وهذه العربدة في حياتنا الدستورية حينذاك وفي نشاطنا السياسي هي التي انتهت بنا إلى أن ينشأ حزب ديني مثل «الإخوان المسلمين» يتناول السياسة من ناحية الدين، ويجعلنا في شك أو خوف من المستقبل بعد أن كافح لطفي السيد وغيره في فصل الدين من السياسة. فإن «الإخوان المسلمين» يتوسمون في الجامعة الإسلامية من الآمال والآفاق ما كان يتوسمه الحزب الوطني أيام مصطفى كامل من الجامعة العثمانية. وفي هذا تفكيك للوطنية المصرية وتشكيك في قيمتها ومستقبلها. وأنا مضطر أن أصرح بأني كنت متشائما من هذا الاتجاه الذي كان قائما وقتئذ.
ولكن يجب أن نذكر الكسب أيضا. وهو كسب عظيم. وعندي أن أعظم مآثرنا هنا هو انتقال المرأة من ظلام القرون الوسطى إلى نور القرن العشرين. ويجب ألا يلومني القارئ إذا كررت وأطنبت في هذا الانتقال. فقد رأيت بعيني نسوة مصريات حوالي عام 1898 «يذبحن» الخنافس. فلما سألت عن السبب قيل لي: إنهن يطبخنها ويأكلنها كي يصبحن سمينات بعد النحافة ... ورأيت تلميذات المدرسة السنية حوالي 1903 وهن مبرقعات مع أن أعمارهن لم تكن تزيد على إحدى عشرة أو اثنتي عشرة سنة. وكانت ناظرة المدرسة - وهي إنجليزية - تلح وتصر على التزام البرقع لأنه من «تقاليدنا». والانتقال من هذه الحال إلى «المرأة الجديدة» المحامية والطبيبة والصحفية وسائر نسوتنا السافرات هو آية في الرقي الاجتماعي لا نكاد نصدقها لولا أننا نحسها ونختبرها. والجيل الجديد لا يقدر هذا الارتقاء لأنه لم ير عمق الهاوية التي كنا فيها قبل 1919. وهذا الارتقاء النسوي في مصر هو مرحلة من الرقي الاجتماعي قد قطعناها ولن تستطيع قوة أن تنزعها منا. فقد انتصرنا بها على القرون الوسطى وعلى الشرق معا.
وكذلك كسبنا في التعليم ولكن كسبنا هنا أقل من الارتقاء النسوي. فإني أذكر أني حين كنت تلميذا بالمدارس الثانوية لم يكن في القطر المصري كله غير ثلاث مدارس ثانوية لا تدخلها فتاة. وهي الآن تعد بالعشرات والفتاة تتعلم فيها أيضا بلا عائق. وكذلك الجامعات التي لم نكن في أيامنا ندري معناها، والتي كان الإنجليز يحظرون علينا تأسيسها.
ولكن نهضتنا التعليمية سارت مع ذلك ببطء. ولا تزال بطيئة. وأذكر أن أحد الأمريكيين قبل عشر سنوات سألني عن عدد المدارس الثانوية للبنات فقلت إنها تسع - ولم تكن تبلغ ذلك - فقال: «كنت أنتظر أن تقول إنها تسعون مدرسة.» على أن هذا البطء لم يمنع تخريج ألوف الشبان المتعلمين والفتيات المتعلمات الذين يعتمد عليهم في تكوين رأي عام مستنير سوف يصون الدستور من العبث، ويحمل الحاكمين على مراعاة العدل وإنصاف الأمة في المستقبل. ولكن حماستنا للتعليم قد أعثرتنا فيما يسمى «التعليم الإلزامي» الذي أنفقنا عليه منذ إيجاد نظامه إلى الآن نحو خمسين مليون جنيه دون أن نستطيع تخريج مصري واحد متعلم منه . وعلة ذلك أنه تعليم يقوم على نظام شرقي غير عصري.
وقد ارتقينا في الصناعة. فصارت لنا صناعات كبيرة. ونسينا الأكذوبة التي كان يشيعها المحتلون البريطانيون بيننا ويطلبون منا تصديقها، وهي أن مصر «بلاد زراعية»؛ وذلك كي يقصروا نشاطنا على زراعة القطن ويمنعونا من الصناعة. أي إنهم كانوا يرمون إلى أن نكون أمة لا تنتج للعالم سوى «المواد الخامة» كما يفعل الزنوج الأفريقيون. وقد اغتصبنا منهم الصناعة والتعليم اغتصابا؛ لأنهم كافحونا فيهما بكل ما قدروا عليه ثم انهزموا.
على أن هناك ما يحزن في حياتنا الاستقلالية أو الدستورية، مع جميع التحفظات الذهنية بشأن التدخل الاستعماري البريطاني فيهما. فإننا منذ 1922 إلى 1947 لم نقم بأي إصلاح يرفع من شأن الفلاح الاقتصادي أو يخفف من كوارث الفقر؛ فإن الفلاح يعيش الآن كما كان يعيش قبل 1919. وقد قرأت هذا الصباح في المصري - 11 أكتوبر 1947 - هذه الكلمات التالية بشأن وباء الكوليرا:
ولم تقع حتى الآن أية إصابة في القاهرة بين أفراد الطبقتين العالية والمتوسطة، وكل ما وقع من الإصابات حتى الآن كان بين أفراد الطبقات الفقيرة.
وهذا بعد أن مضى على تفشي هذا الوباء نحو عشرين يوما. وليس أدل على وهدة الفقر التي يتردى فيها تسعة أعشار الشعب المصري - بما فيها من حرمان وقذارة - من هذه الكلمات. وليس أدل على تقصيرنا في الإصلاح الاجتماعي من هذا الإهمال الفاضح لأبناء أمتنا. بل لقد أصبحنا نتهم بالشيوعية كل من يدعو إلى إصلاح اجتماعي ويبرز فضائح هذا الفقر الكالح الأسود الذي يعيش فيه فلاحونا وعمالنا. وبعض الكراهة للوفد تعزى إلى أنه قد حاول إصلاح هذه الحال فاتهم بالغلو في الديمقراطية التي لا يطيقها المستعمرون الإنجليز والمستبدون المصريون.
ولكن حال العامل في المصانع أرقى بكثير من حال الفلاح في الريف . وهو بقليل من السخاء من الإصلاحات الاجتماعية التي يتمتع بها العمال في أوروبا، يمكن أن يسير إلى مستوى أعلى.
والمشكلة التي تتحدانا في مصر الآن هي الفقر كيف نعالجه بل كيف نمحوه. ولا قيمة لأية أمة ولا معنى لأي رقي ما لم يكن الهدف هو مكافحة الفقر وما يجر من حرمان وجهل ومرض. أجل مرض الكوليرا الذي يفتك الآن بطبقاتنا الفقيرة لأنها عاجزة عن الحصول على الغذاء الوافي أو النظافة الوافية.
Halaman tidak diketahui