وقيل لي وأنا في طنجة إن الرقص ممنوع، ولكن الدليل أسر في أذني بأنه على الرغم من هذا المنع فإني أستطيع أن أرى الرقص وأسمع غناء المغربيين، ولكن في مكان غير علني. وبعثني الاستطلاع على أن أستجيب لاقتراحه. وقصدت معه بعد الثامنة مساء إلى هذا المكان حيث وجدت فتيات عاريات لا تستر أجسامهن خرقة وهن يرقصن ويغنجن ويغنين أغاني مراكشية ويطربن الأجانب وبعض الوطنيين بهذا الابتذال الذي بعث في نفسي اشمئزازا عظيما.
وكانت لغة المغاربة عربية بالطبع. ولكنها تنطق بلهجة تغاير لهجتنا في مصر حتى كنت أوثر التحدث بالفرنسية. فإذا لم يفهمها محدثي ألقيت عليه السؤال باللغة العربية الفصحى. وكان - بعد أن يتأملني في دهشة - يجيب بفهم على سؤالي. وقد كتبت عن رحلتي هذه مقالات بالمقتطف في 1909 بعنوان: «أسبوعان في المغرب.»
وعدت إلى لندن منتعشا معافى وقد فطمتني الزيارة للمغرب من أي أثر باق من الولاء للشرق. وشرعت أتعرف إلى ينابيع الثقافة الإنجليزية العصرية وأتتبع مناقشات الصحف. والتحقت بالجمعية الفابية التي كانت تنشر الاشتراكية بين المتوسطين والأغنياء دون العمال. وكانت هذه الجمعية في ذلك الوقت تجمع عددا كبيرا من المتيقظين للتطورات الاجتماعية والاقتصادية بزعامة برناردشو وولز. وكان الثاني قد تركها ولكن أثره كان باقيا. ولم أنقطع منذ عرفت هذين المؤلفين عن دراسة مؤلفاتهما التي تعد تربية عصرية في الاقتصاد والاجتماع والدين والأدب والعلم. وقد تربى عليهما جيل في أوروبا وأمريكا أصبح أفراده يقودون عصرهم ويرتادون المستقبل. وعرفت أيضا جمعية العقليين . وكانوا يطبعون مؤلفات مبسطة رخيصة عن العلوم والمكتشفات التي تناهض العقائد الدينية المألوفة. وقد طبعوا الملايين من هذه الكتب التي كان يباع الواحد منها بنحو 25 مليما. وقرأت جميع مؤلفاتهم ومطبوعاتهم.
وكان المذهب العقلي يتفشى في أوروبا في تلك السنين ويجد أخصب تربة لنموه في فرنسا. فقد كان في باريس جرائد يومية - مثل لو لانترن - تكافح الغيبيات. ولا أنسى مظاهرة هائجة ارتجت لها لندن وسائر العواصم الأوروبية حوالي 1910، فقد حدث أن رجلا من هؤلاء العقليين يدعى فرانسيسكو فيرير أعدم في إسبانيا. وكانت التهمة التي حوكم من أجلها أنه دبر مؤامرة لقلب نظام الحكم من الملوكية إلى الجمهورية غير تهم أخرى خاصة بالجيش. ولكن التهمة الحقيقية كانت أنه كان ينشر في إسبانيا المظلمة مؤلفات الأحرار في أوروبا مثل فولتير ونيتشه وكوربتكين وروسو وتولستوي، ويترجم مؤلفات العقليين - وخاصة ما اتصل منها بنظرية التطور - إلى اللغة الإسبانية ويبيع هذه المؤلفات بأثمان مخفضة حتى تصل إلى العامة. ورأى الكهنة والرجعيون أن هذه المؤلفات خمائر سوف تقوض سلطانهم وتلغي امتيازاتهم واحتكاراتهم. فدبروا له تهمة «قلب نظام الحكم عنوة» وأعدموه.
وهاجت أوروبا كلها لإعدام هذا الرجل، فكانت مظاهرات في كل مدينة بل في كل قرية. وكانت الخطب النارية في كل ناد ومحفل استنكارا لهذه الجريمة. وحضرت المظاهرة الكبرى التي سارت مواكبها في لندن وتجمعت أخيرا في ساحة «الطرف الأغر» حيث ألقيت الخطب من الأحرار والديمقراطيين في التشنيع بالحكومة الإسبانية واستبداد الكنيسة الكاثوليكية. وعقدت اجتماعات كثيرة بعد ذلك في هذا الشأن. ووصلت الأخبار من باريس في مساء ذلك اليوم بأن المظاهرات جمحت وقتل عدد من المتظاهرين الذين حاولوا الهجوم على الكنائس والأحزاب الرجعية. وصدرت الكتب العديدة في شرح الحركة العقلية التي كان يقوم بها فيرير ومحاكمته الجائرة التي انتهت بإعدامه. واتضح من هذه المحاكمة أن وكيل النيابة الذي شرح التهمة للمحكمة صرح بأنه لا يعرف من هو تولستوي الذي كان فيرير يتعب وينفق ماله في نشر مؤلفاته باللغة الإسبانية. ولما وثب الطاغية فرانكو إلى الحكم في 1937، وحارب الديمقراطيين والاشتراكيين - بمعاونة الكهنة - وقتلهم ودمر المدن الإسبانية بمساعدة الطيارين الفاشيين من ألمانيا وإيطاليا؛ تذكرت فيرير، وتذكرت ما كان يقول الأحرار وقتئذ عن إسبانيا، وهو أن الفاصل بين أوروبا المتعلمة المتمدنة وبين أفريقيا السوداء هو جبال البرانس التي تفصل أيضا بين فرنسا وإسبانيا ...
وقد أنعشتني هذه المظاهرات وبت ليلتي وأنا أفكر في هذا الروح البشري في مدن أوروبا المتمدنة وقراها، هذا الروح الذي انطلق بالسخط واللعنة على الحكومة الإسبانية لأنها أعدمت رجلا أوروبيا من أبناء القرن العشرين في حين هي أصرت على أن تعيش في القرون المظلمة وأن تكون أفريقيا متوحشة. وأخذت أسائل: هل مثل هذه المظاهرات يمكن أن يوجد في مدن الشرق؟
وكانت من الأغلاط التي وقعت فيها أني آمنت بمذهب النباتيين فامتنعت عن تناول اللحم نحو عام كدت أموت من الهزال في نهايته. وكانت المطاعم النباتية في لندن كثيرة تقدم لزبائنها مختلف الألوان الشهية التي تغني في الطعم عن اللحم؛ فلم أجد صعوبة في الكف عن ألوان اللحوم، ولكني هزلت حتى كدت أمرض.
والتحقت ببعض الكليات لدراسة العلوم المختلفة التي جذبتني، مثل المصرلوجية للأستاذ بتري، ومثل البيولوجية والجيولوجية والاقتصاد. وانغمست في هذه الدراسات كثيرا.
وعلى الرغم من الشهرة التي تتمتع بها باريس بشأن حرية المرأة فقد وجدت أن المرأة الإنجليزية أكثر حرية. والشبان والفتيات يتحابون ويتغازلون جهرة في الحدائق العامة بل أحيانا في الشوارع. ولكن الشلل النفسي الذي أحدثته التربية الشرقية فينا حال دون استمتاعنا نحن المصريين بهذه المسرات في لندن. واحتجت إلى مرانة طويلة قبل أن أجرؤ على المبادأة والسلوك الاستقلالي في الحب، ثم حانت فرصة.
ذلك أني كنت أصطاف في إحدى المدن الصغيرة على الشاطئ الشرقي لإنجلترا، فعرفت هناك فتاة إرلندية في سني أو أكبر قليلا كانت تعمل في التدريس. وكانت تحنق على الإنجليز لسلوكهم الإمبراطوري في إرلندا كما كنت أحنق أنا على احتلالهم لمصر. وتوطدت بيننا صداقة على أساس هذا الحنق، ثم صارت الصداقة حبا فغراما. واستسلمت لي واستسلمت لها. وكنا نقضي ليالينا في غرفة واحدة ، وكانت من الجمال بحيث تحدث فيمن يحبها أو في بعض ذلك العيب الأكبر الذي كان يعلله فرويد بمركب أوديب. وقد استطعت أنا بعد ذاك بعشرين سنة أن أشفي صديقا عزيزا إلي من هذا المأزق. ولكني لتعسي في 1910 كنت أجهل فرويد وأجهل السيكولوجية. وكانت إليزابيث جميلة تمتاز ببشرة غاية في النعومة والصفاء. وكانت مديدة القامة كنت أحس وهي قادمة إلي عن بعد أنها علم يخفق. وكان نشاطها يبدو في حركاتها كأن جسمها وذهنها يتفززان. وتناسقنا كلانا في التفكير والعواطف. فكنا نقرأ الجرائد معا ونتفق على مغزى الأخبار.
Halaman tidak diketahui