المقدمة
الطفولة والصبا
أمي وإخوتي
القاهرة فيما بين 1903 و1907
أول وجداني الذهبي
كرومر وجورست وكتشنر
الآفاق الأوروبية تتفتح لي
أنا أربي نفسي
تربيتي الأدبية
تربيتي العلمية
Halaman tidak diketahui
ذكريات الحرب الكبرى الأولى
ثورة 1919
زوجة وأطفال
شخصية عرفتها
كفاحي الثقافي
كفاحي السياسي
في خدمة الشباب
من الأفلام الماضية
بعض الأدباء الذين عرفتهم
التدابير الإنجليزية لفقرنا وجهلنا ومرضنا
Halaman tidak diketahui
فلسفة وديانة
هذا العمر
من 1919 إلى 1947
برنامج السنوات العشر القادمة
عشر سنوات
سن السبعين
السبعون سنة الأولى من عمري
مؤلفاتي التي وجهتني
ذكريات من حياة «مي»
المقدمة
Halaman tidak diketahui
الطفولة والصبا
أمي وإخوتي
القاهرة فيما بين 1903 و1907
أول وجداني الذهبي
كرومر وجورست وكتشنر
الآفاق الأوروبية تتفتح لي
أنا أربي نفسي
تربيتي الأدبية
تربيتي العلمية
ذكريات الحرب الكبرى الأولى
Halaman tidak diketahui
ثورة 1919
زوجة وأطفال
شخصية عرفتها
كفاحي الثقافي
كفاحي السياسي
في خدمة الشباب
من الأفلام الماضية
بعض الأدباء الذين عرفتهم
التدابير الإنجليزية لفقرنا وجهلنا ومرضنا
فلسفة وديانة
Halaman tidak diketahui
هذا العمر
من 1919 إلى 1947
برنامج السنوات العشر القادمة
عشر سنوات
سن السبعين
السبعون سنة الأولى من عمري
مؤلفاتي التي وجهتني
ذكريات من حياة «مي»
تربية سلامة موسى
تربية سلامة موسى
Halaman tidak diketahui
تأليف
سلامة موسى
العالم طيب ... إني أبارك على الحياة.
رامبو
المقدمة
ميلاد كل منا هو مغامرة مع القدر، نخرج إلى العالم بكفاءات وراثية لا تتغير من أبوين لم نخترهما. ونعيش في وسط، تتكون فيه نفوسنا وتملى علينا فيه العقائد وطرز السلوك، قبل أن نستطيع أن نغيره. ثم تتوالى علينا الحوادث التي تقرر اتجاهاتنا في الحياة وتقع بنا الكوارث التي نتكيف بها وننزل على مقتضياتها. وعلى الرغم من أننا جميعا نصاغ في قالب البشرية، فإن كلا منا فذ في هذه الدنيا قد كتبت حظوظه - أو أكثرها - قبل أن يولد، إن خيرا وإن شرا. ولذلك فإن قصة كل منا هي قصة فذة مفردة تستحق أن تروى وتقرأ.
وكلنا يحب أن يتحدث عن نفسه، وأحيانا يسرف ويدمن في هذا الحديث حتى يثقل على إخوانه. ولكن - مع ذلك - لا تكاد تخلو حياة إنسان مما يجدر ذكره للمغزى أو العبرة إلا إذا كانت حياة أبله قد مرت الاختبارات دون أن ينفعل بها. وواضح أن مثل هذه الحياة لا تزيد كثيرا - من حيث المغزى أو العبرة - على حياة البقول.
وأحيانا تضطرب العصور التي يعيش فيها المجتمع، فيبعث هذا الاضطراب وجدانا - أي وعيا - بالأخلاق والسياسة والاقتصاد والاجتماع؛ فيذكو، حتى العقل الخامد. ويتنبه، حتى القلب الغافل. ونأخذ جميعا في التساؤل والاستطلاع، ونرفض التسليم بالقيم السابقة أو الطاعة للتقاليد الموروثة. ثم نتطلع إلى المستقبل ونحاول أن نخترع الأساليب الجديدة للعيش.
وقد قضيت عمري إلى الآن 1947، وهو يقارب الستين، في بقعة مضطربة من هذا الكوكب، هي مصر. وعشت هذا العمر وأنا أرى انتقالها المتعثر من الشرق إلى الغرب؛ أي من آسيا إلى أوروبا. وعاينت مخاضها وهي تلد هذا المجتمع الجديد الذي لا يزال طفلا يحبو، كما عاينت كفاحها للإنجليز المستعمرين وللرجعيين المصريين. وكل هذا يستحق أن يروى وأن يقف عليه الجيل الجديد.
وأنا إذن في هذه السيرة لست مؤرخا لنفسي فقط؛ إذ إني حين أترجم بحياتي وأصف للقارئ كيف تكونت شخصيتي وكيف ربيت نفسي، بل حين أعزو إلى نفسي بعض الفضل في تحطيم المعابر التي كانت تصل يومنا بأمسنا، أي بالقرون المظلمة، وتحاول ربط تاريخ الغد الحافل بالاقتحام والشجاعة والرؤيا بتاريخ الأمس وهو مأساة حالكة بالظلم والفاقة والجهل والجبن، في كل ذلك إنما أروي تاريخ العصر الذي عشت فيه وتاريخ الجيل الذي كنت أحد أفراده.
Halaman tidak diketahui
ولكني، مع أني سأروي تاريخ مصر أو أشير إلى الأعلام البارزة فيه مدة حياتي، فإني مع ذلك لن أكون الراوي الموضوعي؛ لأني في هذه السيرة، سوف أنظر بعدستي الذهنية وأؤثر الانفعال الذاتي على الحقيقة الموضوعية؛ لأني أترجم بالسيرة قصدا أولا، وأدون التاريخ عرضا ثانيا.
وواضح أن كل سيرة يرويها صاحبها يعيبها نقص هو الذاتية؛ إذ يشق على أذكى الناس أن يحلل نفسه ويعرض لتاريخه التحليل والعرض الموضوعيين، ولكن هذا العيب هو أيضا ميزة؛ لأن القارئ ينتفع بشيء آخر لا يجده في الرواية الموضوعية، يكتبها غيرنا عنا، وهو أنه سيقف على وقع الحوادث في الكاتب.
وقد يعيب السيرة الذاتية أيضا أن مؤلفها لن يبوح بكل ما يعرف، وخاصة إذا كان ما يحب أن يبوح به يتصل بأشخاص لا يزالون أحياء يكره أن يؤلمهم. وهناك أشخاص هم في وجداني الآن حين أذكرهم أحس أن أنفاسي تنهدات لفرط ما أساءوا إلي، ولكني لن أكتب شيئا عنهم؛ لأنهم لا يزالون أحياء. ويعيب السيرة الذاتية أيضا أن كاتبها لا يحسن التحليل لنفسه؛ لأن كثيرا مما يراه غيره فيه يعمى هو - لذاتيته - عنه. وأخيرا يعيب السيرة الذاتية أن مؤلفها سيثرثر كثيرا، وقد يغلو عن صناعته كأنها كل شيء في حياته. فالأديب يتحدث عن الأدب، والطبيب عن الطب. ولكن قليلا من العناية بالتنبه الوجداني عند الكاتب يؤدي إلى إصلاح هذا النقص.
ونحن، حين نكتب تاريخنا بيدنا، نمتاز من حيث إننا نكتب عن موضوع لا يعرف تفاصيله أحد مثلنا. وهذه ميزة كبرى وخاصة إذا حرصنا على ألا تغمرنا التفاصيل فنخطئ الأبعاد ولا نرى الغابة، في نظرة شاملة مترامية؛ لأننا نشتغل برؤية الشجرة القريبة منا.
وقد يكون الدافع الأول لكتابة هذه السيرة أني أحس - إلى حد كبير - أني منعزل عن المجتمع الذي أعيش فيه لا أنساق معه في عقائده وعواطفه ورؤياه. وعندئذ تكون هذه الترجمة التبرير لموقفي مع هذا المجتمع وهو موقف الاحتجاج والمعارضة؛ فأنا أكتب كي أسوي حسابي مع التاريخ.
وكل حياة - بصرف النظر عن الحياة البقلية البلهاء التي أشرت إليها - تستحق أن تعرف وتروى أخبارها واختباراتها؛ لأننا - كما يجب أن نقرأ عن القمم التي وصل إليها العبقري أو القديس - كذلك يجب أن نعرف الأعماق التي هبط إليها المجرم؛ إذ إن كليهما إنسان ومن حقنا أن نقف على مقدار العمق الذي تهوي إليه الطبيعة البشرية كما نقف على الارتفاع الذي تسمو إليه. ولذلك أيضا يجب ألا نستصغر قيمة السيرة، يكتبها المتوسط العادي وحتى المنحط الشاذ؛ لأن في تخلفه عن اللحاق، أو في عجزه عن السبق، عبرة قد يرجع مغزاها إلى المجتمع الذي عاش فيه فتقع تبعته على بيئته وليس عليه. وعندئذ تكون سيرته دعوة إلى هذا المجتمع كي يتغير ويتطور.
وحين يكتب أحدنا سيرته، ويخلص بقدر ما تتيح له ظروفه، يعرض - من حيث لا يقصد - للعوامل التي كونت شخصيته وربته؛ لأننا لا نتربى في المدارس فقط. إذ تربينا أيضا للعائلة التي نشأنا في أحضانها الناعمة أو بين أشواكها الخشنة. كما يربينا الشارع الذي اختلطنا بأبنائه، ثم بعد ذلك - أي بعد العائلة والمدارس - نعيش نحو خمسين أو ستين سنة ونحن نتربى بالصحف التي نقرأ كل صباح وبالكتب التي نستنير بها. ثم بالعمل الذي نرتزق به؛ لأن هذا العمل - بما فيه من حقوق وواجبات - يكلفنا تكاليف مختلفة، ويحملنا على الاختلاط والتعرف إلى الشخصيات البارزة التي كان لها أثر التوجيه الحسن أو السيئ في المجتمع، كما أن تتابع الحوادث وتغير الدنيا بالمخترعات الآلية أو الكيماوية، ثم اختباراتنا ومحننا؛ كل هذا له أثر التكوين والتربية. وكل من يكتب سيرته إنما هو الواقع يشرح للقارئ كيف ربى نفسه أو كيف ربته الحوادث. وليس معنى هذا أن التربية كانت حسنة؛ إذ ربما كانت سيئة، فإن المجرم قد انتهى إلى مأساته باستجابات ورجوع بينه وبين الوسط المادي والاجتماعي. ولو أنه استطاع أن يشرح لنا الحوادث التي انتهت به إلى الجريمة ويحلل مواقفه المختلفة من المجتمع لأخرج لنا كتابا منيرا؛ ولذلك كل سيرة - مهما يكن «سائرها» - تنفع وتنير ما دام كاتبها يكتب في إخلاص وما دام على شيء متوسط من الذكاء يحمله على أن يبصر بالعوامل المختلفة.
و«تربية سلامة موسى» هي سيرتي أبسطها لقراء الجيل الجديد حتى يعرفوا ما لم يروه أو يختبروه من الحوادث التي مرت بنا فيما بين 1895 و1947. وأعود فأكرر أنها ليست تاريخا وإنما هي وقع التاريخ في نفسي. وسيرتي هي أولا وآخرا تربيتي. وقد اقتبست العنوان من هنري آدمز، ووجدت في معناه مغزى قد ينتفع به القارئ.
وقد كتبت فصول هذه السيرة في سنتين ونشرت بعضها في المجلات؛ ولذلك قد يجد القارئ تكرارا لأن النية لم تكن في الأصل تهيئة كتاب، بل كانت مقصورة على اختيار بعض الحوادث التي مرت بحياتي مما يصح أن يكون له مغزى للقارئ أو يجد عنده اهتماما.
الطفولة والصبا
Halaman tidak diketahui
رأيت القرن التاسع عشر بعين الطفولة، ورأيته وهو خلو من الغش لم يلابسه شيء من مخترعات القرن العشرين. وهذا ما لا يستطيع أن يقوله أوروبي؛ لأن إيماءات القرن العشرين كانت تبدو واضحة في أواخر القرن التاسع عشر في أوروبا. أما في مصر فقد حدث العكس، وهو أن تراث القرن التاسع عشر بل بعض القرون التي سبقته بقيت عالقة ببداية قرننا هذا. وما زلنا في 1947 نرى هذا التراث على أثقله في طبقاتنا الفقيرة. وليس هذا من ناحية الوسط فقط حيث الفقر المذل، بل من ناحية النفس أيضا، حيث الرضا بالحظ المقسوم والإيمان بالخرافات والتسليم بالنظم الإقطاعية كأنها الشيء الطبيعي لمجتمعنا.
أجل! لقد ركبت الحمار من محطة القاهرة إلى عابدين، ورأيت الجاموسة تحضر كل يوم من العزبة إلى منزلنا بالزقازيق كي تحلب ثم تعود. وضربت من أختي لأني ناديتها باسمها من الشارع؛ إذ كان يعد من الشعائر الاجتماعية العامة ألا تعرف أسماء الفتيات. وعشت في الزقازيق حين لم تكن تعرف المصابيح؛ حتى إننا كنا - حين نزور بعض أقاربنا - نحمل معنا «فانوسا» نسترشد به في ظلام الشوارع. ورأيت أحد المجرمين يشنق في ميدان الزقازيق، وبقيت نحو عام وأنا أفزع من اسمه، وكان يدعى «سيد أهله». ولم أكن أستطيع النوم إلا وأنا متعلق بعنق أمي، ولم أكن أستطيع الدخول في المرحاض إلا بمرافقة الخادم؛ لأن رسم المشنقة بقي حيا في مخيلتي الصغيرة. وكان من المألوف الذي كنا لا نحس فيه وخزا أو عيبا أن يجري خلفنا الفلاح نحو ساعة ونحن على الحمير وهو يلهث كأنه والحمار سواء.
وكانت لنا دار «قوراء» في الزقازيق تتسع لحمار أو بغل في فنائها الذي يستقبل السماء وتفرش أرضه أشعة الشمس. وكانت هذه المطايا أتومبيلات العائلة وفقا لشعائر القرن التاسع عشر. ولعل إرماد عيني في صباي كان يعود إلى روث هذه البهائم.
والزقازيق بلدة جديدة لا يرجع تاريخها إلى أكثر من ثمانين عاما، وجميع عائلاتها لهذا السبب ينتمون إلى بلدان أخرى. وكذلك كانت أسرتي فإنها ترجع إلى البياضية في مديرية أسيوط، وقد تركنا البياضية منذ نحو 140 سنة؛ أي في نهاية الحكم الفرنسي وبداية حكم محمد علي، وأسرتنا في مديرية الشرقية تعرف بلقب «العفي» ولا يزال هذا اللقب في البياضية على الرغم من فرقة تقارب قرنا ونصف قرن. والأصل والفرع يعيشان في يسر. ولكن ليس هناك أي تعارف بين أعفياء البياضية وأعفياء الشرقية. ولم نزر هذه القرية منذ 140 سنة.
أما لماذا هجر فرعنا الحاضر في مديرية الشرقية هذه القرية الصعيدية، فإننا نجهل تفاصيله، ولكني أرجح هذا التفسير التالي: «لما غزا نابليون مصر في أواخر القرن الثامن عشر انتعش الأقباط. ولم يكن الشعب المصري - مسلمين ومسيحيين - يحس الوجدان «الوعي» الوطني الذي نحسه في عصرنا؛ وذلك لأن الوجدان الديني كان يقوم مقامه. وفرح الأقباط بدخول نابليون واستطاعوا أن يجرءوا على تغيير ملابسهم، وأن يرحلوا عن قراهم في الصعيد إلى القاهرة، وبلدان الوجه البحري. وكانوا إلى ذلك الوقت يتعممون بالعمائم السود مع أزياء أخرى يختصون بها ويتخذونها مضطرين منذ القرون المظلمة. وكانت هذه الأزياء الخاصة تمنع تنقلهم وارتيادهم مدن القطر. فلما جاء نابليون نزعوا هذا الزي واتخذوا الزي المصري العام الذي كان ينفرد به إخوانهم المسلمون. وبذلك أتيح لهم التنقل. وأنا أعد هذا السبب الأصل لنزوح أبي جدي من البياضية إلى القاهرة، ثم إلى القراقرة في مركز منيا القمح ثم إلى الزقازيق.»
ومما يؤيد هذا التفسير قول الجبرتي في حوادث 1233 هجرية:
فيه نودي على طائفة من المخالفين للملة من الأقباط والأروام بأن يلزموا زيهم من الأزرق والأسود ولا يلبسون العمائم البيض؛ لأنهم خرجوا عن الحد في كل شيء. ويتعممون بالشيلان الكشميري الملونة والغالية في الثمن. ويركبون الرهوانات والبغال والخيول، وأمامهم وخلفهم الخدم يطردون الناس عن طريقهم. ولا يظن الرائي لهم إلا أنهم من أعيان الدولة. ويلبسون الأسلحة وتخرج الطائفة منهم إلى الخلاء ويعملون لهم نشانا يضربون عليه بالبنادق الرصاص وغير ذلك. فما أحسن هذا النهي لو دام.
ولكنه لم يدم كما اشتهى هذا العالم الأزهري الجبرتي. ويبدو أن الأقباط والأروام عادوا فتوسلوا بالقناصل الفرنسيين والإيطاليين إلى محمد علي فألغى هذا التمييز، فاستطاع الأقباط أن يختلطوا بسائر الشعب وأن يرتحلوا وينتقلوا كما شاءوا. وواضح أن الأزياء السابقة التي كانوا يتخذونها منذ الحاكم بأمر الله كانت تجمدهم في قراهم؛ لأنهم كانوا إذا انتقلوا إلى مدينة غريبة صاروا عرضة - على الأقل - للتهزئة والتعيير، إن لم يكن لأكثر من هذا.
وهجر أبو جدي قرية البياضية حوالي 1800 أو 1810 في عمامة بيضاء، وكان هذا من الانتصارات الخطيرة للقرن التاسع عشر على القرون السابقة.
وجميع أفراد عائلتنا يعدون - بحسب الترتيب المزاجي لكرتشمر - انطوائيين، يتسمون بالوجه الطويل والقامة النحيفة، والاعتكاف أو كراهة الاختلاط. وأحيانا يبدو هذا المزاج في مبالغة شاذة، حتى إني أعرف أشخاصا في أسرة العفي عاشوا كأنهم كانوا رهبانا يتوقون المجتمع ولا يحضر أحدهم عرسا أو جنازة إلا بضغط. وقد لا يجدي الضغط، ولكن هذا الشذوذ كان بالطبع نادرا.
Halaman tidak diketahui
ومات أبي ولما يبلغ عمري السنتين. ونشأت لذلك في بيت لا يزوره ضيف، إلا إذا كان من الأعمام أو الأخوال، فزادني هذا الظرف انزواء على ما ورثت من المزاج الانطوائي. وقد صار هذا الانزواء بعد ذلك فضيلتي ورذيلتي معا؛ فقد كانت تمضي علي السنة والسنتان لا أعرف فيها القعود على القهوة، كما أني إلى الآن أجهل ألعاب الحظ الاجتماعية البسيطة بالورق أو غيره مما يتسلى به غيري، كما أجهل التدخين. وما زلت أفر من المجتمعات في استحياء أو كراهة، ومع أني أحسن الكتابة فإني أسيء الخطابة؛ لأن الأولى تؤدى في انفراد، والثانية تحتاج إلى مجتمع. وقد عانيت كثيرا من هذا النقص الاجتماعي في حياتي بعد ذلك. ولكني أعزو إلى انطوائيتي هذا الاعتكاف في مكتبتي، وهو الذي بسط لي آفاقا واسعة من الحكمة وأمتعني بجنات نضرة وغرس في نفسي ديانة بشرية سامية.
وأولى الذكريات التي تمثل في ذهني من أيام الطفولة: صورة أمي وهي قاعدة إلى فراشي تصلي من أجلي وأنا مريض. ولا أعرف كنه هذا المرض الذي ألزمني الفراش نحو عام أو عامين. والأغلب أني مرضت به وأنا في الخامسة أو السادسة، ولعله كان حمى الملاريا؛ لأن الزقازيق كانت في ذلك الوقت حافلة بالبرك الآسنة. ولما قاربت الشفاء كان خادمنا عطية يحملني إلى ضريح ولي مسلم يدعى أبا عامر. ولا يزال ضريحه قائما بقرب الزقازيق. وكان يشتري الشمع ويتصدق بقروش، ويدور بي حول الضريح ويتمسح به ويقرأ الفاتحة جملة مرات وأنا على عاتقه. وكان عطية متعلقا بي يهمل شئون البيت كي يقعد بجواري ويلاعبني وأنا مريض. وبقى أكثر من عشر سنوات بعد ذلك بمنزلنا. وكان حبه لي ساذجا يطغى، فكان يلقمني الطعام حتى أعجز عن البلع، وكان هذا العجز علامة الشبع عنده، ولم يتركنا إلا بعد أن اشترى فدانا وآثر الفلاحة على الخدمة المنزلية.
ومما أذكره من تلك السنوات؛ أي بين 1895 و1898، أن وباء الكوليرا فشا في الزقازيق، فكانت النعوش تخرج متوالية وليس وراءها سوى شخصين أو ثلاثة، وعم الذعر بين السكان ولكن توالي الموت كان أيضا مجالا للفكاهات. وكنا نحن الصبيان أكثر السكان فكاهات، فكنا نسير جماعات صغيرة فإذا سمعنا فزعة الموت بصراخ النسوة قابلناها ب «هيه ...» ثم نجتمع أمام البيت كي نرى الشعائر الأخيرة. وكانت هذه الشعائر تجري في سرعة واقتضاب.
وكان مما يحدث أن بعض الصبيان الذين كانوا في جماعتنا يقع هذا الوباء في بيوتهم، فيتركونا. ولكنا لم نكن نضن عليهم بهذه المظاهرات. ولم يكونوا هم على وجدان بالمأساة إذ سرعان ما كانوا يعودون إلينا قبل أن ينفض المأتم، وأعني بالمأتم صراخ النسوة يجتمعن في البيت. أما إقامة السرادقات للعزاء فلم يكن الوقت يتسع له لوفرة الوفيات.
وأدخلت الكتاب، ولم تكن بدعة المدارس قد ظهرت في الزقازيق. وقضيت من السنين ما لا أذكره وأنا أجهل القراءة. وكانت غاية العريف أن يعلمني عن ظهر قلب بعض الصلوات، فلما حفظت «نعظمك يا أم النور»، وهو دعاء إلى العذراء، رافقني إلى البيت وقعد هو أمام أمي وانطلقت أنا أسرد الدعاء . وناولته أمي على أثر ذلك جنيها.
وتألفت في الزقازيق جمعية خيرية من الأقباط، وكان أول نشاطها أن أنشأت مدرسة «عصرية»؛ أي إنه كان بها مقاعد من الخشب ومعلمون في زي أوروبي. وانتقلنا من الكتاب إليها. وشرعنا نتعلم وندرس في جد، ثم ظهرت المدرسة «الأميرية» فدخلناها. وكان التلاميذ يلبسون الجلابيب إلى أن زار الخديوي عباس هذه المدرسة حوالي 1899 فطالبونا باتخاذ الزي الأوروبي. وحصلت المدرسة من كل تلميذ على 25 أو 30 قرشا ثمن بذلة بيضاء لكل منا. وزارنا الخديوي ونحن في هذا الزي الأبيض الناصع. ولم نعد بعد ذلك إلى الجلابيب.
ولا يستطيع مصري التحق بالمدارس المصرية الابتدائية والثانوية الأميرية فيما بين 1900 و1920 أن يقول إنه كان هنيئا بالحياة المدرسية؛ فقد كانت هذه المدارس ثكنات، وكان كل ما يستحق الاهتمام فيها هو النظام؛ أي الطاعة. ولم نكن نعرف ذلك الروح الديمقراطي الذي يعم المعاهد التعليمية في هذه السنين. وكذلك لم تكن هناك أية ألفة بين المدرس والتلميذ. وكانت هذه الصفات أبرز في المدارس الثانوية منها في المدارس الابتدائية، حتى كان العام يمر والتلاميذ لا يعرفون اسم المعلم الإنجليزي الذي كان ينطق صمته قبل حديثه بالغطرسة. وكان المعلم يسرع إلى العقوبة لأقل إيماءة مخالفة من التلميذ. وكانت العقوبة المألوفة أن يحرم التلميذ من الغداء ويعطى رغيفا يأكله وهو واقف إلى جنب زملائه القاعدين إلى المائدة. ولست أظن أنه كان يقصد بهذه العقوبة سوى تعميم الذلة والهوان بيننا.
وكان التعليم في المدارس الابتدائية أقل ذلة؛ لأن المعلمين كانوا مصريين، ولكن حتى هنا كان القرن التاسع عشر يثب علينا بأساليب في الضغط والعربدة. فكان المعلم أحيانا يعمد إلى أسلوب في العقاب يفشي بيننا الكراهة والوقيعة؛ ذلك أنه إذا أخطأ أحدنا ورده تلميذ آخر إلى الصواب عمد هذا الثاني إلى لطم الأول على خده. فإذا تعطف هذا الضارب وأدى العقوبة تأدية شكلية استعاده المعلم وطالبه بالضرب الجدي. فإذا انطلقنا بعد ذلك من الفصل إلى الفسحة أمسك المضروب بخناق الضارب وانتقم منه.
ولكننا كنا نهنأ بالإجازات المدرسية التي كنا نقضيها في الريف. وهي لا تزال تبرز في ذهني كأجمل وأنصع ذكرياتي. وفي هذا الريف اكتسبت كثيرا من الاختبارات التي لا تتحقق لأطفال المدن. وكانت قريتنا تبعد عن الزقازيق نحو ساعة على الحمار. وكنا نلعب مع صبيان المزارعين إلى الساعات الأولى من الصباح. وأحيانا كنا ندبر السرقات في الحقول للخيار أو البطيخ. ولا يزال عالقا بذاكرتي بعض الاقتحامات والصبوات؛ فقد تسلقت ذات مرة شجرة كان في أطرافها العليا عش. فلما بلغته وجدت فيه فرخي غراب، فأمسكتهما بيدي وشرعت أهبط. ولكني ما كدت أترك العش حتى وجدت ثورة من اللطم المؤلم والعض الشنيع تغمر رأسي ووجهي، وطار عقلي وأنا في هذا الاضطراب. فلم أتنبه إلى أن هذه الثورة هي أم الفرخين يساعدها أب أو عم. ولو كنت أدركت لخليت عن الفرخين ونزلت في سلام. ولكني لفرط الألم والرعب بقيت في غشية مغمض العينين وأنا ممسك الفرخين أتحسس طريقي الخطرة على فروع الشجرة إلى أن مسست الأرض. وهنا أفقت وفتحت عيني فوجدت ثلاثة أو أربعة من الغربان تصرخ بي وتسب وتهاتر بعد أن أثخنتني وضرجت رأسي ووجهي بالدماء.
ومرة أخرى في إحدى جولاتي سمعت خشخشة في ديس عند حرف القناة، فلما اقتربت وجدت جحرا وظننت أني قد هبطت على عش سأخرج منه بغنيمة. فلما أدخلت يدي قبضت على جسم طري، فجررته فإذا به ثعبان.
Halaman tidak diketahui
ولكن الريف لم يكن كله على غرار هذه المفازع؛ فإن مباهجه والأنسة الديمقراطية التي كانت تنعقد بيني وبين الصبيان الذين كانوا في سني، والليالي التي كنا نحييها في السمر أو اللعب، والاستحمام في القناة، وركوب الفرس، والجولة إلى السوق الأسبوعية، ثم إلى ذلك معيشة الريف الساذجة؛ كل هذا كانت تحفل به حياتنا في الصبا. وكنا نجد اهتمامات تشغلنا، ولم تكن كلها صبيانية؛ فإني أذكر أن ولادة الجاموسة حركت عقلي وقلبي جملة أيام، وما زالت صورتها إلى الآن ترتسم في مخيلتي وهي في حرج الولادة تئن وتلهث وتتلفت، وجميعنا حولها في عطف نتألم لها ، وكان بعضنا يدعو لها بالسلامة كأنها صديق من البشر، حتى خرج المولود بعينيه الواسعتين وهو يترنح ونحن نسنده وأمه تحنو عليه وتلحسه.
وحصلت على الشهادة الابتدائية في سنة 1903، ولا أعرف بالضبط كم كان عمري؛ لأن إثبات الميلاد لم يكن في أيامنا من القواعد الصارمة ولكن أغلب الظن أني ولدت حوالي 1887، ودخلت السنة الأولى في المدرسة الأميرية وأنا في الحادية عشرة، وهي السن التي نال فيها ابني بعد ذاك هذه الشهادة ... ومع ذلك كنت أعد من صغار السن في الفصول؛ إذ كان بيننا من بلغوا العشرين.
وعندما أقارن بين ما تعلمته بالمدرسة الابتدائية بالضرب وسائر العقوبات بما تعلمته عفوا في الريف من اختبارات في الحياة، أجد أن الريف قد علمني أكثر وأكسبني من المعارف الذهنية والروحية ما يعد تربية حقة ما زلت أنتفع بها إلى الآن. فقد اكتسبت من الريف هذا الحب للطبيعة الذي جعلني أحس سائر حياتي أن الأرض هي الأم. وأكاد وأنا في الريف أحس مثلما أحس ذلك الراهب في قصة «الإخوة كرامازوف» لدستوئفسكي، حين انبطح على الأرض يقبلها، مثل هذه العاطفة المقدسة. وظني أن هذه العاطفة هي المبعث الذي انبعث منه بعد ذلك وجداني الديني البشري واستطلاعي الدائم لعالمي النبات والحيوان واهتمامي بشئون العمال.
وكانت حياتنا بالريف سليمة من الناحية الصحية؛ فإنه على الرغم من أننا كنا ندوس الحقول ونخوض القنوات بلا حذاء ونستحم في القناة، فإننا لم نعرف البلهارسيا أو الأنكلستوما؛ وذلك لأن التربة لم تكن قد استشبعت بالماء كما هي الحال الآن، بعد أن عمت مشروعات الري التي أحالت أرض القطر المصري كلها تقريبا إلى عزبة لإنتاج القطن دون أي اعتبار لصحة الفلاحين. وأذكر أن التربة كانت أيام الجفاف تتشقق، وكان عرض الشق يزيد على عشرة سنتمترات ويغور نحو نصف متر. وفي مثل هذا الوسط لم تكن الديدان تستطيع الحياة. وكانت صحة الفلاحين سليمة وأجسامهم قوية. ولكن الإنجليز المتسلطين على بلادنا وقتئذ رأوا أن إنتاج القطن خير لهم من صحة الفلاحين.
وكانت الحياة الدينية أبرز من الحياة الاجتماعية أو المدنية في العائلات القبطية. وهذا على عكس ما نرى الآن، فإني أذكر أنه كان لعيد الميلاد ضجة عظيمة تمتاز بمقدمات ولواحق. وكنا نعد له الأيام ونتهيأ بالملابس والنقل والذبائح. وكانت تفد إلى بيتنا عجوز تقضي في كل عيد نحو شهر، لا أعرف أصلها ولكني أذكر اسمها خريستا، وكانت تقص علينا الأساطير البديعة كما تصنع لنا أنواعا من الكعك المزخرف.
وقد ورث الأقباط التعاليم الكنسية كما كانت حين تجمدت في الدولة البيزنطية فيما بين القرن الرابع والقرن السادس؛ ولذلك كانت «العذراء» بارزة بروزا يبرر وصف الأوروبيين للعقيدة المسيحية في مصر في نهاية القرن الماضي وأوائل القرن الحاضر بأنها «ماريلوجية». ولكن انتشار المذهب البروتستنتي في مصر استفز الكنيسة القبطية وأثارها إلى الوجدان المسيحي. وكثير من الأقباط يأسفون على انتشار المذهب البروتستنتي في مصر، ويجدون فيه شقاقا لم يكن ضروريا. ولكني أظن أنه لولا هذا المذهب لما تنبهت كنيستنا الأرثوذكسية ولما استيقظت من نعاس القرون الماضية.
وكانت المرأة - مسلمة أو قبطية - تعيش في ظلام الحجاب لا تجالس الضيوف من الرجال. وكان هؤلاء يزورون أو يزارون في «منظرة» لا تشترك في لقائهم المرأة. وكان البرقع عاما لا تخرج امرأة إلا ووجهها مقنع. وأذكر أن أمي وإخوتي المتزوجات التزمن البرقع إلى حوالي سنة 1907 أو 1908 حين تركنه. وظني أن هذا الترك كان من أثر البروتستنت أيضا؛ لأنهم كانوا ألصق بالغربيين وأكثر أخذا بطرقهم منا نحن الأقباط الأرثوذكس.
أمي وإخوتي
لا أذكر أبي لأنه مات وأنا دون السنتين في 1889، ولكن جو البيت في طفولتي كان حافلا بذكراه؛ فقد كانت أمي تصف سنة وفاته ب «السنة السوداء»، وبقيت بذلته معلقة إلى الحائط جملة سنوات كما كانت يوم وفاته. حتى القميص المنشى بياقته المتصلة لم يكن يبرح مكانه. وكنت أسمع القصص عنه. وقد بقينا عقب وفاته نتناول مؤخر مرتبه عشرين شهرا تقريبا. وهذا بالطبع غير المعاش. ومن هنا يعرف القارئ مقدار الإفلاس الذي كانت قد هوت إليه الحكومة؛ فقد كان الموظفون تتأخر مرتباتهم سنة أو سنتين . وكانت الرشوة تتفشى لهذا السبب . وكانت وظيفة أبي «رئيس تحريرات مديرية الشرقية» ولم يزد مرتبه على سبعة جنيهات ونصف جنيه ومع ذلك ترك لنا وقت وفاته أكثر من مائة فدان. وكان الثمن المعتاد في تلك السنين عشرة جنيهات أو عشرين جنيها للفدان. وقد اطلعت على عقد بيع لجدي في نحو سبعين فدانا (حوالي 1840) وكان اهتمام الكاتب في العقد بشأن أدوات الزراعة، كالمحراث والنورج، وأوصاف الماشية، من بقرة إلى جاموسة إلى حمار، أكبر جدا من اهتمامه بالأرض التي لم تستغرق سوى ثلاثة سطور، بينما استغرقت الأشياء الأولى أكثر من أربعين أو خمسين سطرا. وكان اتخاذ البذلة الأوروبية جديدا في تلك السنين - أي قبل وفاة أبي - بين الموظفين. وكانت البذلة المألوفة شيئا يسمى «السترة الإستامبولية» وكانت سوداء بين الردنجوت والبونجور. وكنا نسمع القصص التي تروى عن التجارب الأولى في خلع الملابس القديمة واتخاذ البذلة الأوروبية. وكانت هذه القصص مجالا للتنادر والضحك.
والطفولة في أيامنا كانت أكثر إمتاعا، ولكن أقل تنبها مما هي الآن؛ لأننا قضيناها في الزقازيق والريف. وكانت الزقازيق تخلو من تلك الحركة الصاخبة الخطرة التي ترى الآن في القاهرة، فكنا نجول فيها مطمئنين أو نخرج منها إلى الحقول المجاورة، ولكن لم يكن هناك ما ينبه الذهن ويبعث الاستطلاع.
Halaman tidak diketahui
ومما أذكره وأنا في الرابعة أو في الخامسة أن شابا يدعى زغبان غرق في القناة التي أمام بيتنا. وأخرجت جثته ورأيتها محمولة على عاتقي أحد الشبان وخلفه عدد كبير من الرجال والنساء في لغط وصراخ. ثم صار لزغبان هذا روح أو عفريت يتردد في الظلام فنخوف به، وتذكره الأم لطفلها المشاغب فيسكت ويخنس.
حدث هذا حوالي 1892، وفي 1945 أي بعد 53 سنة كنت أسير إلى هذه القناة، فسمعت من إحدى الأمهات اسم زغبان تخوف به هذه الأم طفلها، وهنا عبرة تفسر لنا نشأة الخرافات.
وعاشت أمي معي إلى 1916 حين ماتت في الثالثة والسبعين. وكانت امرأة متدينة تعنى بالصلاة والدعاء وقت مرضي أيام الطفولة أكثر مما تعنى باستشارة الطبيب. وقد قضيت طفولتي وأنا في ملابس سوداء أحمل عبئا من التعاويذ يعوق الحركة الحرة، بل لا تزال في أذني علامة الخرم الذي علق به قرط إيهاما بأني لست غلاما بل بنتا حتى تتقى بذلك العين. وقد رأيت وأنا أقرأ «الأرض الطيبة» لبيرل بك أن هذه العقلية تسود الصينيين أيضا؛ فإن الأم في هذه القصة تتحدث عن ابنها كأنه بنت حتى لا تصيبه الآلهة بالعين. وقيمة الذكر تزيد على قيمة الأنثى كلما انحط شأن المرأة. ولذلك كان للغلام - ولا يزال إلى حد كبير - مكانة كبيرة في مثل الصين أو الهند أو مصر يمتاز بها على أخواته البنات.
وجميع الأمهات المصريات اللاتي ولدن قبل مائة سنة لا يختلفن. فهن طراز واحد من حيث الأمية والإيمان بالخرافات واحترام التقاليد والتزام الحجاب. ولكن إذا كان النور قد نقصهن فإن الطيبة لم تكن تنقصهن؛ لأن المطامع المالية الحاضرة لم تكن معروفة، والتفاخر بالأثاث والأزياء والمقتنيات لم يكن أيضا معروفا إلى الحد الذي بلغه اليوم. ولا أذكر يوما رأيت أمي تأكل وحدها؛ إذ كان على الدوام هناك امرأة أخرى فقيرة تتغدى معها.
وقد تركت أمي في نفسي ذكريات من الحنان لا تزال تعود إلى ذهني فتغمرني بلذة أليمة. فما زلت أذكرها وأنا في طفولتي، وأنا في الحمى أتقلب وأستيقظ في فترات فأراها قاعدة إلى جنبي تدعو وتصلي كأنها قد نسيت النوم. وكانت في سذاجة عقائدها - حين كنت أودعها للسفر إلى القاهرة وأنا بالمدرسة الثانوية - تناديني عقب خروجي من الباب وتصر على أن أدخل البيت ثانية، كأن في هذا رمزا إلى عودتي سالما بعد السفر. وكان أكثر إلحاحها علي قبيل موتها أن أتزوج؛ ولذلك في ليلة العرس، وأنا قاعد إلى جنب عروسي في الزفاف، في 1923، بعد موتها بسبع سنوات، تذكرت إلحاحها وغيابها فارتعشت وانتفض جسمي وطفر الدمع الذي لم أجرؤ على مسحه. ولكن عروسي أخبرتني بعد أيام أن بعض الحاضرين للزفاف يقولون إني كنت أبكي.
وأنا أصغر إخوتي؛ ولذلك لا أذكر اثنتين من أخواتي بالبيت لأنهما تزوجتا قبل أن أبلغ وجداني. وكل ما أذكره عنهما أننا كنا نرحل مع والدتي إلى مقرهما في ميت غمر بالهدايا من الخراف والدنادي والفواكه والنقل. ونحمل كل هذا معنا على العربات إذ لم يكن بين الزقازيق وميت غمر خط حديدي. وظني أن هذا كان يقع فيما بين 1891 و1895، ولا يزال لميت غمر أثر نضر في ذاكرتي؛ ذلك أنه كان يقصد إليها الغليون من أثينا أو أزمير أو بيروت. والغليون هو سفينة شراعية تحمل نحو عشرة أو أكثر من الأشرعة، وكانت تجتاز البحر المتوسط ثم النيل إلى أن تصل إلى دمياط فالمنصورة فميت غمر فبنها فالقاهرة، وتحمل معها جميع المتاجر من تركيا ويونان ولبنان. وكانت ترسو إلى الشاطئ فكنا نقصد إليها نحن الأطفال، مع مئات من الكبار، ونشتري النقل والفواكه المجففة والحلوى الطحينية. وكانت تبيع كل شيء تقريبا حتى ملابس الأطفال اليونانية اللونية في أحمرها وأصفرها وأخضرها. وكان رسو أحد هذه الغلايين أشبه بالأعياد؛ لأن المدينة كانت تهرع إليه وتشتري حاجتها، فتطن الشوارع بالحركة.
أما أختي الثالثة فلا أذكرها بالبيت، ولكني أذكر ضجة العرس التي علقت بذاكرتي لما كان فيها من موسيقا وثريات وسرادق يملأ الشارع أمام البيت، وبقي هذا السرادق نحو سبعة أيام أو أكثر، وانتعشنا فيه باللعب والسهر.
أما أختي الصغرى فهي الرابعة وأذكرها بنتا بالبيت قبل زواجها، وكانت تقودني إلى الكتاب ثم تأتي إلي وقت الانصراف وتعود بي إلى البيت. وكانت بيننا ألفة دامت سنوات إلى أن تزوجت وتركتنا. ويبدو أني أسأت الاستعمال لهذه الألفة؛ ففي ذات يوم وقفت في الشارع أمام البيت وناديتها باسمها كي تفتح لي، فما أدري إلا وقد انفتح الباب وانهالت هي علي ضربا لأني ناديتها باسمها؛ لأن الحجاب كان لا يزال يغشى بيوتنا، وكان يقضي بألا تذكر أسماء البنات كما يجب ألا ترى وجوههن، وظني أنها حجزت بالبيت منذ العاشرة وأفسد هذا الحجاب برنامج تعليمها. فقد كانت بالزقازيق مدرسة قبطية للبنات ولكن الرجعية الاجتماعية حالت دون الانتفاع بها. ولذلك لم تتعلم واحدة من أخواتي؛ إذ كن يحجزن بالبيت وهن حول العاشرة.
وهذه الألفة التي دامت سنوات الصبا بيني وبين أختي الصغرى بالبيت بقيت حبا وصداقة إلى يوم وفاتها في 1944 حين قعدت أمامها وهي في عذاب الذبحة الصدرية تكافح الموت إلى أن غشيتها غيبوبة الليل الطويل. وما زلت أذكر تلك الساعات المؤلمة التي كانت تهيأ فيها للاحتفال بالزواج؛ فإني لم أكن على وجدان بأنها ستفارقني وكنت مغتبطا بضجة العرس زائطا. أما هي فكانت تخطفني وأنا أمر عليها أعدو وأزأط فتعانقني وتلهث وتشهق بالبكاء. وبقينا إلى يوم وفاتها ونحن نتزاور مرة على الأقل كل أسبوع.
وفي الوسط العائلي المصري يسود الوئام والحب اللذان لا يفسدهما سوى المطامع المالية من أحد الأعضاء. ولكن أحيانا تسود الشهامة. فقد كان أبي موظفا في مديرية الشرقية. وكان هناك قانون يحرم على الموظف أن يشتري أرضا في المديرية التي يعمل فيها؛ وذلك تلافيا من استعماله وظيفته وسلطته لمصلحته الخاصة. فكان أبي يشتري الأرض ثم يسجلها باسم أحد أولاده. فلما مات كان معظم أرضنا مسجلا باسم البنتين الكبريين، اللتين تزوجتا في ميت غمر. وكان الزوجان شقيقين، وكان أبوهما غبريال سعد بك رجلا شهما. فلما رأى أن ثروة أبينا توشك أن ينتقل كثير منها إلى زوجتي ابنيه أي أكثر مما تستحقان انتظر حتى بلغت أختاي سن الرشد ثم جمعهما مع زوجيهما وحملهم جميعا على التنازل لي أنا وشقيقي، وكنت أنا في الثالثة أو الرابعة وشقيقي في السابعة أو الثامنة. وقد سمعت من أمي بعد ذلك بسنين أن هذا الرجل الشهم لم يبال أن ينتهر ابنيه حتى يجبرهما على الموافقة على التنازل. وبدهي أن مثل هذه الشهامة نادرة في أيامنا. ولا بد أيضا أنها كانت نادرة وقتئذ؛ ولذلك فإن فضل هذا الرجل عظيم، وقد بورك له في عائلته حتى أصبح نسله يعقوبيا يتجاوز المئات عدا. وكلهم تقريبا ناجح موفر المال والعمل والكسب.
Halaman tidak diketahui
والراضون عن النظام الاجتماعي الحاضر في مجتمعنا الاقتنائي كثيرا ما يذكرون العائلة وأن نظامنا يؤيدها. مع أنه لا يفكك العائلات ويضع البغض مكان الحب بين أعضائها سوى الخلافات المالية التي تلابس هذا النظام. وقل أن نجد عائلة متوسطة أو ثرية بلا خلاف مالي بين أعضائها مرجعه طمع أحد أعضائها ورغبته في الاستئثار دون الآخرين. ولم تنج عائلتنا من هذه الخلافات التي سودت العلاقات، ولو أننا كنا نعيش في نظام اشتراكي ومجتمع تعاوني غير اقتنائي لما كان هناك مجال لهذه الخلافات التي تكاد تعم العائلات في أيامنا.
واحد على آخر أو طمع واحد في آخر. وكلها مطامع مالية ما كانت لتكون لولا أننا نتعلم منذ الطفولة بأن هذا لي وهذا لك، وإنني يجب أن أتفوق عليك في اللعب والعمل وفي المدرسة والمجتمع. روح خبيث يقال لنا إنه يعمل للرجولة مع أنه يعمل للعداوة والبغض والحقد. وقد لقيت أختي الصغرى عناء بل سرقة صريحة من بعض أعضاء عائلتنا. ولم يكن المرتكب لهذه السرقة يحس أنه مجرم، بل كان يتباهى لأن روح المباراة - هذا الروح الاقتنائي الذي ننشأ عليه - قد أكسبه هذه العقلية. وكلنا مغموسون في هذا الفساد بدرجات متفاوتة. ولذلك قل أن نجد مثل ذلك الرجل الشهم الذي أشرت إليه غبريال سعد بك يعارض هذا الروح الاقتنائي ويطلب الخير لغير أبنائه.
وجميع العائلات المصرية موبوءة بالشقاق الذي يرجع إلى مطامع ثم خلافات مالية بشأن الميراث أو الوصية أو الوقف. وقد عرفت عائلات بقي الخلاف فيها بين الإخوة نحو عشر سنوات وهم مشتتون في المحاكم الأهلية، ثم المحاكم المختلطة؛ إذ كان أحد الإخوة يعمد إلى أجنبي مشاكس فيأجره على المعاكسات التي تنقل القضايا من المحاكم الأهلية إلى المحاكم المختلطة وتصل إلى الإسكندرية. يفعلون هذا وينقطع كل منهم عن زيارة الآخر وتنمحي عاطفة الأخوة بينهم فيعودون أعداء يبحث كل منهم عن دماء الآخر. ولا أكاد أجد عائلة تخلو من هذه الخلافات إلا إذا كانت تخلو من العقارات الموروثة. فقد عرفت عائلة مسلمة قريبة من عزبتنا ترك الأب فيها للورثة أكثر من 150 فدانا، ثم جعلها وقفا وعين ناظرا للوقف أكبر أبنائه. ثم فشا الخلاف بين الورثة وكانوا يزيدون على عشرة. فلم يكن من هذا الناظر إلا أن أجر الأرض الموقوفة كلها إلى رجل يوناني أو إيطالي، وجاء هذا الرجل إلى الأرض يزرعها بنفسه، وأصبح الورثة يتضرعون إليه كي يعطيهم نصف أردب من الذرة أو القمح أو جنيها أو جنيهين ... وأعرف رجلا آخر كان ثريا «باع» أرضه لورثته. ولم يكن الغرض من هذا البيع سوى التمييز لبعض دون بعض. وكان هذا البيع بالطبع صوريا. وكان يعتقد أنه سيبقى متصرفا إلى يوم وفاته. ولكنه عندما قصد إلى عزبته - عقب البيع - كي يبيع القطن، قابله الخولي وأخبره بأنه لا يملك شيئا؛ لأن ابنه الذي «اشترى» منه يمنعه من التدخل في أرضه، وحزن الرجل واحتقن الحزن في قلبه فأصابه فالج مات به بعد أقل من شهرين.
وأيام صباي يملؤها شقيقي الذي يكبرني بأربع سنوات. وكنت أعده بطلا لجراءاته واقتحاماته. وقد ذهبنا معا إلى كتاب مسيحي ثم إلى كتاب إسلامي. ثم عدت إلى كتاب مسيحي. وخرجت من هذه الكتاتيب الثلاثة بعد ثلاث أو أربع سنوات وأنا لا أحسن قراءة سطر، وإنما أحفظ عن ظهر قلب بعض الصلوات المسيحية وبعض سور القرآن. ولم أشرع في القراءة إلا بعد أن دخلت المدرسة الابتدائية التي أنشأتها الجمعية الخيرية القبطية في الزقازيق.
وكان شقيقي طفلا ذكرا بعد بنات أربع. وأذكر من بعض اقتحاماته أنه ألف في الزقازيق عصابة كنت أحد أعضائها. وألف علي الشمسي «باشا» عصابة أخرى؛ ففي ذات يوم انفردت بنا عصابة علي الشمسي وأوسعتنا ضربا وإيلاما لخصومة كانت قائمة بينه وبين شقيقي. ولكننا بعد ذلك استدرجنا علي الشمسي إلى طريق ناء شمال الزقازيق ثم أثخناه بالعصي والأحجار حتى عاد مريضا. وكان والده أمين الشمسي باشا يعرف عائلتنا لصداقة قديمة بينه وبين أبي. ولم أكن أمر عليه وهو أمام منزله حتى أقبل يده فيسألني عن أعضاء عائلتنا. وكان فيما بين 1895 و1900 مغضوبا عليه من رجال الحكم؛ لأنه كان عرابيا في ثورة 1882؛ إذ انضم إلى الحركة الوطنية ضد الخديوي توفيق مع أنه كان شركسي الأصل. وكان الصراع بين عرابي والخديوي صراعا - إلى حد بعيد - بين الأتراك والشركس من جانب وبين المصريين من جانب آخر. ولكن أمين الشمسي باشا عرف عدالة المطالب المصرية وانضم إلى العرابيين.
ولما كنت في إنجلترا في 1908 أرسلت إليه خطابا أقترح عليه فيه إنشاء مدرسة لتعليم أبناء الفلاحين الذين يعملون في أرضه وأرضنا، وكنا متجاورين لأن عزبته كانت ملكا لجدي ولا يزال اسمها «كفر سليمان» باسم جدي. وأرسلت مثل هذا الخطاب إلى كبراء المالكين من عائلتنا، ولكن خطابي لم يجد سوى التسلية عندهم جميعا؛ لأن الوجدان التعليمي كان لا يزال في مصر خامدا. ولم يكن خطابي سوى ثمرة الوسط المتمدن المتنبه لقيمة التعليم في لندن.
وقد باع جدي «كفر سليمان» هذا إلى الشمسي باشا قبل أن أولد أنا بنحو 15 سنة - حوالي 1872 - ولكني نشأت على الاصطلاح بأنه «الكفر القديم» وهو يبعد عن كفرنا الجديد بنحو كيلو متر. وقد زرته وأنا طفل مع بعض أقاربي فأروني بيتا أو زريبة كانت تسمى «بيت العبيد» أي المكان الذي كان يحجز فيه العبيد في الليل ويقفل عليهم حتى لا يفروا ...
وبالطبع لم تكن في أيامي عبودية ولا عبيد. ولكن الذكرى كانت قريبة؛ فإني وأنا طفل كنت أخوف بكلمة «فرج» وهي اسم عبد مات في إحدى غرف المنزل وبقيت ذكراه تتسلسل للتخويف من إخوتي إلي. وكذلك رأيت امرأتين سوداوين إحداهما كعب الخير والأخرى زهراء. وكانتا جارتين عندنا شملهما قانون تحرير العبيد ولكنهما لم تنقطعا عن زيارتنا. بل كانت إحداهما تقضي الشهور - عندما تترك زوجها - في بيتنا، وكانت تكل إلى أمي مفاوضات الصلح مع زوجها حين كان يعود لطلبها.
وكانت بيني وبين شقيقي نحو أربع سنوات؛ فلذلك لم تكن بيننا رفقة أو زمالة. وقد وجدت هذه الرفقة والزمالة في ابن خالة لي يدعى ميخائيل، وكان من سني. وقد ترافقنا طفلين ثم صبيين ثم شابين. ومن الذكريات البارزة في صباي مدينة بسطة الفرعونية. فقد كنت أزورها مع ابن خالتي هذا حين كانت لا تزال بيوتها قائمة. والغرف في بعض هذه البيوت كانت لا تزال تحتفظ بجوها الحميم حتى مكان المسرجة في الطاق كان واضحا بسواد دخانها. وكانت الشوارع الضيقة سالكة بين البيوت. وهذا إلى عشرات من التماثيل الحجرية، ولم يبال الإنجليز أن تمحى هذه المدينة مع قيمتها التاريخية العظمى؛ إذ جعلوا بيوتها وأنقاضها سمادا «كفريا» ينقله الفلاحون إلى حقولهم. ولم يعد لها من أثر الآن.
وكان ميخائيل يسكن في بيت يجاور منزلنا، فلم نكن ننفصل طوال النهار، وإليه أعزو نزعتي الثقافية؛ فقد كان منذ صباه يحب الشعر ويتفصح، وكنت أعجب بفصاحته. وكنا نشتري المؤيد ونقرؤه معا. بل تجرأنا ذات مرة على أن نؤلف درامة جعلنا فيها البطل ملكا يقص حلما على المسرح ثم يتحقق هذا الحلم. ولكننا لم نثابر إلى النهاية فقطعناها في منتصف الفصل الأول. وقد ثابرت أنا بعد ذلك على الدراسة وانقطع هو عنها. ولكنه لم يقاطعها؛ فإني ما زلت إلى الآن عندما ألتقي به أجد فيه الالتفات إلى الحركات الأدبية بل أجد النقد الذكي. ولكن من ينظر إليه هذه الأيام لا يعتقد أن سنه تزيد على الأربعين مع أنها لا تقل عن 59 أو 60 سنة. وقد يعزو بعضهم هذا الشباب إلى حياة السرور التي كان ولا يزال يؤثرها على أي أهتمام آخر. وبقينا مترافقين مدة التعليم الابتدائي ثم افترقنا حيث توظف هو والتحقت أنا بالمدارس الثانوية بالقاهرة. ولكنا كنا أيام الإجازات لا نفترق. وقد اهتززت سرورا وتأملا قبل سنتين عندما زارني بالقاهرة أحد الأقارب المزارعين ورأى حولي مئات الكتب، فتأملها ثم تنهد وقال: «لم يغرس فيك هذه العادة المرذولة سوى هذا الملعون ميخائيل ابن خالتك.» وقد قال هذه الكلمة الصادقة؛ لأنه كان يرانا فيما بين 1901 و1904 نقرأ معا وندرس معا في هوس لم يكن يجد فيه هو سوى خسار المال والذهن والوقت.
Halaman tidak diketahui
ولا تزال ذكريات الصداقة والرفقة بيني وبين ميخائيل عذبة في ذهني. ولم أعرف صديقا بعد ذلك لازمني وتناسقت معه في الصداقة المنيرة المربية سوى عزمي الدويري الذي عرفته في 1930 وفقدته في 1944. وكان في بداية صداقتنا خاما أخضر في ثقافته يقرأ الكتب العربية ويستضيء بمصابيح خافتة. ولكنه بعد أن عرف المؤلفين الأوروبيين انغمس في المذاهب الأوروبية والسياسية الجديدة واستضاء ذهنه بها وصار يمتاز بالعقلية العالمية. وجر عليه هذا النور الجديد عسفا من البوليس السياسي لم يباله. وكنت كثيرا ما أذكره بإعجابه القديم بأدباء البهرجة البلاغية ثم احتقاره لهم بعد ذلك فيضحك كثيرا. بل الحق أنه استحال بعد أن عرف الآداب الأوروبية خصما لهم يعد وجودهم عائقا لتطورنا الثقافي والسياسي. وظني أن هذا هو اختبار جميع المنتقلين من الأدب العربي إلى الأدب الأوروبي حين يقرءونه في لغاته الأصلية غير مترجم. وقد ترك موت عزمي في نفسي لوعة لما تنطفئ.
وقد رأيت أخواتي يمتن واحدة إثر الأخرى. والموت يفقد لذعته عندما تكون السن متقدمة؛ لأن الرحلة الأخيرة إلى الليل الطويل تسير هونا والموت يأتي على ترقب. ولكن عندما كان الموت يفجأ إحداهن وهن لا يزلن في بداية العقد السادس أو السابع كان وقعه في القلب ووطأته على العقل يحدثان جمودا كأنه كابوس اليقظة، ولكن السنين تحيل بكيمياء الزمن هذه الكوارث، حتى إني عندما أذكرهن الآن أحس الحزن عليهن في حنان ورقة وليس في ألم وغضب.
وأستطيع الآن أن أعرض لجميع الشخصيات البارزة في عائلتنا، سواء أكان هذا البروز للفضيلة أم للرذيلة، وهذه الشخصيات هي الآن فوق الخمسين أو الستين. وعندما أرجع بذاكرتي إلى أيام طفولتهم وإلى الظروف البيئية الأولى التي سعدوا أو تعسوا بها أجد التعليل الكافي لسلوكهم الحاضر. وأستطيع أن أقول - في ضوء ما أعرف من سيرتهم، بل أحيانا سيرتهم الحميمة - إن التعاسة الأولى التي ينكب بها أي إنسان في حياته إنما هي التدليل، وإن التعاسة الثانية هي الاضطهاد. فجميع أولئك الذين لقوا تدليلا أو اضطهادا في عائلتنا أيام طفولتهم فسدوا. ومعنى «الفساد» هنا ليس العجز عن الكسب أو حتى العجز عن الانتصار المألوف في معركة الحياة. ولكني أعني ذلك الفساد الاجتماعي الذي يقارب الإجرام بل هو إجرام تخفيه رفاهية العيش؛ فإن الشخصية السيكوباتية التي وصفها صديقي الدكتور صبري جرجس في كتابه واضحة في عائلتنا في جميع أولئك الذين لقوا تدليلا أو اضهادا أيام طفولتهم. وقد يقع الاضطهاد لأن زوجة الأب أساءت إلى ابن زوجها في المعاملة وميزت عليه أطفالها دونه فعلمته المكر والخبث والكذب والغش؛ فنشأ على هذه الأخلاق التي صار يعامل بها المجتمع. ولكن في ذهني زوجة أب أخرى عاملت ابن أختي الدكتور رزق الله موسى في طلخا بالنزاهة والرفق والحب، فنشأ قديسا. وفي ذهني آخر في الخامسة والستين من عمره دلله أبواه فنشأ وكل حياته جرائم. ولكن أولئك الذين وجدوا النزاهة والإنصاف في التربية أيام الطفولة هم إلى الآن - في شيخوختهم - مثال الطيبة والإحساس الاجتماعي السامي.
القاهرة فيما بين 1903 و1907
في عام 1903 اجتزنا امتحان الشهادة الابتدائية، وكنا في القطر كله لا نزيد على ثلاثمائة أو أربعمائة تلميذ. وعقد الامتحان في القاهرة. ولم يكن بالقطر كله سوى ثلاث مدارس ثانوية كانت في نظامها ثكنات يتسلط عليها الإنجليز بالأوامر العسكرية والعقوبات العسكرية. والتحقت بالمدرسة التوفيقية ثم بالمدرسة الخديوية، وكان شمال المدرسة التوفيقية وشرقها وغربها أرضا زراعية لا يباع الفدان فيها بأكثر من مائتي جنيه وقد ارتفع سعر الفدان الآن 1947 في هذه الأرض بالذات إلى نحو عشرين ألف جنيه. ولم يكن للمالكين أي فضل في هذا الثراء ولم يتعبوا لإيجاده؛ إذ إن الفضل لسكان القاهرة وتقدم المدنية.
وكان الإنجليز يحاربون شيئين في الأمة لا ثالث لهما. وكانوا يكفلون بقاءنا في ظلام الجهل وذلة الفقر بهذين الشيئين، وهما التعليم والصناعة، ونجحوا في ذلك نجاحا عظيما؛ فلم يسمحوا طوال إشرافهم على وزارة المعارف بإنشاء مدرسة ثانوية للبنات في أي مدينة من مدن القطر. وكانوا يعلموننا أن بلادنا زراعية لا تلائمها الصناعة، كأن القدر قد قضى علينا بالفقر الأبدي. وكانوا يصرون على المحافظة على «تقاليدنا». فكانت المدرسة السنية الإبتدائية في القاهرة - وكانت ناظرتها إنجليزية - تصر على اتخاذ البرقع للتلميذات وهن في العاشرة أو الثانية عشرة من العمر، وكان معلم اللغة العربية يفصل من وزارة المعارف إذا نزع عمامته وقفطانه واتخذ البنطلون والجاكتة. وتقدمت الآنسة نبوية موسى لامتحان الشهادة الثانوية في سنة 1907 من بيتها، فرفض دنلوب المستشار الإنجليزي لوزارة المعارف قبولها في الامتحان. ولكنها استمرت على الكفاح وأحدثت ضجة في الجرائد، وتقدمت في السنة التالية فقبلت ونجحت. ولكن الإنجليز تنبهوا، فلم تفز فتاة مصرية بالشهادة الثانوية منذ 1908 إلى 1929 حين تقدمت الفتيات اللاتي أنشأت لهن وزارة المعارف مدرسة ثانوية في 1925 أي بعد إعلان الاستقلال بسنتين.
وكانت التلمذة في المدرسة الخديوية فيما بين 1903 و1907 سلسلة من التعذيب. فكان أحدنا يعاقب طوال العام الدراسي بالحضور يوم الجمعة في المدرسة حتى لا يهنأ بالإجازة الإسبوعية. وكان من العقوبات المألوفة أن يحضر أحدنا في منتصف الساعة السابعة صباحا أي في الظلام مدة الشتاء، ثم لا يترك المدرسة آخر النهار إلا بعد الحبس ساعة أو أكثر. وقد يكون السبب الوحيد لكل هذه العقوبات أن المعلم الإنجليزي قد طلب من التلميذ أن يقعد فوقف، أو يقف فقعد. وقد تكون هذه المخالفة محض التباس لا أكثر. ثم يتأخر المسكين في الحضور في الساعة السادسة والنصف صباحا، فيزداد عقوبة والزيادة تتراكم. وهذا إلى عقوبات أخرى مهينة مثل حرمانه من الغداء إلا برغيف يأكله وهو واقف أمام زملائه.
وكان ناظر المدرسة يدعى شارمان، وكان يتأنق في تعذيبنا. وحدث أن الجمعية الخيرية الإسلامية أرسلت على نفقتها بعض تلاميذها من مدارسها الابتدائية. وكانت تشتري لهم ملابسهم في شكة صفراء واحدة. وكان هؤلاء المساكين يخجلون من هذه الملابس الرخيصة. واشتروا غيرها من الملابس المألوفة، حتى لا يتميزوا بفقرهم أمام زملائهم. ولكن شارمان أصر على أن يلبسوا ملابسهم التي تصمهم بالفقر؛ فلبسوها وكانوا ينزوون منا في خجل.
ولست أشك أنه حين أعلنت الجرائد وفاة شارمان هذا غرقا في أواخر الحرب الكبرى الأولى، عم الفرح جميع القارئين الذين كانوا تلاميذه. وقد يستنكر القارئ هذه العاطفة منا. ولكني أؤكد أن التلمذة في تلك السنين كانت عذابا لا يطاق. وكان للمعلمين الإنجليز لذة في تعذيبنا. وكانت العلاقة بيننا وبين هؤلاء المعلمين خالية من الإحساس البشري، حتى لقد كنا أحيانا نجهل اسم المدرسين طوال العام الدراسي.
وقضيت ثلاث سنوات بالمدرسة الخديوية لا أكاد أعد أسبوعا واحدا فيها هنئت به. ولذلك تخلفت في الدراسة. وكان من أسباب هذا التخلف أيضا أني مرضت بعيني واحتجت إلى إجراء عمليتين لا يزال أثرهما المشوه باقيا. كما أني أعزو إلى عذاب المدرسة هذه العربدة الجنسية الذاتية التي انغمست فيها للترفيه عن نفسي. وإزالة الكمد الذي كانت تحدثه هذه الحياة المدرسية المرهقة.
Halaman tidak diketahui
ولكن القاهرة في تلك السنين 1903-1907 كانت حافلة ببشائر العصر الجديد. فقد رأيت فيها الأتومبيل لأول مرة. ولكن الحياة القديمة كانت لا تزال راسخة. فكان السقاء يحضر الماء في قربته لمنزلنا. وكنا أحيانا نركب الحمير من مكان إلى آخر لأن الترام كان يسير في شوارع قليلة. ولم يكن شيء من المنازل قد بني على الضفة الغربية من النيل، كما أن هليوبوليس كانت لا تزال صحراء، بل إن شمال المدرسة التوفيقية في 1903 كان - كما سبق أن ذكرت - خاليا من المباني إلا القليل المتفرق.
وكنا نتحدث في تلك السنين عن شيئين يحركان المجتمع المصري، هما الاحتلال الإنجليزي وحركة قاسم أمين لتحرير المرأة. ولم أكن أهتم بالحركة الثانية كثيرا. وكان الحزب الوطني أعظم قوة تكافح الاحتلال في ذلك الوقت. وكان قد ألفه في 1897 ستة من الشبان المتنبهين هم: أحمد لطفي السيد «باشا» ومصطفى كامل ومحمد فريد ومحمد عثمان (والد أمين عثمان باشا) ولبيب محرم - شقيق عثمان محرم باشا - وسعيد الشيمي. وكان «اللواء» - جريدة الحزب الوطني - يستهوي النفوس، وكنا نسارع إلى شرائه عقب الانصراف من المدرسة ولكن الشبان الأقباط كانوا يجدون بعض الاستياء من الدعوة الدينية في الحزب الوطني وكذلك الدعوة العثمانية - أي التركية - وكان منطقهم يقول: «إذا كنتم تدعون إلى جامعة إسلامية وإلى تأييد الحقوق العثمانية في مصر، مع أن الأتراك ليسوا فقط أجانب، بل إن تاريخهم يحفل بالمظالم في مصر؛ فإن لنا الحق في الاتجاه نحو جامعة مسيحية والاعتماد على الاحتلال البريطاني.»
وقد انتهى موقفهم هذا إلى أن حمل مصطفى كامل عليهم وأثار تعصبا دينيا ساءت عواقبه واستغله الإنجليز أيام كرومر وجورست. ولم يصلح هذا الفساد القومي غير أحمد لطفي السيد حين أسس «الجريدة » ودعا دعوة مصرية بحتة ليس فيها شيء من الدعاية للأتراك أو للعرب أو للإسلام. ولكن حتى مصطفى كامل قبيل وفاته بخمسة أشهر أو ستة أعلن في مقالات أن مصر يجب أن تكون للمصريين فقط، وصار لهذا يعارض الخديوي عباس في ممالأته للدولة العثمانية. وبلغ من معارضته له أن جريدة «المؤيد» وصفته بأنه قد أصبح يشبه عرابي.
والواقع أن المجتمع المصري في بداية هذا القرن كان مجتمعا تركيا أو كالتركي؛ فكان الاصطياف في إستنبول مألوفا. وكانت الحكومة المصرية تؤدي «الجزية» السنوية لتركيا. وكانت العائلات الغنية عائلات تركية خالصة أو خلاسية. وقلما كنا نجد «مصريا» ثريا. ولذلك حين نتأمل العائلات المصرية الثرية في 1947 نجد أنها كلها حديثة العهد بالثراء. وهذه الحال تفسر لنا سيكلوجية الحركة العرابية. فإن عرابي كان يتأمل وطنه في عام 1880 فلا يجد فيه مصريا صميما يملك شيئا يؤبه له. وأن جميع الأثرياء كانوا من الأتراك أو الألبان الذين كان محمد علي قد اختصهم بالامتيازات وأقطعهم أرض المالكين المصريين السابقين الذين استولوا على عقود امتلاكهم وأحرقها. ولذلك كنا لا نعرف رئيسا للوزارة إلا وهو تركي الأصل، بل أحيانا كانت تؤلف الوزارة وليس بين أعضائها مصري صميم واحد أيام إسماعيل وتوفيق. وكنا نرى هؤلاء الأرستقراطيين على سخفهم ونذالتهم وهم في عرباتهم يتنزهون على جسر قصر النيل. وكان يتقدمهم قواص أو قواصان وكل منهما في سترة تهريجية يحمل عصا طويلة في وضع عمودي ويعدو أمام العربة وهو يصيح بأعلى صوته: هيه. هيه.
وكانت الجرائد المقروءة في تلك السنوات ثلاثا: «اللواء» الذي كان يحرك الأمة إلى المطالبة بالجلاء ويقرؤه جميع الشبان، و«المؤيد» الذي كان يؤيد الخديوي ويقرؤه أبناء البيوتات التركية والمحافظون من المصريين، و«المقطم» الذي كان يؤيد الإنجليز ويقرؤه الموظفون. أما «الأهرام» فكانت في ركود يشبه الموت لا يقرؤها غير عدد صغير من التجار.
وكان الخديوي عباس محور الحركة الوطنية في أوائل حكمه. وهو الذي أوعز بإيجاد الحزب الوطني، وكان يعاونه بالمال. ومما زاد الخديوي اتجاها نحو الحركة الوطنية تلك الإهانات الشخصية التي كان يجدها من كرومر. فقد حصل هذا الرجل على تربيته السياسية في الهند، وكان يعامل المصريين كما كان يعامل الإنجليز الهنود قبل خمسين أو ستين سنة، وكانت له في ذلك أساليب طفلية. وقد رأيته ذات مرة وهو ينزل من عربته، فلم ينزل مستويا على قدميه كما يفعل البشر بل تقدم له خادم مصري وحمله كأنه طفل من العربة في عناية ورقة حتى حط جثته على الأرض ... وقد فعل هذا في ظني كي يثبت أنه سيد مطاع أو ملك غير رسمي. وتشاجر مرة مع الخديوي لأن الحوذي الذي كان يسوق عربة الخديوي إنجليزي. وحاول مرة - عقب انتقاد الخديوي للجيش المصري الذي كان كتشنر قائدا عاما له - أن يعين وزيرا إنجليزيا. وكان كرومر هذا من عتاة الاستعماريين، وهو الذي أحال القطر المصري كله إلى عزبة للقطن، وقتل الصناعة المصرية قتلا تاما؛ حتى إننا حوالي 1898 أنشأنا مصنعا في القاهرة لغزل القطن ونسجه، وجئنا له بمدير إنجليزي، فأصر كرومر على فرض الضرائب الباهظة عليه حتى أغلقه. ثم - وهنا عبرة - عين مديره الإنجليزي في الحكومة المصرية.
وبفضل الحزب الوطني - بل بفضل الشاب مصطفى كامل - تزايدت الحركة الوطنية وأخذت موجاتها تعلو وتزبد. ورأى كرومر عجزه عن مكافحتها. فحمله الغيظ على العنف الأحمق بل على التوحش الإجرامي، فانتهز حوالي سنة 1907 فرصة التقاء الجنود ببعض الريفيين في دنشواي إحدى القرى في المنوفية، وكانوا يصيدون الحمام الذي كان هؤلاء الفلاحون يربونه، فاشتبك الريفيون مع الإنجليز في مشاجرة انتهت بقتل بعض الإنجليز أو بالأحرى بوفاتهم. وعندئذ عينت محكمة «مخصوصة» وكان رئيسها المرحوم بطرس غالي باشا، ومن أعضائها المرحوم فتحي زغلول باشا، وكان المحامي عن الإنجليز المرحوم الهلباوي الذي صار بعد ذلك عضوا في حزب الأحرار الدستوريين. وشرع في محاكمة الدنشوائيين وعم الأمة توتر نفسي وغلت العواطف. وكتب «المقطم» بأن المشنقة أرسلت إلى دنشواي قبل أن تنتهي المحاكمة، فخجلت الحكومة وكذبت الخبر. ولكن المرجح أن المقطم كان صادقا؛ لأنه كان يتصل اتصالا وثيقا بالإنجليز في ذلك الوقت. وصدر حكم المحكمة بجلد البعض وبشنق الآخرين. وأنفذت الأحكام في القرية ذاتها. ورأى الأطفال آباءهم يشنقون أو يجلدون، ورأت الزوجات والأمهات والشقيقات والآباء أعزاءهم وهم يتدلون من الحبال أو يصرخون من الجلد.
وأذكر أني كنت في الإسكندرية في ذلك الوقت أتنزه مع أخي، وكنا نأكل في المطاعم، فلما قرأت الحكم عمني جمود يشبه الغثيان، فلم أستطع الأكل جملة أيام، ودارت في رأسي خواطر جنائية عن هؤلاء المعتدين على بلادنا وأهلنا. وخجل الإنجليز أنفسهم من هذا الحادث الإجرامي، فعزلوا كرومر عن وكالته في مصر. وكان يرأس الوزارة الإنجليزية في ذلك الوقت رجل من الحريين يدعى هنري كامبل بانرمان. ولكن وزير الخارجية المدعو جراي برر جريمة كرومر بأن وقف في البرلمان يقول: «إن التعصب الإسلامي قد تفشى في أفريقيا الشمالية كلها بما في ذلك مصر.» وكتب «المقطم» مقالا عنوانه «التعصب يمتد ويشتد.» أي تعصب المصريين المسلمين الذين يجب أن يكبحوا بمشانق دنشواي. وما زالت كلمات هذه المقال ترن في ذهني، ولا تزال «دنشواي» عندي من الذكريات النفسية الأليمة.
وقد وجدت تعزية في شيء واحد هو أن الوجدان الوطني أصبح عاما وتنبهت الأمة كأنها استيقظت من نوم. فكنت أجد بعض الشبان يشترون «المقطم» ويمزقونه حتى لا يقرأه أحد. وحتى الأقباط الذين كانوا متوجسين من حركات الحزب الوطني الدينية، أصبحوا وطنيين يكرهون الإنجليز. وكان هذا الانفعال الجديد ملحوظا في أعضاء عائلتنا. ولكن اختلاط الحركة الوطنية بالدعوة الإسلامية من ناحية وبالرغبة في السيادة العثمانية من ناحية أخرى عرقل الاندماج التام للأقباط في الحركة الوطنية. فكانوا يشيحون عنها ويذكرون حكم الأتراك ومظالمهم أيام إسماعيل وتوفيق.
وشعرت في ذلك الوقت بما زلت أشعر به الآن، وهو أن الاستعمار البريطاني ليس هو العدو الوحيد لبلادنا؛ لأن الرجعية بالتزام التقاليد، وكراهة الروح العصري في السياسة والاجتماع والعقيدة، كل هذا يتألف منه عدو آخر لعرقلة أمتنا عن التقدم. وكانت نظرية التطور التي تعلمتها من «المقتطف» قد جعلتني ألمح بصيصا من الرؤيا الجديدة ، وأن أومن بأن العلم - الذي حقق السيادة وإن لم يحقق السعادة لأوروبا - جدير بأن يرفعنا من حضيض الفقر والجهل الذي وضعنا عليه الإنجليز، وأن يحقق لنا استقلالنا؛ ولذلك وجدتني من ذلك الوقت أدعو إلى أن نعيش العيشة العصرية، وأن أناصب الرجعيين المصريين العداء الذي أناصبه للإنجليز.
Halaman tidak diketahui
وكان علي يوسف صاحب جريدة «المؤيد» معدودا بين كبراء الكتاب الصحفيين يحسن المناقشة ويلتزم المنطق والتعقل. وكان «المؤيد» قليل الانتشار يسبقه «اللواء» ويطغى عليه بمقالات مصطفى كامل النارية. ولكن «المؤيد» كان يثب في الأزمات؛ ففي حادث دنشواي مثلا أقبل عليه القراء - وهم في كمد وحزن وحيرة - يقرءونه ويتعقلون ما يكتبه عن السياسة الإنجليزية المصرية وينظرون للمستقبل من خلال بصيرته.
ولكن علاقة الشيخ علي يوسف بالخديوي جعلته يتجه صوب إستامبول أو كما كانوا يسمونها «الأستانة العلية»؛ حتى إنه عندما أسس «مجلس المبعوثان» في تركيا دعا المصريين إلى أن يرسلوا نوابا عنهم فيه؛ إذ إن مصر جزء من الدولة العثمانية ...
أما مصطفى كامل فكان يغزو قلوب الشبان. وكان إذا أعلن عن خطبة يلقيها تجمع الألوف لسماعه، وكان في شبابه وحماسته إغراء للشبان. وقد مات بالدرن ولما يبلغ الثانية والثلاثين.
وفي تلك السنين شبت الحرب بين روسيا واليابان، فاتجه الرأي العام نحو اليابانيين باعتبار أنهم أمة شرقية مثلنا، فكنا نفرح كلما قرأنا عن هزيمة روسية؛ لأن روسيا كانت تمثل في أذهان الجمهور أوروبا التي تنتمي إليها بريطانيا، كما أن يابان كانت تمثل يقظة الشرق. حتى إن مصطفى كامل ألف عنها كتابا باسم «الشمس المشرقة».
وأحدث خليل صادق نهضة أدبية في تلك السنين بسلسلة من القصص كانت تخرج كل شهر باسم «مسامرات الشعب» وهي قصص مترجمة عن الفرنسية والإنجليزية اشترك في الترجمة له فيها كتابنا المعروفون مثل حافظ عوض وعبد القادر حمزة «باشا» ومحمود أبو الفتح وغيرهم. ولكن الأدب لم «يتمصر» في ذلك الوقت؛ لأن كفاحنا للإمبيريالية البريطانية كان يستغرق كل مجهودنا، فكان الكاتب الذي يجد في نفسه القدرة على التعبير الفني يلتفت إلى السياسة قبل الأدب، ويجاهد في إيقاظ الوجدان المصري الوطني. وما نقصنا نحن من هذه الوجهة سده إخواننا السوريون واللبنانيون عنا: وهم بالطبع كانوا أقرب إلى الثقافة العصرية الأوروبية منا؛ لأنهم تعلموا في الجامعة الكاثوليكية والجامعة الأمريكية في بيروت، وهم أيضا - لأن عددا كبيرا منهم كانوا مسيحيين - لم يجدوا العائق السيكلوجي الذي كنا نجده نحن في مصر إزاء الثقافة الأوروبية العصرية.
وكنا فيما بين 1903 و1908 في تبلبل سياسي وفي تبلبل آخر أدبي واجتماعي، فقد كانت تسود وجداننا السياسي نزعتان: الأولى والكبرى هي الاتجاه نحو الدولة العثمانية، والدفاع عن استقلالنا المصري؛ بدعوى أننا جزء من هذه الدولة العثمانية. وواضح أن موقفنا هنا كان حائرا مقلقلا. ثم كانت النزعة الأخرى وقد بزغت ضعيفة تتلجلج بل لا تكاد تنطق، وهي الدعوة إلى الاستقلال المصري التام والتخلص من بريطانيا وتركيا معا.
أما التبلبل الأدبي فلم نكد نحس به في تلك السنوات. وكان جميع الكتاب، باستثناء اللبنانيين، يعنون بالأدب دراسة القدماء من العرب لا أكثر. ولكن كان هناك تبلبل اجتماعي وضع خميرته محمد عبده وقاسم أمين، ونمت وزكت هذه الخميرة في الوسط الإسلامي، وأصبح لها دعاة وخصوم.
وكان الخديوي عباس محبوبا إلى سنة 1907 يجد فيه الشباب رمزا للكفاح. وكانت شراسة كرومر - الذي كان يرغب في معاملته كما لو كان أحد مهراجات الهند - تنبه فيه هذا الكفاح. وتعلق به الجمهور وشاعت عنه مواقف وطنية. ومما سمعناه في تلك السنين أن ويصا واصف ومرقس حنا وعددا آخر - معظمهم من المحامين - قصدوا إلى سراي عابدين وانتظروا إلى أن هم الخديوي بركوب عربته، فأصروا على أن يحلوا خيولها ويجروها هم. ولكن الخديوي اتخذ موقفا معارضا لاتجاهات الشيخ محمد عبده نحو الأزهر؛ فكان - أي الخديوي - يصر على أن يبقى الأزهر كما كان منذ مئات السنين محافظا لا تتسرب إليه تيارات الثقافة العصرية، وكان محمد عبده يصر على أن يتطور الأزهر إلى جامعة عصرية. واتجه المستنيرون من الأمة وجهة محمد عبده فازوروا عن الخديوي.
ولكن أعظم ما جعل الجمهور المصري يتغير على الخديوي هو ما كان يسمى بسياسة الوفاق؛ فإن الإنجليز - بعد أن رأوا سياسة كرومر الشرسة مع الخديوي قد أحالته إلى وطني يدس لهم ويؤيد الحركات الوطنية ضدهم - عينوا السر الدون جورست وكيلا لهم بالقاهرة؛ فتحبب هذا إلى الخديوي وزاد في سلطته. وارتاح الخديوي إلى هذا التغيير ارتياحا عظيما جدا، وشرع يعارض الحركات الوطنية الدستورية، ويسير مع الإنجليز في «سياسة وفاق» كان ضررها بالأمة فادحا.
وكانت سياسة الوفاق هذه سببا في انقلاب مصطفى كامل؛ إذ إنه أبى أن يسير مع الخديوي، وأصر على الكفاح. ولم تمض سنوات حتى أصيب جورست بالسرطان ومات به في إنجلترا. وأعرب الخديوي عن حبه له، وتقديره لسياسة الوفاق بأن زاره خفية وهو على فراش الموت.
Halaman tidak diketahui
ثم جاء كتشنر، فأعاد سياسة كرومر، ولكن في فجاجة العسكري وغشومته. وعاد الخديوي إلى موقف المعارضة والمعاكسة للإنجليز.
ولو سئلت عن الفرق في القاهرة بين 1905 و1945 لقلت إن نبض القاهرة قبل أربعين سنة كان أبطأ، كما أن الإيقاع كان شرقيا في كل شيء تقريبا. فكان الناس يمشون أكثر مما يركبون. وكانت المدينة متجمعة متكتلة في رقعة صغيرة لم تستفض بعد إلى صحراء هليوبوليس أو إلى الضفة الغربية من النيل. وكنا في الملابس نعبر طور الانتقال. فإني أذكر أني لبست قفطانا بحزام وأنا تلميذ بمدرسة الأقباط في الزقازيق، وكنت في العاشرة من العمر. ثم لبست أيضا وأنا في الثانية عشرة بذلة رمادية من طراز الريدنجوت. أما نساؤنا وآنساتنا فبقين كلهن إلى سنة 1919 يتخذن البراقع والحبرات.
وكنا نقضي ليالي السرور عند الشيخ سلامة حجازي. والحق أن هذا الرجل كان ممثلا بارعا، ولكنه لم يكن يمثل قدر ما يغني؛ فقد وجد إقبالا عظيما على أغانيه فكان التمثيل عنده ملحقا بالغناء. وظني أنه كان يفعل هذا مضطرا؛ لأن كفاءته المسرحية كانت عظيمة جدا. ولا بد أنه كان يتألم لأن الجمهور لا يقدرها بل يؤثر عليها الغناء.
وكانت هناك إلى جنب مسرح الشيخ سلامة ملاه أخرى كانت غاية في الفحش، حيث كانت الراقصات يقمن بحركات وإيماءات هي في صميمها محاكاة غير فنية للتعارف الجنسي، محاكاة فاحشة رخيصة دنسة متهتكة. وقد اضطررنا بعد سنة 1922 إلى إلغاء هذا الرقص. ولكن بعض الأغاني القديمة الفاحشة لا تزال تغنى إلى أيامنا هذه.
وشرعنا - بعد ذلك بسنوات - نحس الوجدان المسرحي، وندرك معنى الدرامة ومغزاها، مما ترجمه فرح أنطون ومما مثله جورج أبيض من الدرامات عن اللغة الفرنسية.
أول وجداني الذهبي
كنت في سنة 1903 تلميذا في السنة الأولى الثانوية قد تركت بلدتي الزقازيق ورحلت إلى القاهرة؛ إذ لم تكن في تلك السنين مدارس ثانوية إلا ثلاث في القاهرة والإسكندرية. وكانت سني إذ ذاك نحو 15 أو 16 سنة، فشرعت أقرأ الجرائد اليومية وأشتري مجلتي «المقتطف» و«الجامعة» وأسأل عن الكتب. ولم تكن هناك مجلات أسبوعية. وبقيت الحال كذلك إلى أن أنشأت أنا أول مجلة أسبوعية في 1914 وهي «المستقبل».
وعرفت «المقتطف». وكان اهتدائي إليه من المصادفات البديعة التي أعانتني على التثقيف الذاتي. وكنت أشتري الأعداد القديمة - بل أحيانا الأعداد الجديدة - من الإدارة، على غلاء ثمنها، وألتهمها من الغلاف إلى الغلاف، وعندما عدت إلى الزقازيق وجدت في بيت صديق لي بقرية قريبة من الزقازيق نحو مائة عدد من هذه المجلة، فاستعرتها وقرأتها جميعها. وكان يحرر «المقتطف» في تلك السنين الدكتور يعقوب صروف. وكانت بؤرة اهتمامه الذهني في ذاك الوقت نظرية التطور التي كان يسميها نظرية النشوء والارتقاء؛ ولذلك لم يكن يخلو عدد من بحث هذه النظرية.
وفي مجتمعنا المصري كثير من الكظوم التي ترهق الذهن بالقيود والسدود. وكان الإيمان بنظرية التطور نوعا من التفريج والانتقام؛ ولذلك وجدتني في ذلك الوقت داعية متحمسا لهذه النظرية في البيت والمدرسة وفي كل مكان آخر. وشعرت كأني ممتاز بهذه النظرية. فبعثني هذا إلى التوسع فيها، وعرفت لذلك الدكتور شبلي شميل، وكان رجلا كبير الذكاء محدود المعارف. فكان يعتمد على الحجة المنطقية أكثر مما يعتمد على البينة العلمية. وفي الوقت الذي كان يعتمد فيه «المقتطف» على البينات العلمية وينقل أقوال البيولوجيين في أوروبا عن هذه النظرية، كان شبلي شميل ينافح عنها ويدعو إليها بقوة المنطق . ولكن يجب مع هذا أن نذكر فضل شبلي شميل في أنه نقل إلى العربية كتاب بوخنر في المادية العلمية. والحق أن هذه النظرية كانت رؤيا جديدة لشاب مثلي لم يكد يخرج من طور الصبا، كما كان شبلي شميل بجرأته وذكائه شخصية فذة لها قوة الإيحاء والتوجيه في نفسي.
ولكن مع ذلك لم يستطع «المقتطف» ولا شبلي شميل تكوين مدرسة فكرية؛ لأن الركود الذهني كان عاما كما كان الشرق بقواته التاريخية الساحقة يخيم علينا بل يحط علينا بكلكله. فلم يكن المجتمع المصري وقتئذ يجيز لنا أن نبوح ونعلن عن سرائرنا. فكنا لذلك أفرادا متفرقين نناقش هذه الأفكار والآراء في همس متسترين أو في استحياء يشبه الاعتذار إذا صادفنا غرباء. وكثيرا ما كنت أجد أن الحجة تنتقل من الرأس إلى الذراع، فأسارع إلى التسليم وأعلن صحة العقائد والتقاليد وكذب الآراء والعلوم؛ لأن المنكرين كانوا في العادة أكبر مني سنا وأضخم جسما ...
Halaman tidak diketahui
وإني أعزو إلى «المقتطف» هذه النزعة العلمية التي لازمتني طوال حياتي الماضية، كما أعزو إليه هذا «الأسلوب التلغرافي» الذي أكتب به والذي يظن كثيرون أنه من اختراعي. وكان الدكتور يعقوب صروف لا يعرف التزاويق بل كان في الأغلب لا يتذوق الجملة الفصيحة أو الكلمة الناصعة أو العبارة المتلألئة أو سائر تلك الألاعيب الصبيانية التي كان الكتاب يرفعون من شأنها إلى قبيل الحرب الكوكبية الأولى.
وكان يرافق هذا الوجدان العلمي بالنظر المادي وجدان أدبي آخر شرع يغمرني ويبسط لي آفاقا جديدة. ذلك أننا في تلك السنين أي حوالي سنة 1905 أو 1906 لم نكن نعرف من معنى الأدب سوى القواعد الجامدة للبيان والبلاغة التي نحفظها عن ظهر قلب في جمود أو كراهة. ولكنا كنا نتذوق شيئا من الجمال الفني في مقالات اللواء ومصباح الشرق. وكنا نقرأ كتاب أدب الدنيا والدين للماوردي أو كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع. والواقع أن أسلوب الأول يخالف أسلوب الثاني؛ فإن الماوردي مسهب غير ململم أو محبوك في حين أن ابن المقفع موجز رصين مضبوط. ولذلك كانت رؤيا جديدة بل إلهاما جديدا أن أعرف مجلة «الجامعة» لفرح أنطون. ثم اقتنيت مؤلفات هذا الكاتب العظيم، فرأيت دنيا جديدة من الأدب الأوروبي لم نكن نعرف عنها شيئا من قبل. وقد مس هذا الأدب أوتارا في نفوس جميع قارئيه في الشرق العربي؛ لأن هذه الدنيا الجديدة من الأدب الأوروبي كانت تختلف - لا بل تناقض - ما تعلمنا من أدب عربي؛ ذلك لأن الأدب العربي - كما كنا نعرفه في ذلك الوقت - كان أدب السلطة والتقاليد والعقائد. ولكن الأدب الأوروبي - أو بالأصح الفرنسي - الذي نقله إلينا فرح أنطون، كان أدب الثورة والتمرد، أدب العقل الذي يحس والقلب الذي يعقل، أدب فولتير وروسو وديدرو وبرناردان دواسان بيير. وكان جميع هؤلاء مجاهدين يكافحون استبداد الملوك والأمراء واستبداد العقيدة وسلطان التاريخ.
وكنا نحن في مصر في حال اجتماعية وسياسية تحملنا على الترحيب بهذا الأدب، ففتحنا له قلوبنا، لا بل تفززنا وتمردنا. وكان هذا الأدب هو الذي هيأ فرنسا التهيئة الذهنية للثورة الكبرى. ويبدو لي الآن أن فرح أنطون لم يكن على جهل بما يعمل. فإنه خرج من لبنان حوالي سنة 1900 وكان هذا القطر يغط في ركود تاريخي آسن، وقد خيمت عليه الدولة «العثمانية» ومنعت عنه النور إلا بصيصا يتلقاه الشباب في كلية بيروت الفرنسية أو الجامعة الأمريكية. ودرس فرح أنطون الفرنسية وتشبعت نفسه وذهنه بآدابها. فلما رحل إلى مصر وجد شيئا من الحرية، ولكنه أدرك أن الظلام الذي كان يشكوه لبنان هو نفسه الظلام الذي تشكوه مصر مع فرق في الدرجة فقط. فعمد إلى هؤلاء المؤلفين الفرنسيين الذين ذكرت أسماءهم ينقل عنهم أو يستلهمهم في كل ما يكتب. ومن هنا كانت جدته وطرافته لي بل لجميع قرائه؛ فإن «المقتطف» لم يكن يعنى بالأدب. وكان «مصباح الشرق» جريدة أدبية يصدرها المويلحي، ولكن لأدب العرب فقط. أما الجامعة فانفجرت بيننا تنير وتشير وتثير؛ أي تنير عقولنا، وتشير إلى مبادئ ومناهج رتبها أدباء فرنسا في أواخر القرن الثامن عشر. وكان يحس أننا في حاجة إلى هذه المبادئ والمناهج؛ ولذلك أثارنا بترجمة قصة الثورة الفرنسية لألكسندر دوماس. ولا أعرف واحدا يقظا في تلك السنين لم يقرأ هذه القصة ولم يتغير بها وبسائر مؤلفات فرح أنطون.
وكان جديرا بهذه المؤلفات أن تحدث حركة رومانسية ابتداعية في الأدب العربي، ولكنها للأسف لم تحدث. فإن خلاصتها أن الإنسان حسن مسالم، ولكن المجتمع سيئ يحمله على الرذائل. وما كان أبدعها من فكرة لمثل أمتنا في مثل ذلك العصر أي حوالي 1905 أو 1906. فإن هذه الفكرة كانت جديرة بأن تختمر وتبعث النشاط الذهني في جميع القراء، كما تبعث وجدانا أدبيا جديدا ينضج ويتوالد في شتى الأفكار والآراء.
ولعلي محتاج هنا إلى أن أشرح ماذا أقصد إليه من الاتجاه الرومانسي في الأدب؛ فإن الأدب يمكن أن يقسم من ناحية المزاج والاتجاه وقواعد التفكير واللغة بأنه أدب كلاسي اتباعي أو أدب رومانسي ابتداعي. وليس أحدهما خيرا من الآخر، ولكنهما مختلفان. وفي فترة ما تحتاج الأمة إلى النزعة الاتباعية في حين أنها في فترة أخرى قد تحتاج إلى النزعة الابتداعية.
فالنزعة الاتباعية تقتضي العناية بالماضي والجري على أساليب السلف والتقيد بالنصوص في قواعد التفكير واللغة. ففولتير اتباعي، وطه حسين في كتابه عن المعري اتباعي، والعقاد في كتبه عن رجال الإسلام الأولين اتباعي، وقس على هذا.
والنزعة الابتداعية تقتضي الخيال أكثر من التقيد بالنصوص. وهي تجنح إلى التحلل من النص والقاعدة؛ ولذلك كان روسو ابتداعيا كما أن طه حسين في «الأيام» ابتداعي، وكذلك توفيق الحكيم ابتداعي في معظم ما يكتب.
ونحن محتاجون إلى النزعتين، ولكنا في مصر أكثر احتياجا إلى النزعة الابتداعية؛ لأنها في النهاية نزعة التجديد واقتحام المستقبل.
وكان فرح أنطون فيما ألف ونقل رومانسيا ابتداعيا، بل إن أول الكتب التي نقلها عن الفرنسية كان كتاب «إميل» لجان جاك روسو، وهو يعد أساسا للحركة الرومانسية في أوروبا، حيث يقول بأن الطبيعة البشرية حسنة يفسدها المجتمع والحكومات والقوانين. وهذا الكتاب - مع الأسف - لم يطبع إلى الآن.
ولكن حياة فرح أنطون في ذلك الوقت بترت؛ لأنه وقع في مناقشات تمس الدين مع الشيخ محمد عبده، فبارت مجلته بعد الرواج، ورحل إلى القارة الأمريكية حيث اشتبك في خصومات صحفية لم يكن القلم وحده أداة الرأي والحجة فيها، فعاد مهزوما إلى مصر.
Halaman tidak diketahui
وكان أثر فرح أنطون في نفسي أني أكبرت الأدب الأوروبي إكبارا عظيما.
ولم يكن هذا غريبا في مثلي؛ فإن فرح أنطون استبدل بالماوردي عندي جان جاك روسو، وحملني على أن أستبدل بالكلمة الوضيئة والعبارة المذهبة أدب المبدأ والفلسفة والفكرة.
وعرفت فرح أنطون بعد ذلك حين اشتغلت معه في جريدة «اللواء»، وكانت جريدة الحزب الوطني يرأسها المرحوم عثمان صبري حوالي 1910، فزادني توجيها نحو الأدب الأوروبي. وعاش فرح في مصر إلى 1921 حين توفي وهو في الحادية والأربعين. وكانت وفاته نكبة على النهضة المصرية السياسية والأدبية. وكان من اللبنانيين القلائل الذين اندغموا في الحركة الوطنية المصرية اندغاما تاما. وكان سعد زغلول يحبه ويقدره. وزاره واصف غالي باشا وهو في فراش المرض قبيل وفاته بمنزل أخته السيدة روزا حداد وقدم له تحية الوفد.
والآن أعود بالذاكرة إلى هذه الشخصية الفذة وأتساءل: ما مقدار ما ضاع منا بوفاته؟
الحق أن ما فقدنا فيه عظيم فادح؛ فلو أنه عاش إلى أيامنا مثلا لطبع النزعات الأدبية والسياسية في مصر بطابعه. ولعله كان يوجه الأدب المصري هذه الوجهة الرومانسية التي آسف على أنه لا يتجهها الآن؛ لأننا على الرغم من كل جديد في هذا الأدب ما زلنا نعيش في أسر التاريخ بأدب أغلبه سلفي، نفكر بمزاج سلفي في لهجة سلفية. وأدبنا هو أبعد الآداب عن روسو، بل لقد أصبحت حركاتنا الاجتماعية سلفية أيضا كما نرى في حركة «الإخوان المسلمين».
وكان فرح أنطون بشري النزعة والإيمان، يؤمن بالإنسان ويكره الأساطير الغيبية بل يشمئز منها. وكان يمتاز بالذهن الاستطلاعي يرود كل جديد في الثقافة الأوروبية. فهو أول من كتب عن نيتشه. وأظن أني أنا كنت الثاني؛ لأن أول مقال صحفي لي كان في «المقتطف» سنة 1909 بعنوان «نيتشه وابن الإنسان» وقد وصلت إلى نيتشه مستقلا وأنا بأوروبا.
ولذلك عقب عودتي من أوروبا واتصالي به كنت لا أجد موضوعا أختلف فيه معه. وكنا نتحدث عن الاشتراكية والنزعات الأدبية الجديدة والسياسة في مصر، فنكاد نتفق في كل شيء حتى في العقيدة الدينية.
وفيما بين 1907 و1910 ظهرت قوة جديدة في مصر كان لها أثر آخر في توجيهي النفسي، وكانت هذه القوة أحمد لطفي السيد؛ ففي تلك السنين كانت الوطنية المصرية في طور اليرقة لم تنسلخ بعد إلى الجسم الحي الكامل. وكانت عرضة لأخطار شتى وتطوحات مختلفة. وحسب القارئ أن يعرف أن كلمة «وطنية» ليست عربية وأننا إنما سككنا هذه الكلمة كي نعبر بها عن وجدان جديد؛ ذلك أن مصر في بداية هذا القرن كانت لا تزال في أسر الماضي. وكانت الدولة «العثمانية» هي دولتنا التي كنا نكافح بها الإمبراطورية البريطانية. وكان بيننا متنبهون تعلموا في المدارس الفرنسية أو نبهتهم الحوادث وأيقظت فيهم وجدانا وطنيا، فلم يكونوا يسيغون منطق اللواء والمؤيد في الدفاع عن استقلال مصر بحق الأتراك في سيادتها. وكان الأقباط ينفرون من هذه الوطنية العثمانية نفورا عظيما.
وظهر لطفي السيد في الجرائد يدافع عن هذه البديهية الواضحة، وهي أن مصر يجب أن يملكها المصريون دون الأتراك ودون الإنجليز. ووجد في الأول مصادمة قوية من الكتاب الذين ألفوا الدعاية للأتراك ولكن سرعان ما انتصر وظفر بالرأي العام في مصر. ووجد الأقباط منطقا في هذه الوطنية كما وجد المثقفون فيها أملا جديدا يعبئ الأمة للإصلاح والتجديد فأقبلوا على الجريدة وشغفوا بمقالات لطفي السيد فيها.
وكثير من القراء في أيامنا - أي بعد نحو 35 سنة من هذه الحركة - لا يعرفون مقدار هذه الحركة وفضل أحمد لطفي السيد فيها؛ ذلك أننا جميعا قد اعتنقنا هذه الوطنية الجديدة - وطنية مصر للمصريين - ولم نعد نعرف غيرها. ولكن على القارئ أن يذكر أن الدولة «العثمانية» كانت شيئا أكبر من تركيا الحاضرة. وكانت إمبراطورية شاسعة لها جيوش وموظفون في اليمن والحجاز والعراق وطرابلس. وكانت الرحلة السنوية إلى إستامبول أو كما كان يصفها الصحفيون وقتئذ «دار السعادة» لا تقل في عدد المسافرين المتنزهين عن الرحلة إلى باريس . وكان حبل الدسائس لا ينقطع بين القاهرة وإستامبول. ولكنه مع ذلك كان واهيا ، كما كانت هذه الدسائس عقيمة.
Halaman tidak diketahui
وكان لطفي السيد وعبد العزيز فهمي وقاسم أمين جيلا جديدا في مصر بعد الجيل الذي كان منه الأفغاني ومحمد عبده. وكان هذا الجيل أكثر جرأة؛ ولذلك نجد أن قاسم أمين يدعو إلى سفور المرأة وإلغاء الإعراب في اللغة. ولطفي السيد يدعو إلى لغة مبسطة تقارب العامية، كما نجد عبد العزيز فهمي الآن يدعو إلى الخط اللاتيني. وقد حفظ هذا الأخير شبابه الذهني إلى ما بعد السابعة والسبعين. وهو يعاني الآن من هذا الشباب عنتا من خصومه أولئك الشبان الذين شاخوا قبل الثلاثين والأربعين.
والواقع أن لطفي السيد مهد لحركة سنة 1919 بجمع الأمة على رأي موحد في الوطنية، كما أنه جعل التجديد مساغا لا يتهم القائمون به بالهوج أو الرعونة. بل أصبحت الدعوة إلى حرية المرأة وتعليمها شيئا وقورا محترما، واحترمت «الجريدة» بعد أن كانت موضوعا للنكات البذيئة.
وقد سبق أن قلت إن أسلوب المقتطف كان علميا مقتصدا وإني أخذت عنه ما أسميته «الأسلوب التلغرافي». ولكن أسلوب لطفي السيد كان موجزا مقتصدا أيضا. وهو أشبه الأساليب بأسلوب ابن المقفع، وأظن أني تأثرت به أيضا.
وقد كان هؤلاء الثلاثة: يعقوب صروف، وفرح أنطون، ولطفي السيد، من القوات التي صاغت شخصيتي الثقافية الذهنية؛ فإن الأول وجهني إلى طريق العلم، والثاني بسط لي الآفاق الأوروبية للأدب، والثالث جعل من المستطاع لي - بوصف أني غير مسلم - أن أكون وطنيا في مصر.
كرومر وجورست وكتشنر
في 1907 كنت قد بلغت حالا من القلق النفسي والثقافي جعلت مقامي في مصر شاقا؛ فقد كنت أعاني هذا الكرب المدرسي الذي أحدثه الإنجليز بنظام الثكنات في المدارس، إلى جنب نكد عائلي آخر أوجدته تلك المطامع العائلية الصغيرة التي أجد من البر أن أنساها. والقارئ يعرف أننا في مصر نكابد خلافات عائلية تتعدد مراجعها من التمييز المالي أو المطامع المالية بين الورثة إلى الاشتباكات التي تعود إلى مصاهرات سيئة تحيل العائلات إلى قبائل تحيي الثأر وتعيش السنين وهي في الشقاق والنزاع. وقد كابدت من كل ذلك مضضا وألما، ولكني كنت أجد العزاء في شغفي بالثقافة. بل لقد كانت هذه المساوئ العائلية تحملني على تجنب الاختلاط بالاعتكاف للدراسة كما كانت الدراسة نفسها سرورا أنشده كي أخفف عن نفسي هذا البلاء.
وحين أرجع بذاكرتي الآن إلى تلك الأيام أجد أن بؤرة هذه المتاعب كان واحدا أو اثنين قد أسيء إليهما في طفولتهما بالتدليل المسرف. فنشأ كلاهما على العدوان والعناد والخطف. والحق أنهما لا يزالان على هذه الحال إلى الآن.
وسافرت إلى أوروبا وأنا على غير وجهة تعليمية معينة سوى الحصول بأية وسيلة على الثقافة العصرية. وقد كان ميراثي من أبي الذي مات وأنا دون السنتين يكفل لي نحو 25 أو 30 جنيها في الشهر دخلا ثابتا. فلم أحس الحاجة إلى إعداد مهني أتكسب به. ولم تكن الوظائف مغرية في ذلك الوقت؛ لأن الحاصل على الدبلوم لم يكن يزيد مرتبه على ثمانية جنيهات.
وقصدت إلى باريس عن طريق إستامبول. وكانت الدولة العثمانية - تركيا - في تضعضعها قد شاع فيها التفكك والانحلال. وكانت غايتي من اختيار هذا الطريق أن أرى أوروبا قبل أن أهبط باريس، وقد يلذ للقارئ أن أروي له ثلاث حوادث وقعت لي في السفر لا تزال بارزة في ذهني: أولها أنه كان يرافقني في قمرة الباخرة موظف تركي كان قادما من اليمن إلى إستامبول، وكان يعرف العربية، وكان يعين مساءه بشرب زجاجة من العرق، ويعين صباحه بملء فمه ماء ثم ينفخ طربوشه نفخا من فمه ويمسحه بعد ذلك. وكنا نتحدث كثيرا عن السياسة التي كان يفيض ويصرح في شئونها عقب الكئوس الأولى من العرق. وكان يسب اليمنيين والعرب عامة. وكانت الباخرة قد قامت من بورسعيد تقصد إلى المواني الشرقية على البحر المتوسط وتلبث في كل منها نحو ثلاث أو أربع ساعات. فكنا ننزل للتفرج. فلما بلغنا أزمير اقترح علي أن يرافقني وأن نستأجر عربة لرؤية المدينة. فلما واجهنا العربات على رصيف الميناء جعل يسأل الحوذية بلغته التركية عن أسمائهم، فطلبت منه أن يخبرني عن السبب لهذه الأسئلة، فأجابني: «أسأل كي أعرف إذا كان مسيحيا أم مسلما؛ لأننا يجب ألا نركب إلا مع حوذي مسلم.» ولم يكن يعرف أني مسيحي. وبصرت عندئذ بإحدى المشكلات التي أدت في النهاية إلى موت السلطنة العثمانية؛ إذ ليس شك أن الأقليات من العرب والأرمن - لما نالها من عسف - حطمت بنيان هذه السلطنة؛ لأن هذا التعصب الديني كان يرافقه تعصب عنصري آخر ضد العرب. كما نعرف نحن مما فعله الشريف حسين الذي ألب العرب وانضم إلى الإنجليز وحارب الأتراك في الحرب الكبرى الأولى.
والحادثة الثانية أني وأنا في إستامبول دخلت قهوة تركية كان دخان النارجيلات قد انعقد فيها بحيث لم يكن الداخل ليستطيع التنفس أو رؤية السقف. وصدمني هذا الجو فارتددت بعد أن فتحت الباب. وعدت إلى الشارع. ولكني تأملت وقلت في نفسي يجب أن أعرف هذا الوسط التركي بعيوبه وميزاته. ورجعت إلى القهوة وقعدت، وأنا من الأصل أكره الدخان. وظني أني على «استهداف» طبي منه، مثل أولئك الذين يستهدفون لهباء القطن أو القمح أو عطور بعض الأزهار. ولم يمض علي بهذه القهوة نصف ساعة حتى شعرت بغثيان فخرجت وقئت في الشارع، وقصدت إلى الفندق وأنا في غاية الكرب في الرابعة بعد الظهر، وآويت إلى الفراش، وفي رأسي ضربان كأن مطرقة تدق دماغي، وتورمت الغدد في عنقي، ولم أفق إلا في صباح اليوم التالي، وكان واضحا أني تسممت بدخان هذه القهوة.
Halaman tidak diketahui