Kotak Dunia
صندوق الدنيا
Genre-genre
أكبادنا تمشي على الأرض
إلى آخر هذا الهراء الذي يعذب في السماع وتأنس إليه النفس وإن كان لا محول وراءه، وقد أردت أن أنبه صاحبي هذا إلى ما بتعليله من المآخذ فقلت: وهل أنت آسف على أبنائك الذين أخطأهم التوفيق ولم يتمكنوا من الانحدار إلى هذه الدنيا؟
قال في وجوم: ماذا تعني؟ من هم؟
قلت: إن الجواب الذي تطلبه يستوجب مني أن أصارحك بحقيقة علمية لا أحسبك تجهلها، فأنا أذكرك بأن الرجل منا ينفث في المرة الواحدة مئات من الملايين من الجراثيم، وكل جرثومة منها كافية لأن تخرج إلى الدنيا طفلا لو ساعفتها الأحوال وآزرها الحظ، ولكنه قلما يكون هناك أكثر من جرثومة واحدة هي السعيدة الموفقة، وما خلاها يذهب كما يراق الماء في الصحراء فالإنسان - إذا اعتبر هذه الحقيقة العلمية - يفقد في كل مرة ملايين من الأبناء بقدر ما يضيع سدى من ملايين الجراثيم، ولولا هذا الاقتصاد في التلقيح لاستطاع فرد واحد أن يعمر لا الكرة الأرضية وحدها، بل مئات من الكرات الأرضية بنسله.
وهذه الجراثيم الضائعة، أو إذا اعتبرت ما كان يمكن أن يكون، هؤلاء الأبناء الذين لم يجيئوا بعضك أيضا، وهم أفلاذك أو أكبادك كما تقول أو يقول الشاعر، فلماذا لا نراك أو نرى أحدا يأسى على فقدهم وهم بعضك، كما تفرح لغلام ترزقه، وتحبه لأنه بعضك؟
الحقيقة أن المسألة ليست أن الأب لا يحب أبناءه إلا لأنهم بعضه، فإن غريزة حفظ النوع قد تكفلت بنشوء العاطفة وبدفع الناس إلى طلب النسل، وهي عاطفة يسهل على الرجل - كما لا يسهل على المرأة - أن يحولها إلى مجرى آخر تخرج منه شيئا مختلفا جدا، وعاطفة جديدة وإن كانت مولدة من عاطفة الأبوة. وهبها لم تتحول فإن من الميسور أن تنمو وأن تستوفي حظها على التبني، كما هو معروف ومألوف.
على أن الرجل والمرأة ليسا سيين في هذه العاطفة، وأكثر الفرق بينهما راجع إلى أن غريزة حفظ الذات أقوى في الرجل من غريزة حفظ النوع، أما المرأة فعلى خلاف ذلك، الغريزة النوعية فيها أقوى من الغريزة الفردية، إذ كانت هي بطبيعة تكوينها، أداة المحافظة على النوع، وليس الرجل سوى عون لها على ذلك، ومن هنا كانت الأمومة وحواشيها أقوى وأبرز من العواطف المنبعثة من الأبوة. •••
بعد هذا الذي أسلفناه لا نظن القارئ يستغرب أن نقول إن عاطفة الإخاء عادة ليس إلا، وإلف لا أكثر ولا أقل، وما أحسبها تختلف في حقيقتها عن عاطفة الصداقة، وكل ما في الأمر أن اشتراك المصالح والنشأة الواحدة تجعل الروابط أمتن والأواصر أوثق. وليس أسهل من فسادها ولا أيسر من تفكك عراها إذا وقعت النبوة بين الأخوين لسبب من الأسباب، فلا مبالغة إذا قلنا إنها عاطفة لا تتميز إلا في الظاهر وإلا من حيث الاعتقاد العام فيها ، عن أية عاطفة تنشأ بين اثنين من أبناء آدم. وليس بالنادر ولا من الفلتات أن تؤدي أعاجيب ما تحدثه الوراثة إلى جعل الأخوين أشد ما يكون اثنان تنافرا، وقلما يفقد الوالدان حب بنيهما أو الولد حب أبويه، ولكن ما أكثر ما يقع من التعادي بين الأخوين ويتباغضان؛ ذلك أن للأبوة أو الأمومة أصلا تحور إليه ويبقى لها إذا فقدت كل معزز أو مقو، ولكن ما بين الأخوين لا يرجع إلى أكثر من المصادقة.
والناس يدركون هذا ويفطنون إليه بالسليقة وإن كانوا قل أن يفكروا فيه، فتراهم يطلقون لفظ الإخاء والتآخي على الصداقة، ولا يستكثرون أن ينزلوا الصديق منزلة الأخ، ولا يحسون أنهم هبطوا بمرتبة الإخاء من أجل ذلك، ولكن الأبوة عندهم وعلى ألسنتهم في كل لغة لها مقامها الذي تنفرد به ومنزلتها الملحوظة التي لا تدانيها منزلة. وليس أصدق من فطرة الجماعات ولا أصح أو أدق من تقديرها لهذه الصلات بما تجريه على ألسنتها - عفوا ومن غير تدبر - من العبارات الواسعة الدلالة العميقة المغزى.
2
Halaman tidak diketahui