أمري إليَّ فإن سمحتُ بمهجة ... كرمتْ عليَّ فإن مثلي من سَمَحْ
وهجاه غيره فقال:
أطْلَلْتَ يا أيها الشَّقيُّ دَمك ... بالهذيان الذي ملأْتَ فمكْ
أقسمتُ لو أقسَمَ الأميرُ على ... قتلك قبل العشاءِ ما ظلمكْ
فأجابه المتنبي:
هَمُّك في أمْردٍ تُقَلِّبُ في ... عَيْنِ دَواةٍ من صُلْبِهِ قَلَمَكْ
وهِمَّتي في انتضاء ذي شُطبٍ ... أقُدُّ يومًا بحدَّهِ أدَمكْ
فاخسَ كُليبًا واقعد على ذَنَب ... واطْلِ بما بين إليَتَيكَ فَمَكْ
وهو في الجملة خبيث الاعتقاد. حيث كان في صغره وقع إلى واحد يكنى أبا الفضل بالكوفة من المتفلسفة فهوسه وأضله كما ضلّ. وأما ما يدل عليه شعره فمتلون، وقوله:
هوِّن على بصرٍ ما شقّ منظره ... فإنَّما يقظاتُ العين كالحُلُم
مذهب السوفسطائية. وقوله:
تَمتَّعْ من سهاد أو رقاد ... ولا تأمُلْ كري تحت الرّجَام
فإن لثالث الحالين معنى ... سوى معنى انتباهك والمنام
مذهب التناسخ وقوله:
نحن بنو الدنيا فما بالنا ... نعاف من لابد من شربه
فهذه الأرواحُ من جَوِّهِ ... وهذه الأجسام من تُرْبِهِ
مذهب الفضائية. وقوله في أبي الفضل ابن العميد:
فإن يكن المهديُّ قد بان هديه ... فهذا وإلا فالهدى ذا فما المهدي
مذهب السبعية. وقوله:
تخالف الناس حتى لا اتفاق بينهم ... إلا على شجبٍ والخلفُ في الشَّجْبِ
فقيل تخلد نفس المرء باقية ... وقيل تَشْرَك جسم المرء في العَطَبِ
فهذا من يقول بالنفس الناطقة وينشعب بعضه إلى قول الحشيشية والإنسان إذا خلع ربقة الإسلام من عنقه وأسلمه الله ﷻ إلى حوله وقوته وجد في الضلالات مجالًا واسعًا وفي البدع والجهالات مناديح وفسحًا.
ومن الشعراء الذين ينسبون إلى خبث المعتقد بشار بن برد، وديك الجن، وأبان بن عبد الحميد، وأبو العتاهية، وإبراهيم ابن سيابة وهو الذي كتب إلى بعض أصدقائه:
هب لي فديتك درهمًا ... أو درهمين أو ثلاثة
فأجابه المكتوب إليه على حسب ما أظنه: الدخل كثير والخرج قليل والمال مكذوب على صاحبه. فأجابه إبراهيم بن سيابة: إن كنت كاذبًا فجعلك الله صادقًا، وإن كنت حجوبًا فجعلك الله معذورًا.
ثم جئت إلى حديث أبي الطيب المتنبي وانتجاعه ومفارقته الكوفة أصلًا وتطوافه في أطرار الشام واستقرائه بلاد العرب ومقاساته للضر وسوء الحال ونزارة كسبه وحقارة ما يوصل به حتى أنه أخبرني أبو الحسن الطرائفي ببغداد وكان لقي المتنبي دفعات في حال عسره ويسره أن المتنبي قد مدح بدون العشرة والخمسة، وأنشدني قوله مصداقًا لحكايته:
انصُر بجودك ألفاظًا تركتُ بها ... في الشرق والغرب من عاداك مكبوتا
فقد نظرتك حتى آن مرتحل ... وذا الوداعُ فكن أهلًا لما شيتا
وأخبرني أبو الحسن الطرائفي قال: سمعت المتنبي يقول: أول شعر قلته وابيضت أيامي بعد قولي:
أنا لائمي إن كنتُ وقتَ اللوائِمِ ... علمتُ لما بي بين تلك المعالمِ
فإني أُعطيتُ بها بدمشق مائة دينار ثم اتصل بأبي العشاير فأقام ما أقام ثم أهداه إلى سيف الدولة فاشترط أن لا ينشد إلا قاعدًا وعلى الوحدة، فاستجهلوه وأجابوه إليه فلما سمع سيف الدولة شعره حكم له بالفضل وعدّ ما طلبه استحقاقًا.
وأخبرني أبو الفتح عثمان بن جني أن المتنبي أسقط من شعره الكثير وبقي ما تداوله الناس.
وأخبرني الحلبي أنه قيل للمتنبي: معنى بيتك أخذته من قول الطائي، فأجاب المتنبي الشعر جادة وربما وقع حافر على حافر. وكان المتنبي يحفظ ديواني الطائيين ويستصحبهما في أسفاره ويجحدها، فلما قُتل توزعت دفاتره فوقع ديوان البحتري إلى بعض من درس عليّ وذكر أنه رأى خط المتنبي وتصحيحه فيه، وسمعت من قال: إن كافورًا لما سمع قوله:
إذا لم تُنِطْ بي ضَيْعَةً أو ولايَة ... فجودُكَ يكسوني وشُغْلُكَ يسلُب
يلتمس ولاية صيداء فأجابه: لست أجسر على توليتك صيدا لأنك على ما أنت عليه تحدث نفسك بما تحدث، فإن وليتك صيدا من يطيقك.
وسمعت أنه قيل للمتنبي: قولك لكافور:
فارْم بي حيث ما أردت فإنّي ... أسَدُ القلب، آدَمِيُّ الرُّوَاءِ
1 / 2