160

Tasawuf

التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق

Genre-genre

1

وحدثوا أنه لما طال بكاؤه ولم ينفعه ذلك ضاق ذرعه، واشتد غمه، فقال: يا رب، أما ترحم بكائي! فأوحى الله إليه: يا داود، نسيت ذنبك وذكرت بكاءك؟ فقال: إلهي وسيدي، كيف أنسى ذنبي، وكنت إذا تلوت الزبور كف الماء الجاري عن جريه، وسكن هبوب الريح، وأظلني الطير على رأسي، وأنست الوحوش إلى محرابي! إلهي وسيدي، فما هذه الوحشة التي بيني وبينك؟ فأوحى الله إليه: يا داود، ذاك أنس الطاعة، وهذه وحشة المعصية. يا داود! آدم خلق من خلقي، خلقته بيدي، ونفخت فيه من روحي، وأسجدت له ملائكتي، وألبسته ثوب كرامتي، وتوجته بتاج وقاري، وشكا إلي الوحدة فزوجته حواء أمتي، وأسكنته جنتي؛ ثم عصاني فطردته عن جواري عريان ذليلا. يا داود، اسمع مني والحق أقول: أطعتنا فأطعناك، وسألتنا فأعطيناك، وعصيتنا فأمهلناك، وإن عدت إلينا على ما كان منك قبلناك.

وحدثوا أنه كان إذا أراد أن ينوح مكث قبل ذلك سبعا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب، ولا يقرب النساء، فإذا كان قبل ذلك بيوم أخرج له المنبر إلى البرية فأمر سليمان أن ينادي بصوت يستقري البلاد وما حولها من الغياض والآكام والجبال والبراري والصوامع والبيع، فينادي فيها: ألا من أراد أن يسمع نوح داود على نفسه فليأت. فتأتي الوحوش من البراري والآكام، وتأتي السباع من الغياض، وتأتي الهوام من الجبال، وتأتي الطير من الأوكار، وتأتي العذراى من خدورهن، ويجتمع الناس لذلك اليوم، ويأتي داود حتى يرقى المنبر ويحيط به بنو إسرائيل، وكل صنف على حدته محيطون به، وسليمان قائم على رأسه، فيأخذ في الثناء على ربه فيضجون بالبكاء والصراخ، ثم يأخذ في ذكر الجنة والنار فتموت الهوام وطائفة من الوحوش والسباع والناس، ثم يأخذ في ذكر الجنة والنار فتموت الهوام وطائفة من الوحوش والسباع والناس، ثم يأخذ في أهوال القيامة وفي النياحة على نفسه فيموت من كل نوع طائفة. فإذا رأى سليمان كثرة الموتى قال: يا أبتاه قد مزقت المستمعين كل ممزق، وماتت طوائف من بني إسرائيل ومن الوحوش والهوام، فيأخذ في الدعاء. فبينا هو كذلك إذ ناداه بعض عباد بني إسرائيل: يا داود، عجلت بطلب الجزاء على ربك. فيخر داود مغشيا عليه، فإذا نظر سليمان إلى ما أصابه أتى بسرير فحمله عليه. ثم أمر مناديا ينادي: ألا من كان له مع داود حميم أو قريب فليأت بسرير فإن الذين معه قتلهم ذكر الجنة والنار.

2

صورة الزهد في الزهد

أرأيتم هذه الصور في وصف بكاء داود؟ إن هذه صور أدبية رائعة تمثل بعض أحوال النفوس وهي لا تقل روعة عن نظائرها من الصور الوصفية، التي تمثل مقامات الأدباء بين أيدي الخلفاء والملوك.

وأي بلاغة أروع وأمتع من هذه العبارة النفسية التي قيلت في تصوير السماحة الربانية:

أطعتنا فأطعناك، وسألتنا فأعطيناك، وعصيتنا فأمهلناك، وإن عدت إلينا على ما كان منك قبلناك.

هذه صورة من صور الصفح تستحق الإعجاب، وكلمة «على ما كان منك» من العبارات المتخيرة الدقيقة الصنع، وهي إشارة إلى قصة داود التي قصها القرآن إذ قال:

وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب * إذ دخلوا على داوود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط * إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب * قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داوود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب ۩ * فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب * يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب .

Halaman tidak diketahui