وَفؤادي من الملوك، وإن كَا ... ن لساني يرى من الشعراء
ليس قول ممتدح ولا منتجح إنما هو قول مضاد ومناو. فأجاب المتنبي أن قال: هذه القلوب كما سمعت أحدهما يقول:
يَقَرُّ بِعَيْنَي أن أرى قَصَدَ القنى ... وَصَرْعى رجال في وغىً أنا حاضره
وأحدها يقول:
يَقَرُّ بعيني أن أرى مَنْ مكانُها ... ذُرى عَقَدَاتِ الأَجْرَعِ المُتَفوِدِ
ثم أقام المتنبي عند سيف الدولة على التكرمة البليغة في إسناء الجائزة ورفع المنزلة ودخل مع سيف الدولة بلاد الروم في غزوتي المصيبة والقناء ونأمل حالًا في جنبته بعد أن كان حويله. وكان سيف الدولة يستحب الاستكثار من شعره والمتنبي يستقله وكان ملقى من هذه الحال يشكوها أبدًا وبها فارقة حيث أنشده:
وما انتفاعُ أخي الدنيا بناظِرِهِ ... إذا استوتْ عنده الأنوار والظُلَم
وآخرها:
بأيّ لفظ يقول الشعر زِعْنَفَةٌ ... يَجُوزُ عندك لا عربٌ ولا عجم
وقال في أخرى:
أفي كل يوم تحت ضِبْني شويعر ... ضَعيفٌ يقاويني قصيرٌ يُطاولُ
وقال في أخرى:
إذا شاء أن يَهْزَأ بلحية أحمقٍ ... أراهُ غُباري ثمّ قال له الْحَقِ
وقال في أخرى:
ولكنْ حَمَى الشعرَ إلا القلي ... لَ همٌّ حَمَى النومَ إلا غِرارًا
فلما انتهت مدته عند سيف الدولة استأذنه في المسير إلى الطاعة فأذن له وامتد باسطًا عنانه إلى دمشق إلى أن قصد مصر ملمًّا بكافور فأنزله وأقام ما أقام إلا أن أول شعره فيه دليل على ندمه لفراق سيف الدولة وهو:
كفى بك داءً ترى الموتَ شافيًا ... وحسبُ المنايا أن يَكُنَّ أمَانيا
حتى انتهى إلى قوله:
قَوَاصِدُ كافورٍ نَوَارِكُ غَيْرِهِ ... وَمَنْ قَصَدَ البَحْرَ اسْتَقَلَّ السوَاقِيا
فأخبرني بعض المولدين ببغداد وخاله أبو الفتح يتوزر لسيف الدولة أن سيف الدولة رسم لي التوقيع إلى ديوان البر بإخراج الحال فيما وصل به المتنبي فخرجت بخمسة وثلاثين ألف دينار في مدة أربع سنين. ثم لما أنشد الثانية كافورًا خرجت موجهة يشتاق سيف الدولة، وأولها:
فِرَاقٌ ومن فارقت غيرُ مذَمَّمِ ... وَأَمٌّ وَمَنْ يَمَّمْتُ خَيْرُ مُيَمَّم
وأقام على كره بمصر إلى أن ورد فاتك غلام الإخشيد من الفيوم وهي وبئة فنبت به واجتواها، وقادوا بين يديه في مدخله إلى مصر أربعة ألف جنيه منعلة بالذهب فسماه أهل مصر بفاتك المجنون فلقيه المتنبي في الميدان على رقبة من كافور فقال:
لاَ خَيْلَ عنْدَكَ تُهْديها وَلاَ مَالُ ... فَلْيُسْعِد النُّطْقُ إن لم يُسْعِد الحَالُ
فوصل إليه من أنواع صلاته وأصناف جوائزه ما تبلغ قيمته عشرين ألف دينار. ثم مضى فاتك لسبيله فرثاه المتنبي وذم كافورًا حيث يقول:
أيَمُوتُ مِثْلُ أبي شُجاعٍ فاتِكٍ ... وَيَعِيشُ حاسِدُهُ الخَصيُّ الأوكَعُ
فاحتال بعده للخلاص من كافور فانتهز الفرصة في العيد وكان رسم السلطان أن يستقبل العيد بيوم تعد فيه الخلع والحملانات وأنواع المبارّ لرابطة جنده وراتبة جيشه، وصبيحة العيد يفرق وثاني يوم يذكر له من قبل ومن رد واستزاد. فاهتبل المتنبي غفلة كافور ودفن رماحه برًا وسار ليلته وحمل بغاله وجماله وهو لا يألو سيرًا وسرىً على الحلل والأحياء والمفاوز والمجاهيل والمناهل والأواجن وترك الكوفة وقال يقتص حاله:
ألاَ كُلُّ ماشية الخيزَلَى ... فِدا كُلِّ ماشيةِ الهَيْدَبَى
وفيها يقول:
ضَرَبْتُ بِها التيهَ ضَرْبَ القِمَا ... رِ إمَّا لِهذا وَإمَّا لِذا
ثم مدح بالكوفة دلير بن لشكروز وأنشده في الميدان فحمله على فرس بمركب ذهب.
وكان السبب في قصده أبا الفضل ابن العميد على ما أخبرني أبو علي بن شبيب القاساني وكان أحد تلامذتي ودرس عليَّ بقاسان سنة ثلاثمائة وسبعين وتوزر للأصفهيد بالجبل، وأبوه أبو القاسم توزر لوشمكير بجرجان، عن العلوي العباسي نديم أبي الفضل ابن العميد الذي يقول فيه:
أبْلِغْ رسالتي الشريفَ وقلْ لهُ ... قَدْكَ اتَّئَبْ أرْبَيْتَ في الغُلوَاءِ
أن المعروف بالمطوق الشاشي كان بمصر وقت المتنبي فعمد إلى قصيدته في كافور: أُغالبُ فيك الشوقَ والشوقُ أغْلَبُ
1 / 3