وقد احترفت الصحافة والتأليف، وأدغمتهما. ولذلك أنا في الصحافة أحاول أن أرفع المقال السياسي أو الاجتماعي إلى مقام الأدب. وأن أستنبط العبرة من الأخبار حتى أرفعها إلى مقام الأنباء. وأن أجعل من الصحيفة كتابا ومن الكتاب صحيفة.
وكان من مصادفات حياتي أني عرفت نيتشه في 1909، فاكتسح ذهني اكتساحا. وكنت حوالي العشرين أتقبل الرأي بلا مناقشة. فآمنت بكثير من أقواله وعبدت الكثيرت من عقائده. ومع أني قد شفيت بعد ذلك من هذه الأقوال والعقائد فإني ما زلت أحتفظ بالكثير مما تعلمت منه. وأول ذلك أن أنظر إلى الدنيا بالعقل البكر والقلب البكر وأن أقتحم الأفكار بروح البطل أو الشهيد.
وعرفت الأدب، وعرفت الفلسفة، وعرفت نفسي، من نيتشه. وإلى الآن لا يخلو أدبي من فلسفة، كما لا تخلو فلسفتي من أدب أو علم.
وكثير من الفضوليين العارفين يحسون هنا أني لا أقول كل ما أريد. وكأنهم يسألونني: ما هو إيمانك؟
وجوابي أني أومن بالمسيحية والإسلام واليهودية، وأحب المسيح وأعجب بمحمد، وأستنير بموسى، وأتأمل بولس وأهفو إلى بوذا. وأحس أن كل هؤلاء أقربائي في الروح أحيا معهم على تفاهم وأستلهم منهم المروءة والحق والرحمة والشرف.
وأومن - زيادة على هؤلاء - بحب الطبيعة وجلالة الكون. ولا أنسى المعنى الديني في نظرية التطور وموكب الأحياء التي يتوجها الإنسان. بل إني لأجد هذا المعنى الديني في جمال المرأة، وقداسة الأمومة، وشرف الإنسانية، وأومن بتولستوي وغاندي وفولتير وبيكون.
إن الصورة الوحيدة التي تطل على سريري أراها عند اليقظة في الصباح وقبل النوم في المساء هي صورة تولستوي الإنسان الإنساني.
وبكلمة أخرى أقول: إن بؤرة إيماني هي الإنسانية بمن تحوي من فلاسفة وأنبياء وأدباء وبما تحوي من شجاعة وذكاء ومروءة ورحمة وجمال وشرف.
ولا يمكن أن يكون إيماني ساذجا كله طمأنينة وتسليم. فأنا بعيد عن هذه الحال ولا آسف على ذلك؛ لأنه إذا كان اليقين أروح فإن الشك أشرف كما يقول برتراند روسل. وأنا رجل قد أكسبتني الثقافة النظرة الشاملة للحياة والكون. واعتقادي أنه لا يمكن للإنسان أن تتكون له شخصية دينية سامية ما لم يكن مثقفا قد حقق النظرة الاستيعابية للكون فنظم عقله وقلبه بحيث ينسجمان في حركة الحياة الكونية والآمال الإنسانية، ووصل في كل ذلك إلى رأيه الخاص أو قلقه الخاص. والدين رأي خاص ولا يمكن أن يكون عاما. ويجب أن يبقى قلقا دائما.
وهناك عشرات من الكتب المحورية التي بنيت بها حياتي وشخصيتي. ولكنها كانت بمثابة الأسكلة التي تنصب من الخشب والحديد لتشييد البناء، حتى إذا تم ، هدمت. ولذلك هدمت نيتشه كما هدمت عشرات غيره؛ لأني استغنيت عن الأسكلة بعد أن بنيت بها شخصيتي.
Halaman tidak diketahui