أعملوا أفكارهم في كتاب ربهم، واستناروا بسنة نبيهم ﷺ، وفهم سلفهم الأئمة الأجلاء.
وعكفوا على الاستنباط والغوص على المقاصد الشرعية، وصاروا من الراسخين في العلم، والسابقين إلى الفهم، فحينئذ نصبوا أنفسهم لهداية الخلق إلى الحق، ودونوا الكتب النافعة، والتصانيف البارعة، حوت من نفائس العلوم أعلاها، ومن دقائق المسائل أجلها، وعكفوا على هذه التصانيف لتحقيقها، والتأكد من سلامة محتواها.
وهكذا سارت قافلة الفقه على هذه الوتيرة، فإن الأوائل المصنفين خلفهم جهابذة شرحوا المعمى، وفصلوا المجمل، ووضحوا المشكل، وخدموا الفقه خدمة ما وراءها مرمى، حتى آض مكينًا، متين البنيان، مشيد الأركان، يغدو ويروح في حلل التحقيق والتدقيق.
(ب)
ولقد كان لفقه الإمام الشافعي رحمه الله تعالى النصيب الأوفر، والحظ الأكبر من عناية العلماء به، وضبطه واستجلاء معارفه، ونصب قبابه، حتى صار المذهب منقحًا محررًا، مضبوطًا بقواعده وأصوله، وجادت أقلام أصحابه بآلاف المصنفات، ومئاتٍ من التحريرات والتعقبات، والاستدراكات والترجيحات، ومن هذه التحريرات هذا الكتاب المبارك، الموسوم بـ "تحرير الفتاوي على التنبيه والمنهاج والحاوي" (١) تأليف الإمام أبي زرعة أحمد بن عبد الرحيم العراقي (ت ٨٢٦ هـ).
والمقصود بتحرير الفتاوي: تخليصها على وجه محمود، وتنقيحها وإصلاح ما خامرها من سقط، وهذا مستمد من المعنى اللغوي في قولهم: (تحرير الكتاب)، والمقصود: تقويمه وتخليصه، بإقامة حروفه، وتحسينه بإصلاح سقطه، والتحرير أيضًا: بيان المعنى بالكتابة (٢).
والفتاوي: جمع فتوى، وعلم الفتاوى: (هو علم تروى فيه الأحكام الصادرة عن الفقهاء في الواقعات الجزئية؛ ليسهل الأمر على القاصرين من بعدهم) (٣).
أما الفتوى ذاتها .. (فهي الحكم الشرعي الذي يبينه الفقيه لمن سأله عنه) (٤).
_________
(١) وقد قامت الدكتورة الموفقة هدى أبو بكر سالم باجبير بتحقيق جزء الطهارة إلي آخر كتاب الجنائز، وقدمت للكتاب بمقدمة ضافية، ضمنتها نفائس مهمة، وفوائد جمة، وتراجم لأعلام وأئمة، فشكر الله لها هذا الصنيع، حيث قدمت هذا العمل أطروحة دكتوراه في جامعة أم القرى. وكتابها مطبوع بدار المنهاج.
(٢) تاج العروس (١٠/ ٥٨٨)، لسان العرب (٤/ ١٨١) مادة (حرر).
(٣) أبجد العلوم (ص ٤٥٤).
(٤) معجم الفقهاء (ص ٣٣٩).
1 / 8