وفي تلك السنوات عرفت يعقوب صروف محرر «المقتطف»، وكان قد جاوز الستين. وأذكر أنه لأول مقابلة لي شرع يسألني عن أصلي هل أنا مصري قح أم بي عرق أجنبي؟ وكان قد قرأ رسالتي «مقدمة السبرمان». وبعد حديث طال في العلوم عاد فجزم بأني أجنبي، وأن تفكيري يدل على هذا! وكانت نزعته العلمية قد طغت عليه، فلم يكن يحسن التقدير للأدب أو الفلسفة. ودار بيني وبينه نقاش ذات مرة عن هربرت سبنسر وشوبنهور، فأبرزت أنا القيمة العظمى للفيلسوف الألماني الذي نظر النظرة الكونية الشاملة، أما هو فكان يرى أن سبنسر أعظم المفكرين في العالم، وأن شوبنهور لا قيمة له بتاتا إلا في «ملاطفات» أدبية أو مجازفات فلسفية. وكان «المقتطف» في أيامه من المجلات القوية التي وجهت القراء العرب الوجهة العلمية وأنارت بصيرتهم. ولم يكن جافا في إيراده للبحوث العلمية، كما أنه كان من وقت لآخر يترجم إلى العربية مقالات جدية من المجلات الأوروبية.
وفي إدارة المقطف وجدت أمين المعلوف، وكان لغويا علمي الذهن. وقد وضع معجما بعد ذلك للحيوان لا يزال أحسن ما يعتمد عليه في هذا الموضوع. واتصلت بيني وبين أمين المعلوف صداقة إلى وفاته. وكان يكثر من الشراب. وقبيل وفاته بعامين أو ثلاثة أصيب ببحة كانت تجعل الحديث معه شاقا، ولكنه احتفظ ببشاشته وذكائه. وقد عاش أمين المعلوف ملء حياته. فاشتغل في السودان ووصل إلى أقاصيه العليا حيث أفريقيا السوداء، كما اشتغل في مصر والعراق. وهو - مثل فرح أنطون - لم يتزوج.
ويجب أن أذكر هنا أن جميع هؤلاء الأربعة كانوا سوريين، أو - كما نقول الآن بعد التجزئة التي أعقبت انهيار الدولة العثمانية - لبنانيين. وكانوا جميعهم كارهين للحكم العثماني لا يطيقون ذكره. وكان إذا شرع أحدهم في الحديث عنه لم يتمالك من الغيظ. ولم يكن وجدانهم وطنيا؛ لأن رؤيا الاستقلال للعرب لم تكن قد تجسمت. وكان اليأس أغلب عليهم. وحتى بعد انهيار الدولة العثمانية عقب الحرب الكبرى الأولى، بقوا على شك من حقيقة الاستقلال المزعوم لهذه الدول العربية. وأظن أنهم كانوا على حق في هذا.
ومن الشخصيات الفذة التي عرفتها قبل الحرب الكبرى الأولى شخصية الأديبة الكبيرة مي. وقد بقينا صديقين إلى يوم وفاتها عقب عودتها من مستشفى الأمراض العقلية في لبنان. ولم تكن مي جميلة ولكنها كانت «حلوة». وكانت تعرف الآداب الإنجليزية والفرنسية، وتقرأ كثيرا وتقف على الاتجاهات العصرية في أوروبا وأمريكا والشرق. وكانت أيضا متمدنة من حيث اكتمال وسائل التمدن في المعيشة. وكان تمدنها وثقافتها يكسوان وجهها وتعبيرها ظرفا ورقة. وقد استطاعت مي أن تجعل احتراف الأدب عند الفتاة المصرية والسورية زينة أنثوية لا استرجالا كريها. وكانت - في حياة أبويها - تعقد بمنزلها اجتماعات «صالونية» حيث يكون السياسي والأديب والوجيه بعض ضيوفها. وكانت تشترك في جميع المناقشات بل كانت أحيانا تديرها. وقد تنبه ذكاؤها كثيرا لاختلاطها بهؤلاء الضيوف. ولم يكن هناك موضوع تعجز عن الاشتراك في معالجته. وتفعل كل ذلك في رقة وجمال وتمدن. ومات أبوها فلم يتأثر «الصالون»، ولكن عقب وفاة والدتها تزعزعت مي. ولم يكن ذلك - في ظني - لحزنها على والدتها التي ماتت بعد أن أسنت وبعد أن كان موتها منتظرا. وإن كانت الفرقة بين الأم وابنتها قد تركت أثرها، وخاصة عندما نعرف أن مي لم تتزوج، وأن رفقتها لأمها كانت تعزيها. وليس من السهل على فتاة أن تجد نفسها يوما ما وهي منفردة مقطوعة في منزلها، وخاصة في وسط - مهما قلنا إنه متمدن - لا يزال شرقيا.
على أني أظن أن السبب للتزعزع النفسي الذي أصاب مي كان انتقالها الفسيولوجي من الشباب إلى الكهولة. وهذا الانتقال كثيرا ما يخل بالاتزان الفسيولوجي عند بعض النسوة، وقد ماتت مي منذ أكثر من سنتين بعد سنوات قضتها في مستشفى الأمراض العقلية في لبنان. ولما عادت زرتها مع صديقي الأستاذ أسعد حسني، وفتحت هي لنا الباب. فرأيت شخصا لا أعرفه، رأيت سيدة بيضاء الشعر كأنها في السبعين. فسدرت عيني، فغمزني أسعد وهمس: الآنسة مي! الآنسة مي! فسلمت وتضاحكت. ولكنها هي أدركت كل شيء واستولى علي اكتئاب وخجل وجمود وارتسمت في ذهني صورة لعذاب النفس الذي لقيته هذه المسكينة في مرضها. ولكن سرعان ما زال عني الاكتئاب والخجل والجمود؛ إذ شملني أسف. فإن مي قعدت إلينا وشرعت تقص علينا ما قاسته في المستشفى وكيف ألبسوها «الجاكتة» التي تمنع العربدة عند المجانين، وكيف أضربت هي عن الطعام، ثم - وهنا الأسف والحزن - كانت وهي تروي لنا ما وقع لها وكيف أن أدباء مصر نسوها وتركوها ولم يسألوا عنها، كانت تضحك مرة وتبكي أخرى، وتكرر هذا منها كثيرا. وأدركت أنها لا تزال في حاجة إلى المستشفى.
وزاد اعتقادي هذا عندما أصرت على أنه كان لها أقرباء ينوون خطفها من القاهرة، وكانت تذكر أسماءهم وأنهم كانوا يتربصون بها في مكان تعينه، وكانت هي مضطرة إلى المرور بهذا المكان.
وخرجنا نحن الاثنين ونحن في أسف وغم لهذه الحال التي كانت عليها مي. ولكن أسفي أنا كان مزدوجا؛ فإني بقيت طوال المساء وأنا أفكر في جمودي وكيف أني لم أتنبه عندما رأيتها بالباب فأحييها تحية اشتياق وتقدير وأنها لا بد قد عرفت من جمودي أنها قد تغيرت، وأن جمالها وحلاوتها وظرفها ورقتها قد زالت. وملأتني هذه الخواطر مرارة بل كراهة لنفسي.
فلما كان اليوم التالي قصدت إلى منزلها وأنا طوال الطريق أستعد للقاء أرجو أن أقشع به غمامة الأمس. وهو مع ذلك لقاء لفتاة مريضة مزعزعة. فلما فتحت لي الباب عانقتها في حنان صادق وحب مصطنع.
وتراجعت هي وتأملت وجهي في ابتسام وانشراح واضحين وهي تقول: «مرسي، مرسي يا أستاذ!»
وشعرت أني كفرت عن جمودي بالأمس. وقعدت معها وأنا أتحدث في نشاط ومرح. ولكنها عادت إلى البكاء والضحك. فكانت دموعها تنهمر بالبكاء ثم بعد لحظات تتشنج بالضحك. وبعد أسابيع ماتت؛ إذ لم تطق هذه الدنيا التي رافقتها أكثر من ثلاثين سنة وهي تتلألأ فيها بالشباب والجمال، ثم عادت فتركتها منفردة في شيخوختها بلا جمال وبلا تلألؤ.
Halaman tidak diketahui