Revolusi Puisi Moden dari Baudelaire Hingga Zaman Kini (Bahagian Pertama): Kajian
ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة
Genre-genre
بهذا يصبح الخلق الشعري نوعا من الفناء في الطاقات السحرية للغة. فإذا أراد بعد ذلك أن يضيف إلى النغم الأولي معنى أو فكرة كان عليه أن يفعل ذلك بكل الدقة الرياضية. إن القصيدة كيان تام في ذاته. إنها لا تنقل لنا الحقيقة ولا نشوة القلب بل لا تنقل في الواقع أي شيء على الإطلاق! إنها قصيدة لأجل ذاتها وحسب، ولعل «بو» بهذه الأفكار أن يكون قد وضع أساس النظرية الشعرية التي ستدور فيما بعد حول فكرة «الشعر الخالص» وهي الفكرة التي سنتحدث عنها عند الكلام عن الشعر في القرن العشرين.
كل هذه الأفكار عن سحر اللغة وقوة الصوت والنغم يحتمل أن تكون قد وصلت إلى نوفاليس وبو نتيجة تأثرهما بالإشراقيين الفرنسيين. ونحن نعلم هذا عن بودلير، ونرجحه ولا نقطع به عن نوفاليس، وقد كان في نظريات هؤلاء الإشراقيين (التي تمتد فيها جذور الرمزية) نظرية فلسفية في اللغة، تقول إن الكلمة ليست شيئا عارضا من خلق الإنسان وإنما تنحدر من أصل كوني واحد. ونطق الكلمة يعقد صلة سحرية بين المتكلم وهذا الأصل. والكلمة الشاعرة هي التي تستطيع أن تغوص بأتفه الأشياء في السر الميتافيزيقي الذي انحدرت عنه، وتلقي الضوء على ألوان التشابه بين أجزاء الوجود. وقد كان بودلير يعرف كل هذه الأفكار ولذلك لم تكن نظريات «بو» في فن الشعر - التي يحتمل أن يكون قد أخذها عن نفس الأصل - غريبة عليه. لنستمع إليه وهو يتحدث عن أهمية الكلمة في هذه العبارة التي سيقتبسها مالارميه فيما بعد: «إن للكلمة قداسة تمنعنا من العبث بها. وإن تناول لغة من اللغات تناولا فنيا معناه القيام بنوع من التعويذ أو الرقى السحرية» (ص1035).
هذا التعبير عما يسميه بودلير بالتعويذ السحري سيتردد كثيرا فيما بعد، لا في الشعر والأدب وحدهما بل كذلك في الفنون التشكيلية. وهو في حقيقته تعبير عن فكر متأثر بالسحر والتصوف وعلوم الأسرار؛ ولذلك فليس عجيبا أن تصادفنا كلمات مثل «الصيغ السحرية» والعمليات السحرية والإيحاء وغيرها مما يتردد بكثرة فيما نقرأ عن نظرية الشعر الحديث.
ولا يقلل من أهمية هذه الأفكار أن شعر بودلير نفسه في «زهور الشر» لا يقدم نماذج كثيرة من هذا السحر اللغوي، وإن كتاباته النظرية قد تجاوزت إنتاجه تجاوزا بعيدا في هذا الصدد، فالمهم أنها قد مهدت للون من الشعر يقدم القوى النغمية الكامنة في اللغة على كل شيء، بل إنه ليضحي في سبيلها بالجوانب الموضوعية والمنطقية والانفعالية، وقد تصل به هذه التضحية إلى حد الخروج على النظام النحوي نفسه. إنه شعر يعتمد على نبض الكلمة، ويظل يتسمع إلى هذا النبض حتى يعثر عن طريقه - لا عن طريق التفكير والتدبير المسبق - على المعنى أو المضمون المناسب. ويأتي هذا المعنى أو المضمون في أغلب الأحوال شيئا غريبا شاذا، يقع على حدود الفهم أو وراء حدوده.
وليس هذا بالأمر المستغرب من شعر أفرغ من المثالية، وأخذ يحاول الفكاك من الواقع عن طريق الإغراب في الغموض والإغراق في الأسرار. وليس غريبا أن يلجأ إلى سحر اللغة ليجد فيه سنده وعونه. فالتعامل المستمر مع إمكانيات النغم وتداعيات الكلمة هو الذي يطلق معاني غامضة ويفجر طاقات سحرية تنبعث من النغم الخالص. (10) الخيال الخلاق
يتحدث بودلير في مواضع كثيرة من أعماله عن اشمئزازه من الواقع. وهو يريد به الواقع السطحي السخيف الذي يكون نسخة من الطبيعة. وقد قلنا إن شعره كله محاولة للخلاص من هذا الواقع؛ الذي غاص مع ذلك في لجته إلى القرار! وليس أدل على سخطه على الواقع من غضبه الشديد لاتهامه بالواقعية عندما قدم إلى المحاكمة بسبب ديوانه «زهور الشر». ويبدو أنه كان محقا في هذا الغضب؛ إذ كانت الواقعية في ذلك الحين صفة تطلق على الأدب الذي كان كل همه أن يعبر عن جوانب الانحطاط الأخلاقي والجمالي في الواقع، دون أن يكون له هدف سوى هذا التعبير. وشعر بودلير يختلف في الحقيقة عن ذلك كل الاختلاف. فهو لا يريد أن ينسخ الواقع بل أن يحوله، ومن الخطأ والسخف أن نصف بودلير بالواقعية أو الطبيعية. إن الدوافع الفطرية إلى الشر تتحول عنده إلى ما سميناه بالنزعة الشيطانية، وصور الشقاء والتعاسة تتوهج تحت يده فتصبح رعشة بالفزع تعبر عن التوتر والصراع والاستقطاب الذي تكلمنا عنه في فصل سابق، والظواهر الواقعية والطبيعية المحايدة تصبح لديه رموزا لحالات نفسية باطنة أو لعالم غامض غير محدود يشغل ما وصفناه بالمثالية الفارغة من الهدف والمعنى الأخير. إن المادة التي يعالجها بودلير تتوهج على الدوام - مهما بلغت من الحدة وإثارة الفزع والاشمئزاز - بروحانية متوقدة تسمو فوق كل واقع وتنزع بكل قوتها للخلاص منه. ومن مظاهر هذه النزعة في صنعته الشعرية عنايته الفائقة بدقة التعبير عن الجانب الأدنى من الواقع أي من هذا الواقع بعد تشكيله وتحويله، وخلو مضمون الصورة عنده من كل تحديد مكاني ، وميله إلى الأوصاف الانفعالية بدلا من الأوصاف الموضوعية الدقيقة، والاستغناء عن المعالم الحسية المحددة وغير ذلك كثير مما يدل على نزوعه للإفلات من الواقع والخروج من أسره.
هذه الملكة التي تمكن الشاعر من تحويل الواقع وتخليصه من «واقعيته» يسميها بودلير «الحلم» كما يسميها في أحيان أخرى «الخيال» أو «المخيلة»، وهو يخطو خطوة أبعد من ديدرو وروسو عندما يصفها بأنها ملكة خلاقة مبدعة. ولا بد من فهم هذا الوصف في إطار القوى الذهنية والإرادية التي تنطوي عليها فكرة الحلم والخيال لديه، والتي تدور كذلك في دائرة تسمح أيضا بالكلام عن الرياضة والتجريد.
ولا بد أن نفهم فكرة الحلم عند بودلير فهما جديدا حادا يصل إلى أقصى درجات الحدة. صحيح أنه قد يستخدمها أحيانا بمعناها القديم عندما يخلع صفة الحلم على مظاهر مختلفة من الحياة الوجدانية، أو على الزمن الباطن أو الشوق. ولكنه يؤكد حتى في هذه الأحوال نوعا من السمو فوق عالم الأشياء القريبة، كما يؤكد نوعا من التعارض الكيفي بين رحابة الحلم وضيق الواقع.
أضف إلى هذا أنه يميز الحلم في أغلب الأحيان عن «الكآبة الناعمة» و«الفيض العاطفي» و«القلب»، كما يصفه في المقدمة التي كتبها «للأقاصيص الجديدة» التي ترجمها عن «بو» بأنه «متوقد، غامض، كامل كالبللور». إنه ملكة مبدعة لا مدركة، تسير على خطة دقيقة واضحة ولا تخضع للصدفة والاتفاق. ومهما تكن طريقة الحلم أو شكله فالمهم دائما هو أنه يبدع مضمونات غير واقعية. قد يكون ملكة أدبية فطرية، وقد تساعده العقاقير والمخدرات على أداء وظيفته، وقد يصدر عن أحوال نفسية مرضية. ولكن هذه جميعا وسائل يستعين بها للقيام بالعملية السحرية التي يستطيع الحلم أن يضع بها اللاواقع الذي يبدعه فوق الواقع المألوف.
وليس من قبيل الصدفة أن يصف بودلير الحلم بأنه كامل كالبللور. فهو بهذا الوصف الذي يقارن فيه الحلم بشيء غير عضوي إنما يضمن له منزلة متفوقة على الواقع المحسوس.
Halaman tidak diketahui