ثمن الكتابة
إهداء
الأغنية الدائرية
ثمن الكتابة
إهداء
الأغنية الدائرية
الأغنية الدائرية
الأغنية الدائرية
تأليف
نوال السعداوي
Halaman tidak diketahui
ثمن الكتابة
مقدمة قصيرة
لا أجيد كتابة المقدمات، يمكن أن أكتب قصة من ألف صفحة، ولا أستطيع كتابة مقدمة من نصف صفحة، أما رفيقة عمري فهي شخصية عصية على الفهم، تكتب في النوم كما تكتب وهي صاحية، لا تهتم بدورة الأرض حول نفسها، أو دورتها حول الشمس.
تضحك وتقول: نحن أحرار، ندور كما نشاء؛ حول أنفسنا، أو حول غيرنا، أو لا ندور.
لكن عقلي يدور، رغم مشيئتي، في النوم كما في اليقظة.
أصحو من النوم كل صباح على رنين الجرس، صوتها يأتيني من حيث تكون، في أي مكان فوق كوكب الأرض، هي تعشق السفر منذ كانت طفلة، لا تعود إلى الوطن حتى ترحل، مهما ابتعدت وطال الغياب، أراها أمام باب بيتي، بحقيبتها العتيقة بلون النبيذ الأحمر، حرقتها الشمس وأغرقتها الأمطار في الجنوب والشمال، أصبحت أقل حمرة مما كانت، وإن ظلت حمراء اللون، متينة العجلات قوية العضلات، أقل قوة بمرور الزمن، تجرها من خلفها وهي تجتاز المطارات والمحطات، تنزلق وراءها بخفة فوق الشوارع المرصوفة الناعمة، وتغوص بثقلها في الأزقة حيث الحفر والمطبات، مليئة بالكتب وملابسها وأوراقها، مقبضها متين لا ينخلع، يحمل اسمها، داخل قطعة من البلاستيك الأبيض بحجم كف اليد.
اسمها الثلاثي كان مسجلا في أقسام وزارة الداخلية والشئون الاجتماعية ومصلحة السجون وإدارات الرقابة على النشر والكتابة والمصنفات الفنية.
يحملق ضابط الشرطة بمطار القاهرة في اسمها الثلاثي، يتأمل صورتها في جواز سفرها، يبتسم في وجهها: حمد الله ع السلامة يا أستاذة. يدق بالمطرقة على جواز سفرها فتدخل. وإن وصلت القائمة السوداء إليه قبل عودتها، يعتذر لها برقة ورثها عن أمه، يناولها كرسيا لتستريح وكوب ماء: آسف يا أستاذة، عندي أوامر لازم أنفذها. وإن كان عضوا بحزب الجهاد أو داعش أو حزب الحكومة، يكشر عن أنيابه مبرطما بصوت غليظ، ويحجزها مع حقيبتها في غرفة الحجر الصحي؛ حيث تلتقي بأنواع مختلفة من البشر، بعضهم مرضى بالجذام وأنفلونزا الخنازير، وبعضهم مصاب بالجنون أو الكفر، منهم الكوافير سوسو، كان شهيرا في الحي الراقي بجاردن سيتي، اكتسب ثقافة نادرة من الحلاقة للنساء والرجال، أصابعه ماهرة تدرك أفكارا مدهشة في الرءوس التي تغوص فيها، يأتي سكان الحي الراقي إلى محله الأنيق بشارع التنهدات، نساء ورجال من المثقفين أو الطبقة العليا، يؤمنون أن الإنسان تطور عبر ملايين السنين من فصيلة الثدييات على رأسها الشمبانزي الأم الكبرى، وأن الأرض كروية تدور حول الشمس وليس العكس، وأن الكون نشأ بالصدفة البحتة حين حدث الانفجار الكبير وانتشرت في الفضاء ذرات، تناثرت وتجمع بعضها لتكوين أول مادة أو أول كتلة مادية في الوجود.
وكان من زبائن الكوافير سوسو، أيضا، البوابون والطباخون في قصور الباشوات القدامى والجدد في جاردن سيتي، منهم الحاج منصور الشهير باسم طباخ الباشا؛ رجل سمين مملوء بالسمن البلدي والطعام الفاخر الذي يبتلعه سرا.
وبينما هو يترك رأسه بين يدي الكوافير سوسو، يحكي الحكايات القديمة عن المماليك والأتراك، كيف عاشوا في الأناضول، ولا بد أن يذكر الأسلاف من أجداده وعلى رأسهم جده الكبير، الذي حكى له وهو صغير أن الله خلق للثور قرنين؛ لأنه يحمل الأرض فوق قرن، وإن تعب من ثقلها حرك رأسه ونقلها إلى قرنه الثاني.
Halaman tidak diketahui
ويضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو، امال الزلازل والبراكين والبرق والرعد بييجوا منين؟ - منين يا حاج منصور؟ - لما الثور يحرك الأرض على راسه من قرن لقرن يحدث البرق والرعد، والزلازل تهز الأرض.
يضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو. - الكلام ده كان زمان قبل جاليليو. - جاليليو خواجة يهودي نصراني ما يعرفش ربنا. - لازم تعرف حاجة عن جاليليو يا حاج، اسمعني. - سامعك يا خويا. - جاليليو أمه ولدته في إيطاليا بعد العدرا مريم ما ولدت المسيح بألف وخمسميت سنة أو أكتر، وكانت إيطاليا وأوروبا كلها محكومة بالكنيسة وعايشة في الجهل والظلام، درس جاليليو الطب والهندسة والفلك، واكتشف أخطاء العلماء اللي قبله في اليونان، منهم أرسطو. - أرسطو كان مؤمن بربنا يا سوسو؟ - أرسطو كان مؤمن بالكنيسة يا حاج منصور وبينشر أفكارها في كتبه، واعتبرته الكنيسة الفيلسوف الأعظم وأغدقت عليه الأموال والمناصب، لكن جاليليو عمل منظار جديد واكتشف خطأ أرسطو، وإن الأرض بتدور حول نفسها وحول الشمس، غضبت منه الكنيسة واتهمته بالكفر والإلحاد والخيانة؛ لأنه بيعارض الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة ونظرية أرسطو عن إن الأرض ثابتة لا تتزعزع ولا تتحرك أبد الدهر، قدموا جاليليو للمحاكمة وأدانوه، ومات فقير مسكين معزول في بيته. - مين قال لك الكلام ده؟ - الباشا اللي باحلق له شنبه ودقنه. - الباشا بنفسه يا سوسو؟ - أيوة يا حاج منصور. - لازم كلامه صح مية المية، لكن أنا مش حاسس إن الأرض بتدور يا سوسو! - لأنها بتدور بسرعة كبيرة يا حاج، وانت جزء منها وبتدور معاها. - مش معقول يا سوسو. - مثلا وانت راكب جوة القطر يا حاج، لا يمكن تحس إنه بيجري بسرعة. - لكن القطر غير الأرض يا سوسو، ولا إيه؟ - إيه يا حاج!
وينفجر الكوافير والحاج منصور في الضحك.
تخرج هي، رفيقة العمر، تجر حقيبتها الحمراء ذات العجلات، من غرفة الحجر الصحي بالمطار بعد عدة ساعات، أو عدة أيام حسب مزاج الحكومة والمخابرات، ثوبها مكرمش وشعرها منكوش، نامت على الكرسي وإلى جوارها الحقيبة، تلمسها بيدها إن أفاقت في الظلمة فجأة، تخشى أن يسرقها أحد وهي غارقة في النوم، أو غائبة عن الوعي من شدة التعب، وفي أحد الصباحات، دون سابق إنذار، يأتي الضابط مبتسما، ويقول: مبروك يا أستاذة، صدر العفو الرئاسي عن بعض المعتقلين والمعتقلات بمناسبة العيد. - أي عيد؟
الأضحى الكبير، أو العبور العظيم، أو شم النسيم في بداية الربيع، يصحو الناس في الصباح الباكر ليشموا البصل والرنجة والفسيخ، يتمشون على شاطئ النيل، الأغنياء منهم يشمون النسيم في المنتجعات الجديدة على شاطئ البحر الأبيض بالساحل الشمالي، أو في الغردقة وسواحل البحر الأحمر.
لكن يظل الفسيخ اللذيذ من نبروه، مع أصناف الطعام الفاخر ومعه البصل الأخضر والملانة والرنجة من ضرورات العيد، لإعادة الذاكرة الطفولية والخصوصية الثقافية وتاريخ الأجداد .
كنت أحب الفسيخ وهي لا تطيق رائحته، لا تزورني أبدا في المواسم، لا تحتفل بالأعياد، وعيد ميلادها لا تذكره، إن ذكرتها به تمط شفتها السفلى وتنهمك في الكتابة. - كم عمرك؟ - مش فاكرة. - مش معقولة انتي. - انتي اللي مش معقولة. - ازاي؟ - إيه يهمك من عمري؟ - عاوزة أعرف انتي عشتي كام سنة. - ليه؟ - مش عارفة. (انتهت المقدمة)
1
نوال السعداوي
القاهرة
Halaman tidak diketahui
22 مارس 2017
إهداء
إلى طفلي المجهول، الذي ولدته وحدي منذ قرون، وتركته بالليل في حضن الجسر، وفي الصباح وجدت مكانه شجرة خضراء باسقة، جذرها في الأرض ورأسها في السماء، شامخة كالإلهة الأنثى القديمة، ربة الحياة والموت.
إليه وإلى كل الشجرات الباسقات في العالم، وإلى كل أطفال الآلهة، أهدي هذه القصة.
نوال السعداوي
الأغنية الدائرية
كانت دائرة من أجساد الأطفال الصغيرة تلف وتدور حول نفسها أمام عيني، كل يوم وفي أي وقت أنزل فيه من بيتي، وصورة غنائهم الحاد الرفيع يدور مع حركة أجسادهم في أغنية واحدة، لها مقطع واحد، يتكرر في دورة متصلة لا تنقطع:
حميدة ولدت ولد،
سمته عبد الصمد،
سابته على الأنايا،
Halaman tidak diketahui
1
خطفت راسه الحدايا،
2
حد يا حد ...
يا بوز القرد!
حميدة ولدت ولد،
سمته عبد الصمد،
سابته على الأنايا،
خطفت راسه الحدايا،
حد يا حد ...
Halaman tidak diketahui
يا بوز القرد!
حميدة ولدت ولد،
سمته عبد الصمد.
ويكررون الأغنية، ما إن يصلوا إلى الجملة الأخيرة حتى تأتي الجملة الأولى، وما إن تنتهي الجملة الأولى حتى تأتي الأخيرة؛ ولأنهم يدورون ويغنون بغير انقطاع، فلا يمكن للأذن أن تعرف بداية الأغنية من نهايتها، ولا يمكن للعين أن تعرف بداية حركتهم من نهايتها، فهم كعادة الأطفال يمسكون بأيديهم بعضهم البعض على شكل دائرة مغلقة.
ولكن لا بد لي أن أبدأ القصة، فكل شيء له بداية، لكن نقطة البداية في هذه القصة لا أستطيع تحديدها، فالبداية لا تبدأ بنقطة محددة؛ لأن البداية في حقيقة الأمر غير موجودة، أو أن البداية والنهاية يتصلان في خيط واحد دائري من الصعب تحديد أوله من آخره.
ومن هنا صعوبة البدء بشيء ، وعلى الأخص إذا كان قصة حقيقية أي قصة صادقة كل الصدق، دقيقة غاية الدقة، والدقة الدقيقة تقتضي من الكاتب - أو الكاتبة - أن يراعي وألا يهمل أي نقطة. إن نقطة واحدة قد تقلب كيان معنى من المعاني، وبالذات في اللغة العربية، الذكر يصبح أنثى بسبب نقطة أو شرطة، والبعل بغلا، والوعد وغدا وهكذا.
ومن هنا لا بد أن توجد نقطة محددة أبدأ بها، والنقطة المحددة هي النقطة المحددة، لا يمكن أن تكون شرطة أو دائرة، وإنما لا بد أن تكون نقطة حقيقية، أي نقطة هندسية. وبمعنى آخر لا بد من دقة علمية في العمل الفني الجيد الذي هو هذه القصة. لكن العلم يفسد الفن، وهذا الإفساد هو بالضبط ما أريده في هذه القصة لتصبح جيدة، أو لتصبح حقيقية وصادقة صدق الحياة الحية. وإنني لأصر على هذا التعبير «الحياة الحية» أكتبه بسبق إصرار وليس من قبيل الصدفة؛ لأن هناك حياتين: حياة حية وحياة ميتة، والحياة الميتة كالإنسان الذي يمشي على الأرض دون أن يعرق، أو دون أن يبول، أو دون أن ينبعث من جسده شيء فاسد. الفساد والإفساد والتفسد كلها أشياء ضرورية للحياة الحية، وللإنسان الحي. لا يمكن للإنسان الحي أن يحبس بوله في مثانته إلى الأبد، وإلا مات، حينئذ يستطيع أن يحبس فساده في الداخل ويصبح من الخارج جسدا ميتا نظيفا من الناحية العلمية، أما من الناحية الفنية فإن الفساد المحتبس بالداخل أشد تفسدا من الفساد المنطلق إلى الخارج، وهذه حقيقة أو ظاهرة طبيعية لا تخفى على أحد، فإن رائحة الجسد الميت أشد سوءا من رائحة الجسد الحي.
خيل إلي (والخيال في تلك اللحظة كان حقيقة) أن طفلا من الأطفال المنشدين المتماسكين بالأيدي على شكل دائرة تدور خرج فجأة من الدائرة، رأيت جسمه الصغير ينفصل عن الخط الدائري المنتظم في دورانه كنقطة لامعة محددة، كنجم فقد توازنه الأبدي فانفصل عن الكون اللانهائي، واندفع بحركة عشوائية سريعة متوهجا بشعلة كالشهب قبل أن يحترق.
وباستطلاع غريزي تابعت عيني حركته، وحين توقف كان قد أصبح بالقرب مني، ورأيت وجهه. لم يكن طفلا ذكرا، كان أنثى، لم أعرف عن يقين أنها أنثى؛ فوجوه الأطفال كوجوه العجائز لا جنس لها، وبين الطفولة والشيخوخة مرحلة يضطر فيها الإنسان إلى الإعلان عن جنسه بوضوح أكثر.
الوجه (للغربة الشديدة) لم يكن غريبا علي، كان مألوفا بدرجة أثارت دهشتي إلى حد عدم التصديق، فليس من المعقول أن يخرج الإنسان من بيته في الصباح ذاهبا إلى عمله، فإذا به يصطدم بشخص آخر، ما إن يرفع وجهه إليه حتى يرى وجهه هو، وليس أي وجه آخر.
Halaman tidak diketahui
أعترف أن جسدي ارتج، نوع شديد من الذعر يشل قدرة الإنسان على التفكير، ومع ذلك فكرت: يذعر الإنسان حينما يرى وجهه وجها لوجه؟ لعلها الغرابة الشديدة، أو لعلها الألفة الشديدة، حينئذ يختلط على الإنسان كل شيء، وتصبح الأشياء المتناقضة متشابهة إلى حد التماثل، فالأسود يصبح أبيض، والأبيض أسود، ومعنى ذلك أن يواجه الإنسان بعينيه المفتوحتين حقيقة أنه أعمى.
فركت عيني بأصابع مرتجفة، ونظرت في وجهه مرة ثانية وثالثة ورابعة وخامسة، وربما لا زلت أنظر في وجهه حتى هذه اللحظة، وفي كل لحظة، كأنه يلازمني كظلي، أو يلتصق بي كقطعة من جسدي، كذراعي أو ساقي.
والذعر بطبيعته يولد الكراهية، لا أنكر أنني كرهت هذا الوجه، وقد يظن بعض الناس أنني لست صادقة فيما أقول، ويتساءلون: كيف يمكن لإنسان ما أن يكره وجهه أو جسده أو قطعة من هذا الجسد؟ وهؤلاء الناس هم - ولا شك - على حق، إنهم أقدر مني على رؤيتي، ليست هي محنتي وحدي ولكنها محنة كل إنسان؛ فالآخرون يرونه أكثر مما يرى نفسه، يرونه من الأمام ومن الجانب ومن الخلف، يرونه من ظهره، أما هو فلا يرى نفسه إلا من الوجه ومن خلال مرآة.
المرآة تظل هناك دائما، قائمة كالشخص الآخر بين الإنسان ونفسه، ومع ذلك فأنا لا أكره المرآة، بل أكاد أحبها حبا شديدا، أحب النظر فيها طويلا، والحملقة، أحب أن أرى وجهي، الحقيقة أني لا أمل النظر إلى وجهي، فهو وجه جميل، أجمل من أي وجه آخر رأيته على ظهر الأرض، وفي كل مرة أنظر إليه أرى جمالا جديدا يكاد يسحرني.
قد لا يستغرب بعض الناس هذا الصدق الشديد؛ فالصدق الشديد يصبح مقززا في بعض الأحيان، أو في كل الأحيان، ولكني عاهدت نفسي على أن أقول الصدق، أنا أدرك أن الاستمرار في الصدق مجهد، يتطلب دائما مزيدا من الجهد والتضحيات، كأن يضحي الإنسان بأن يكون جميلا أو مقبولا في كل لحظة، وأن يتحمل أحيانا درجة من القبح، في نظر الناس، أعترف أنه قد يكون قبحا شديدا يصل إلى حد التقزز، ولكن هذا هو الكفاح المطلوب في العمل الفدائي وفي العمل الفني الجيد، الذي أكتبه الآن.
بهرني في الوجه بالذات العينان؛ فأنا أعشق العيون، وأعتقد (وقد يكون اعتقادي بغير نظرية علمية معترف بها) أن عيني الإنسان جهاز حساس، بل إنه أكثر أجهزته حساسية، يليه الجهاز التناسلي بطبيعة الحال، شدتني إلى العينين نظرة لها لمعة متحركة في كل الاتجاهات والزوايا كإشعاعات فص الماس الحقيقي، وهي نظرة محيرة فعلا؛ لأنها ليست نظرة واحدة، يستطيع الإنسان أن يحدد معناها، نظرة حزن مثلا، أو نظرة فرح، أو نظرة عتاب، أو نظرة خوف، ليست هي نظرة واحدة، وإنما هي نظرة متعددة النظرات، وإن بدت من السطح وحيدة النظرة، إلا أنه سرعان ما تنطوي النظرة الأولى وتتلوها الثانية والثالثة كصفحات كتاب وكطيات نسيج رقيق وضعت طبقاته الطبقة فوق الطبقة ...
انشغلت بالعينين عن بقية ملامح الوجه، لم أر الأنف ولم أر الخدين ولا الشفتين ولا اليد الصغيرة التي ارتفعت في الهواء ولوحت لي بحركة ناعمة مألوفة كأنها تعرفني.
سألتها: ما اسمك؟
قالت: حميدة.
وارتفع صوت الأطفال بحركتهم وأغنيتهم الدائرية بغير بداية أو نهاية.
Halaman tidak diketahui
حميدة ولدت ولد،
سمته عبد الصمد،
سابته على القنايا،
خطفت راسه الحدايا،
حد يا حد،
يا بوز القرد!
حميدة ولدت ولد.
ضحكت كعادة الكبار حين يداعبون الصغار وقلت: يغنون لك؟
لكنها لم ترد؛ لأنها كانت قد اختفت من أمامي في اللحظة التي اهتز فيها رأسي أثناء ضحكي، استطعت فقط أن ألمح ظهرها الصغير المحني بعض الشيء وهو يختفي داخل باب خشبي داكن اللون علقت فوقه يد آدمية خشبية كمطرقة.
لم أمسك المطرقة كعادة الغرباء حين يدقون الأبواب المغلقة، كنت أعرف طريقي، رغم الظلمة الشديدة التي تقبع دائما في مداخل تلك البيوت، ولأن الشمس أيضا كانت قد غربت منذ زمن طويل، عن يميني رأيت رأس الماعزة يطل من خلف الجدار، وعن يساري كانت هناك عتبة صغيرة مرتفعة بعض الشيء، تعثرت في العتبة ككل مرة، وكدت أسقط على وجهي لولا خفة جسمي المعهودة وقدرته العجيبة على الاحتفاظ بتوازنه المختل.
Halaman tidak diketahui
ورأيتها نائمة فوق الحصيرة، مستغرقة في النوم، جفناها نصف مغلقين، وشفتاها نصف مفتوحتين، تتنفس من فمها أنفاسا عميقة كأنفاس الأطفال العميقة، وذراعاها متكورتان حول رأسها، ويدها اليمنى مطبقة على قرش أو تعريفة، وجلبابها الطويل انحسر عن ساقيها الناعمتين الرفيعتين حتى الركبتين، ورأسها الصغير يهتز بحركة ضئيلة غير مرئية، وفكاها الصغيران يضغط أحدهما على الآخر ضغطة هينة توحي بلذة تذوب في فمها من قطعة الحلوى مختبئة تحت لسانها.
كان الليل مظلما بغير قمر، والمصباح المشتعل منذ أول الليل احترق شريطه، أو نفد زيته، فأصبح ذؤابة ضئيلة أطفأتها نفحة هواء قوية وساخنة اندفعت فجأة من ناحية الباب، الذي لم يكن بابا، فالغرفة لم يكن لها إلا عتبة صغيرة مرتفعة بعض الشيء، لكن ذؤابة الضوء كانت قد انطفأت فأصبحت الظلمة شديدة، الأرض كالجدار كالسقف، لا شيء يظهر في السواد الداكن إلا سد كبير يسد فتحة الباب تماما فيما عدا ثقبين صغيرين مستديرين يتوسطان الرأس، وينفذ منهما ضوء أصفر تشوبه حمرة بلون جذوة النار حين تتقد.
لم يكن الشفق قد طلع بعد في تلك اللحظة الساقطة ما بين آخر خيوط الليل وأول خيوط النهار، فتعثرت قدمه الكبيرة الحافية في العتبة المرتفعة بعض الشيء، لكنه استعاد توازن جسده الطويل العريض، ووثب كالفهد على أطراف أصابعه المطاطية، ثم سار على مهل وحذر متخطيا شيئا يشبه البلغة.
3
وبالثقبين اللذين ينفذ منهما الضوء المشوب بالحمرة حدد مكانها فوق الحصيرة ، كعيني قط وحشي لم تستأنس حدتهما وقدرة حدقتيهما على الاتساع في الظلام، وحينما امتدت أصابعه الغليظة المفلطحة لترفع جلبابها عن فخذيها البيضاوين كانت لا تزال مستغرقة في النوم استغراق الأطفال، وقد تغير الحلم، وذابت قطعة الحلوى تحت لسانها، وبدأ البائع يطالبها بالقرش، وفتحت يديها فلم تجد قرشا، وأمسك البائع الفظ العصا وراح يجري خلفها.
كان جسدها خفيفا صغيرا يطير في الهواء كأجساد العصافير، وكان من الممكن أن تسبق البائع (لو كانت عصفورا) لكنها أحست فجأة وكما يحدث في الأحلام تماما أن جسدها أصبح ثقيلا كأنه تحجر على شكل تمثال تسمرت قدماه في الأرض، وثبتت ذراعاه بالحديد والأسمنت، والفخذان أصبحتا من الرخام، وكل فخذ شدت إلى ناحية، وتصلبت الساقان في الجو منفرجتين كالمصلوب، وضربات العصا تنهال بينهما بعنف لم تعرفه من قبل.
صرخت، لكن صوتها لم يطلع، يد كبيرة مفلطحة سدت فمها وأنفها فاختنقت، وأدركت أنها لا تحلم، وأن جسدا كبيرا له رائحة التبغ ملاصق لجسدها، كانت عيناها مغمضتين، لكنها استطاعت أن ترى ملامح الوجه، وتدرك أنها تشبه ملامح أبيها أو أخيها أو عمها أو خالها أو ابن خالها أو أي رجل آخر.
وكانت حميدة تستيقظ كل صباح ككل الأطفال ناسية أحلامها، وتقفز من فوق الحصيرة كالعصفور، تجري إلى أمها، وتشدو بصرخات الأطفال السعيدة حين يستقبلون اليوم الجديد بجسم نام حتى شبع، ومعدة خوت حتى تفتحت شهيتها لكل شيء، وإن كان قطعة خبز مقدد تكسر الأسنان اللبنية، أو شفطة لبن من ضرع، أو قطعة مش من قاع الزلعة.
ذلك الصباح استيقظت حميدة ككل صباح، لكن الحلم لم ينس كالأحلام السابقة، وأصابع غليظة تركت آثارا حمراء وزرقاء على ذراعيها وساقيها، وضربات العصا لا تزال تؤلمها بين فخذيها، ورائحة التبغ لا تزال عالقة بجلدها.
ظنت أمها أنها مريضة بالحمى، فربطت رأسها بمنديل وتركتها راقدة فوق الحصيرة طول اليوم، ونامت حميدة النهار والليل، واستيقظت في اليوم التالي، وظنت أنها نسيت الحلم، وأنه ضاع في الزمن وتبخر في الهواء، كأنما لم يكن، فقفزت من فوق الحصيرة قفزتها المعتادة، فيما عدا ثقل خفيف في ساقيها سرعان ما راح حين ارتدت المريلة وجرت مع الأطفال إلى المدرسة.
Halaman tidak diketahui
كنت أستطيع دائما أن أميز حميدة من بين الأطفال، فالمريلة من الدمور، ولونها سمني فاتح، عليها بقعة من الخلف كانت حمراء من أيام، حين تسربت نقطة دم من سروالها الصغير إلى المريلة وهي جالسة في الفصل، أمها كانت تنبهها دائما لتحتاط للأمر، وأن تضع الفوطة الدمور بعناية بين فخذيها، فهي لم تعد طفلة صغيرة، وكثيرا ما سمعت أمها تقول: «في مثل سنك تزوجت ولم يكن ثدياي قد ظهرا بعد.»
خجل كالعرق كان يندي جبهتها المستقيمة الصغيرة حين تستدير وترى البقعة فوق المريلة، فتجري على أطراف أصابعها وتخلع المريلة وترتدي الجلباب الطويل، وتجلس إلى الطشت، وتغسل مريلتها الوحيدة، ثم تنشرها على الحبل في الشمس لتجف قبل اليوم التالي.
وذات يوم أصبحت المريلة ضيقة، بصعوبة أدخلت فيها جسمها، وبالذات من الأمام، عند بطنها، واستقرت عينا أمها على بطنها بنظرة غريبة لم ترها من قبل، ومخيفة إلى حد أن رعدة خفيفة سرت في جسدها الصغير، والتفت أصابع أمها الكبيرة حول ذراعها النحيل وصاحت: اخلعي المريلة.
خلعتها وارتدت الجلباب، وجلست في الشمس بجوار الحائط، كانت أمها تناديها لتساعدها في العجين أو الخبز أو الطبخ أو كنس الدار، أو كان أبوها أو خالها أو عمها يرسلها إلى الدكان لتشتري دخانا، أو كانت خالتها أو عمتها تناولها طفلها الرضيع لتحمله عنها حتى تعود من الحقل، أو جارتها كانت تناديها من فوق السطح لتملأ لها الجرة من البحر، أو أخوها أو خالها كان يلقي إليها بجوربه وسرواله القذرين لتغسلهما، وعند الغروب يلتف حولها البنات والصبيان من أولاد الجيران فينزلون إلى الشارع ويلعبون «المساكة» أو «عسكر وحرامية» أو «الثعلب فات فات» أو «حبة ملح»، أو «حميدة ولدت ولد».
أي شيء من ذلك لم يحدث في ذلك اليوم، وتركوها وحدها جالسة في الشمس، ولم تجد بدا من التحديق في قرص الشمس طويلا، وحينما غابت الشمس ظلت جالسة مكانها في الظلام، جسدها الصغير يرتعد، شيء ما تحسه ولا تعرفه، شيء ما رهيب يحدث من حولها، في الظلام، وفي الصمت، وفي العيون، كل العيون، حتى الدجاج الذي كان يلتف حولها، لم يقترب منها، والقط الأسود الكبير الذي كان يتمسح بها أصبح واقفا بعيدا عنها، يرمقها بنظرة وجلة من عينيه الواسعتين، وبانتصابة من أذنيه الطويلتين المدببتين.
سقط رأسها فوق ركبتيها وهي جالسة، وربما غفت لحظة أو عدة ساعات، أفاقت بعدها على أصابع طويلة تمسك ذراعها، انتفضت مذعورة، وكادت تصرخ، لولا أن يد أمها أصبحت فوق فمها، وصوتها الخافت أصبح كالفحيح: تعالي ورائي على أطراف أصابعك.
الليل مظلم بغير القمر، والشفق لم يطلع بعد، وكل شيء في القرية ساكن نائم في تلك اللحظة الساقطة ما بين آخر الليل وأول النهار قبل أذان الفجر، وقدما أمها الحافيتان الكبيرتان تنتقلان فوق الأرض المتربة بسرعة كبيرة، توشك أن تجري، وحميدة خلفها تكاد تلمس طرف ثوبها.
أرادت أن تفتح فمها وتسأل أمها عن السبب، لكن أمها توقفت عند سور صغير يفصل الطريق الزراعي عن قضبان القطار، وراء هذا السور كانت تختفي حميدة حين يلعبون المساكة، ناولتها أمها طرحة سوداء.
وضعت حميدة الطرحة على رأسها فانسدلت فوق عنقها وكتفيها وصدرها وبطنها وظهرها وأصبحت تشبه نساء القرية، فتحت فمها لتسأل، لكن صفارة القطار جعلت جسد أمها يرتعد رعدة عنيفة هزت الأرض من تحتها، وبعنف أيضا اندفعت قبضتها الكبيرة في ظهر حميدة، وقذفت بها ناحية القطار، وصوتها الهامس المنخفض كالفحيح: القطار لا ينتظر أحدا، اهربي!
اندفعت حميدة نحو القطار، لكنها استدارت لحظة قبل أن تركب، ورأت أمها واقفة في مكانها، متسمرة في الأرض، ثابتة لا تتحرك، والطرحة السوداء فوق رأسها وكتفيها وصدرها ثابتة أيضا، فلم يكن صدرها في تلك اللحظة يتحرك، ولا شيء فيها يتحرك، ورموشها ثابتة متجمدة، كتمثال حقيقي منحوت من الحجر.
Halaman tidak diketahui
كان القطار يدخل المحطة برأسه الأسود الضخم ينبعث منه الدخان، وبعينه الوحيدة الكبيرة المضيئة بنور قوي كشف المحطة، وكشف حميدة وهي واقفة، فاختبأت وراء عمود، وقف القطار بعد أن اصطدمت عرباته بعضها بالبعض، واصطكت عجلاته الحديدية بالقضبان الحديدية محدثة صوتا عاليا فاضحا، خيل إليها أنه أيقظ كل أهل القرية، فاندفعت نحو القطار تخفي وجهها بذيل طرحتها.
مدت قدمها اليمنى الصغيرة لتضعها فوق سلم القطار، لكن السلم كان بعيدا عن الرصيف، ولم تكن قد ركبت قطارا من قبل، فلم تصل قدمها إلى السلم.
عادت بقدمها إلى الرصيف، وتلفتت حولها في ذعر، خشيت أن يتحرك القطار ولا تركب، رأت بعض الرجال والنسوة يركبون العربة الأمامية فأسرعت ووقفت خلفهم، راقبتهم وهم يصعدون السلم واحدا وراء الآخر، كل واحد منهم كان قبل أن يضع قدمه على السلم يمسك بيده اليمنى مقبضا حديديا على جانب الباب لم تره من قبل، مدت حميدة ذراعها وأمسكت المقبض بكل قوتها ثم شدت جسمها فأصبحت قدمها فوق السلم، وصعدت إلى الداخل.
جلست على أول مقعد قابلها، ورأت جوارها نافذة فأطلت منها، كان القطار قد تحرك ببطء، وتصلب رأسها خارج النافذة وهي ترى أمها لا تزال واقفة في مكانها، ثابتة لا تتحرك، وطرحتها ورأسها وصدرها ورموشها وكل شيء فيها جامد ثابت.
انفجرت شفتاها لتناديها، لكنها تذكرت أنها لم تعد أمها، وإنما هو تمثال الفلاحة القائم عند مدخل القرية منذ سنين لا تعرف عددها، فقد رأته منذ ولدت، ولا بد أنه كان هناك دائما قبل أن تولد.
كان رأسها لا يزال خارج النافذة، لكن أنفاسها أصبحت تدخل وتخرج، تلهث وهي جالسة في مكانها، ولأول مرة تعرف ملمس دموعها فوق بشرة وجهها، ومذاقها في فمها، لكنها لم تتحرك ولم تمد يدها بطرف جلبابها أو كمها لتمسحها، تركتها تنساب وتجري وتدخل فمها، ثم لعقتها بلسانها دون أن تتقلص في وجهها عضلة واحدة، ودون أن يخرج من فمها صوت، ودون أن يتحرك جفناها أو تهتز رموشها، وكل شيء أصبح أسود، وذاب القطار في السواد وامتزج بالليل، كالقطرة تذوب في جوف البحر. •••
في تلك اللحظة كان حميدو لا يزال راقدا فوق الحصيرة، كان نائما وعيناه مغمضتان، لكنه كان يرى عيني أبيه في الضوء الخافت، واقفا بقامته الطويلة كجذع شجرة كافور ضربت بجذورها في بطن الأرض.
سرت في جسده الصغير برودة ثقيلة، خدرت ساقيه وذراعيه، وبذلك الثقل الذي يصيب الأطراف أثناء الحلم المزعج، وظل راقدا في مكانه لا يتحرك، شاخصا نحو ذلك الشبح الطويل الواقف الثابت بغير حراك، وأدرك أن شيئا خطيرا قد حدث أو سيحدث، كتم أنفاسه واختفى تماما تحت اللحاف المسود القذر، أصابعه الصغيرة تشد الغطاء حول رأسه، وأذنه اليمنى فوق الوسادة الصلبة ترتج من تحته بدقات قلبه، تنبعث من رأسه وليس من صدره.
توقع في كل لحظة أن تمتد الأصابع الطويلة وتشد الغطاء عن رأسه، وتستقر العينان الواسعتان في عينيه تصب فيهما الشيء الخطير، لكن اللحاف ظل مشدودا حول رأسه، ودقات قلبه مسموعة في الصمت، وحركة صدره مرئية، كرءوس الأشجار في ليل ساكن بغير نسمة هواء واحدة، وبغير قمر، والظلمة كاللحاف الأسود تلف السماء والأرض في تلك اللحظة الساقطة ما بين آخر الليل وأول النهار، قبل أن تبدأ خيوط الفجر ويزحف الظلام صاعدا ببطء، كحوت ضخم يسبح في محيط لا نهائي، ترقد في قاعه بيوت القرية الطينية الصغيرة المتلاصقة ككوم من السباخ الأسود.
وحين فتح حميدو عينيه كان ضوء النهار يملأ الغرفة، وأيقن أن ما رآه لم يكن إلا حلما، فقفز من فوق الحصيرة وجرى إلى الشارع، كان أصدقاؤه من أطفال الجيران يلعبون كعادتهم في الحارة الضيقة الممتدة أمام البيوت، يمسك كل واحد منهم بذيل جلباب الآخر ويصنعون قطارا يصفق ويرقص، ثم يتفككون ويلعبون المساكة، يختبئون وراء أكوام السباخ، وفي الزرائب، وخلف زير الماء، وداخل فتحة الفرن.
Halaman tidak diketahui
رأى حميدة تجري وسط الأطفال، وتختفي وراء كوم السباخ، جلست القرفصاء حتى لا يظهر رأسها من خلف الكوم، فظهر فخذاها البيضاوان يتوسطهما شريط رفيع من الدمور الأسمر هو سروالها، خبأت رأسها الصغير بشعرها الأسود الناعم في التراب حتى لا يراها أحد، لكن حميدو كان يراها، وكان هو «المساكة» هذه المرة، فانطلق يجري نحوها مثيرا بقدميه الحافيتين زوبعة من التراب.
ثبت عينيه على كوم السباخ، متظاهرا بأنه لا يراها، وسار على أطراف أصابعه بخطوات بطيئة حذرة، واستدار ليختفي وراء الكوم، ثم وثب وثبة واحدة كالفهد، وأمسكها من شعرها بيده اليمنى، أما يده اليسرى فقد امتدت بسرعة البرق واستقرت فوق فخذها، وراحت أصابعها الصغيرة الصلبة تشد سروالها، لكن حميدة رفسته بقدمها، ونطحته برأسها، كما تفعل في كل مرة حين يمسكها المساكة، واستطاعت أن تتخلص من قبضته وجرت لتختبئ وراء كوم آخر.
لم تكن حميدة وحدها تلعب المساكة، كل البنات والأولاد يلعبونها، وحين تجري البنات ليختبئن ويجلسن القرفصاء تتعرى أفخاذهن الصغيرة البيضاء، وتظهر سراويلهن الرخيصة القذرة كالشريط الرفيع الأسود بين الفخذين، يحاول المساكة أن يمسكه ويشده إلى أسفل، لكن البنت تعرف كيف ترفسه بقدمها، أو بقدميها الاثنتين، وهو أيضا لا يستسلم، وإنما يقاومها بقدمه أيضا، أو بقدميه الاثنتين، معركة صغيرة غير مرئية؛ فكوم السباخ يخبئ جسديهما الصغيرين، لكن الأقدام الأربع تطل من وراء الكوم، صغيرة وناعمة لا تعرف قدم البنت من قدم الولد؛ لأن الأقدام في سن الطفولة كالوجوه، لا جنس لها، خاصة إذا كانت أقداما حافية، فالحذاء وحده هو الذي يحدد الجنس.
انكفأ على ظهره حين رفسته بقدمها، لكنه نهض بسرعة، وكانت هي أيضا قد نهضت، ورأى وجهها، لم تكن حميدة، تلفت حوله، في وجوه البنات والأولاد، جرى إلى البيت يبحث عنها في الزريبة، أو في فتحة الفرن، أو خلف زير الماء، أو تحت الحصيرة، خرج من البيت جريا يبحث عنها وراء أكوام السباخ، خلف جذع الشجرة، فوق النخلة، في بطن جسر الترعة، أدبر النهار وهبط الليل ولم يعثر لها على الأثر.
وقف في الظلام على جسر الترعة، ظله الوحيد منعكس على صفحة المياه الراكدة العكرة. ظل طفل لا يزال طفلا، لكن وجهه لم يعد كوجوه الأطفال الناعمة الملساء لا تعرف الذكر فيها من الأنثى، لو كانت صفحة المياه نقية كالماء العذب ربما أصبحت مرآة صافية وانعكس وجهه على صفحتها بطريقة أفضل، لكن الترعة كانت كجميع الترع، يختلط طينها بمائها، ويتعرج سطحها البطيء الحركة بثبات وتجاعيد كبشرة الوجه العجوز الموغل في الزمن.
أما عيناه فقد أصبحتا أيضا واسعتين، عجوزين، شاخصتين في الظلام، ثابتتين، الجفنان لا يتحركان، والرموش تجمدت، ودمعة كبيرة تجمدت فوق السطح.
لأول مرة تتجمد الدمعة فوق السطح، وكانت من قبل كدموع الأطفال لا تكف عن الحركة المستمرة إلى حد الرعشة كرعشة النجم المتلألئ، ويخلط المرء في الطفولة بين لمعة الدموع ولمعة الابتسام.
لكن أحدا لم يكن يخطئ في تلك اللحظة. إنه حميدو الآن الواقف بجسده على جسر الترعة. إنه ليس طفلا، وهذه الدمعة الكبيرة ليست دمعة طفل، وإنما هي دمعة حقيقية، لها ملمس مادي فوق الوجه، ولها طعم الملح في الفم.
ملح حقيقي، فالدموع ككل سوائل الجسم تحتوي على الملح، وحميدو لا يعرف كيف يعيش بغير حميدة؛ فهي ليست أختا عادية، ولكنها توأمه، والتوائم نوعان؛ نوع ينشأ عن الجنينين يعيشان في رحم واحدة، ونوع آخر ينشأ ذكر وأنثى داخل جنين واحد.
وكان حميدو وحميدة جنينا واحدا، ينمو داخل رحم واحدة، منذ البداية كانا شيئا واحدا، أو خلية واحدة، ثم أصبح كل شيء ينقسم اثنين، والملامح انقسمت اثنين، أدق الملامح انقسمت اثنين، حتى العضلة الضئيلة الصغيرة تحت كل عين انقسمت، ولم يعد ممكنا لأحد أن يعرف حميدو من حميدة، حتى أمهما كانت تخلط بينهما.
Halaman tidak diketahui
لكن حميدو كان يعرف أنه شيء آخر غير حميدة، وأن جسده منذ الولادة انفصل عن جسدها، غير أن الشبه كان شديدا، والخلط بينهما شديدا إلى حد أن الأمر كان في بعض الأحيان يختلط عليه هو أيضا فيظن أنه حميدة، ويختفي وراء جدار، ويرفع جلبابه عن فخذيه وينظر بينهما، وحينما تسقط عيناه على الشق الرفيع الصغير يدرك أنه حميدة، وتسقط فوقه العصا تمسكها اليد الكبيرة فيشد الجلباب عليه، ويبكي بدموع حقيقية، تختفي بسرعة كدموع الأطفال، ويرى العصا ملقاة على الأرض، فيجري إليها ويأخذها، ويدسها في جيب جلبابه الطويل، ومن حين إلى حين تمتد يده إلى جيبه يتحسسها، وتسري صلابتها في أصابعه وتنتقل الصلابة إلى ذراعه وكتفه وعنقه، ويشد عضلات عنقه فإذا برأسه ينثني إلى الوراء في حركة تشبه حركة أبيه، ويتكلم من حلقه بصوت غليظ يقلد به صوت أبيه.
وحينما تسمع حميدة صوته الغليظ تدرك أن العصا معه. لم تكن ترى العصا بطبيعة الحال لكنها كانت تعرف أنه يخبئها تحت جلبابه، في مكان ما تحت الباب. وتجري لتهرب منه، فيجري وراءها، ويظن من يراهما أنهما يلعبان، لكن حميدو لم يكن طفلا، وفي جيب جلبابه شيء يخبئه، شيء صلب يتدلى بحذاء فخذه كالعضو الغريب.
وحينما ترفع حميدة عينيها إليه وترى وجهه لا تعرف أنه حميدو وتتسمر في مكانها من شدة الدهشة أو الذعر، لا تتحرك من مكانها، تتجمد كتمثال يضع حميدو كفه فوق سطحه، ويلمس الجفنين الحجريين ويضع أصبعه بين الجفن والعين، كأصبع كل الأطفال حين يمسكون رأس دمية كبيرة الحجم لها شعر ولها رموش تكاد أن تكون حقيقية.
ولم يكن حميدو قد أمسك في حياته قط برأس دمية كبيرة أو صغيرة، فالأطفال في الريف لا يلعبون بالدمى، ولا يلعبون بالعرائس، ولا يلعبون بالقطارات أو مراكب الورق أو الكرة أو أي شيء آخر. إنهم لا يعرفون اللعب، فاللعب للأطفال، وهم ليسوا أطفالا. إنهم يولدون كبارا كيرقات الذباب ما إن تعرف ملمس الأرض حتى تطير، أو كدود المش تنفصل الدودة الجديدة عن الدودة الأم فلا تكاد تفرق بين الدود الجديد والدود القديم.
ورأى حميدو وجه حميدة مقبلا من بعيد على جسر الترعة، وخفق قلبه بفرحة الأطفال القديمة، لكنها اقتربت منه، وعرف طرحة أمه السوداء تلف الرأس وتنسدل فوق الكتفين والصدر والبطن، جرى إليها ووضع رأسه على بطنها. لم يكن رأسه وهو واقف إلى جوار أمه يرتفع لأكثر من خصرها، امتلأ أنفه برائحة أمه المميزة تمتزج برائحة خبيز الفرن وتراب الحقل والجميز، كان يحب الجميز ويجري نحو أمه حين تعود من الحقل تلف الجميز في طرحتها، ثم تجلس على الأرض إلى جواره، وتناوله الجميز واحدة واحدة بعد أن تنفخ عنها التراب.
دفعته أمه بيدها، لكنه ظل ملتصقا بها، متشبثا بجسمها، واستطاع أن يضع رأسه تحت ثديها الأيسر، في هذا المكان بالتحديد كان يحب أن يضع رأسه حين ينام إلى جوارها كل ليلة، كانت تنام بعيدا عنه، في الطرف الآخر من الحصيرة، لكنه كان يصحو في منتصف الليل، وحينما لا يراها إلى جواره يزحف إليها، ويدفن رأسه تحت ثديها.
لم تكن تبعده عنها دائما، وتمتد ذراعها وتلتفان حوله وتضغط عليه بقوة، بكل قوتها إلى حد أنها تؤلمه، ويسري في جسده إحساس غامض بأنها ليست أمه، وليست خالته، وليست عمته، وليست أية واحدة من قريباته، وإنما هي غريبة عنه، وجسدها غريب عن جسده، غرابة تجعله يقشعر، والقشعريرة تسري من السطح إلى العمق، ترج جسده كرعدة الحمى.
ولف ذراعيه حولها من شدة الرعدة، لكنه أحس قبضة يدها الكبيرة القوية كقبضة أبيه تدفعه بعيدا وكاد يسقط في حضن الجسر، ورفع وجهه إليها، ورأى عيني أبيه الواسعتين العجوزين يجري فوق بياضهما الكبير شعيرات دموية حمراء، اشتدت الرعدة وكاد يصرخ من الفزع، لولا أن يد أبيه الكبيرة أصبحت فوق فمه، وصوته الغليظ أصبح كالفحيح: تعال ورائي.
الليل مظلم بغير قمر، والشفق لم يطلع بعد، وكل شيء في القرية ساكن نائم في تلك اللحظة الساقطة ما بين آخر الليل وأول خيوط النهار قبل أذان الفجر، وقدما أبيه الحافيتان الكبيرتان تنتقلان فوق الأرض المتربة بسرعة كبيرة، يوشك أن يجري، وحميدو خلفه، يكاد يلمس ذيل ثوبه.
أراد أن يفتح فمه ويسأل أباه، لكن أباه توقف عند سور صغير يفصل الطريق الزراعي عن قضبان القطار، وراء هذا السور كان يختفي حميدو حين يلعبون «المساكة»، ناوله أبوه شيئا طويلا، صلبا وحادا، لمع في الظلام كالسكين.
Halaman tidak diketahui
دس حميدو السكين في جلبابه فسقط في قاع جيبه وتدلى بحذاء فخذه، أحس طرفه المدبب الحاد فوق لحمه فتقلصت عضلات فخذيه وساقيه وقدميه، وتسمر في مكانه، لكن صفارة القطار الحادة جعلت الأرض تهتز تحته، فثبت قدميه في الأرض يقاوم أي حركة كجواد جامح، لكن يد أبيه الكبيرة دفعته في ظهره بقبضتها القوية، وصوته الغليظ المنخفض كالفحيح: العار لا يغسله إلا الدم، اذهب وراءها!
واندفع حميدو نحو القطار، لكنه استدار لحظة قبل أن يركب، ورأى أباه واقفا في مكانه، متسمرا في الأرض، ثابتا لا يتحرك، والجفنان أيضا ثابتان، والشعيرات الدموية فوق البياض تجمدت كخيوط من الدم رسمت باليد فوق لوحة حقيقية. •••
في تلك اللحظة كانت حميدة تضع قدمها فوق سلم القطار لتهبط منه، وكأنما سقطت في بحر، بحر هائج، الأمواج ليست ماء ولكنها بشر. رجال ونساء وأطفال يرتدون الأحذية الجلدية السميكة، وعربات كالقطارات تجري صفوفا فوق شوارع لامعة بغير تراب، تتفرع وتتشابك ثم تتفرع بغير نهاية كشجرة رأسها في السماء وجذرها في بطن الأرض، والبيوت عالية شاهقة متراصة في كتلة واحدة ضخمة تحجب السماء، فلا ترى فيها العين شبرا واحدا، والضجيج والأصوات والأبواق تصم الآذان، فلا تعود حميدة تسمع شيئا، لكن قدميها الحافيتين كانتا تنتقلان وحدهما فوق الأسفلت، القدم ومن خلفها القدم الأخرى، تلك الحركة الطبيعية، حركة المشي التي يتعلمها الإنسان منذ الصغر، وكان من الممكن أن تستمر على هذا النحو دون توقف، فهي لا تعرف طريقها، ولا تعرف أين يبدأ وإلى أين تنتهي، لكن حذاء جلديا سميكا داس على أصابع قدمها اليسرى وكاد يفرمها، فترنحت لحظة، فإذا بعربة ضخمة تكاد تدهمها، وصرخت حميدة، انفتح فمها عن آخره وخرج منه صوتها المكتوم في صرخة حادة طويلة، طول صرختين أو ثلاث صرخات، أو عشر، أو مائة، أو ألف صرخة متتابعة متعاقبة متصلة في صرخة واحدة طويلة.
ابتلع الضجيج الصاخب صرختها كما تبتلع أمواج البحر قطرة أو قشة أو فراشة أو عصفورا وليدا لا يطير، لم يسمع صوتها أحد، وظلت الدنيا كما كانت تهدر كالشلال، تفتت مياهه الساحقة أجساد التماسيح وأشلاء السفن، وتذيبها، وتظل مياهه هي مياهه، بيضاء كما كانت.
سارت حميدة تعرج بقدمها الجريحة، وجلست في ركن بجوار سور بعيد عن العربات والناس، أسندت رأسها إلى السور وحملقت بعينيها أمامها، كل شيء من حولها يدور في غموض، يلفه الضباب، كالحلم أو الكابوس، الذي ستفيق منه بعد قليل، وتقفز من فوق الحصيرة كالعصفورة ، اتكأت بيدها لتقفز، لكن كفها لمس بطنها، فانقشعت فجأة عن عينيها غمامة، ولأول مرة يصبح كل شيء أمامها قابلا للفهم، ليس ذلك الفهم المدرك لحقائق جديدة، ولكنه الفهم الغريزي المبهم الذي ينبعث من خلايا الجسد المرهقة في لحظات الراحة أو الاسترخاء الشديد.
نامت في مكانها ثم صحت جائعة، لمحت إلى جوارها مخبزا، رصت أمامه أرغفة الخبز صفوفا صفوفا، مدت ذراعها النحيلة وأمسكت بأصابعها الصغيرة رغيفا، قربته بسرعة إلى فمها وكادت تقضمه بأسنانها، لكن يدا كبيرة لها أصابع طويلة التفت حول ذراعها.
شهقت ... ارتفع صدرها بالشهقة فظهر ثدياها الصغيران من تحت الجلباب الواسع كزيتونتين، وبرز بطنها المنتفخ كبالونة الأطفال، والطرحة السوداء لا تزال تغطي رأسها وشعرها وتنسدل على كتفيها حتى أسفل ظهرها قبل ردفيها الصغيرين بقليل.
رفعت عينيها المذعورتين ورأت أمامها عينين واسعتين تحملقان فيها، شدت طرحتها وأخفت بها نصف وجهها كما تفعل نساء قريتها، ظهرت عينها الوحيدة واسعة سوداء فيها نظرة مشدوهة لا تزال بها لمعة طفولة ساذجة، لمعة عين كانت مغمضة، ففتحت لأول مرة على عالم بغير حدود، وصنع الذعر حولها عضلة مشدودة بدت كالدائرة المفتوحة أو كعلامة استفهام مبتورة الذيل، والدموع الجافة خلعت فوقها طبقة كالسحابة الخفيفة، يزحف نحوها من زاوية الأنف إحساس جديد بأنها أنثى وليست ذكرا، أنوثة لم تكتمل بعد، ولم يعرفها أحد بنفسها، ولكنها هي التي اكتشفت نفسها بنفسها منذ لحظات، فإذا بها فجة طازجة لا يزال يعلوها الندى.
تملصت من اليد الكبيرة واستطاعت أن تفلت، وانطلقت تجري، جرى وراءها، دخلت في شارع واختبأت وراء باب من الأبواب، أطلت برأسها فلم تجد أحدا، خيل إليها أنها نجت، لكن الذراع الطويلة امتدت من الخلف وأمسكتها من رقبتها، وصوت خشن غليظ دب في أذنها: قبضت عليك يا لصة! أمامي إلى القسم!
استسلمت، تركت ذراعها النحيلة البيضاء في قبضته، قبضة يد غليظة كبيرة، لها خمسة أصابع، مفاصلها بارزة وعظامها مقوسة، والعروق من تحت الجلد نافرة، وتحت الأظافر السميكة طبقة طينية سوداء، زحفت عيناها فوق ذراعه الطويلة ورأت كتفه ، كتفان عريضتان، فوق كل كتف صف أفقي من خمسة أزرار نحاسية، يفصل بينهما عنق غليظ، التفت حوله ياقة عالية، اسودت من الداخل بسبب التراب الذائب في العرق، تدور الياقة حول عنقه بإحكام، ثم تهبط من الأمام فوق صدره في صف رأسي من عشرة أزرار نحاسية، كانت حميدة قد تعلمت شيئا من الحساب في المدرسة الإلزامية، فأخذت تعد الأزرار، خمسة فوق كل كتف، أي عشرة فوق الكتفين، وعشرة فوق الصدر، فيكون المجموع عشرين زرا.
Halaman tidak diketahui
النهار كان قد انتصف، والشمس أصبحت متوهجة، ينعكس قرصها الأحمر فوق الأزرار النحاسية المستديرة، فتبدو كعشرين قرصا شمسيا تدمع العين لمجرد النظر إليها، ولا تقوى على الحملقة فيها فتطرق إلى الأرض، لكن الأرض تلتهب تحت قدميها الحافيتين بسخونة لم تعهدها في الأرض من قبل، وحذاؤه ذو الرقبة الطويلة يدب بصوت معدني غريب، يشبه احتكاك الحديد بالحديد، وخطوته واسعة، وقدمه حين ترتكز على الأسفلت تصبح ثابتة، والقدمان ترتفعان إلى ساقين طويلتين داخل بنطلون من قماش سميك له جيب طويل كالسرداب تختفي فيه آلة صلبة حادة، وتتدلى بحذاء فخذه.
دخلا من الشارع الواسع إلى شارع ضيق، الأصابع الطويلة لا تزال تلتف حول ذراعها، لكنها ليست خمسة أصابع كما كانت، أصبحت أربعة أصابع، أما الأصبع الخامس فقد انفصل عن بقية الأصابع وصعد وحده إلى أعلى، فوق الذراع الناعمة، حذرا متلصصا، ثم دفن رأسه الأسود الغليظ تحت الإبط الأملس الطفولي الذي لم ينبت فيه الشعر بعد.
شدت ذراعها، لكن الأصابع الأربع تقلصت على لحمها الطري، والأصبع الخامس امتد من تحت الإبط واصلا ببوزه الأسود المدبب حتى الارتفاعة الناعمة لبرعم الثدي، يضغط عليه ضغطات حذرة مرتعشة متقطعة، تزداد شدة في ثنية شارع، أو خلف جدار، وتخف أو تنعدم تماما في وسط الشارع، وأحيانا يتراجع الأصبع الخامس سريعا ويلتصق بإخوته الأربعة حين يمران أمام حشد من الناس.
ملأت أنفها فجأة رائحة نتنة، ووجدت نفسها في زقاق ضيق مظلم، أمام باب خشبي صغير، رأته يتوقف، أخرج من جيبه مفتاحا، دفعها أمامه إلى الداخل ثم أغلق الباب.
لم تر شيئا أول الأمر؛ فالظلام دامس، أشعل بعود ثقاب مصباح جاز صغير فظهرت على الفور أرض بلاط ضيقة، في أحد أركانها بساط يشبه الحصيرة ونافذة حديدية صغيرة فوقها قلة ماء، جدران الحجرة تبدو في الضوء الخافت رمادية يعلوها سواد كالهباب الذي يحدث من موقد الجاز، على أحد الجدران مسمار عليه بدلة من قماش سميك يشع من فوقه صدرها وكتفيها العريضتين المحشوتين أزرار نحاسية صفراء، لمعت في الظلام كعيون مفتوحة مريضة بالتهاب الكبد الفيروسي، على الأرض استقر الحذاء الضخم برقبته الطويلة كحيوان بغير رأس، وإلى جواره سروال أبيض اصفر ظهره واسود بطنه، تفوح منه رائحة بول قديم.
رفعت رأسها من فوق البلاط فرأته واقفا عاريا، كتفاه العريضتان أصبحتا نحيلتين ضامرتين عظامهما بارزة، وساقاه أصبحتا نحيلتين ضامرتين عظامهما بارزة، وساقاه أصبحتا رفيعتين معوجتين، وقدماه الضخمتان السميكتان المرتفعتان عن الأرض أصبحتا لا يفصلهما عن البلاط شيء، والآلة الحادة الصلبة التي كانت مختفية في جيبه أصبحت ظاهرة.
شهقت بدهشة مليئة بالذعر، قاومت الذعر برد فعل غريزي، لكنه طرحها على الأرض، وشد بأصبعه الغليظ جلبابها من فتحة العنق فانشطر الثوب البالي شطرين، ولم يكن هناك ملابس داخلية تحت الجلباب.
قالت بصوت ضعيف مشروخ: أنت مين؟
رد بصوت آمر غليظ: أنا الحكومة.
قالت: ربنا يطول عمرك سيبني أروح.
Halaman tidak diketahui
رد بصوت آمر غليظ: تروحي فين يا بت، أنتي محكوم عليكي.
كل شيء أصبح يتحرك بسرعة فائقة، بسرعة الأنفاس التي تلهث، وبسرعة العضلات التي تنقبض وتنبسط، سرعة غير عادية لا تحدث إلا في الأحلام، لكن الحلم لم يختلط هذه المرة، لم يكن هناك بائع يضرب بالعصا، وإنما هو ذكر له شارب خشن يحتك بوجهها، وتسد رائحة التبغ أنفها، وشعر صدره غزير، تلاحمت شعراته الطويلة والتصقت فوق الجلد بعرق سميك لزج.
وكل شيء توقف فجأة، لحظة سكون تشبه لحظة الموت، رفعت رأسها من فوق البلاط وتلفتت حولها، رأته راقدا على ظهره، عيناه مغمضتان ولا يتحرك، ظنت أنه مات، لكن شخيرا خافتا بدأ ينبعث من فمه المفتوح ، ما لبث أن ارتفع وأصبح كخرير ساقية عتيقة يجرها ثور منهك مريض، رفعت جسمها بهدوء من فوق الأرض، وشدت طرفي جلبابها المشطور فوق صدرها وبطنها، سارت على أطراف أصابعها إلى الباب، حركت رأسها بهدوء ونظرت خلفها، رأت العيون العشرين الصفراء مفتوحة تحملق فيها، فتحت الباب بسرعة.
رأت الشارع الواسع أمامها، فانطلقت فيه بكل قوتها تجري هاربة بغير توقف. •••
في تلك اللحظة، كان حميدو قد هبط من القطار، وأصبح ظهره ناحية الجنوب ووجهه ناحية الشمال، وعيناه أمامه تنظران، تحملقان في الوجوه المحتشدة خارج محطة باب الحديد، المحطة الرئيسية القديمة لمدينة القاهرة، وقدماه الحافيتان تنتقلان فوق الأرض الأسفلت، وجلبابه طويل واسع، تهتز من تحته السكين، وتتدلى بحذاء فخذه كطرف صناعي أو عضو مزروع.
ارتطم بوز السكين الحاد المدبب بلحم فخذه فاقشعر جسده، وسرت القشعريرة في عنقه ورأسه، ترنح، وكاد يسقط بين الأحذية الجلدية السميكة، لكنه شد عضلات ساقيه وظل منتصبا فوق قدميه الحافيتين، وعيناه تائهتان في الخضم الواسع المتلاطم، ترتفعان مع قمم العمارات الشاهقة، وتهبطان مع شعاع الشمس المنعكس على الأسفلت اللامع، وتدوران مع حركة الميدان المستدير، وفي مركز الدائرة تمثال حجري ضخم له رأس إنسان، التف حوله صفوف من البشر، والأعلام، وصفوف من العربات، تلف وتدور ثم تتفرع منتشرة في خطوط مستقيمة متعددة لا تلبث أن تتشابك وتصب في ميدان آخر، ثم تتفرع، وتنقسم الفروع إلى فروع، تتفرع، وتتشابك، وتتفرع بغير نهاية.
أخفى عينيه بيديه، وأسند رأسه إلى عمود نور، غلبه النوم فنام وهو واقف على قدميه، فتح عينيه على صوت، تلفت حوله، رأى الشارع الواسع هادئا خاليا من الناس والعربات، غارقا في ظلمة الليل، ثقب الظلمة بعينيه الحادتين، لمح شبحا يجري من بعيد، قدماه حافيتان، والجلباب الواسع الطويل يرتفع فوق البطن ارتفاعة مرئية واضحة.
انفرجت شفتاه وتدافعت أنفاسه لاهثا: حميدة، وانطلقت قدماه فوق الأسفلت، يده اليسرى مرفوعة أمامه تشق الظلمة، ويده اليمنى في جيبه تتحسس النصل الحاد الصلب، توقف الشبح في ركن مظلم، اقترب منه حميدو بخطوات بطيئة حذرة، أصبحت المسافة بينهما خطوة واحدة، سمع الصوت الخشن يهمس كالفحيح: «العار لا يغسله إلا الدم»، انتزع السلاح من جيبه وأخفاه خلف ظهره، كشف الركن المظلم فجأة ضوء كشاف متحرك، رأى وجه أمه من تحت الطرحة السوداء، صرخ، دوت صرخته في الليل فتوقف الضوء فوق وجهه، اقترب منه شخص لم ير عينيه في الظلام، لكن على كتفيه وفوق صدره رأى صفين من العيون المحملقة المستديرة تشع ضوءا أصفر.
انفرجت شفتاه ليسأل، لكن كفا كبيرة غليظة سقطت فوق صدغه، تبعتها كف أخرى فوق الصدغ الآخر، رفع ذراعه ليقاوم الصفعات لكن خمسة أصابع التفت حول ذراعه، استعان بذراعه الثانية فارتفعت في الجو ذراع خشبية كالشومة سقطت فوق رأسه.
حينما فتح حميدو عينيه شعر بصداع شديد، تحسس رأسه وعثر بين الشعر على الجرح تغطيه قشرة من الدم الجاف، هرشها فسقطت على الأرض إلى جوار حذاء ضخم يرتفع إلى رقبة جلدية تحوطها ثنية بنطلون من قماش سميك، والساقان طويلتان ترتفعان إلى صدر مربع عريض رشق عليه من الأمام وفوق الكتفين صفان من الأزرار الصفراء المستديرة ينعكس عليها ضوء مصباح خافت.
Halaman tidak diketahui
داس الحذاء الضخم على قشرة الدم وهرشها بوحشية، ثم دب فوق الأرض فارتفع في الجو صوت غليظ خشن: ما اسمك؟ - حميدو.
مشت الموسى الحادة فوق جلدة رأسه فأصبحت صلعاء، وسقط شعر رأسه الغزير في جردل مع جلبابه الطويل الواسع، كانت الشمس مائلة في أول الصباح المبكر، فرأى ظل شخص طويل عريض الكتفين يتبعه فوق الأرض، توقف الظل، تحرك فتحرك، ضرب الأرض بقدمه فسمع صوتا معدنيا غريبا لم يعهده من قبل حين كان يضرب الأرض بقدمه الحافية، نظر إلى قدميه. رأى الحذاء السميك الضخم يرتفع في الرقبة الجلدية الطويلة والبنطلون من القماش السميك وداخل كل منهما ساقه الخفيفة النحيلة، والساقان ترتفعان إلى صدر عريض مربع مغلق بصف من الأزرار النحاسية، والكتفان عريضتان محشوتان بالقطن أو القش.
داس بحذائه على الأرض في خطوات بطيئة وجلة، داخل كل فردة حذاء ترقد قدمه النحيلة الصغيرة منكمشة، منضغطة تحت الجلد السميك ، أصابعها رفيعة بيضاء، لا يجري فيها دم، ولا تسري فيها حركة، ميتة أو شبه ميتة، وحركتها داخل الحذاء معدومة، الحذاء هو الذي يحركها، يرفعها ويخفضها، وينقلها فوق الأرض خطوة خطوة، وفي كل خطوة يصطك حديد الكعب بالأسفلت محدثا صوتا معدنيا وبطيئا كاصطكاك حافر عجل مريض مسوق إلى المذبح.
توقف، فتوقف الظل الأسود المرسوم بعناية فوق الأرض، رأسه حليق أملس انعكست عليه الشمس، والعينان ثقبان في الرأس ينفذ منهما الضوء، والعنق عضلاته مشدودة، وعضلات الظهر مشدودة، وجدار البطن مشدود من تحته معدة مشدودة ضامرة لم يدخلها إلا دخان أسود، ولعاب أسود، وكسرة خبز مقددة غمست في عسل أسود، مع قطعة من بصل، أو قطعة مخلل تلسع كالعلقم، يصلح بالعلقم طعم العسل الأسود، ثم يصلح طعم العلقم بالدخان الأسود، يشفطه بأنفه وفمه وبلعومه ليملأ به صدره، ويضيق به على معدته فيتجشأ كالذي شبع.
لسعه كرباج رفيع خلف عنقه فتحركت قدماه فوق الأرض، القدم اليمنى أولا ثم القدم اليسرى، اصطك الحديد بالأسفلت في دقات منتظمة كدقات الساعة أو ضربات القلب، كب، دب، كب، دب، شمال، يمين، شمال، يمين.
دوى الصوت القوي الخشن في الجو: قف.
اصطكت فردتا الحذاء بعضهما بالبعض، والتصقت ساقاه وفخذاه بعضلات منقبضة، امتدت يده اليمنى في جيبه واستقرت فوق آلة القتل الصلبة، تمتد صلابتها بحذاء فخذه وتنتهي برأس معدني مدبب ومثقوب.
صاح الصوت الخشن: انتباه!
التفت أصابع يده اليمنى حول آلة، أربعة أصابع فقط وانفصل الإبهام ليصبح وحده فوق الزناد، وإحدى عينيه صوبت إلى النقطة المحددة الثابتة في منتصف المسافة بين العينين المفتوحتين.
فتح فمه ولهث، لكن يدا قوية ضربته على بطنه والصوت الخشن دب في أذنيه: أغلق فمك واكتم نفسك.
Halaman tidak diketahui
أغلق فمه وكتم نفسه.
صاح الصوت الخشن الآمر: العار لا يغسله إلا الدم!
وضغط بإبهامه على الزناد.
سمع دويا لم يسمعه من قبل، ورأى جسدا يسقط على الأرض يجري من تحته سائل أحمر عرفه على الفور؛ إنه دم الشاة؛ فاليوم هو العيد، وهو لا يزال واقفا يحملق في العينين المفتوحتين الساكنتين لا يرمش لهما جفن، ثابتتين بنظرة ميتة، اتسعت وامتلأت بالذعر، وانتقل الذعر إليه فارتجفت ساقاه النحيلتان تحت الجلباب الواسع، وجرى ليدفع رأسه في صدر أمه ويبكي.
ومسح دموعه في صدر أمه ثم رفع عينيه إليها، ورأى عيني أبيه تكسوهما الشعيرات الدموية، والأزرار النحاسية الصفراء فوق الصدر والكتفين كانت لها لمعة خاصة، والصوت الأجش كانت له خشونة آمرة مخيفة: أتبكي كالنسوان؟!
وعاد حميدو إلى مكانه من الصف، وقف منتصبا تحت قرص الشمس، عيناه بلون ضوء الشمس حمراوان، سوادهما هرب تحت في الظل، في المكان الأمين الرطب، الجو في الخارج شديد الحرارة، الأسفلت ملتهب، أذابته السخونة الشديدة فأصبحت كعوب الأحذية تنغرز فيه كما تنغرز في الأرض الطينية.
توقف حميدو لحظة ليشد حذاءه، تخلف خطوة عن الصف، لسعة الكرباج على قفاه، قفز ليلحق بالصف لكنه انكفأ على وجهه وسقط على الأرض.
قبل لحظة السقوط كان حذاؤه قد انخلع، وكان الهواء الساخن قد اندفع في صدره على شكل كلمة منطوقة لها صوت أدرك أنه صوته حين ينطق، وأدرك أن جسده هو الذي سقط على الأرض وليس جسدا آخر، وأن الدقات المنتظمة المسموعة في أذنه تنبعث من صدره، وشعر بزهو لقدرته على تمييز جسده عن جسد الشاة.
ظهر الزهو في عينيه، وكان وجهه لا يزال ناحية الأرض، فطارت البصقة من الفم الغليظ واستقرت فوق مؤخرة رأسه، تبعتها سبة مألوفة للأذن (اسم من أسماء الأعضاء التناسلية المؤنثة)، تبعتها لكمة قوية ببوز حذاء سميك في ظهره فوق الكلية مباشرة.
هذه اللكمة ببوز الحذاء لم تكن تحدث كل مرة بهذه القوة نفسها، وكنت أرى حميدو ينهض بعدها ويجري ويدخل الصف، لكن اليوم كان العيد، وسيده سيحضر الحفل بشخصه لا بمندوب، ومن الطبيعي أن أي خطأ لا يغتفر، وإن كان زلة قدم، لم تكن زلة القدم في ذلك اليوم مجرد زلة قدم، ولكنها تصبح شيئا آخر أشد خطورة؛ لأن الصف يصبح مشوها، وحين يشوه صف تشوه الصفوف الأخرى بطبيعة الحال، وهذه كارثة.
Halaman tidak diketahui
واختلطت الأشياء أمام عيني حميدو ، لم يكن ذلك لقصور في قدرته على الملاحظة، بسبب ضيق الوقت أيضا، فالوقت في مثل هذا اليوم الهام يصبح ضيقا، ووقع الحياة يصبح سريعا لاهثا، فلا يمكن لإنسان أن يتنفس التنفس الطبيعي ولا بد أن يلهث الجميع.
ولهث حميدو كغيره من البشر فلمحته عين، دائما هناك عين تلمح، ترقب الأشياء، وتدس أنفها بتطفل شهواني في حياة الغير أو موتهم، لا تترك الحي يستمتع بحياته، ولا الميت يستمتع بموته. وضم حميدو ساقيه باستحياء (كان قد اكتسب قدرا من الحياء)، وأفسح الطريق لموكب العربات، لكن الوقت كان ضيقا إلى حد أن ساقه اليسرى لم تجد متسعا من الوقت لتتحرك وظلت ممدودة في الطريق، حافية، أصابع القدم الخمسة منتصبة، تهتز بحركة مرئية بالعين المجردة.
توقف الموكب مشدوها أمام المشهد الذي لم يحدث من قبل ولا من بعد، لم تذكر كتب التاريخ حادثة من هذا القبيل، لكن ما يكتب في التاريخ شيء والذي يحدث في الواقع شيء آخر، وما حدث في الواقع كان يستحق أن يدخل التاريخ لجسامته، لكن التاريخ بطبيعته لا يفتح بابه للحوادث الجسيمة، خاصة إذا كان بطلها حميدو.
لم يشعر حميدو ببطولته رغم الزحام الذي أصبح حوله، أعداد هائلة من البشر تجمعت في لحظة خاطفة، وامتلأت المساحة الخالية بين العمارات بالأجساد، وانسدت الأبواب والنوافذ بالرءوس، وترك الناس مكاتبهم ودواوينهم وأغلقوا حوانيتهم واصطفوا صفوفا متلاصقة يستمتعون بالمشهد، لا أظن أن أحدا تخلف، صغيرا أو كبيرا، ذكرا أو أنثى، من الطبقة العليا أو من الطبقة الدنيا، فالكل يريد أن يستمتع، واللذة عامة، ومشروعة بشرط أن تكون في الخفاء.
وكان حميدو لا يزال في موقعه من الأرض، وعيناه مغمضتان بطبيعة الحال بسبب الموت، لكنه رأى (ورؤية الميت أشد حدة من رؤية الحي) رجالا كثيرين من حوله، عرف أنهم رجال بسبب رءوسهم الحليقة، وخراطيمهم المطاطة، وأزرارهم النحاسية، وآلات القتل الصلبة المتدلية بحذاء أفخاذهم.
حاول أن يفتح فمه ليدافع عن نفسه، ليحكي قصته منذ ولدته أمه، لكن سيده كان حاضرا، وفي حضور سيده يصبح الوقت ضيقا ، ولا يكون هناك متسع لأحد، والحكم بطبيعة الحال لا بد أن يصدر أولا، ويوقع عليه بالعلم، وينفذ، ثم يتسع الوقت بعد ذلك لأي شيء آخر.
وصدر الحكم ضد حميدو فوق صفحة كاملة من صفحات دفتر الأحكام، وكان القانون يقضي بأن يقرأ حميدو المحضر قبل أن يوقع عليه بالعلم، ولم تكن الحروف واضحة بسبب رداءة الخط والسرعة في كتابة المحضر، وأصبح من الصعب على حميدو أن يفك الخط ولم يكن حميدو قد تعلم القراءة.
لكنه استطاع أن يلتقط كلمة أو كلمتين من كل سطر، ودهش لقدرة رجال البوليس على تحويله من جندي مجهول إلى بطل، وأن تكون بطولته خارقة للعادة إلى حد أن حركة أصابع قدمه الحافية في وجه سيده أصبحت حركة تمرد، ولم يعد حميدو قادرا على كتمان زهوه، وراح يحرك أصابع قدمه حركة بطيئة مليئة بالكبرياء.
وارتفعت جميع الأكف بالتصفيق، وكان سيده في الصف الأول، فارتفعت كفاه أيضا بالتصفيق (حركة سيده كحركة التاريخ لا يمكن أن تتجاهل الجماهير)، وحينما تحركت ذراعاه إلى أعلى وهو يصفق، سقط فوق الأرض الساندويتش المحشو بلحم الشاة الذي كان يخفيه تحت إبطه، التقطه على الفور طفل كسيح كان يزحف بين الصفوف بأكياس اللب.
وابتسم حميدو رغم أنه لم يدرك شيئا مما يدور حوله، فالمشهد لا إرادي ولا فضل له فيه، وغير متقن أيضا، يفتقر إلى الخبرة، وتنقصه الثقافة الضرورية، والاطلاع على التراث، ولم يكن حميدو قد قرأ كتب التراث، وعلى الأخص قصص الحب العذري، حين كان الحب نظيفا والإنسان شريفا، لم يخلق له بعد أعضاؤه التناسلية.
Halaman tidak diketahui
لكن آدم اقترف الخطيئة العظمى (كما كانت تحكي له أمه) فإذا بعضو قبيح المنظر ينمو بين فخذيه، انتقام إلهي عادل على حد قول أمه، وهنا خطر له سؤال لم يخطر له من قبل (ولعل سبب ذلك أن جسده كان ميتا فأعطى نفسه حق التفكير في المقدسات)، وكان السؤال هو: كيف اقترف آدم الخطيئة قبل أن يخلق له هذا العضو؟
وأراد أن يطرد عنه هذه الفكرة، فالتفكير في مثل هذه الأمور عمل غير أخلاقي، خاصة في حضور سيده، واختلس حميدو نظرة سريعة بين فخذيه فلم يجد العضو، ووجد مكانه شقا صغيرا يشبه الشق الذي كان يراه في جسم حميدة، واعتقد أن في الأمر خطأ ما، وأن أجساد الموتى اختلطت بعضها بالبعض، وعند الفرز النهائي أعطوه جسد امرأة، دائما هناك خطأ في الفرز النهائي، فالموظف الذي يفرز ضعيف البصر بسبب الدرن الرئوي، وهو الوحيد المكلف بالفرز، (الميزانية لا تسمح بموظف آخر) وعليه أن ينقل الأسماء من كشوف الفرز الابتدائي إلى كشوف الفرز النهائي، وحروف بعض الأسماء متشابهة، وأسماء الإناث لا يفرقها عن أسماء الذكور إلا التاء المربوطة، أمين يصبح أمينة، وزهير يصبح زهيرة، ومفيد يصبح مفيدة، وحميدو يصبح حميدة؛ أي إنها ليست إلا جرة قلم ويصبح الرجل امرأة.
وكان حميدو يحب أن يكون امرأة أحيانا، وفي أحيان أخرى يقاوم ذلك مقاومة شديدة، فالمرأة في ذلك الوقت كانت تكلف بأعمال الخدم المهينة، كأن تمسح حذاء الرجل بعد أن يخرج من دورة المياه أو تناوله كوب ماء وهو راقد فوق ظهره يتجشأ بصوت عال (كان مسموحا للرجل فقط أن يتجشأ بصوت عال)، أو تغسل جوربه النتن، أو سرواله الأكثر نتانة بسبب البول وعدم توافر الماء والصابون.
ويحاول حميدو تصحيح الأمر، لكن التصحيح لم يكن سهلا بأي حال من الأحوال، إذ عليه دائما أن يثبت أنه ليس امرأة، وفي كل مرة يستدعون الطبيب الشرعي، الذي ينزع سرواله القذر بتأفف، وينظر فخذيه بكل وقاحة، وأحيانا لا يستوثق تماما من مجرد النظر، فيمد أصابعه الأنيقة ذات الأظافر المشذبة ويفحص العضو المنكمش المذعور، ويقيسه من جميع الزوايا بمسطرة مدرجة من البلاستيك، ويسجل الأرقام بقلمه الباركر في دفتر خاص، ثم يرسلها داخل مظروف مغلق بالشمع الأحمر إلى قسم الفيش والتشبيه.
وهذا هو القسم الذي يختلط فيه الحابل بالنابل، وتختلط فيه بصمات أصابع اليد مع أصابع القدم مع غيرها من أعضاء الجسم، وتتشابك ذيول الأرقام مع رءوسها، ويسقط منها أجزاء، وتنطمس أجزاء والسبب في ذلك رداءة الحبر المغشوش (الغش كان منتشرا في ذلك الوقت ويمكن لجردل ماء أن يضاف إلى زجاجة حبر).
وظلت حقيقة أمره بهذا الشكل معلقة لبضع سنوات، لا يقطع أحد فيها برأي، ولا يستدعيه أحد لإعادة الكشف، وظن حميدو أن الموضوع أصبح منسيا أو كأنه ما كان، وسار في الشارع باطمئنان، إلى حد أنه دخل محلا للحلاقة ليحلق لحيته الطويلة، وجلس على الكرسي المريح المتحرك، وهز قدميه باسترخاء، وشد إحدى الجرائد القديمة من فوق المنضدة، وقلب صفحاتها بغير اهتمام، لكنه ما إن وصل إلى الصفحة الأخيرة حتى اتسعت عيناه بالدهشة، كانت صورته منشورة في ذيل الصفحة ضمن صور المشبوهات، ولم يكن البغاء محروما في ذلك الوقت، فأمسكوه وأعادوه إلى الخدمة. •••
كانت حميدة في ذلك الوقت قد اهتدت إلى مهنة شريفة (الشرف في ذلك الوقت كان معناه الخدمة بالبيوت)، تلقنت أول درس في الخدمة، وهو أن تنادي الإناث بكلمة «ستي» وتنادي الذكور «سيدي»، وأدركت أن رضا أسيادها عليها يزيد كلما زادت إطراقة رأسها وهي تمر أمامهم، وأصبحت تثني نصفها الأعلى فوق النصف الأسفل بصفة دائمة، فالبيت يحميها من الشارع، والشارع فيه رجل يتربص بها ولا يكف عن مطاردتها.
المطبخ كان حياتها، وبالذات البقعة المربعة الرطبة أمام الحوض، ويداها الصغيرتان في الماء الجاري في الصنبور، ليل نهار، وصيف شتاء، وعيناها السوداوان تواجهان الحائط من تحت طبقة الدموع الجافة، تذيبها من حين إلى حين نظرة ملتهبة حادة كالسيف، تشق الحائط، وتنفذ إلى حجرة الطعام، حيث مائدة الأكل المستديرة تحوطها تسعة أفواه، تنفتح وتتعلق على شدقين منتفخين، يتحرك الفك الأعلى فوق الفك الأسفل، والأسنان كتروس الطاحونة تصطك وتهرس، ويتراكم في الحوض صفوف الصحون الفارغة، تعلوها طبقة دهنية متجمدة، وتمتلئ صفيحة القمامة حتى الحافة ببقايا الأكل غير المهضوم، وتنسد ماسورة المرحاض ببقايا الأكل المهضوم.
وفي منتصف الليل، وبعد أن تمسح أرض المطبخ، تدس في فمها قطعة خبز، وتشد بأسنانها على قطعة جلد أو قطعة عظم داخلها بقايا نخاع، ثم تضع جسمها الصغير بجلبابها المبلل فوق الدكة الخشبية وراء باب المطبخ ، وتترك أصابعها المتورمة المحتقنة تنز سائلا أصفر بمثل حرارة الدم، وأذنيها الصغيرتين تتابعان الفحيح الذكري العدواني المنبعث من حجرة النوم يتبعه الأنين الأنثوي الذليل وقعقعات مفاصل السرير حين يرتج.
أغمضت عينيها ونامت، تخفف جسدها من العبء، وزال الألم من يديها وقدميها، وأصبحت تتنفس بهدوء، هدوء مألوف، تسربت من خلاله صور مألوفة، راقدة في قاع الجمجمة، قاع مظلم، تتراقص فيه ذؤابة متهالكة من الضوء، وتبدو الجدران طينية سوداء يلمع فوقها قش التبن الأصفر، ترتفع إلى فتحة مستديرة كالنافذة، وتهبط إلى بساط كالحصيرة، ترقد على الطرف البعيد أمها، طرحتها السوداء حول رأسها، ويدها كالوسادة تحت صدغها، وفي الطرف الآخر تنام حميدة، عيناها نصف مغلقتين كعيون الأطفال حين ينامون على قصة عفاريت مخيفة، وشفتاها نصف منفرجتين عن أسنان صغيرة شفافة نبتت حديثا مكان الأسنان اللبنية، وأنفاسها لها رائحة الأطفال حين يتنفسون كتنفس الزهر المغمض قبل طلوع الفجر وسقوط الندى، ونهداها مدببان تحت الجلباب الواسع كبرعمين نبتا منذ لحظات ثم انضغطا فجأة تحت اليد الكبيرة المفلطحة كالبلطة، التي أصبحت تزحف متسللة تحت الجلباب، ترفعه عن الساقين الصغيرتين والفخذين، والأشياء تختلط في شيء واحد، في عصا واحدة غليظة في يد البائع، يضرب، ويضرب على رأسها، وصدرها، وبين فخذيها، وهي تصرخ، لكن صوتها لا يخرج، وتبكي وحدها بالليل بنشيج مكتوم، وتبتلع دموعها كلها قبل الفجر، وفي الصباح الباكر تبصقها كلها في دورة المياه، قبل أن يصحو أحد، وتشد قامتها، وتنظر في المرآة إلى عينيها المغسولتين المرفوعتين في تساؤل.
Halaman tidak diketahui