قوله: إذا مشى ظرف ليسبق والمراد أنه إذا انفصل من عالم الأرواح واتصل بعالم الأشباح كان في سرعة المصير إليها بحيث لا يسبقه أحد من الورى لأنه للطاقة جوهره وحدوثه من عالم أمره، لا يحتاج إلى مسافة يقطعها ولا زمن يمر عليه وإنما جعله مقهقرا إلى الورى لأنه حال انفصاله ووجهه نحو ما انفصل عنه وهو معنى ما أشار إليه الغزالي كما سبق في المقدمة حيث قال: فيكون وجهه إلى أصله وإنما يقبل على البدن رعاية لصلاحه لا لضرورة ذاته، وإذا كان وجهه إلى أصله ينال الفوائد من جانب الأصل أكثر مما ينال من جهة الشخص فكان عند اتصاله بمتعلقه راجعها إلى الورى ثم أوضح ذلك بقوله:
فأعجَبَ لَهُ يَأتي كَلَمحِ الطَرف ... مُستَبِقًا وَمشيُهُ لِلخَلفِ
يريد أنه مما يتعجب من أمره إذ يأتي إلى هيكله كلمح البصر مستبقا أي سابقا غيره والحال أنه في سبقه يمشي إلى خلفه واستبق ها هنا بمعنى سبق.
إن رامَ أَن يَرقى إِلى العُلوِ ... فَإِنّهُ يَسمو إِلى الدُنو
يحتمل وجهين: أحدهما أنه إذا أراد الرجوع إلى ما كان عليه قبل التعلق وهو جهة العلو ومستقر عالم الملكوت، فقد سما إلى الدنو من حيث أن الغالب على النفوس البشرية بعد تلبسها بهياكلها الكثيفة يتكدر صفاها بسبب ما تلوثت به من دواعي الشهوات والإخلاد إلى اللذات فإذا انفصلت من التعلق راجعة إلى العلو فقد سمت إلى الدنو، أي دنو حالها عما كانت عليه، ثانيهما أنه إذا رام أن يبقى إلى العلو بما يحصل له من الصفاء كما في نفوس الخاصة، فإنه يسمو إلى الدنو من عالم المجردات أي القرب منها والله أعلم.
وِإن رَقى وَاجتنب التَنكيسا ... صادَفَ في طَريقَها اِنكيسا
يعني وَإن رقى إِلى ذلك العالم، وَاجتنبَ ما يوجِب تنكيسه، أي إرجاعه إلى ما كان عليه من المشاق عند تعلقه بهيكله، ومعنى إرجاعه بقاه على الحالة التي صادفها من المحن وتعب الحياة بسبب تفريطها بالقيام بالواجبات، وعدم تجنب المنهيات، فقد صادف انكيسا في طريقها، والانكيس كما جاء في القاموس، شكل من أشكال الرمل على صورة وهم يعبرون به عن النحوس، والمراد هنا نحوسه بما يحمله من أعباء التكاليف وتجشم مشاق الدنيا، وإن كانت عند المخلصين من أجل السعادات إذ بها يتوصلون إلى ما يزلفهم إلى الله وينيلهم النعيم السرمد.
قَد أَحكَمَ الرَميُ فَما يُخطي الشِعرُ ... لَكِن يَعودُ سَهمُهُ إِلى الوِترِ
وَقوسُهُ الحاجِب لا المُسمى ... وَالعَينَ مِنهُ سَهمُهُ المَعمَى
يعني أنه بعد تلبسه بالبدن قد أحكم الرمي بسهم عينيه وهو معنى شائع الإستعمال بين الأدباء في تشبيههم نظر الأعين برمي السهام، فقد استعار هنا الرمي للنظر ورشحها بقوله: فما تخطى الشعر، وهو كناية عن الإصابة في الإدراك، وبقوله: لكن يعود سهمه إلى الوتر، وفي لفظ السهم استعارة أيضا عن العين كما فسره بها فيما بعد، ومعنى عوده إلى الوتر، رجوع الطرف بعد حصول الإدراك وأوضح الاستعارة بذكر المشبه به في تركيب آخر بأن قوسه هو الحاجب لا المسى المعروف حقيقة وأن سهمه المعمى باستعارته هو عينه.
سَوادِه يُخجَلُ وَجهُ النورِ ... وَنورِهِ أخفى مِنَ الديجورِ
قال في (القاموس): السواد: الشخص ومن القلب حبته فإذا كان معناه شخصه فالمراد أن ذاته وحقيقته تخجل وجه النور لما عرفت أنه النور الكامل وأن سائر الأنوار بالنسبة غليه ناقصة بمراتب كما أوضحه الغزالي في (مشكاة الأنوار) ومع ذلك فنوره أخفى من الديجور إما لعدم تشكله للناظرين حتى يعرفوه بأوضافه الظاهرة، أو لأنها حارت الأفكار في إدراك ماهيته كما أشير إليه بالمقدمة، وإذا كان معناه حبة القلب، فهو اللطيفة النورية المتعلقة بها ويكون معناه كما ذكر.
يَطيرُ مِن غَيرَ جِناحٍ في السَماءِ ... يَسبَحُ كُلَ ساعَةٍ في غَيرِ ماءِ
أي أنه يجول طائرا في ملكوت الله تعالى كما يجول الطائر، لكن بلا جناح، ومعناه أنه يدرك العوالم العلوية إما بطريقة الكشف، أو بتوقيفه م العلوم الشرعية، وكذلك معنى قوله يسبح إلى آخره.
يَمُدُ ثوبَ سِترِهِ عَلى المُلا ... وَشَأنُهُ كَشفُ السُتورِ وَالمُلا
1 / 21