161

Tasawuf

التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق

Genre-genre

وحسرة داود أشار إليها القرآن إشارة تشبه إيماءة الطرف، فجاء الصوفية فوشوها توشية طريفة وعرضوها في صور مختلفة لا تخلو من سحر وفتون. ولم يفتهم أن يجعلوا بكاء داود من فنون الرياضات فقالوا: إنه كان إذا أراد أن ينوح مكث قبل ذلك سبعا لا يأكل الطعام، ولا يشرب الشراب، ولا يقرب النساء.

وتسامى بهم الخيال فجعلوا بكاء داود من المواسم الروحية التي يتجمع لها الوحوش والسباع الهوام والعذارى أيضا؛ ثم جعلوا نهاية تلك الملطمة الوجدانية مختومة بأشلاء الصرعى من السباع والوحوش والناس.

ومن الواضح أن هذه كله من صنع الخيال، فلا مجال فيه لتحقيقات التاريخ. وما دخل التاريخ في الصور الأدبية؟ التاريخ يعرف أن داود فتن امرأة واصطفاها لنفسه، وأن الله أدبه أظرف تأديب، ثم جاء الخيال خيال الأقاصيص فلون تلك الحقيقة بما شاء.

دقائق نفسية

ويشبه هذه الصور ما حدثوا به عن يحيى بن زكريا، فقد قالوا: إنه دخل بيت المقدس وهو ابن ثماني حجج فنظر إلى عبادهم قد لبسوا مدارج الشعر والصوف،

3

ونظر إلى مجتهديهم قد خروا للتراقي وسلكوا فيها السلاسل وشدوا أنفسهم إلى أطراف بيت المقدس فهاله ذلك، فمر بصبيان يلعبون فقالوا له: يا يحيى هلم بنا لنلعب، فقال: إني لم أخلق للعب. ثم أتى أبويه فسألهما أن يدرعاه الشعر ففعلا. فرجع إلى بيت المقدس فكان يخدمه نهارا. ويصيح فيه ليلا، حتى أتت عليه خمس عشرة سنة، فخرج ولزم أطواد الأرض، وغيران الشعاب، فخرج أبواه في طلبه فأدركاه على بحيرة الأردن، وقد أنقع رجليه في الماء حتى كاد العطش يذبحه وهو يقول: وعزتك وجلالك لا أذوق بارد الشراب حتى أعلم أين مكاني منك. فسأله أبواه أن يفطر على قرص كان معهما من شعير، ويشرب من ذلك الماء، ففعل وكفر عن يمينه، فمدح بالبر. فرده أبواه إلى بيت المقدس، فكان إذا قام يصلي بكى حتى يبكي معه الشجر والمدر، ويبكي زكريا لبكائه حتى يغمى عليه، فلم يزل يبكي حتى خرقت دموعه لحم خديه، وبدت أضراسه للناظرين. فقالت له أمه: يا بني، لو أذنت لي أن أتخذ لك شيئا تواري به أضراسك عن الناظرين! فأذن لهما فعمدت إلى قطعتي لبود فألصقتهما على خديه، فكان إذا قام يصلي بكى، فإذا استنقعت دموعه في القطعتين أتت إليه أمه فعصرتهما، فإذا رأى دموعه تسيل على ذراعي أمه قال: اللهم هذه دموعي، وهذه أمي، وأنا عبدك، وأنت أرحم الراحمين. فقال له زكريا يوما: يا بني، إني سألت ربي أن يهبك لي لتقر عيناي بك. فقال يحيى: يا أبت إن جبريل أخبرني أن بين الجنة والنار مفازة لا يقطعها إلا كل بكاء. فقال زكريا: يا بني، فابك.

4

فهذه الصورة في بكاء يحيى صورة رائعة، ومع روعتها لم يتحدث عنها أحد من الأدباء. ولو أن هذه الصورة نفسها أضيفت إلى مجنون ليلى لعدوها من الروائع، وتحدث عنها صاحب الأغاني وصاحب مصارع العشاق. لو نظمت هذه الصورة في أخبار رجل من أصحاب العشق الحسي لكانت متعة الأسمار والأحاديث، ولكنها أضيفت إلى أخبار من قضوا صرعى في ميادين الأشواق الربانية فتجاهلها الأخباريون.

أرأيتم قول يحيى:

Halaman tidak diketahui