قلنا إن المنابع الكبرى التي استقيت منها اللغة العربية إنما هي القرآن الكريم والحديث النبوي وكلام العرب الموثوق بعربيتهم، ومن المعلوم أن القرآن تم قبل انتقال الرسول إلى الملأ الأعلى بزمن يسير وأن الحديث النبوي ختم بانتقاله، فبقي كلام العرب الموثوق بعربيتهم واستمرت الثقة به إلى أن اختلت سلائق القوم واضطربت ألسنتهم على أثر اختلاطهم بحمراء الأمم وصفرائها، فما كاد ينطوي بساط القرن الأول الهجري حتى انقضى عمر الاعتماد على كلام المتحضرة من العرب، أما العرب فامتد أجل الثقة بكلامهم إلى ما بعد القرن الأول ولكنه لم يطل إلى ما بعد القرن الثالث، إلا في قبائل قليلة كانت معتصمة في شعاف بعض الجبال المنقطعة عن العمران، أو الضاربة في بعض البوادي النائية التي لا تتصل بالحضر إلا في القليل وهم شراذم لا يعتد بهم، فالأخذ عن حاضرة العرب ومن يتصل بها أو يكثر الترداد إليها من أهل البادية ينتهي بجرير والفرزدق ومن في طبقتهما، ومن هناك تبدأ طبقة المولدين من مخضرمي الدولتين وعلى رأسها: بشار وحماد عجرد ووالبة بن الحباب ومن في طبقتهم، فما حدث في عهد هذه الطبقة وما بعدها من الألفاظ يسمى مولدا، وبعبارة أخرى ما أحدثه المولدون من الألفاظ يسمى المولد ويقابله العربي فيقال هذه لفظة مولدة وهذه عربية، كما يقابل المعرب والدخيل بالعربي الصميم فيقال هذا لفظ معرب وهذا من الصميم.
وأمثلة الألفاظ المولدة كثيرة تكاد تفوت الحصر، من ذلك النحرير كان الأصمعي يقول إنه ليس من كلام العرب وإنما هو مولد، وأخ كلمة تقال عند التألم والتأوه والعربي أح بالحاء المهملة، ومن المولد الكابوس وهو ما يشعر به النائم من الثقل، ومنه الفطرة والعربي صدقة الفطر أو زكاة الفطر وهي من الألفاظ الإسلامية، ومنه التفرج قال النووي: ولعله مأخوذ من انفراج الغم، ومنه الجبرية والقدرية من مذاهب المتكلمين، الأول يطلق على من يقول الإنسان مضطر في أفعاله غير مختار والثاني يطلق على من يقول بأن الإنسان فاعل باختياره وخالق لأفعاله، ويقال للأولين أهل الجبر وللآخرين أهل القدر. ومنه الطفيلي وهو من يأتي الولائم من غير أن يدعى إليها، وطفيل رجل كوفي كان يغشى الولائم من غير دعوة ويبالغ في ذلك فنسب إليه كل من يفعل مثل فعله، وعربيه الضيفن لمن يجيء مع الضيف من غير دعوة، والوارش لمن يدخل على القوم في طعامهم فيأكل من غير دعوة، والواغل لمن يدخل على القوم في شرابهم فيشرب معهم من غير أن يدعى إلى الشرب. ومن المولد المخرقة وهي الافتعال والاحتيال، ومنه البحران وهو أعلى ما يصل إليه المرضى من الشدة وليس بعده إلا الموت أو البدء بكسر سورة المرض شيئا فشيئا وهي اصطلاح طبي، ومنه تبغدد إذا تشبه بالبغداديين وليس منهم، ومنه بس بمعنى حسب وقيل هو عربي مأخوذ من البس وهو القطع وأنشدوا:
يحدثنا عبيد ما لقينا
فبسك يا عبيد من الكلام
وأنت ترى أن البس بمعنى القطع ثلاثي ولفظ بس المستعمل بمعنى حسب ثنائي وشتان بينهما، نعم لو قال قائل لآخر بسا أي بس كلامك بسا بمعنى اقطعه قطعا لكان صوابا. ومنه التخمين وهو القول بالحدس، ومنه الفشار للهذيان والإقذاع في القول. (5-3) تنبيه
يعد من المولد كل لفظ كان عربي الأصل ثم غيرته العامة تغييرا ما، بأن كان ساكنا فحركته أو متحركا فسكنته أو مهموزا فتركت همزه أو بالعكس أو قدمت بعض حروفه على بعض أو حذفت ... وما إلى ذلك، مثال ذلك أن العرب تقول في رجل: سمح، وفي أسنانه حفر ، وفي بطنه مغس أو مغص ، وحدث في الناس شغب، وجبل وعر، وبلد وحش، وحلبس في حلقة القوم، كل ذلك بسكون العين والعامة تحركها.
وتقول العرب: أصيب فلان بالتخمة وهو من التخمة أي الخيار، وهذه لقطة وهي تحفة، وتناول الصبر للدواء المر المعروف، وطلعت الزهرة للنجم المعروف، وسعف النخل، والسحنة للهيئة، كل ذلك بالتحريك والعامة تسكنه. والعرب تقول: هنأني الطعام ومرأني، وطرأت على القوم، وترأست عليهم، كل ذلك بالهمز والعامة تتركه.
والعرب تقول: رجل عزب، وهذه كرة، وتعسه الله، وكبه لوجهه، والعامة تزيد فيه الهمزة فتقول: رجل أعزب، وهذه أكرة، وأتعسه الله، وأكبه لوجهه. وأمثلة ذلك كثيرة تجدها مبثوثة في ثنايا معاجم اللغة ودواوين الأدب، وقد أفرده بالتأليف جماعة منهم: الموفق البغدادي في ذيل الفصيح، والحريري في درة الغواص في أوهام الخواص، وقد عقد له ابن قتيبة في أدب الكاتب أكثر من باب، وعقد له الجلال السيوطي بابا خاصا في الجزء الأول من كتابه المزهر في علوم اللغة وأنواعها. (6) المعرب والتعريب
المعرب ما استعملته العرب في كلامها من الألفاظ لمعان في غير لغتها، وقد اشترط بعضهم أن يكون اللفظ الذي تتلقاه العرب من العجم نكرة مثل إبريم وجوقه وسرداب، فإذا كان علما مثل إبراهيم وإسماعيل وإسحاق فلا يسمى معربا وإنما يسمى أعجميا.
ومن هذا تعلم أن التعريب هو نقل الكلمة من لغة أجنبية إلى اللغة العربية بتغيير أو بدونه ويسمى الإعراب أيضا؛ مثال ما تغير عند التعريب: «سكر» فإنه معرب «شكر»، وإقليد وهو المفتاح فإنه معرب «كليد»، وبنفسج فإنه معرب «بنفشه»، وهنزمن فإنه معرب «انجمن» لمجمع الناس. ومثال ما عرب من غير تغيير: النوروز والكاغد والبخت بمعنى الحظ. هذا ولا جرم أن استمداد لغة من أخرى يعد من أساليب نمائها، فالتعريب بالنسبة للغة العربية أحد عوامل توسعها، فقد تناولت هذه اللغة طائفة من الكلم حتى أصبحت من لحمها ودمها وما من ذلك عليها من عاب، لأن اللغة الحية تشبه المخلوقات تفتقر في بقائها ونمائها إلى مختلف الأغذية وفي عداد هذه الأغذية ما تنتزعه لغة من أخرى من مختلف الكلم، هذا إذا كانت اللغة قوية البنية وإلا فقد تكون بعض اللغات مرعى خصيبا لبعض آخر تأكل ما تشاء وتذر ما تشاء، كما وقع في اللغة التركية فإنها عاثت بجارتيها العربية والفارسية وأكلت منهما أكل النهم الشره ولكنها بشمت وعسر عليها هضم ما ازدردته فحارت في أمرها ولم تزل حائرة ...
Halaman tidak diketahui