أن نوجد القصة والدرامة المصريتين. (6)
أن نجعل الأدب إنساني الغاية عالمي المشكلات.
والمؤلف بالمقارنة إلى الصحفي يعد ناسكا. فإن المؤلف ينزوي في غرفته باحثا منقبا، ولكن الصحفي يخرج ويختلط بالمجتمع. ومع أن أكثر مجهودي في الصحافة كان ثقافيا في بحث العلوم والآداب فإني قد مسست السياسة أيضا، وأحيانا اقتحمت غبارها حتى عصفت بي في كثير من الأوقات. ولكن أعظم ما يعزيني أن ما عصف بي كان أيضا يعصف بالأمة، وأني في كفاحي الصحفي كنت أكافح للديمقراطية التي حاول المستبدون أن يحرمونا منها.
وأول اختباري للصحافة كان في «اللواء» في 1909. فقد قضيت فيه نحو أربعة أشهر مع فرح أنطون. وكان يرأسنا رجل مهذب مستنير يدعى عثمان صبري وكان صهر مصطفى كامل، وكان قد تولى الرياسة بعد المرحوم الشيخ عبد العزيز جاويش الذي كان قد أغضب الأقباط بكلمات نابية. وكنا نكتب في المطالبة بالجلاء، ولا مفاوضة إلا بعد الجلاء. وهذه العبارة كان يستنكرها بعض الساسة في مصر، أما الآن فلا تستنكر. وقد عمل بها الهنود حين أصروا مدة الحرب الكبرى الثانية على شعار «اتركوا الهند». وقد بقي فرح طوال عملي معه باللواء وهو يظن أني مسلم؛ لاشتباه اسمي، ولأنه لم يكن في كل ما أكتب ما يدل على وجهة طائفية خاصة. أما عثمان صبري فكان يعرف أني قبطي، وكان كثيرا ما يذكر مقالات الشيخ عبد العزيز جاويش بالاستنكار أمامي ويتفادى من نشر أي مقال يوهم الشقاق بين المسلمين والأقباط. وقد كسبت من «اللواء» مرانة صحفية حسنة، وكنت أكتب الخبر والمقال في السياسة الداخلية والسياسة الخارجية. ولم يكن للمخبر في تلك الأيام قيمة كبيرة. وكانت الجرائد «مقالية» أكثر مما كانت خبرية؛ وذلك لأن الكفاح من أجل الاستقلال كان يستغرق كل اهتمامها تقريبا، فكان جميع كتاب الجريدة تقريبا محررين.
وفي العقد الأول من هذا القرن كان طراز «اللواء» جريدة الحزب الوطني يغلب على الصحافة؛ لأنه كان الجريدة الناجحة. وكان أسلوبه خطابيا إذ كان مصطفى كامل يعتقد بحق أن الصحافة يجب أن تكون في خدمة الوطنية وأن تثير حماسة الجمهور وتنبه وجدانه الوطني. ولذلك لم تكن العناية بالأخبار الخارجية كبيرة بل لم تكن هناك أقل عناية بها. إذ كانت تختصر أو تقتضب في نصف أو ربع عمود من التلغرافات . أما سائر الجريدة فكان معظمه يرصد للمقالات التي تندد بالإنجليز المحتلين أو تثير الجمهور. وكان لذلك أول شرط للكاتب الصحفي أن يكتب في أسلوب فصيح بعبارات صارخة. وبقيت هذه الحال تقليدا في الصحافة إلى حوالي 1930 حين شرعت جرائد «الخبر» بدلا من جرائد «المقالة» في الظهور. وما زلنا إلى الآن 1947 نجد من بقوا من الصحافة القديمة كبيري العناية باللغة قليلي العناية بالمعارف العامة عن المشكلات العالمية أو العلمية أو الاجتماعية، بل نجد بين بعض القراء إساغة لهذه الكتابة الأسلوبية.
وكانت الجرائد في ذلك الوقت «شخصية» فكنا نقرأ الجريدة لا لأنها حافلة بالأخبار أو الصور بل لأن فلانا يكتب فيها مقالا. بل كانت المخاصمات أيضا شخصية. فكان «المؤيد» يشنع على مصطفى كامل لأن الخديوي عباس صفعه. وكان «اللواء» يشنع على الشيخ علي يوسف صاحب «المؤيد» لأنه لم يكن كفئا لزواج كريمة السادات السيدة صفية بل كان «المقطم» يدخل في هذه المخاصمات ويتكلم أيضا عن زوجة الشيخ علي يوسف.
وظهرت أولى المجلات الفكاهية حوالي 1900، وكانت مادتها الأساسية تهزئة الإمام العظيم محمد عبده. وكان يشاع أن الخديوي عباس باشا كان يحرضها على اتخاذ هذا الموقف لأنه كان يكره الروح العصري الذي كان يدعو إليه الإمام في الأزهر. وظني أني أنا أول من أخرج مجلة أسبوعية جديدة هي «المستقبل» في 1914.
ولما تركت «اللواء» وعدت إلى أوروبا بقيت الصحافة خيالا ساحرا في ذهني. ورجعت إلى مصر واستطعت في 1914 أن أحقق هذا الخيال بأن أصدرت مجلة «المستقبل» الأسبوعية، ولكن لم أصل إلى العدد السادس عشر حتى كانت الحرب الكبرى الأولى قد شبت، وارتفع سعر الورق نحو عشرة أضعاف سعره السابق. وكان لا بد أن أعطلها. ولكن التعطيل جاءني بطريق آخر. ففي ذات يوم وأنا أفكر في مشكلة الورق طلبتني إدارة المطبوعات. فقصدت إليها غير عابئ بما يحدث. وكانت الإشاعات كثيرة بشأن تعطيل المجلات والجرائد. وهناك قعدت أمام أحد الموظفين السوريين الذي حياني وطلب لي القهوة، وجعل يلاطفني بكلمات عذبة. ويسألني عن المجلة وهل هي رائجة أم أني أخسر فيها. ثم بعث في طلب رجل إنجليزي. وجاء هذا وقعد قبالتي يستمع دون أن يتكلم. ثم شرح لي هذا الموظف حرج الموقف وضرورة وقف - أي تعطيل - بعض المجلات. ومع أني لم أكن أبالي التعطيل - كما قلت - فإني وجدت فتنة سيكلوجية في متابعة البحث والمناقشة وخاصة أمام هذا الإنجليزي. فأبديت أني قادر على إصدار «المستقبل» مهما كانت الصعوبات. فتلاحظ الاثنان وأنا مفتون بالموقف. وأصررت على أني سأصدرها إلى آخر الحرب، وأني سأدعو فيها إلى الاشتراكية. وعاد الموظف السوري يخاطبني في ملاطفة مسرفة ويقول إني أستاذ وعاقل ... إلخ، وأصررت أنا على العناد.
وأخيرا صرح في غير ملاطفة بأن إدارة المطبوعات تستطيع التعطيل. وأن المناوئين للحكم في الظروف الحاضرة الشاذة يمكن نفيهم أو اعتقالهم. وكان هذا ما أردت أن أسمعه، فنهضت وقلت إني سأعطل المجلة، وخرجت.
وليس عندي مجموعة من مجلة «المستقبل»، ولكن بعض القراء ما زالوا يقتنونها مجلدة تحتوي الأعداد الستة عشر التي صدرت. ومقالاتها تدل على تفكيري وقتئذ. ويعبر هذا التفكير عن اتجاهي الذهني العصري. فإن فيها مقالات عن نيتشه. وبها مقال كله فجور إلحادي عنوانه «الله» وهذا غير قصائد ومقالات لشبلي شميل وكان يدعو فيها إلى نظرية التطور وإلى المذهب المادي. وأجد بها بحثا عن «الضمد» عند العرب أي زواج المرأة لجملة رجال. والخلاصة: كان المستقبل يدعو دعوة عصرية بل مستقبلية فجة خاصة. وكنت أبيع منه نحو ستمائة نسخة في الأسبوع. وهذا غير المشتركين المتحمسين. وظني أنه كان يمكن أن ينجح ويؤدي رسالة الهدم والبناء التي كنا نحتاج إليها لولا ظروف الحرب في 1914. ولم تظهر بعد «المستقبل» مجلات من طرازه التحريري. ولما عمدت إلى إخراج «المجلة الجديدة» في أواخر 1929 كنت قد تأثرت بالفن الصحفي، كما أن الظروف المصرية كانت قد دجنتني تدجينا سيئا. فخبت النار وباخت الحماسة وأخذ الاعتدال مكان الغلو.
Halaman tidak diketahui