيث يبحث من يرغب في تولي منصب الجنزيبرا عن شخص على وشك الموت ويخبئ زجاجة من الزيت المقدس في جيب الثوب المزين بالذهب والفضة الذي يجب على المندائيين المحتضرين ارتداؤه. ويجب أن يقول الكاهن: «أحضرتها إليك، وأنت ستحملها إلى أباثر.» ويكتمل الطقس بعد وفاة الرسول ووصول روحه إلى أباثر، ديان الأموات، الذي يتلقى منه تأكيدا لطلب المتطلع إلى منصب الجنزيبرا.
يمكن للرجال فقط الانضمام للكهنوت المندائي، ويمكن للرجال فقط الزواج من غير المندائيات مع الاستمرار في نقل الدين إلى أطفالهم. وتحرم المرأة التي تتزوج من الخارج من التعميد، ولا يمكنها أن تعمد أطفالها. ارتأت نادية أن عدم المساواة هذه بين الجنسين لم تكن الروح الأصلية للمندائيين. وللتأكد من ذلك، رجعت إلى الكتب المندائية المقدسة؛ فبدلا من أن تكون حواء مخلوقة من ضلع آدم، كما ذكر في سفر التكوين، تقول النسخة المندائية إنهما خلقا معا. وقالت لي: «أنا متأكدة أنه في وقت ما، كان يمكن للنساء المندائيات أن يصبحن كاهنات، وليس الرجال فحسب.» كانت على حق؛ ففي كتاب يوحنا، غيرت امرأة يهودية دينها إلى المندائية وأصبحت كاهنة. (وبالمثل، في بابل القديمة، كان بإمكان النساء أن يعملن كاهنات. وبالإضافة إلى ذلك، بلغت النساء أحيانا مناصب سلطة علمانية في الشرق الأوسط القديم. فقد كان للبحرية الفارسية القديمة أميرال أنثى - تدعى أرتميسيا ، في القرن الخامس قبل الميلاد - وفي القرن الثالث الميلادي، كان لمدينة تدمر ملكة قوية، اسمها زنوبيا.) •••
إن أهم طقس مندائي على الإطلاق هو التعميد. وتقول إحدى وجهات النظر عند المندائيين إنهم انتهجوا هذه الممارسة من أتباع يوحنا المعمدان اليهود الفارين شرقا من الاضطهاد الروماني؛ وثمة رأي آخر يقول إنه ربما كان التغطيس في مياه نهر دجلة ممارسة قديمة في العراق ذاته، كما كان في مصر. ومن المؤكد أن التقاليد المصاحبة للطقس هي تقاليد مندائية بصورة مميزة. وكما كان يفعل الكهنة لأطفال العراق في عصور ما قبل المسيحية، عندما ولدت نادية قرأ قس النجوم واستخدمها لاستنباط برج لها. وعندما بلغت السابعة عشرة من عمرها، استخدم كاهن آخر في بغداد ذلك البرج ليختار اسما سريا لها، ألا وهو «ملواشة». وبينما كانت جالسة القرفصاء في مياه نهر دجلة، مرتدية حزاما حول خصرها، وخاتما من أوراق الآس في إصبعها، وثوبا أبيض يغلف رأسها وجسمها، غمرها في الماء ثلاث مرات، ورسم علامة على جبهتها بالماء ثلاث مرات، وجعلها تبتلع ماء النهر ثلاث مرات، وتوجها بنبتة الآس، وصلى عليها، وسماها. قالت لي: «سيكون هذا اسمي في الدين، طوال حياتي وما بعد ذلك.»
نادية (أقصى اليمين) تستعد لتعميدها في بغداد عام 1991. إنها ترتدي الحجاب بسبب قداسة المناسبة، وتحمل غصنا من نبتة الآس. خلف المجموعة، صورة تظهر تعميدا قيد التنفيذ. الصورة مهداة من نادية قطان.
كانت أربعة جوانب من هذا الطقس مألوفة لأي بابلي في الألفية الأولى قبل الميلاد. الأول هو اللغة التي يؤدى بها. وقد تعرفت على هذه اللغة عندما ذهبت لفحص الكتب المندائية المقدسة المحفوظة في المكتبة الوطنية الفرنسية في باريس. وبسبب حالة الكتب المهترئة، استغرق الأمر بعض الإقناع قبل أن يسمح لي الموظفون بالاطلاع على أحدها. وبينما كنت أقلب في صفحاته، فكرت في أن الكاتب المندائي الذي نسخها بعناية كبيرة في القرن السابع عشر، تاركا مسافة بين أسطره وكاتبا كل حرف بمهارة، كان سيصاب بالفزع عندما يراني أقرؤها. فلم يكن مسموحا سوى للمندائيين المنضمين للكهنوت أن يطلعوا على هذه النصوص.
Halaman tidak diketahui
ربما كان الكاتب يشعر بمزيد من الفزع عند رؤية الغلاف الجلدي للمجلد، المختوم بشعار زهرة زنبق، والذي كان أمين المكتبة الملكية الفرنسية قد وضعه على الكتاب عندما دخل مجموعة الملك لويس السادس عشر. فالكهنة المندائيون لم يستخدموا أبدا المنتجات الحيوانية مثل الجلد لتجليد كتبهم - وهو أثر، كما يقول بعض العلماء، من زمن كان يحظر فيه دينهم اللحوم تماما. كانوا يستخدمون قماش الشيت مادة للتجليد، أو ينقشون الصفحات على الخشب أو حتى يحفرونها بمادة حمضية على الرصاص. كانت الكلمات ذات الزوايا الحادة التي انحدرت من اليمين إلى اليسار عبر الصفحة مكتوبة بخط غريب بالحبر الأسود على الورق الليفي السميك: لعيني غير المدربة، كانت مشابهة للغة العربية ولكن مع بعض الأحرف الإضافية وعدد أقل من النقاط التي تميز الأبجدية العربية. كانت هذه تحديدا لهجة مندائية من اللغة الآرامية، لغة العراق قبل العربية.
افترض الكتاب المسلمون الأوائل، علما منهم بأن الآرامية قد سبقت لغتهم، وهي العربية، أن الآرامية كانت قديمة قدم العالم ذاته وأن آدم تحدث بها بعد هبوطه من الجنة. في الواقع، عندما ظهرت بابل لأول مرة قبل أربعة آلاف عام، كانت لغتها الرسمية هي السومرية، التي حلت محلها تدريجيا لغة تسمى الأكادية؛ ويمكننا أن نخمن أنه لبعض الوقت كانت الأكادية تعتبر شيئا مثل العامية؛ لأن قصيدة هزلية عمرها أربعة آلاف عام تتذمر مما حدث عندما عثر على الشاعر، عندما كان صبيا، يتحدث الأكادية في المدرسة (بالإضافة إلى كسره لكل القواعد الأخرى): «قال مراقب الباب: «لماذا خرجت دون إذني؟» وضربني. وقال مراقب الإبريق: «لماذا أخذت ماء دون إذني؟» وضربني. وقال المراقب السومري: «لقد تحدثت بالأكادية!» وضربني.» لم تصبح الآرامية اللغة اليومية للمدينة إلا في القرون الأخيرة من وجود بابل. ويتحدث أيضا المندائيون في إيران شكلا من أشكال اللغة الآرامية، ولا تزال لغة وثيقة الصلة بها، تكتب بخط مختلف ولكن مشابه، تستخدم بين المسيحيين في شمال العراق. •••
منحت نادية اسمها الديني بعد دراسة كاهنها المتأنية للنجوم ؛ وهذا هو الإرث المندائي الثاني من البابليين، الذين كانوا علماء فلك متفانين. كان البابليون أول من قسم السماء إلى اثني عشر برجا، واختاروا الرقم اثني عشر ليتناسب مع عدد دورات القمر كل عام. ورأى مراقبو السماء المجتهدون في وقت مبكر - بالتأكيد بحلول عام 1500 قبل الميلاد - أن بعض النجوم تتصرف على نحو مختلف عن النجوم الأخرى. فقد كانت أكثر إشراقا وتتحرك عبر السماء بطريقة مختلفة. وأطلق المراقبون على هذه النجوم اسم «لو-بات»، ويعني «الأغنام المتجولة». وترجم المصطلح إلى اليونانية ليصبح
aster planetes ، الذي يعني «النجم المتجول»، والذي بدوره أعطانا الكلمة الإنجليزية
planet (أي كوكب).
اكتشف علماء الفلك البابليون خمسة كواكب؛ عطارد، والزهرة، والمريخ، والمشتري، وزحل (وليس أورانوس ونبتون، اللذين كانا غير مرئيين للعين المجردة). ووضعوا الشمس والقمر في هذه المجموعة أيضا - ليصبحوا سبعة - وأطلقوا على كل واحد اسم إله، مثل مردوخ، وعشتار، ونبو. ثم اخترعوا الأسبوع وجعلوه مدة تتكون من سبعة أيام، يوم لكل إله كوكب. (وببراعة، شكلت الأيام السبعة ربع دورة قمرية أيضا.) لقد ورثنا عن البابليين عادة تسمية الكواكب وأيام الأسبوع باسم الآلهة: عطارد، فينوس، بلوتو؛
Saturday
السبت من
Saturn
زحل، و
Halaman tidak diketahui
Thursday
الخميس من
Thor
ثور، و
Sunday
الأحد و
Monday
الإثنين من
sun
الشمس و
Halaman tidak diketahui