والحق أن المجاز ثالث ثلاثة في توسيع رقعة اللغة، فكان عمدة القوم في بادئ الأمر على الارتجال، ثم لما توفر لديهم طائفة من الألفاظ المرتجلة ركنوا إلى الأخذ بالاشتقاق والتوسل بأساليبه المختلفة، وعندما يعوزهم الاشتقاق يعمدون إلى المجاز. ويقارب هذه العوامل الثلاثة في خدمة التوسع التعريب.
والكناية أخت المجاز يقال فيها ما يقال فيه، فلا حاجة إلى التكرار. (5) الألفاظ الإسلامية
جاء الإسلام والأمية فاشية في العرب والجهل ضارب بجرانه فيما بينهم، فأمدهم بما لا عهد لهم به من العلم الكثير والانقلاب العظيم فتكاثرت المصطلحات الجديدة وعب عبابها، فتمطت اللغة عند ذاك وفتحت صدرها الرحب لضم تلك المصطلحات بمعانيها الجديدة ولم تضق ذرعا بتحمل ما حملته في هذا السبيل، بل نهضت بكل ذاك نهوض القادر الأمين، بعد أن كان العربي لا يفقه من شئون دينه ودنياه إلا النزر البسيط جاءه القرآن والسنة بالفيض الفائض منهما، ثم جاءت الفتوح واتسع سلطان القوم فازدحمت اللغة بالمصطلحات الكثيرة التي اقتضتها الأوضاع السياسية والإدارية والتطورات الاقتصادية والاجتماعية، ثم لم تزل الأحداث تتوالى والأحكام تتجدد وتتكاثر بتجدد الأحداث وتكاثرها إلى أن استوى لدى القوم من المصطلحات الشيء الكثير، حتى إنهم أفردوها بالتأليف وكثرت فيها التصانيف.
وليس معنى هذا أن تلك المصطلحات كلها ارتجلت ارتجالا وابتدعت ابتداعا، وإنما جلها معان جديدة نقلت إليها ألفاظ من اللغة كانت مستعملة في معان أخرى تتناسب مع المعاني الشرعية، وربما عربت الشريعة بعض الألفاظ بمعانيها. ومن أمثلة المصطلحات الإسلامية الصلاة، وأصلها في لغتهم الدعاء والترحم، ثم نقلها الشرع إلى المعنى المعروف للمناسبة الظاهرة، ومن ذلك الركوع وأصله الخضوع، فنقله الشرع إلى الهيئة المخصوصة، ومثله السجود فإن أصله التطامن والذلة وهو في الشرع عبارة عن الهيئة المخصوصة، ومن ذلك الزكاة لم تكن العرب تعرفها إلا من ناحية النماء، ومن ذلك المحرم للشهر المعروف فإنه لم يكن معروفا في الجاهلية وإنما كان يقال له ولصفر الصفران، وكان أول الصفرين من الأشهر الحرم، وكانت العرب تارة تحرمه وتارة تقاتل فيه، فلما جاء الإسلام وأبطل النسيء سماه النبي
صلى الله عليه وسلم
شهر الله الحرام. ومن ذلك الجاهلية، فإنه اسم حدث في الإسلام للزمن الذي كان قبل البعثة. ومن ذلك الفاسق وأصله خروج الشيء من الشيء على وجه الفساد، يقال: فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها، وكذلك كل شيء خرج عن قشره فقد فسق، ثم نقله الإسلام إلى الخروج عن الطاعة. والأمثلة في هذا أكثر من أن يحاط بها، ومن أراد التوسع في هذا الباب فليراجع الكتب الشرعية من التفسير وغريب الحديث وأصول الدين والفقه وأصوله، فإنه يقف على فيض من تلك المصطلحات المنبثة هنا وهناك، وتجدهم هناك يقولون لهذه اللفظة معنيان، معنى في اللغة ومعنى في الشريعة . وإنما انفردت الألفاظ الإسلامية عن سائر مصطلحات العلوم كالعربية وغيرها لما للشرع من معنى الشمول، فإن الألفاظ الشرعية تتمتع من الانتشار والشمول بما لا تتمتع به مصطلحات العلوم الأخرى، فإن الذين يعرفون الصلاة - مثلا - بمعناها الشرعي أكثر بكثير من الذين يعرفونها بمعناها اللغوي. أما مصطلحات العلوم المختلفة فإن معرفتها بمعانيها الاصطلاحية مقصورة على أهل تلك العلوم، فمصطلحات النحو مثلا لا يفهمها سوى النحوي ومصطلحات العروض لا يعرفها غير العروضي، خلاف المصطلحات الشرعية فإنها مشاعة بين جميع أفراد الأمة عامتهم وخاصتهم.
واستعمال الألفاظ الشرعية بمعانيها الشرعية من قبيل الحقائق عند أهل الشرع واستعمالها بمعانيها اللغوية من قبيل المجازات عندهم، والأمر عند اللغويين بالعكس، فالصلاة بمعناها الشرعي حقيقة عند الشرعيين مجاز عند اللغويين، وهي بمعناها اللغوي مجاز عند الشرعيين حقيقة عند اللغويين، ولهذا يقول علماء البلاغة: إن الحقيقة أقسام، منها اللغوية ومنها الشرعية، وكذلك المجاز منه الشرعي ومنه اللغوي. (5-1) الاصطلاح
قلنا إن الألفاظ الشرعية لا تخرج عن كونها مصطلحات، ولكنها أوسع شمولا من مصطلحات سائر العلوم لأن أتباع الشرع أكثر عديدا من أتباع كل علم من العلوم الأخرى على حدته. ولما اتسع نطاق المعارف وبسقت دوحتها وتبارت العقول في خدمتها وتنميتها، وانماز كل علم منها بمسائله وقواعده من علوم شرعية إلى لسانية إلى كونية وتكاثفت أغصانها وفروعها؛ احتاجوا في كل فرع منها إلى وضع مصطلحات كثيرة للمعاني الكثيرة التي زخرت بها تلك العلوم، فمصطلحات العلوم اللسانية تختلف عن مصطلحات العلوم الشرعية، وهذه تختلف عن مصطلحات علوم الفلسفة مثلا، فالعامل عند النحوي مثلا غيره عند الفقيه والفيلسوف، وكذلك الكلام والتمييز والحال والإعراب والبناء إلى غير ذلك من الكلم التي اصطلح عليها أهل كل علم في علمهم. وكان أرباب العلوم إذا جد لهم معنى وضعوا له لفظا يناسبه، فإن أعوزهم فزعوا إلى الاشتقاق أو النحت أو غيرهما، وقد يتصرفون في اللغة تصرفا يغضب اللغويين أو المصرفين ولكنهم لا يبالون بذلك إذا أرضوا المعنى الذي يريدونه، فقالوا: اللاأدرية أو العندية والمتى والأين ... إلخ، وإذا ضنت عليهم العربية أو بالأصح لم يتوفقوا للوصول إلى بغيتهم منها فزعوا إلى التعريب فقالوا: سفسطائية وأسطقس وإيساغوجي وأقرباذين ... إلخ.
وقد تمايزت مصطلحات كل علم عن غيرها، وإذا ضممت مصطلحات العلوم المختلفة إلى بعضها يتوفر لديك معجم ضخم له شأنه، وقد فعل ذلك بعض المتأخرين فتم لديهم الشيء الكثير، ومجموع ذلك يؤلف لغة قائمة بنفسها هي لغة العلم وعليها المعول في كل لسان.
وأنا أرى أن معجم المصطلحات يجب أن يسبق المعجم اللغوي؛ لأنه ألزم والانتفاع به أكثر. (5-2) الألفاظ المولدة
Halaman tidak diketahui