إن أهل القلم أكبر مزوري الدنيا، وإني ما دونت سطرا، وما حاضرت في جمع، وما خطبت في حفلة إلا واشرأبت في نفسي موجة عارمة حارقة، يطلقها الضمير؛ فأحاسب نفسي أصادق أنا فيما أقول وفيما أكتب؟
فالقانون يعاقب الطبيب، والصيدلي، وسائق السيارة، إن أخطأ أو تعمد الجريمة، أما مطلق الآراء - كتابة أو خطابة - فله أن يكذب ويضلل، وليس من يحاسبه، بل إن جمهور الناس قد نسجوا حول الأديب هالة تروعهم؛ فهم يقبلون على القراءة مأخوذين بسحر الكلمة المطبوعة، ويصغون بخشوع لأي متكلم ترسخت شهرته.
إذن فكان الأصح أن يحور هذا السؤال؛ فيمسي: «ما يجب أن يكون مذهبك؟» فقليلون يحيون مذهبا. إنه ثوب نتزين به في الأعياد والحفلات وأيام العطلة، وإن اتفق أن لقيت من يؤمن أن أجمل ما في الفن هو الصدق، وأرخم ما في الحياة هي الحقيقة؛ فقلما يكون هذا الذي تلتقيه من الفنانين، أو من القادرين على الإفصاح عن الحقيقة كتابة أو خطابة.
أما أنا فقد اعتنقت في حياتي مذاهب ثلاثة: فلقد كنت حتى السادسة عشرة أدين بقرويتي الضيقة، فأنا ابن الضيعة في لبنان، أؤمن بعائلتي، بتفوقها، بأحقادها وصراعها مع جيراننا من أجل سؤددها، وهذه العائلية القروية ارتدت الطائفية، وامتشقت سيفا، واعتمرت خوذة؛ فأنا درزي، والدروز أشجع أهل الأرض، وأنبلهم، وكل من عداهم لا بأس أن يعيش على وجه الأرض، ولكنه يجب أن يكون خانعا ذليلا مطيعا للدروز، بل لعاصمة الدروز، بلدة اسمها «بعقلين »، هناك حيث تتبوأ عرش الآلهة - عائلة تقي الدين - يزبطر بينهم ذلك الجبار العبقري سعيد، مصوبا إلى الدنيا طربوشه الأحمر فوق حاجب، قوسه أفق العالم.
وراحت الحياة تفكك عقدا في النفس وتصوغ سواها، فأنا متحرر من قرويتي، وعنصريتي، كافر بهما، ولكني بدأت أعبد - صدقت فمن سواه أعبد ذلك الجبار العبقري سعيد؟ صليت له، ومجدته طوال ثلاثين سنة، كانت لتعظيمه مؤلفاتي، وفي سبيل عزه الأموال التي جنيت، ولإذاعة صيته الإحسان الذي بذلت، ولتخليد اسمه النادي الفخم - نادي متخرجي الجامعة الأمريكية - الذي بنيت، كان مغرما بنفسه حين عشق الفتاة التي تزوج، وبعد أن صارت ابنتهما صبية، كانت الجماهير تصفق لظفره، حين تصفق لموسيقى تعزفها ابنته على «البيانو».
واستفقت، لا، إن الإفاقة لا تكون عفوية ولا فجائية، تبدأ أولا بشعور وعي يرافقه خدر، يتلاشى ببطء مؤلم لذيذ. كنت في بلادي حين انفتحت عيناي، في مغتربي، في الشرق الأقصى، «الفلبين»، كنت أصيح بالناس أخبرهم من أنا، ومن هي أمتي. حين استفقت في بلادي لم أسأل نفسي من أنا؟ وكدت أسمرهما هناك بين قدمي، ولكن يدا امتدت إلى ذراعي وشدت عليها، وإذا هنالك كتاب ضخم كبير بعضه كلمات مطبوعة، وبعضه دماء، وبعضه صفحات لا يحل رموزها إلا ذلك الذي يستثيره الإيمان، وبين وريقات ذلك السفر صفحات بيضاء تدعوك أن تملأها أنت؛ لأن هذا لكتاب الكبير الضخم - سفر مذهبي - يبشر أن فينا قوة لو فعلت؛ لغيرت وجه التاريخ، فافعل واملأ ما تريد من الصفحات على قدر عزمك ومواهبك.
كاذب من يقول لك: إنه اعتنق مذهبا، لسبب واحد من الأسباب، أكثرنا يرث المذهب الذي يعتنق، مذهبي ما جاءني وراثة، وكاذب أنا إن قلت: إنه يمثل، مائة بالمائة، كل ما أصبو إليه، ولكنه - هذا المذهب - يجيب السؤال الكبير، الذي تمتمته حين استيقظ وعيي «من نحن؟» لا «من أنا؟» وما يجب أن نكون؟ ويخط الطريق إلى الوصول إلى ما يبتعد عنا كلما سرنا إليه؛ لأننا كلما علونا امتد أفقنا وابتعد، ذلك القوس تحت الطربوش الأحمر، هو أبدا في اتساع وابتعاد .
وهذا المخطط لا يرسم لك الطريق فحسب، إنه لا يعطيك الخارطة، بل هو يقول لك: إن الخارطة والطريق وعزمك على السير والسير عليها، هي كلها عملية موحدة لا تتجزأ، فما أنت بصاحب مذهب إن لم تسر، وتختط، وتحمل خارطة وتسير على الدرب، الدرب الوعرة التي لا يقصرها إلا سرعة سيرك.
مذهبي هو إذن قوميتي أعمل لها في جهاز اسمه حزب.
لم الحزب؟ الحزب هو الإيمان؛ فليكن إيمانك في نفسك، واعمل له منفردا مستقلا، لم الحزب؟ لم النظام يقولبك ويشل نشاطك، ويفرض عليك قيودا ليست من صنعك؟
Halaman tidak diketahui