دس حميدو السكين في جلبابه فسقط في قاع جيبه وتدلى بحذاء فخذه، أحس طرفه المدبب الحاد فوق لحمه فتقلصت عضلات فخذيه وساقيه وقدميه، وتسمر في مكانه، لكن صفارة القطار الحادة جعلت الأرض تهتز تحته، فثبت قدميه في الأرض يقاوم أي حركة كجواد جامح، لكن يد أبيه الكبيرة دفعته في ظهره بقبضتها القوية، وصوته الغليظ المنخفض كالفحيح: العار لا يغسله إلا الدم، اذهب وراءها!
واندفع حميدو نحو القطار، لكنه استدار لحظة قبل أن يركب، ورأى أباه واقفا في مكانه، متسمرا في الأرض، ثابتا لا يتحرك، والجفنان أيضا ثابتان، والشعيرات الدموية فوق البياض تجمدت كخيوط من الدم رسمت باليد فوق لوحة حقيقية. •••
في تلك اللحظة كانت حميدة تضع قدمها فوق سلم القطار لتهبط منه، وكأنما سقطت في بحر، بحر هائج، الأمواج ليست ماء ولكنها بشر. رجال ونساء وأطفال يرتدون الأحذية الجلدية السميكة، وعربات كالقطارات تجري صفوفا فوق شوارع لامعة بغير تراب، تتفرع وتتشابك ثم تتفرع بغير نهاية كشجرة رأسها في السماء وجذرها في بطن الأرض، والبيوت عالية شاهقة متراصة في كتلة واحدة ضخمة تحجب السماء، فلا ترى فيها العين شبرا واحدا، والضجيج والأصوات والأبواق تصم الآذان، فلا تعود حميدة تسمع شيئا، لكن قدميها الحافيتين كانتا تنتقلان وحدهما فوق الأسفلت، القدم ومن خلفها القدم الأخرى، تلك الحركة الطبيعية، حركة المشي التي يتعلمها الإنسان منذ الصغر، وكان من الممكن أن تستمر على هذا النحو دون توقف، فهي لا تعرف طريقها، ولا تعرف أين يبدأ وإلى أين تنتهي، لكن حذاء جلديا سميكا داس على أصابع قدمها اليسرى وكاد يفرمها، فترنحت لحظة، فإذا بعربة ضخمة تكاد تدهمها، وصرخت حميدة، انفتح فمها عن آخره وخرج منه صوتها المكتوم في صرخة حادة طويلة، طول صرختين أو ثلاث صرخات، أو عشر، أو مائة، أو ألف صرخة متتابعة متعاقبة متصلة في صرخة واحدة طويلة.
ابتلع الضجيج الصاخب صرختها كما تبتلع أمواج البحر قطرة أو قشة أو فراشة أو عصفورا وليدا لا يطير، لم يسمع صوتها أحد، وظلت الدنيا كما كانت تهدر كالشلال، تفتت مياهه الساحقة أجساد التماسيح وأشلاء السفن، وتذيبها، وتظل مياهه هي مياهه، بيضاء كما كانت.
سارت حميدة تعرج بقدمها الجريحة، وجلست في ركن بجوار سور بعيد عن العربات والناس، أسندت رأسها إلى السور وحملقت بعينيها أمامها، كل شيء من حولها يدور في غموض، يلفه الضباب، كالحلم أو الكابوس، الذي ستفيق منه بعد قليل، وتقفز من فوق الحصيرة كالعصفورة ، اتكأت بيدها لتقفز، لكن كفها لمس بطنها، فانقشعت فجأة عن عينيها غمامة، ولأول مرة يصبح كل شيء أمامها قابلا للفهم، ليس ذلك الفهم المدرك لحقائق جديدة، ولكنه الفهم الغريزي المبهم الذي ينبعث من خلايا الجسد المرهقة في لحظات الراحة أو الاسترخاء الشديد.
نامت في مكانها ثم صحت جائعة، لمحت إلى جوارها مخبزا، رصت أمامه أرغفة الخبز صفوفا صفوفا، مدت ذراعها النحيلة وأمسكت بأصابعها الصغيرة رغيفا، قربته بسرعة إلى فمها وكادت تقضمه بأسنانها، لكن يدا كبيرة لها أصابع طويلة التفت حول ذراعها.
شهقت ... ارتفع صدرها بالشهقة فظهر ثدياها الصغيران من تحت الجلباب الواسع كزيتونتين، وبرز بطنها المنتفخ كبالونة الأطفال، والطرحة السوداء لا تزال تغطي رأسها وشعرها وتنسدل على كتفيها حتى أسفل ظهرها قبل ردفيها الصغيرين بقليل.
رفعت عينيها المذعورتين ورأت أمامها عينين واسعتين تحملقان فيها، شدت طرحتها وأخفت بها نصف وجهها كما تفعل نساء قريتها، ظهرت عينها الوحيدة واسعة سوداء فيها نظرة مشدوهة لا تزال بها لمعة طفولة ساذجة، لمعة عين كانت مغمضة، ففتحت لأول مرة على عالم بغير حدود، وصنع الذعر حولها عضلة مشدودة بدت كالدائرة المفتوحة أو كعلامة استفهام مبتورة الذيل، والدموع الجافة خلعت فوقها طبقة كالسحابة الخفيفة، يزحف نحوها من زاوية الأنف إحساس جديد بأنها أنثى وليست ذكرا، أنوثة لم تكتمل بعد، ولم يعرفها أحد بنفسها، ولكنها هي التي اكتشفت نفسها بنفسها منذ لحظات، فإذا بها فجة طازجة لا يزال يعلوها الندى.
تملصت من اليد الكبيرة واستطاعت أن تفلت، وانطلقت تجري، جرى وراءها، دخلت في شارع واختبأت وراء باب من الأبواب، أطلت برأسها فلم تجد أحدا، خيل إليها أنها نجت، لكن الذراع الطويلة امتدت من الخلف وأمسكتها من رقبتها، وصوت خشن غليظ دب في أذنها: قبضت عليك يا لصة! أمامي إلى القسم!
استسلمت، تركت ذراعها النحيلة البيضاء في قبضته، قبضة يد غليظة كبيرة، لها خمسة أصابع، مفاصلها بارزة وعظامها مقوسة، والعروق من تحت الجلد نافرة، وتحت الأظافر السميكة طبقة طينية سوداء، زحفت عيناها فوق ذراعه الطويلة ورأت كتفه ، كتفان عريضتان، فوق كل كتف صف أفقي من خمسة أزرار نحاسية، يفصل بينهما عنق غليظ، التفت حوله ياقة عالية، اسودت من الداخل بسبب التراب الذائب في العرق، تدور الياقة حول عنقه بإحكام، ثم تهبط من الأمام فوق صدره في صف رأسي من عشرة أزرار نحاسية، كانت حميدة قد تعلمت شيئا من الحساب في المدرسة الإلزامية، فأخذت تعد الأزرار، خمسة فوق كل كتف، أي عشرة فوق الكتفين، وعشرة فوق الصدر، فيكون المجموع عشرين زرا.
Halaman tidak diketahui